موسوعة التفسير

سورةُ يس
الآيات (48-54)

ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ

غَريبُ الكَلِماتِ:

يَخِصِّمُونَ: أي: يَختَصِمونَ ويَتشاجَرونَ على عادِتِهم، وأصلُ (خصم): يدُلُّ على مُنازَعةٍ [516] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 366)، ((تفسير ابن جرير)) (19/452)، ((غريب القرآن)) للسِّجستاني (ص: 520)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/187)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 315)، ((تفسير القرطبي)) (15/38)، ((تفسير ابن كثير)) (6/581). .
الصُّورِ: أي: القَرنِ يَنفُخُ فيه إسرافيلُ، وقيل: الصُّورُ جمْعُ صُورَةٍ يَنْفُخُ فيها رُوحَها فتَحْيَا [517] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 25، 26)، ((تفسير ابن جرير)) (9/339)، ((غريب القرآن)) للسِّجستاني (ص: 308)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 97)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 193)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 566). .
الْأَجْدَاثِ: أي: القُبورِ، واحِدُها: الجَدَثُ [518] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 366)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/436)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 349)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 52). .
يَنْسِلُونَ: أي: يُسرِعونَ، مِن النَّسَلانِ: وهو مُقارَبةُ الخَطْوِ مع الإسراعِ، وأصلُ (نسل): يَدُلُّ على انسِلالِ شَيءٍ بسُرعةٍ [519] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 288)، ((تفسير ابن جرير)) (16/408)، ((غريب القرآن)) للسِّجستاني (ص: 516)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/420). .
يَا وَيْلَنَا: ويل: كلمةُ دُعاءٍ بالهَلاكِ والعذابِ، وتُطلَقُ كذلِك على حُلولِ الشرِّ، وتُستعمَلُ في التَّحسُّرِ [520] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/164)، ((غريب القرآن)) للسِّجستاني (ص: 478)، ((المفردات)) للراغب (ص: 888)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 945). .

مُشكِلُ الإعرابِ:

قَولُه تعالَى: قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ
قَولُه تعالَى: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ: في هَذَا وجهانِ؛ أظهرُهما: أنَّه مُبتدأٌ خبَرُه مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ، ويكونُ الوقفُ تامًّا على قَولِه: مِنْ مَرْقَدِنَا، ثمَّ يَبتدئُ فيَقولُ: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ، وهذه الجملةُ لا مَحلَّ لها مُستَأنَفةٌ: مِن قَولِ الملائكةِ أو المُؤمِنينَ. ويَحتَمِلُ أن تكونَ مِن كلامِ الكُفَّارِ؛ فتكونَ في مَحلِّ نصبٍ بالقَولِ. والثاني: أنْ يكونَ هَذَا صِفةً لـ مَرْقَدِنَا في مَحلِّ جرٍّ، ومَا وَعَدَ مُنقَطِعٌ عَمَّا قَبلَه. ومَا مَوصولٌ اسميٌّ في محلِّ رفْعٍ مبتدأٌ، والخبَرُ مَحذوفٌ، أي: الذي وَعَدَه الرَّحمنُ حَقٌّ، أو خبَرُ مُبتدأٍ محذوفٍ، والتقديرُ: هذا الذي وعَدَه الرَّحمنُ. ويَصِحُّ في مَا أنْ تكونَ مَوصولًا حرفيًّا مؤولةً مع ما بعدَها بمَصدرٍ، أي: (وَعْدُ الرَّحمنِ)، وله إعرابُ ما قبْلَه نفْسُه [521] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (18/501)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1084)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/275). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالَى مُبيِّنًا إنكارَ المشركينَ للبعثِ واستِبعادَهم له: ويقولُ أولئك المُشرِكون تَكذيبًا واستِهزاءً: متى يَجيءُ يومُ القِيامةِ إنْ كنتُم صادِقينَ في أنَّنا مَبعوثون فمُحاسَبون؟!
ثمَّ يردُّ اللهُ تعالَى عليهم ببيانِ بعضِ مَشاهِدِ يومِ القِيامةِ، فيقولُ: ما ينتَظِرونَ إلَّا صَيحةَ النَّفخِ في الصُّورِ عِندَ قِيامِ السَّاعةِ، فتأخُذُهم وهم يَختَصِمونَ في شُؤونِ الدُّنيا، غافِلينَ عن السَّاعةِ، فلا يَستطيعون حِينَها أنْ يُوصُوا أحدًا بشَيءٍ، ولا يَستطيعونَ الرُّجوعَ إلى أهليهم!
ثمَّ يُبيِّنُ اللهُ تعالَى حالَهم عِندَ نفخةِ البعثِ، فيقولُ: ونُفِخَ في الصُّورِ نَفخةُ البَعثِ فإذا أولئك المُشرِكونَ يَخرُجونَ مِن القُبورِ مُسرِعينَ إلى رَبِّهم، ويقولونَ: يا وَيلَنا مَن أحْيانَا مِن قُبورِنا؟! قال المؤمنون: هذا هو البَعثُ الذي وعَدَنا الرحمنُ إيَّاهُ، وقد صدَقَ رسُلُ اللهِ فيما أخبَرونا به.
ثمَّ يُبيِّنُ سُبحانَه سُرعةَ حُضورِهم للحِسابِ، فيقولُ: ما كانت النفخةُ المذكورةُ إلَّا نَفخةً واحدةً فإذا هم قد أُحضِروا أجمعينَ؛ فيومَ القِيامةِ لا يَظلِمُ اللهُ أيَّ نَفسٍ شَيئًا ممَّا تَستَحِقُّه، ولا تُجزَونَ إلَّا جزاءَ أعْمالِكم التي عَمِلتُموها في الدُّنيا.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه ذُكِرَ عَقِبَ استِهزائِهم بالمُؤمِنينَ -لَمَّا مَنَعوهمُ الإنفاقَ بعِلَّةِ أنَّ اللهَ لو شاءَ لَأطعَمَهم- استِهزاءٌ آخَرُ بالمُؤمِنينَ في تَهديدِهمُ المُشرِكينَ بعَذابٍ يَحُلُّ بهم، فكانوا يَسألونَهم هذا الوَعدَ؛ استِهزاءً بهم، بقَرينةِ قَولِه: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [522] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/33). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ قِلَّةَ خَيرِهم المُستَنِدةَ إلى تهكُّمِهم باليومِ الذي ذُكِّروا به، بالأمرِ بالاتِّقاءِ والتَّعليلِ بتَرجِّي الرحمةِ؛ أتْبَعَه حِكايةَ استِهزاءٍ آخَرَ منهم، دالٍّ على عَظيمِ جَهلِهم، بتكذيبِهم بما يُوعَدونَ على وَجهِ التَّصريحِ بذلك اليومِ، والتَّصويرِ له بما لا يَسَعُ مَن له أدْنَى عقْلٍ غيرَ الانقيادِ له؛ فقال [523] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/138). :
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48).
أي: ويَقولُ المُشرِكونَ تَكذيبًا أو استهزاءً: متى يكونُ البَعثُ يومَ القِيامةِ إنْ كنتُم صادِقينَ في دعواكم أنَّنا نُبعَثُ بعدَ مَوتِنا أحياءً [524] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/450)، ((الوسيط)) للواحدي (3/515)، ((تفسير السعدي)) (ص: 697)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/33). ؟
مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كان استِهزاءُ الكافرينَ هذا يَسوءُ المُسلِمينَ؛ أعلَمَ اللهُ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمُؤمِنينَ بأنَّ الوَعدَ واقِعٌ لا مَحالةَ، وأنَّهم ما يَنتَظِرونَ إلَّا صَيحةً تَأخُذُهم، فلا يُفلِتونَ مِن أخذَتِها [525] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/33). .
وأيضًا لَمَّا كان الحازِمُ مَن لا يَتهكَّمُ بشَيءٍ إلَّا إذا استعدَّ له بما هو مُحقَّقُ الدَّفعِ؛ بيَّن سفَهَهم بإتيانِها بَغتةً، وبأنَّه لا بُدَّ مِن وُقوعِها بقَولِه [526] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/139). :
مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49).
أي: ما يَنتَظِرونَ إلَّا صَيحةً واحِدةً حينَ يُنفَخُ في الصُّورِ عِندَ قيامِ السَّاعةِ، فتُصيبُهم وهم يختَصِمونَ في شُؤونِ دُنياهم؛ فهم في غَفلتِهم لاهونَ عنها، لم تَخطُرْ على قُلوبِهم [527] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/450، 453)، ((تفسير القرطبي)) (15/38)، ((تفسير ابن كثير)) (6/581)، ((تفسير السعدي)) (ص: 697). !
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((لَتقومَنَّ السَّاعةُ وقدْ نشَرَ الرَّجُلانِ ثَوبَهما بيْنَهما فلا يَتبايعانِه ولا يَطويانِه! ولَتقومَنَّ السَّاعةُ وقدِ انصرَفَ الرَّجُلُ بلَبنِ لِقحَتِه [528] الِّلقْحةُ: النَّاقةُ التي لها لَبَنٌ يُحلَبُ. يُنظر: ((شرح صحيح البخارى)) لابن بطال (7/151). فلا يَطعَمُه! ولَتقومَنَّ السَّاعةُ وهو يَليطُ حَوضَه [529] يَلِيطُ حوْضَه: أي: يُصْلِحُه ويَبنِيه، ويُلْصِقُ به الطِّينَ لإصلاحِه؛ ولئلَّا يَنشَفَ ماؤُه. يُنظر: ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) للقاضي عِياض (8/509)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/3407). ، فلا يَسْقي فيه! ولَتقومَنَّ السَّاعةُ وقدْ رفَعَ أحَدُكم أُكْلتَه إلى فيه فلا يَطعَمُها !)) [530] رواه البخاريُّ (6506) واللفظ له، ومسلِمٌ (2954). .
فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50).
فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً.
أي: فلا يَستطيعونَ حِينَها أنْ يُوصُوا أحدًا بأيِّ شَيءٍ ممَّا يُريدونَ الوَصيَّةَ به، كالأموالِ وغَيرِها [531] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/453)، ((تفسير القرطبي)) (15/39)، ((تفسير ابن كثير)) (6/581)، ((تفسير السعدي)) (ص: 697). !
وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ.
أي: ولا يَستطيعونَ حِينَها الرُّجوعَ إلى أهليهم [532] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/453)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 902)، ((تفسير القرطبي)) (15/39). !
ثم بيَّن أنَّهم بَعدَ أنْ يَموتوا يُنفَخُ في الصُّورِ النَّفخةُ الثانيةُ [533] اختَلَفَ العُلَماءُ في عدَدِ النَّفَخاتِ في الصُّورِ على أقْوالٍ؛ فقيلَ: هُما نَفْخَتانِ: نَفْخةُ الفزَعِ والصَّعقِ، ونَفْخةُ البَعثِ. ممَّن ذهَبَ إلى هذا القَولِ: ابنُ جَرير، والقُرطبيُّ، والسعديُّ، وابنُ باز، وابنُ عُثَيْمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/254)، ((التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة)) للقرطبي (ص: 490، 491)، ((تفسير السعدي)) (ص: 729)، ((فتاوى نور على الدرب)) لابن باز (4/328)، ((شرح العقيدة السفارينية)) لابن عثيمين (1/467). وقيل: هِي ثَلاثُ نَفَخاتٍ، وهي نفْخَة الفزعِ، ونفخَة الصَّعقِ، ونفخَة البعثِ. وممَّن قال بذلك: ابنُ تَيميَّة، وابنُ كَثير. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (4/260)، ((تفسير ابن كثير)) (7/116). وقيل: هي أربعُ نَفَخاتٍ، وممَّن ذهَب إلى هذا: البِقاعيُّ. يُنظر: ((نظم الدرر)) (16/552-553، 558، 560). ؛ نَفخةُ البعثِ مِن القُبورِ، فقال [534] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (23/20). :
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51).
أي: ونُفِخَ في الصُّورِ نَفخةٌ ثانيةٌ للبَعثِ يومَ القِيامةِ، فإذا هم يَخرُجونَ مِن القُبورِ مُسرِعينَ إلى رَبِّهم [535] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/454، 455)، ((تفسير القرطبي)) (15/39، 40)، ((تفسير ابن كثير)) (6/581)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/141-142)، ((تفسير السعدي)) (ص: 697)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/296). .
كما قال تعالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا [الكهف: 99] .
وقال سُبحانَه: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ [القمر: 7].
وقال عزَّ وجَلَّ: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا [المعارج: 43] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((جاء أعرابيٌّ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: ما الصُّورُ؟ قال: قَرنٌ يُنفَخُ فيه )) [536] أخرجَه أبو داود (4742)، وأحمد (6507) باختلاف يسير، والترمذي (2430)، والنسائي (11456) واللفظ لهما. حسَّنه التِّرمذيُّ، وذكَر ثُبوتَه ابنُ كَثير في ((تفسير القرآن)) (5/308)، وصحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (2430)، وصحَّح إسنادَه الحاكمُ في ((المستدرك)) (2/550)، وأحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (10/9). .
قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا تشوَّفَت النَّفسُ إلى سَماعِ ما يقولونَ إذا عايَنوا ما كانوا يُنكِرونَ؛ استأنَفَ قَولَه [537] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/142). :
قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا.
أي: قال الكافِرونَ: يا وَيلَنا [538] قيل: هي كلِمةٌ يقولُها الواقِعُ في مُصيبةٍ، أو المتحَسِّرُ، أو النادِمُ. وممَّن قال بهذا المعنى في الجُملة: السعديُّ، وابنُ عاشور، وابنُ عُثَيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/37)، ((تفسير السعدي)) (ص: 697)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 185، 189). قال البِقاعي: (أي: ليس بحَضرتِنا اليومَ شَيءٌ يُنادِمُنا إلَّا الويلُ). ((نظم الدرر)) (16/142-143). مَن أحيانَا فأيقَظَنا وأقامَنا مِن مَرقَدِنا [539] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/456، 457)، ((تفسير السمعاني)) (4/382)، ((تفسير السعدي)) (ص: 697)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/176). قيل: معنى مَرْقَدِنَا: رَقدتُنا ومَنامُنا. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ جَرير، والسَّمرقندي، والثعلبي، والعُليمي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/456-457)، ((تفسير السمرقندي)) (3/127)، ((تفسير الثعلبي)) (8/130)، ((تفسير العليمي)) (5/489)، ((تفسير السعدي)) (ص: 697). وقيل: موضِعُ رُقادِنا، وهو القُبورُ. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ كَثير، وابن عاشور، وابنُ عُثَيمين. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/581)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/37)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 185). ؟!
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((ما بيْنَ النَّفخَتينِ أربَعون -قالوا: يا أبا هُرَيرةَ، أربعون يومًا؟ قال: أبَيتُ! قالوا: أربعون شَهرًا؟ قال: أبَيتُ! قالوا: أربعون سَنةً؟ قال: أبَيتُ [540] معناه: أبَيْتُ أن أجزِمَ أنَّ المرادَ أربعون يومًا أو شهرًا أو سَنةً، بل الَّذي أجزِمُ به أنَّها أربعون مُجمَلةً؛ لأنَّه إنَّما سَمِعَ (أربعين) ولم يُعَيَّنْ له. يُنظر: ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)) لابن الجوزي (3/454)، ((شرح النووي على مسلم)) (18/91، 92). !- ثمَّ يُنزِلُ اللهُ مِن السَّماءِ ماءً فيَنبُتونَ كما يَنبُتُ البَقلُ. قال: وليس مِن الإنسانِ شَيءٌ إلَّا يَبلَى، إلَّا عَظمًا واحِدًا، وهو عَجْبُ الذَّنَبِ [541] عَجْبُ الذَّنَبِ: هو العَظْمُ اللطيفُ الَّذي في أسفلِ فقارِ الظَّهرِ، وأعلَى ما بينَ الأليتَينِ، وهو رأسُ العُصعُصِ. يُنظر: ((التعليق على الموطأ)) للوقشي (1/268)، ((شرح النووي على مسلم)) (18/92)، ((طرح التثريب)) للعراقي (3/307). ، ومنه يُركَّبُ الخَلقُ يَومَ القِيامةِ )) [542] رواه البخاري (4935) ومسلم (2955). .
هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ.
أي: قال المؤمِنون: هذا هو البَعثُ الذي وعَدَ به الرَّحمنُ، وقد صَدَقَ رُسُلُه فيما أخبَرونا به [543] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/457، 458)، ((تفسير ابن كثير)) (6/581، 582)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/296). ممَّن اختار أنَّ هذا مِن كلامِ المؤمِنينَ: ابنُ جَرير، وابنُ كَثير، والشنقيطي. يُنظر: المصادر السابقة. وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: أُبيُّ بنُ كعب، ومجاهدٌ، وقَتادةُ، وعبدُ الرحمن بنُ أبي ليلى. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/457)، ((البسيط)) للواحدي (18/501)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/63). قال الشنقيطيُّ: (الكافِرُ يدعو بالوَيلِ، والمؤمِنُ يَطمَئِنُّ للوَعدِ، ومِمَّا يدُلُّ على أنَّ الجوابَ مِن المؤمِنينَ لا مِنَ الملائكةِ، كما يقولُ بَعضُ النَّاسِ: ما جاء في آخِرِ السِّياقِ؛ قَولُه: فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ أي: كِلا الفريقينِ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ). ((أضواء البيان)) (9/57). وقيل: هذا مِن كلامِ الملائكةِ. وممَّن قال بهذا القول: مُقاتِلُ بن سُليمان، والفرَّاء، وابن قُتَيبة. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/582)، ((معاني القرآن)) للفراء (2/380)، ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 179). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عباس، وزيدُ بنُ أسلمَ. يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/813)، ((البسيط)) للواحدي (18/501). قال ابنُ كثير: (يقولونَ: مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا فإذا قالوا ذلك أجابهم المؤمِنونَ -قالُه غيرُ واحدٍ من السَّلَفِ- هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ، وقال الحَسن: إنَّما يُجيبُهم بذلك الملائكةُ. ولا مُنافاةَ؛ إذ الجَمعُ ممكِنٌ، والله أعلم). ((تفسير ابن كثير)) (6/581-582). وقيل: هو مِن كلامِ الكافِرينَ، وممَّن قال بهذا المعنى: الزَّجَّاج، وابن عاشور. يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (4/291)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/38). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ زيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/458). .
كما قال تعالَى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [الروم: 55، 56].
وقال سُبحانَه: وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [الصافات: 20، 21].
إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كان الإخبارُ بالنَّفخِ لا يَنفي التعَدُّدَ، قال مُهوِّنًا مِن أمْرِ البَعثِ بالنِّسبةِ إلى قُدرتِه، مُظهِرًا للعِنايةِ بتأكيدِ كَونِها واحدةً [544] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/144). .
إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53).
أي: ما كانتْ تلك النَّفخةُ المذكورةُ إلَّا نَفخةً واحِدةً، فإذا هم قدْ أُحضِروا مُجتَمِعينَ لَدَيْنا دونَ أن يتخَلَّفَ منهم أحدٌ [545] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/459)، ((تفسير ابن كثير)) (6/582)، ((تفسير الشوكاني)) (4/430)، ((تفسير السعدي)) (ص: 697)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/39). .
كما قال تعالَى: وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [النحل: 77].
وقال سُبحانَه: يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [ق: 42] .
وقال تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم: 93 - 95] .
فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كان هذا الإحضارُ بسبَبِ العَدلِ، وإظهارِ جَميعِ صِفاتِ الكَمالِ؛ قال [546] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/144). :
فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا.
أي: ففي هذا اليومِ -يومِ القِيامةِ- لا يَظلِمُ اللهُ أيَّ نَفسٍ مِن النُّفوسِ أيَّ شَيءٍ مِمَّا تَستَحقُّه [547] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/459)، ((تفسير القرطبي)) (15/43)، ((تفسير الشوكاني)) (4/430)، ((تفسير السعدي)) (ص: 697). .
وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
أي: ولا تُجزَونَ يومَ القِيامةِ إلَّا بحَسَبِ أعمالِكم التي كنتُم تَعمَلونَها في الدُّنيا [548] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/459)، ((تفسير الماتريدي)) (8/529)، ((تفسير السعدي)) (ص: 697)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/40). .

الفَوائِدُ التَّربويَّةُ:

1- في قولِه تعالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ تمامُ قدرةِ اللهِ عزَّ وجلَّ حيثُ كان مُجرَّدُ النفخِ يُوجِبُ أنْ يخرُجَ الناسُ جميعًا مِن قُبورِهم مُسرعينَ، ثمَّ قال عزَّ وجلَّ: إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ كلُّهم يُحضرونَ عِندَ اللهِ عزَّ وجلَّ بصيحةٍ واحدةٍ؛ إنَّ العقلَ ليحارُ حَيرةً عظيمةً في كَمالِ قُدرةِ الله عزَّ وجلَّ، فلا تستبعِدْ شيئًا على قُدرةِ اللهِ، فإذا نزَلتْ بك حاجةٌ، أو أصابَك فقرٌ، أو ألَمَّتْ بك ضائقةٌ فادْعُ اللهَ؛ فإنَّه على كُلِّ شيءٍ قديرٌ [549] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 183)، ((فتح ذي الجلال والإكرام)) لابن عثيمين (6/466). .
2- ميزانُ العدلِ يومَ القيامةِ مستقيمُ اللِّسانِ، تبينُ فيه الذَّرَّةُ، فيُجزَى العبدُ على الكلمةِ قالها في الخيرِ، والنظرةِ نظَرها في الشرِّ، فيا مَن زادُه مِن الخيرِ طفيفٌ، احذرْ ميزانَ عدلٍ لا يَحيفُ، قال الله تعالى: فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا [550] يُنظر: ((التبصرة)) لابن الجوزي (2/198). .
3- قال ابنُ الجوزي: (قولُه تعالى: وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أتُراكَ بأيِّ عملٍ تُجزَى، أتُراك تُهنَّى أو تُعزَّى، قلبُك عندَ الصَّلاةِ في غَيبةٍ، ولِسانُك في الصومِ في غِيبةٍ، وما صَفَتْ لك في العُمرِ رَكعةٌ، وقد مرَّ أكثرُ الأجَلِ بسُرعةٍ، فانتَبِهْ قبْلَ أنْ يَفوتَ التدارُكُ، وفرِّغْ قلبَك قبْلَ أنْ تَفرُغَ دارُك!) [551] ((التبصرة)) لابن الجوزي (2/199). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قولُه تعالَى: مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً، أي: لا يَنتظِرونَ إلَّا الصَّيحةَ المعلومةَ، ولَمَّا كانتْ هذه الصَّيحةُ لا بُدَّ مِن وُقوعِها، جُعِلوا كأنَّهم مُنتَظِروها. فإن قِيل: هم ما كانوا ينتظِرونَ، بل كانوا يَجزمون بعَدمِها؟ فالجوابُ: أنَّ الانتظارَ فِعليٌّ؛ لأنَّهم كانوا يَفعلونَ ما يستحقُّ به فاعلُه البوارَ، وتَعجيلَ العذابِ، وتَقريبَ الساعةِ، لولا حكمُ اللهِ وقُدرتُه وعلمُه [552] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/289)، ((تفسير أبي حيان)) (9/73). .
2- في قَولِه تعالَى: تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ بيانُ حالِ هؤلاء الذين تقومُ عليهم القِيامةُ، وتأخُذُهم الصَّيحةُ، وهي: الخُصومةُ والتَّنازُعُ؛ ممَّا يدُلُّ على سُوءِ أحوالِهم، وسُوءِ أخلاقِهم، وأنَّه لا هَمَّ لهم إلَّا هذه المخاصَمةُ والمنازَعةُ؛ شُحًّا وطَمعًا في الدُّنيا، وغَفلةً عن الآخرةِ؛ ولهذا جاء في الحَديثِ الصَّحيحِ: أنَّ الساعةَ لا تقومُ إلَّا على شِرارِ الخَلقِ [553] يُنظر ما أخرجه مسلم (1924). ، وهؤلاء مِن المعلومِ أنَّهم يأكُلونَ ويَشربونَ، لكنْ لم يَذكُرِ اللهُ إلَّا هذا التخاصُمَ؛ لبيانِ سُوءِ حالِهم في ذلك الزَّمَنِ [554] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 179). .
3- في قَولِه تعالى: وَهُمْ يَخِصِّمُونَ دَلالةٌ على أنَّ الساعةَ تأتيهم وهُم في غفلةٍ، وعدمِ شعورٍ بإتيانِها [555] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/139). .
4- في قَولِه تعالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ إثباتُ النَّفخِ في الصُّورِ، وهو مِن الأمورِ الغَيبيَّةِ التي يَجبُ الإيمانُ بها دونَ التَّعَرُّضِ لكَيفيَّتِها [556] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 183). .
5- النفخُ في الصُّوْرِ إذا وَقَعَ لم يَسْتَطِعْ أحدٌ أنْ يَتكلَّمَ، ولا يَتَزَحْزَحَ مِن مكانِه، يُؤخذُ ذلك مِن قولِه تعالَى: فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً هذا الكلامُ؛ وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ لا يَتَزَحْزَحُون مِن مَكانِهم [557] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 183). .
6- في قَولِه تعالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قُدرةُ اللهِ الشَّامِلةُ، والِحكمةُ الكامِلةُ؛ حيثُ كان صوتٌ واحِدٌ يُحيي تارةً، ويُميتُ أخرى، كأنَّه رُكِّبَ فيه مِن الأسرارِ أنَّه يَكسِبُ الشَّيءَ ضِدَّ ما هو عليه مِن حَياةٍ أو موتٍ، أو غَشْيٍ أو إفاقةٍ [558] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/142). .
7- في قَولِه تعالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ أنَّ جسمَ الميِّتِ يَبقَى في الأرضِ في المكانِ الذي دُفِنَ فيه إلى يومِ القِيامةِ [559] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (240/1). . هذا مِن حيثُ الأصلُ وإلَّا فقَدْ يزولُ مِن مَوضِعِه بفِعلٍ مِن النَّاسِ، أو نبْشِ السِّباعِ أو السُّيولِ إلى غيرِ ذلك.
8- في قَولِه تعالَى: يَنْسِلُونَ إثباتُ البعثِ؛ وأنَّه حَياةٌ حقيقيَّةٌ؛ لأنَّ الإسراعَ لا يكونُ إلَّا بحياةٍ حقيقيَّةٍ [560] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 184). .
9- في قَولِه تعالَى: قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا دَلالةٌ على أنَّهم يَنامون نومةً قبْلَ البَعثِ، وهي نومةُ موتٍ [561] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/176). ، وذلك على أحدِ القولَينِ في تفسيرِ مَرْقَدِنَا.
10- في قَولِه تعالَى: قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا سُؤالٌ: أنَّ قَولَهم ذلك سؤالٌ عن الباعِثِ؛ فكيف طابَقَه الجوابُ بقَولِه: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ؟
الجوابُ: معناه: بعَثَكم الرَّحمنُ الذي وعَدَكم بالبَعثِ، وأخبَرَكم به الرَّسولُ، وإنَّما جِيء به على هذه الطريقةِ؛ تَبكيتًا لهم وتوبيخًا [562] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 473). .
11- قَولُه تعالى: مَرْقَدِنَا وحَّدوه؛ إشارةً إلى أنَّهم على تَكاثُرِهم وتباعُدِهم كانوا في القِيامِ كنَفسٍ واحدةٍ [563] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/143). .
12- قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ، قَولُه تعالَى: الرَّحْمَنُ في هذا الموضِعِ ليس لمجرَّدِ الخَبرِ عن وعْدِه، وإنَّما ذلك للإخبارِ بأنَّه في ذلك اليومِ العظيمِ سيرونَ مِن رحمتِه ما لا يخطُرُ على الظُّنونِ، ولا حَسِبَ به الحاسِبون، كقَولِه تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ [الفرقان: 26] ، وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ [طه: 108] ونحوِ ذلك ممَّا يُذكَرُ فيه اسمُ الرَّحمنِ [564] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 697). ؛ فرحمةُ اللهِ يومَ القِيامةِ تتجلَّى تجلِّيًا أكثرَ منها في الدُّنيا، فإنَّ للهِ تعالَى مِئةَ رَحمةٍ جَعَل منها رحمةً في الأرضِ؛ فإذا كان يومُ القِيامةِ صارَ له مِئةُ رحمةٍ -التِّسعةُ والتِّسعون الباقيةُ؛ والرحمةُ الأُولى [565] عن سَلْمانَ الفارسيِّ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ لله مئةَ رَحمةٍ، فمِنها رحمةٌ بها يَتراحَمُ الخلقُ بينَهم، وتِسعةٌ وتِسعونَ ليومِ القِيامةِ)). أخرجه مسلِمٌ (2753). وعن أبي هُرَيرةَ رَضي اللهُ عنه، أنَّه قالَ: سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَقولُ: ((جَعَل اللَّهُ الرَّحْمةَ مِئةَ جُزءٍ، فأمْسَك عِندَه تِسْعةً وتِسْعينَ جُزءًا، وأنْزلَ في الأرضِ جُزْءًا واحدًا؛ فمِن ذلِك الجُزءِ يَتَراحَمُ الخَلقُ، حتَّى تَرفَعَ الفَرَسُ حافِرَها عن ولَدِها؛ خَشْيةَ أنْ تُصيبَه)). أخرَجه البخاريُّ (6000) واللفظ له، ومسلمٌ (2752). -، وهذا يدلُّ على تَجَلِّي رحمةِ اللهِ تعالى في ذلك اليومِ؛ ولهذا قال هنا: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ [566] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 188). .
13- الإشارةُ إلى أنَّ اللهَ تعالى يَنزِلُ للقَضاءِ بيْن عِبادِه؛ تُؤخَذُ مِن قَولِه تعالى: لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ أي: عندَنا، والعِندُ يدُلُّ على القُرْبِ، وقد ثَبَتَ بالنُّصوصِ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَنزِلُ للقَضاءِ بين عِبادِه، فيَقضي بيْنَهم [567] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 191). .
14- في قَولِه تعالَى: مُحْضَرُونَ دَلالةٌ على أنَّ كَونَهم يَنْسِلُونَ إجباريٌّ لا اختياريٌّ [568] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/293). .
15- في قَولِه تعالى: وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أنَّ الجزاءَ مِن جِنسِ العمَلِ، ويُستفادُ منه: كمالُ عَدلِ اللهِ عزَّ وجلَّ [569] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 195). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ كَلامٌ مُستَأنَفٌ لِبيانِ ضَرْبٍ آخَرَ مِن تَعسُّفِهم ورُكوبِهم مَتنَ الضَّلالةِ [570] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/73)، ((تفسير أبي السعود)) (7/171)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/210). .
- والاستِفهامُ في قَولِه: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ مُستَعمَلٌ كِنايةً عنِ التَّهكُّمِ والتَّكذيبِ. وأُطلِقَ الوَعدُ على الإنذارِ والتَّهديدِ بالشَّرِّ؛ لِأنَّ الوَعدَ أعَمُّ، ويَتعَيَّنُ لِلخَيرِ والشَّرِّ بالقَرينةِ. واسمُ الإشارةِ لِلوَعدِ هَذَا مُستَعمَلٌ في الاستِخفافِ بوَعدِ العَذابِ [571] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/33). .
2- قولُه تعالَى: مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ
- قَولُه: مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً، أي: ما يَنتَظِرونَ إلَّا صَعقةً أو نَفخةً عَظيمةً، والمُرادُ النَّفخةُ الأُولى التي يَنقَضي بها نِظامُ الحياةِ في هذا العالَمِ، والأُخرى التي وُعِدوا بها تَنشَأُ عنها النَّشأةُ الثانيةُ، وهي الحياةُ الأبديَّةُ -على القولِ بأنَّهما نفختانِ-؛ فيَكونُ أُسلوبُ الكَلامِ خارِجًا على الأُسلوبِ الحَكيمِ إعراضًا عن جَوابِهم؛ لِأنَّهم لم يَقصِدوا حَقيقةَ الاستِفهامِ، فأُجيبوا بأنَّ ما أُعِدَّ لهم مِنَ العَذابِ هو الأجدَرُ بأنْ يَنتَظِروه [572] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/34). .
- وتَقديمُ المُسنَدِ إليه على المُسنَدِ الفِعليِّ في قَولِه: وَهُمْ يَخِصِّمُونَ؛ لِإفادةِ تَقَوِّي الحُكمِ، وهو أنَّ الصَّيحةَ تَأخُذُهم [573] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/35). .
- وأيضًا في قولِه: مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ أمورٌ في الصَّيحةِ تدلُّ على هولِها وعِظَمِها؛ أحدُها: التَّنكيرُ؛ يُقالُ: لفُلانٍ مالٌ، أي: كثيرٌ، وله قلْبٌ، أي: جَريءٌ. وثانيها: وَاحِدَةً، أي: لا يُحتاجُ معها إلى ثانيةٍ. وثالثُها: تَأْخُذُهُمْ، أي: تعمُّهم بالأخْذِ، وتَصِلُ إلى مَن في مَشارِقِ الأرضِ ومَغاربِها، ولا شكَّ أنَّ مِثلَها لا يكونُ إلَّا عظيمًا [574] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/289). .
3- قولُه تعالَى: فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ
- قَولُه: فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً كِنايةٌ عن شِدَّةِ السُّرعةِ بَينَ الصَّيحةِ وهَلاكِهم؛ إذْ لا يَكونُ المُرادُ مَدلولَه الصَّريحَ؛ لِأنَّهم لا يَترُكونَ غَيرَهم بَعدَهم؛ إذِ الهَلاكُ يأتي على جَميعِ الناسِ [575] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/35). .
- وتَنكيرُ تَوْصِيَةً لِلتَّقليلِ، أي: لا يَستَطيعونَ تَوصيةً مَا [576] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/35). .
4- قولُه تعالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ كَلامٌ مُستَأنَفٌ مَسوقٌ لِتَقريرِ البَعثِ يَومَ القِيامةِ [577] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/212). .
- قَولُه: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ... يَجوزُ أنْ تَكونَ الواوُ اعتِراضيَّةً، وهذا الاعتِراضُ واقِعٌ بَينَ جُملةِ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً ... [يس: 49] ، وجُملةِ وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا ... [يس: 66] ، والمَقصودُ منه: وَعظُهم بالبَعثِ الذي أنكَروه، وبما وَراءَه [578] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/36)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/212). .
- وصِيغةُ الماضي في (نُفِخَ) مُستَعمَلةٌ في تَحقُّقِ الوقوعِ، والمَعنى: ويُنفَخُ في الصُّورِ، أي: ويَنفُخُ نافِخٌ في الصُّورِ، وهو المَلَكُ المُوكَّلُ به [579] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/171)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/36). .
- قَولُه: فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (إذا) لِلمُفاجَأةِ، وهي حُصولُ مَضمونِ الجُملةِ التي بَعدَها سَريعًا وبدونِ تَهيُّؤٍ [580] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/36). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال تعالَى هاهُنا: فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ، وقال تَعالى في مَوضِعٍ آخَرَ: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: 68] ، والقِيامُ غَيرُ النَّسَلانِ، وقَولُه في المَوضِعَيْنِ: فَإِذَا هُمْ يَقتَضي أنْ يَكونَا مَعًا؛ والجَوابُ عن هذا مِن وَجهَيْنِ؛ أحَدُهما: أنَّ القِيامَ لا يُنافي المَشيَ السَّريعَ؛ لِأنَّ الماشيَ قائِمٌ، ولا يُنافي النَّظَرَ. وثانيهما: أنَّ السُّرعةَ مَجيءُ الأُمورِ كأنَّ الكُلَّ في زَمانٍ واحِدٍ [581] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/291)، ((تفسير أبي حيان)) (9/73). .
5- قولُه تعالَى: قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ
- قَولُه: قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ وَصْفَ هذه الحالِ بَعدَ حِكايةِ إنكارِهم البَعثَ، وإحالَتِهم إيَّاهُ، يُثيرُ سُؤالَ مَن يَسألُ عن مَقالِهم حينَما يَرَوْنَ حَقيقةَ البَعثِ [582] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/37). .
- وفي قَولِه: قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا حُكيَ قَولُهم بصِيغةِ الماضي -مع كونِه لم يقَعْ بعْدُ-؛ إتْباعًا لِحكايةِ ما قَبلَه بصِيغةِ المُضيِّ؛ لِتَحقيقِ الوُقوعِ [583] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/37). .
- قَولُه: يَا وَيْلَنَا كَلِمةٌ يَقولُها الواقِعُ في مُصيبةٍ، أوِ المُتَحسِّرُ، وإنَّما قالوا ذلك؛ لِأنَّهم رَأوْا ما أُعِدَّ لهم مِنَ العَذابِ عِندَما بُعِثوا، وحَرْفُ النِّداءِ الدَّاخِلُ على (وَيْلَنا)؛ لِلتَّنبيهِ، وتَنزيلِ الوَيْلِ مَنزِلةَ مَن يَسمَعُ فيُنادَى لِيَحضُرَ [584] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/37). .
- قَولُه: مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا (مَنْ) استِفهامٌ عن فاعِلِ البَعثِ، مُستَعمَلٌ في التَّعجُّبِ والتَّحسُّرِ مِن حُصولِ البَعثِ [585] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/37). .
- قَولُه: قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا لَمَّا كان البَعثُ عِندَهم مُحالًا، كَنَّوْا عنِ التَّعجُّبِ مِن حُصولِه بالتَّعجُّبِ مِن فاعِلِه؛ لأنَّ الأفعالَ الغَريبةَ تَتوَجَّهُ العُقولُ إلى مَعرِفةِ فاعِلِها؛ لِأنَّهم لَمَّا بُعِثوا وأُزْجيَ بهم إلى العَذابِ، عَلِموا أنَّه بَعثٌ فَعَلَه مَن أرادَ تَعذيبَهم [586] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/37). .
- قَولُه: مِنْ مَرْقَدِنَا المَرقَدُ: مَكانُ الرُّقادِ، وحَقيقةُ الرُّقادِ: النَّومُ، وأطلَقوا الرُّقادَ على المَوتِ والاضطِجاعِ في القُبورِ -على قولٍ في التفسيرِ- تَشبيهًا بحالةِ الرَّاقِدِ؛ لِأنَّ عَذابَ القَبرِ كان كالرُّقادِ في جَنبِ ما صاروا إليه مِن عَذابِ جَهنَّمَ. وقيل: الجامِعُ بَينَهما عَدَمُ ظُهورِ الفِعلِ؛ لِأنَّ كُلًّا مِنَ النَّائِمِ والمَيِّتِ لا يَظهَرُ فيه فِعلٌ، والمُرادُ الفِعلُ الاختِياريُّ المُعتَدُّ به. وقيل: فيه تَرشيحٌ [587] التَّرشيح: هو أنْ يُذكَرَ شَيءٌ يلائمُ المشبَّهَ به إنْ كان في الكلام تَشبيهٌ، كما في قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: ((أسْرَعُكنَّ لُحوقًا بي أطْوَلُكنَّ يدًا)) [البخاري (1420) ومسلم (2452)]؛ فإنَّ ((أطولكنَّ)) تَرْشيحٌ لليدِ، وهو تَعبيرٌ عن النِّعمة. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 385)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 302)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 272). ، ورَمزٌ [588] الرَّمْزُ: هو إشارةٌ إلى المقصودِ مِن قَريبٍ مع نَوعِ خَفاءٍ، وهو كِنايةٌ قلَّت وَسائطُها مع خَفاءِ اللُّزومِ، نحو: هو غَليظُ الكَبِد، كِنايةً عن القَسْوة؛ إذ ذلك تَتوقَّف على مَعرِفةِ ما كان يَعتقِدُه العربُ مِن أنَّ الكَبِدَ مَوضعُ الإحساسِ والتأثُّرِ، فيَلزَمُ مِن رِقَّتِه اللِّينُ، ومن غِلَظَه القسْوة. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/387، 388)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/439)، ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 411)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (2/177)، ((معجم مقاليد العلوم)) للسيوطي (ص: 98)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 306). ، وإشعارٌ بأنَّهم لاختِلاطِ عُقولِهم يَظنُّونَ أنَّهم كانوا نِيامًا [589] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/270)، ((تفسير أبي حيان)) (9/74)، ((تفسير أبي السعود)) (7/172)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/37). .
- قَولُه: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ابتِداءُ كَلامٍ؛ فقيلَ: هو مِنَ اللهِ تعالَى، على سَبيلِ التَّوبيخِ والتَّوقيفِ على إنكارِهم. ويَجوزُ أن يَكونَ مِن كَلامِ المَلائكةِ، أوِ المُؤمِنينَ، يُجيبونَ به قَولَ الكُفَّارِ: مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا؛ فهذا جَوابٌ يَتضَمَّنُ بَيانَ مَن بَعَثَهم، مع تَنديمِهم على تَكذيبِهم به في الحَياةِ الدُّنيا حينَ أبلَغَهمُ الرُّسُلُ ذلك عنِ اللهِ تَعالَى، واسمُ الرَّحمنِ حِينَئذٍ مِن كَلامِ المَلائِكةِ؛ لِزيادةِ تَوبيخِ الكُفَّارِ على تَجاهُلِهم به في الدُّنيا [590] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/20)، ((تفسير البيضاوي)) (4/270)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/67)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 473، 474)، ((تفسير أبي السعود)) (7/172)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/38). . وقيل: هو مِن كلامِ الكَفَرةِ المكذِّبينَ بالبعثِ، وهذا الكَلامُ خَبَرٌ مُستَعمَلٌ في لازِمِ الفائِدةِ؛ وهو أنَّهم عَلِموا سَبَبَ ما تَعجَّبوا منه، فبَطَلَ العَجَبُ؛ فيَجوزُ أنْ يَكونوا يَقولونَ ذلك كما يَتكَلَّمُ المُتحَسِّرُ بَينَه وبَينَ نَفْسِه، وأنْ يَقولَه بَعضُهم لِبَعضٍ كُلٌّ يَظُنُّ أنَّ صاحِبَه لم يَتفَطَّنْ لِلسَّبَبِ؛ فيُريدُ أنْ يُعْلِمَه به [591] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/37- 38). .
- وأيضًا قَولُه: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ جَوابٌ لِسُؤالِهم: مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا، جِيءَ به على هذه الطريقةِ تَبكيتًا لهم وتَوبيخًا، وعلى طَريقةٍ سِيئَتْ بها قُلوبُهم، ونُعِيَتْ إليهم أحوالُهم، وذُكِّروا كُفرَهم وتَكذيبَهم، وأُخبِروا بوُقوعِ ما أُنذِروا به، وكأنَّه قيل لهم: ليس بالبَعثِ الذي عَرَفتُموه -وهو بَعثُ النَّائِمِ مِن مَرقَدِه- حتى يُهِمَّكمُ السُّؤالُ عنِ الباعِثِ، إنَّ هذا هو البَعثُ الأكبَرُ ذو الأهوالِ والأفزاعِ، وهو الذي وَعَدَه اللهُ في كُتُبِه المُنزَّلةِ على ألْسِنةِ رُسُلِه الصَّادِقينَ [592] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/20)، ((تفسير البيضاوي)) (4/270)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/67)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 473- 474)، ((تفسير أبي السعود)) (7/172)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/38). .
- وفي قولِهم: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ أتَوْا في التَّعبيرِ عنِ اسمِ الجَلالةِ بصِفةِ الرَّحمنِ؛ إكمالًا لِلتَّحسُّرِ على تَكذيبِهم بالبَعثِ، بذِكرِ ما كان مُقارِنًا لِلبَعثِ في تَكذيبِهم، وهو إنكارُ هذا الاسمِ [593] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/38). ، وهذا على أنَّه مِن قولِ الكفرةِ.
- وجُملةُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ عَطفٌ على جُملةِ هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ، وهو مُستَعمَلٌ في التَّحسُّرِ على أنْ كَذَّبوا الرُّسُلَ، وجَمعُ المُرسَلينَ مع أنَّ المَحكيَّ كَلامُ المُشرِكينَ الذين يَقولونَ: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ [يس: 48]؛ إمَّا لِأنَّهم استَحضَروا أنَّ تَكذيبَهم مُحمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان باعِثُه إحالَتَهم أنْ يَكونَ اللهُ يُرسِلُ بَشَرًا رَسولًا؛ فكان ذلك لِأنَّهم لا يُصدِّقونَ أحَدًا يَأتي برِسالةٍ مِنَ اللهِ، فلَمَّا تَحسَّروا على خَطَئِهم ذَكَروه بما يَشمَلُه ويَشمَلُ سَبَبَه، وإمَّا لِأنَّ ذلك القَولَ صَدَرَ عن جَميعِ الكُفَّارِ المَبعوثينَ مِن جَميعِ الأُمَمِ؛ فعَلِمتْ كُلُّ أُمَّةٍ خَطَأها في تَكذيبِ رَسولِها، وخَطَأَ غَيرِها في تَكذيبِ رُسُلِهم؛ فنَطَقوا جَميعًا بما يُفصِحُ عنِ الخَطَأيْنِ [594] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/38). ، وذلك أيضًا على أنَّه مِن قولِ الكَفَرةِ.
6- قولُه تعالَى: إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ فَذلَكةٌ [595] الفَذْلكة: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكَةً، أي: أَنْهاهُ وفَرَغَ مِنْه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أولًا وخُلاصتَه. و(الفَذْلكةُ كَلِمةٌ منحوتةٌ كـ (البَسملة) و(الحوقلة) مِن قولِهم: (فذَلِكَ كذَا وكذَا عددًا). ويُراد بالفذلكة النتيجةُ لِمَا سبَق من الكلام، والتفريعُ عليه، ومنها فذلكةُ الحساب، أي: مُجمَل تفاصيله، وإنهاؤه، والفراغ منه، كقوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بعد قولِه: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة: 196] . يُنظر: ((تاج العروس)) للزبيدي (27/293)، ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). لِجُملةِ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً [يس: 49] ، إلى قَولِه: وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [596] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/39). [يس: 52] .
- ووَصَفَ الصَّيحةَ بـ (وَاحِدَةً)؛ لِأنَّ ذلك الوَصفَ هو المَقصودُ مِنَ الاستِثناءِ المُفرَّغِ [597] الاستثناء المُفرَّغ -ويُعْرَف أيضًا بالاستثناءِ الناقصِ-: هو الاستثناءُ الذي حُذِف المستثْنى منه مِن أركانِه، مثل: ما جاء إلَّا طالبٌ؛ فالمسْتَثنى: طالب، والأداة: إلَّا، والمستثْنى منه مَحْذوف. وقد سُمِّي مُفرَّغًا؛ لأنَّ بهذا الأسلوبِ يَتفرَّغُ ما قبْل «إلَّا» للعَملِ فيما بعْدها ولا يَشغَلُه عنه شيءٌ، وعليه تَخرُج «إلَّا» عن الاستثناءِ، ولا يُعَدُّ هذا النَّوعُ استثناءً، بل هو أُسلوبٌ للتَّوكيد فقطْ. يُنظر: ((شرح التسهيل)) لابن مالك (2/264)، ((شرح شذور الذهب)) للجوجري (2/481)، ((النحو الوافي)) لعباس حسن (2/317). ، أي: ما كان ذلك النَّفخُ إلَّا صَيحةً واحِدةً لا يُكرَّرُ استِدعاؤُهم لِلحُضورِ، بلِ النَّفخُ الواحِدُ يُخرِجُهم مِنَ القُبورِ، ويَسيرُ بهم ويُحضِرُهم لِلحِسابِ [598] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/39). .
- ولَمَّا كان قَولُه: إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً في قُوَّةِ التَّكريرِ والتَّوكيدِ لِقَولِه: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [يس: 51] ، كان ما تَفرَّعَ عليه مِن قَولِه: فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ بمَنزِلةِ العَطفِ على قَولِه: فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس: 51] ، فكأنَّه مِثلُ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس: 51] ، وفَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ، وإعادةُ حَرفِ المُفاجأةِ (إذا) إيماءٌ إلى حُصولِ مَضمونِ الجُملتَيْنِ المُقترِنتَيْنِ بحَرفِ المُفاجَأةِ في مِثلِ لَمْحِ البَصَرِ، حتى كأنَّ كِليهما مُفاجَأٌ في وَقتٍ واحِدٍ [599] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/39). .
- قولُه: فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ، أي: مِن غَيرِ لَبْثٍ ما طَرْفةَ عَينٍ، وفيه مِن تَهوينِ أمْرِ البَعثِ والحَشرِ، والإيذانِ باستِغنائِهما عنِ الأسبابِ التي يَنوطانِ بها فيما يُشاهِدونَه؛ ما لا يَخفَى [600] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/270)، ((تفسير أبي السعود)) (7/172). .
7- قولُه تعالَى: فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
- قَولُه: فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا حِكايةٌ لِمَا يُقالُ لهم حِينَئذٍ؛ تَصويرًا لِلمَوعودِ، وتَمكينًا له في النُّفوسِ، وتَقريعًا لهم [601] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/270- 271)، ((تفسير أبي السعود)) (7/172). .
- قَولُه: فَالْيَوْمَ (اليَوْم) ظَرفٌ، وتَعريفُه لِلعَهدِ، وهو عَهدُ حُضورٍ، يَعني يَومَ الجَزاءِ، وفائِدةُ ذِكرِه: التَّنويهُ بذلك اليَومِ بأنَّه يَومُ العَدْلِ [602] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/40). .
- وجاءَتْ كَلِمَتا (نَفْسٌ) و(شَيْئًا) نَكِرتَيْنِ في سِياقِ النَّفيِ؛ لِيَعُمَّ انتِفاءُ كُلِّ ذلك عن كُلِّ نَفْسٍ، وانتِفاءُ كُلِّ شَيءٍ مِن حَقيقةِ الظُّلمِ، وذلك يَعُمُّ جَميعَ الأنْفُسِ، ولكنَّ المَقصودَ أنْفُسُ المُعاقَبينَ، أيْ: إنَّ جَزاءَهم على حَسَبِ سَيِّئاتِهم جَزاءٌ عادِلٌ، وإذْ قد كان تَقديرُه مِنَ اللهِ تَعالى -وهو العَليمُ بكُلِّ شَيءٍ- كانتْ حَقيقةُ العَدلِ مُحقَّقةً في مِقدارِ جَزائِهم [603] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/40). .
- وأشعَرَ قَولُه: لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا بالتَّعريضِ بأنَّهم سيَلقَوْنَ جَزاءً قاسِيًا، لكنَّه عادِلٌ، لا ظُلْمَ فيه؛ لِأنَّ نَفيَ الظُّلمِ يُشعِرُ بأنَّ الجَزاءَ ممَّا يُخالُ أنَّه مُتَجاوِزٌ مُعادَلةَ الجَريمةِ، وهو مَعنى وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، أيْ: إلَّا على وِفاقِ ما كُنتُم تَعمَلونَ، وعلى مِقدارِه [604] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/40). .
- قولُه: وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، أي: إلَّا جَزاءَ ما كُنتُم تَعمَلونَه في الدُّنيا على الاستِمرارِ مِنَ الكُفرِ والمَعاصي، على حَذفِ المُضافِ، وإقامةِ المُضافِ إليه مُقامَه؛ لِلتَّنبيهِ على قُوَّةِ التَّلازُمِ والارتِباطِ بيْنَهما كأنَّهما شَيءٌ واحِدٌ، أو إلَّا بما كُنتُم تَعمَلونَه، أي: بمُقابَلَتِه أو بسَبَبِه [605] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/172) .