موسوعة التفسير

سورةُ النُّورِ
الآيات (23-26)

ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ

غريب الكلمات:

دِينَهُمُ الْحَقَّ: أي: حِسابَهم العَدلَ، وجزاءَهم الواجِبَ، وأصلُ (دين) وما تفرَّع عنه: جنسٌ مأخوذٌ مِن الانقيادِ والذُّلِّ [511] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/319)، ((الغريبين)) للهروي (2/664)، ((البسيط)) للواحدي (16/181)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 255). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى: إنَّ الذين يَقذِفون بالزِّنا العَفيفاتِ، الغافلاتِ عن الفاحِشةِ، المتَّصِفاتِ بالإيمانِ- مطرودون مِن رحمةِ اللهِ في الدُّنيا والآخرةِ، ولهم عذابٌ عَظيمٌ في نارِ جهنَّمَ إنْ لم يتوبوا قبلَ وفاتِهم، ذلك العذابُ يومَ القيامةِ حينَ تشهَدُ عليهم ألسنتُهم، وتتكَلَّمُ أيديهم وأرجُلُهم بما اقتَرَفوا مِن السيِّئاتِ، في هذا اليومِ ينالُهم حِسابُهم وجزاؤُهم العادِلُ، ويَعلَمونَ حينَئذٍ أنَّ اللهَ هو الحَقُّ الموجودُ الثابتُ، الظَّاهِرُ الذي لا شَكَّ فيه، المُظهِرُ للحقائِقِ في الآخرةِ.
الخبيثاتُ مِن النِّساءِ والأقوالِ والأعمالِ والأوصافِ مُناسِبةٌ للخَبيثينَ، وكذلك الخَبيثونَ مُوافِقونَ ومُناسِبونَ للخَبيثاتِ، والطيِّباتُ مِن النِّساءِ والأقوالِ والأعمالِ والأوصافِ مُناسِبةٌ للطَّيِّبينَ، وكذلك الطَّيِّبونَ أهلٌ للطَّيِّباتِ، أولئك الطَّيِّبونَ والطَّيِّباتُ مُنزَّهونَ ممَّا تقَوَّلَه أهلُ الإفكِ، لهم على ما نالهم مِن الأذى مَغفِرةٌ لذُنوبِهم، ورِزقٌ كريمٌ في جنَّاتِ النَّعيمِ.

تفسير الآيات:

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا ختَمَ الآيةَ السَّابقةَ بالوَصفينِ غَفُورٌ رَحِيمٌ بعْدَ الأمرِ بالعَفوِ، ربَّما جرَّأ على مِثلِ هذه الإساءةِ، فوصَلَ به مُرَهِّبًا من الوقوعِ في مثلِ ذلك قَولَه مُعَمِّمًا للحُكمِ [512] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/240). :
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ.
أي: إنَّ الذين يَقذِفونَ بالزِّنا العَفيفاتِ الغافلاتِ عن الفاحِشةِ [513] قال ابنُ جريرٍ بعدَ أن ذكَر الخلافَ في المحصناتِ اللاتي هذا حُكمُهنَّ: (أَوْلى هذه الأقوالِ في ذلك عندي بالصَّوابِ قَولُ من قال: نزَلت هذه الآيةُ في شأنِ عائشةَ، والحُكمُ بها عامٌّ في كلِّ مَن كان بالصِّفةِ التي وصَفه اللهُ بها فيها). ((تفسير ابن جرير)) (17/230). وممَّن ذهب إلى ذلك: ابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/31-33). وممَّن قال بهذا القولِ مِنَ السلفِ: قتادةُ، وابنُ زيد. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/229)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/286). وقيل: الآيةُ خاصَّةٌ في قذفِ عائشةَ وأزواجِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. وممَّن اختاره: الواحديُّ، والكرماني. يُنظر ((البسيط)) للواحدي (16/180)، ((تفسير الكرماني)) (2/793). ونسَبَ ابنُ تيميَّةَ القولَ بأنَّ هذه الآيةَ في أزواجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خاصَّةً إلى كثيرٍ مِن أهلِ العِلمِ. يُنظر: ((الصارم المسلول)) (ص: 44). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وسعيدُ بنُ جُبَير في روايةٍ عنه، والضَّحَّاك، والكلبي، وأبو الجوزاء، وسَلَمةُ بن نُبَيْط. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/227)، ((البسيط)) للواحدي (16/178)، ((تفسير ابن كثير)) (6/32)، ((تفسير الخازن)) (3/289)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (6/165). قال الشنقيطي: (وَصْفُه تعالى للمُحصَناتِ في هذه الآيةِ بكَونِهنَّ غافِلاتٍ: ثناءٌ عليهنَّ بأنَّهنَّ سليماتُ الصُّدورِ، نقيَّاتُ القُلوبِ، لا تَخطُرُ الرِّيبةُ في قُلوبِهنَّ؛ لحُسنِ سَرائِرِهنَّ، ليس فيهنَّ دَهاءٌ ولا مَكرٌ؛ لأنَّهنَّ لم يُجَرِّبْنَ الأمرَ فلا يَفْطُنَّ لِمَا تَفطُنُ له المُجَرِّباتُ ذواتُ المَكرِ والدَّهاءِ، وهذا النَّوعُ مِن سلامةِ الصُّدورِ وصَفائِها مِنَ الرِّيبةِ: مِن أحسَنِ الثَّناءِ). ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/430). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/222، 223)، ((تفسير السعدي)) (ص: 565). المؤمِناتِ، ولم يتوبوا مِنْ قذْفِهنَّ؛ أبعَدَهم اللهُ مِن رحمتِه في الدُّنيا والآخِرةِ [514] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/226، 230)، ((تفسير النسفي)) (2/496)، ((تفسير ابن كثير)) (6/33)، ((تفسير السعدي)) (ص: 565)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/191). قال الزجَّاج: (لم يقُلْ هاهنا: والمؤمنينَ؛ استِغناءً بأنَّه إذا رمى المؤمنةَ فلا بدَّ أن يرميَ معها مؤمنًا، فاستَغْنى عن ذِكرِ المؤمنينَ؛ لأنَّه قد جرى ذِكرُ المؤمنينَ والمؤمناتِ). ((معاني القرآن)) (4/37). وذهب النحاسُ إلى أنَّ التقديرَ: الذين يَرْمونَ الأنفُسَ المحصناتِ، فيَدخُلُ في الآية قذفُ الذكورِ والإناث. يُنظر: ((إعراب القرآن)) للنحاس (3/91). وقال ابن القيم: (خُصَّ الإناثُ باللَّفظِ؛ إذ كنَّ سبَبَ النُّزولِ، فنُصَّ عليهم بخُصوصهنَّ). ((إعلام الموقعين)) (1/274). وقال ابن عاشور: (اللعنُ في الدنيا: التَّفسيقُ، وسَلبُ أهليَّةِ الشهادة، واستيحاشُ المؤمنين منهم، وحَدُّ القذفِ؛ واللَّعنُ في الآخرة: الإبعادُ من رحمةِ الله). ((تفسير ابن عاشور)) (18/191). .
وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
أي: ولهم عذابٌ عظيمٌ في جهنَّمَ، إنْ لم يتوبوا قبْلَ وفاتِهم مِن قَذفِ المُحصَناتِ الغافلاتِ المُؤمِناتِ [515] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/226، 230)، ((تفسير النسفي)) (2/496)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/191). قال السعدي: (وهذا زيادةٌ على اللعنةِ، أبعَدهم عن رحمتِه، وأحلَّ بهم شدةَ نقمتِه). ((تفسير السعدي)) (ص: 565). .
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((اجتَنِبوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ، قيل: يا رَسولَ اللهِ، وما هُنَّ؟ قال: الشِّركُ باللهِ، والسِّحرُ، وقَتلُ النَّفسِ التي حرَّم اللهُ إلَّا بالحَقِّ، وأكلُ مالِ اليتيمِ، وأكلُ الرِّبا، والتولِّي يومَ الزَّحفِ، وقَذفُ المُحصَناتِ الغافلاتِ المُؤمِناتِ )) [516] رواه البخاري (2766)، ومسلم (89) واللفظ له. .
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ .
أي: لهم عذابٌ عظيمٌ يومَ القيامةِ حينَ تَشهَدُ عليهم ألسِنتُهم وأيديهم وأرجُلُهم، فتنطِقُ بغيرِ اختيارِهم بما كانوا يكتَسِبونَه في الدُّنيا مِن الذُّنوبِ، بأقوالِهم وأفعالِهم، كالقَذفِ وغَيرِه [517] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/230)، ((تفسير السمعاني)) (3/515)، ((السراج المنير)) للشربيني (2/611)، ((تفسير السعدي)) (ص: 565)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/191). .
عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((كنَّا عندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فضَحِكَ، فقال: هل تدرونَ ممَّ أضحَكُ؟ قلنا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: مِن مخاطبةِ العبدِ ربَّه؛ يقولُ: يا ربِّ، ألم تُجِرْني من الظُّلمِ؟ يقولُ: بلى، فيقولُ: فإنِّي لا أُجيزُ على نفْسي إلَّا شاهِدًا مِنِّي، فيقولُ: كفَى بنَفْسِك اليومَ عليك شَهيدًا، وبالكِرامِ الكاتبينَ شُهودًا! فيُختَمُ على فِيهِ، فيُقالُ لأركانِه [518] لأركانِه: أي: لجوارحِه. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (18/105). : انطِقي، فتَنطِقُ بأعمالِه، ثم يُخلَّى بيْنَه وبيْنَ الكلامِ، فيقولُ: بُعْدًا لكُنَّ وسُحْقًا! فعنكُنَّ كنتُ أُناضِلُ [519] أُناضِلُ: أي أُدافِعُ وأُجادِلُ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (18/105). ) [520] رواه مسلم (2969). .
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ.
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ.
أي: يومَئذٍ يوفِّيهم اللهُ حِسابَهم بالعَدلِ، ويُجازيهم على أعمالِهم بلا ظُلمٍ [521] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/231)، ((تفسير السعدي)) (ص: 565)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/192)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/491). قال النحاس: (مجازاةُ الله جلَّ وعَزَّ للكافِرِ والمُسيءِ: بالحَقِّ والعدلِ، ومجازاتُه للمحسنينَ: بالفضلِ والإحسانِ). ((إعراب القرآن)) (3/92). وقال البِقَاعي: (الْحَقَّ أي الذي يَظهرُ لكلِّ أحدٍ مِن أهلِ ذلك المجمعِ العظيمِ أنَّهم يستحقونَه، فلا يقدرُ أحدٌ على نوعِ طعنٍ فيه). ((نظم الدرر)) (13/242). .
كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47] .
وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ.
أي: وينكَشِفُ لهم [522] قيل: هم أهلُ النِّفاقِ. وممَّن قال بذلك: ابنُ جرير، وابن جُزَي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/232)، ((تفسير ابن جزي)) (2/65). قال ابنُ عاشور: (قوله: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ أي: ينكشفُ للناسِ أنَّ الله هو الحقُّ... ومعنى كونِهم يعلمون أنَّ الله هو الحقُّ المبينُ: أنهم يتحقَّقونَ ذلك يومَئذٍ بعلمٍ قطعيٍّ لا يَقبلُ الخفاءَ ولا الترددَ، وإن كانوا عالِمينَ ذلك مِن قبْلُ؛ لأنَّ الكلامَ جارٍ في موعظةِ المؤمنينَ، ولكن نزَّل عِلمَهم المحتاجَ للنظرِ والمُعَرَّضَ للخفاءِ والغفلةِ منزلةَ عدمِ العلمِ). ((تفسير ابن عاشور)) (18/192، 193). حينَها أنَّ اللهَ هو الحَقُّ الموجودُ الثَّابتُ في ذاتِه وصفاتِه وأفعالِه، الظَّاهِرُ الذي لا شَكَّ فيه، والهادي مَن يشاءُ، المُظهِرُ للحقائِقِ في الآخرةِ [523] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/232)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (2/415)، ((تفسير ابن جزي)) (2/65)، ((تفسير الشوكاني)) (4/21)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/192، 193). قال السعدي: (أوصافُه العظيمةُ حقٌّ، وأفعالُه هي الحقُّ، وعبادتُه هي الحقُّ، ولقاؤُه حقٌّ، ووعدُه ووعيدُه، وحُكمُه الدينيُّ والجزائيُّ حقٌّ، ورُسلُه حقٌّ). ((تفسير السعدي)) (ص: 565). قال ابن عاشور: (الْمُبِينُ: اسمُ فاعلٍ مِن أبانَ، الذي يُستعمَلُ مُتعدِّيًا بمعنَى أظهَرَ، على أصلِ معنَى إفادةِ الهمزةِ التَّعديةَ، ويُستعمَلُ بمعنَى بانَ، أي: ظهَرَ، على اعتِبارِ الهمزةِ زائدةً). (تفسير ابن عاشور)) (18/193). ممَّن اختار أنَّ المُبينَ بمعنَى البَيِّنِ الظاهِرِ: مقاتلُ بن سليمان، ويحيى بن سلام، وابنُ جُزَي، والخازن. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/193)، ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/436)، ((تفسير ابن جزي)) (2/65)، ((تفسير الخازن)) (3/290). وممَّن اختار أنَّ المُبينَ بمعنَى المُظهِرِ: ابنُ جرير، والثعلبي، ومكِّي، والسمعاني، والبغوي، والرازي، والشوكاني، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/232)، ((تفسير الثعلبي)) (7/82)، ((الهداية الى بلوغ النهاية)) لمكي (8/5056)، ((تفسير السمعاني)) (3/515)، ((تفسير البغوي)) (3/396)، ((تفسير الرازي)) (23/355)، ((تفسير الشوكاني)) (4/21)، ((تفسير القاسمي)) (7/341). والمعنى على ذلك: أنَّه يُبيِّنُ لهم حقائقَ ما كان يَعِدُهم في الدُّنيا مِن العذابِ. وممَّن اختاره: ابنُ جرير، والثعلبيُّ، ومكِّي، والواحدي، والبغوي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/232)، ((تفسير الثعلبي)) (7/82)، ((الهداية الى بلوغ النهاية)) لمكي (8/5056)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 760)، ((تفسير البغوي)) (3/396). وقيل: المُظهِرُ للأشياءِ كما هي في أنفُسِها. وممَّن اختاره: الشوكانيُّ، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/21)، ((تفسير القاسمي)) (7/341). وذكَرَ ابنُ عثيمينَ أنَّ مِن اللازمِ أنَّه إذا كان مُظهِرًا فهو ظاهِرٌ في نفْسِه، فالمُبِينُ بمعنَى المُظهِرِ لا بدَّ أن يَكونَ بَيِّنًا بنفْسِه. وقد جمَع بيْن المعنيَينِ السابقَينِ، فقال: (الله تعالى بيِّنُ الأحَقِّيَّةِ، ومُبينٌ ذلك لعِبادِه بما ركَّبَ فيهم مِنَ الفِطَرِ السليمةِ، والعقولِ، وبالوحيِ الذي أرسَلَ به الرُّسلَ). ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 141) بتصرف. .
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
بعد أن برَّأ سُبحانَه عائشةَ رضي اللهُ عنها مِمَّا رُمِيَت به مِن الإفكِ، ثمَّ ذكرَ أنَّ راميَ المُحصَناتِ الغافلاتِ مَطرودٌ مِن رَحمةِ الله- أردف ذلك دليلًا يَنفي الرِّيبةَ عن عائشةَ بأجلى وضوحٍ؛ ذاك أنَّ السُّنةَ الجاريةَ بيْن الخَلقِ مَبنيَّةٌ على مُشاكلةِ الأخلاقِ والصِّفاتِ بيْن الزَّوجَينِ؛ فالطيِّباتُ للطيِّبينَ، والخبيثاتُ للخبيثينَ؛ ورسولُ اللهِ أطيبُ الطَّيِّبينَ، فيَجِبُ كونُ الصِّدِّيقةِ مِن أطيبِ الطَّيِّباتِ على مقتضى المنطقِ السَّليمِ والعادةِ الشَّائِعةِ بين الخَلقِ [524] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (18/92). .
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ.
أي: الخَبيثاتُ مِنَ الأقوالِ والأعمالِ والنِّساءِ وغيرِ ذلك لائقةٌ ومُناسِبةٌ للخَبيثينَ، وكذلك الخَبيثونَ أهلٌ للخَبيثاتِ مِنَ الأقوالِ والأعمالِ والنِّساءِ وغيرِ ذلك [525] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (1/66)، ((تفسير السعدي)) (ص: 565). قال الماوَرْدي: (قوله تعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ الآيةَ. فيه ثلاثةُ أقاويلَ: أحدُها: الخبيثاتُ مِن النِّساءِ للخبيثينَ مِن الرِّجالِ، والخبيثون مِنَ الرِّجالِ للخبيثاتِ مِن النِّساءِ؛ والطيِّباتُ مِن النِّساءِ للطيِّبينَ مِن الرِّجالِ، والطيِّبونَ مِن الرِّجالِ للطيِّباتِ مِن النِّساءِ. قاله ابنُ زيد. الثاني: الخبيثاتُ مِن الأعمالِ للخَبيثين مِنَ النَّاسِ، والخَبيثون مِن النَّاسِ للخَبيثاتِ مِن الأعمالِ؛ والطيِّباتُ مِن الأعمالِ للطيِّبينَ مِن النَّاسِ، والطيِّبون مِن النَّاسِ للطيِّباتِ مِن الأعمالِ. قاله مجاهِدٌ، وقتادةُ. الثالث: الخبيثاتُ مِن الكلامِ للخَبيثين من النَّاسِ، والخبيثون مِن النَّاسِ للخَبيثاتِ مِن الكلامِ؛ والطيِّباتُ مِن الكلامِ للطيِّبينَ مِن النَّاسِ، والطيِّبونَ مِن النَّاسِ للطيِّباتِ مِن الكلامِ. قاله ابنُ عبَّاسٍ، والضحَّاكُ). ((تفسير الماوردي)) (4/84). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ: البيضاويُّ، وابن تيميَّةَ، وابنُ جُزَي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/103)، ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيميَّة (3/152)، ((تفسير ابن جزي)) (2/65)، ((تفسير الشوكاني)) (4/21). وممن قال به مِن السلفِ: ابنُ زيد. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (7/82). وذكَرَ ابنُ كثيرٍ أنَّ هذا القولَ يرجِعُ إلى القولِ الثالثِ باللازمِ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/34). وممَّن اختار القولَ الثالثَ: ابنُ جريرٍ، والزجَّاجُ، والنحاس، ومكِّي، والواحدي، والنسفي، والخازن. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/237)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/37)، ((معاني القرآن)) للنحاس (4/515)، ((الهداية الى بلوغ النهاية)) لمكي (8/5056)، ((الوسيط)) للواحدي (3/314)، ((تفسير النسفي)) (2/497)، ((تفسير الخازن)) (3/290). ونسَبَه الثعلبيُّ والواحديُّ والبغويُّ والقُرطُبيُّ لأكثرِ المفسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (7/82)، ((البسيط)) للواحدي (16/182)، ((تفسير البغوي)) (3/396)، ((تفسير القرطبي)) (12/211). وممَّن قال به من السَّلَفِ: ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهدٌ، وعطاء، وسعيد بن جُبَير، والشعبي، والحسن بن أبي الحسن البصري، وحبيب بن أبي ثابت، والضحَّاكُ. ونسَبَه ابنُ تيميَّةَ لجمهورِ السَّلَفِ. يُنظر: ((الهداية الى بلوغ النهاية)) لمكي (8/5056)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (8/226)، ((تفسير ابن كثير)) (6/34). قال الزجَّاجُ: (وقَولُه جلَّ وعزَّ: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فيها وَجهانِ: المعنى: الكَلِماتُ الخَبيثاتُ للخَبيثينَ مِنَ الرِّجالِ، والرِّجالُ الخَبيثونَ للكَلِماتِ الخبيثَاتِ، أي: لا يَتَكلَّمُ بالخَبيثاتِ إلَّا الخَبيثُ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ، ولا يتكلَّمُ بالطيِّباتِ إلَّا الطَّيِّبُ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ. ويجوزُ أن يكونَ معنى هذه: الكَلِماتُ الخَبيثاتُ إنَّما تَلصَقُ بالخَبيثينَ مِنَ الرِّجالِ والخَبيثاتِ مِن النِّساءِ، فأمَّا الطَّاهِراتُ الطَّيِّباتُ فلا يَلصَقُ بِهنَّ شَيءٌ). ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/37). قال الواحديُّ: (والمعنى: أنَّ الخَبيثَ مِنَ القَولِ لا يَليقُ إلَّا بالخَبيثِ مِنَ النَّاسِ، وكُلُّ كلامٍ إنَّما يَحسُنُ في أهلِه؛ فيُضافُ سَيِّئُ القَولِ إلى مَن يليقُ به ذلك، وكذلك الطَّيِّبُ مِنَ القَولِ، وعائِشةُ لا يَليقُ بها الخَبيثاتُ مِنَ الكَلامِ، فلا يَصدُقُ فيها؛ لأنَّها طَيِّبةٌ، فيُضافُ إليها طَيِّباتُ الكلامِ مِنَ الثَّناءِ الحَسَنِ وما يَليقُ بها). ثمَّ عَلَّق على الوَجهِ الأوَّلِ الذي ذكره الزَّجَّاجُ، فقال: (وهذا ذمٌّ للذين قذَفوا عائِشةَ بالخَبيثِ، ومَدحٌ للَّذينَ بَرَّؤوها بالطَّهارةِ). ((الوسيط)) للواحدي (1/45). وممَّن اختار العمومَ: ابنُ القيِّمِ، والسعديُّ. قال ابن القيِّمِ: (هذا وإنْ كان في النِّساءِ والرِّجالِ، فإنَّه يتناوَلُ الأعمالَ والأقوالَ، والمطاعِمَ والمشارِبَ، والملابسَ والروائِحَ، إمَّا بعمومِ لفظِه، أو بعمومِ معناه). ((زاد المعاد)) (4/257). وقال السعديُّ: (هذه كَلِمةٌ عامَّةٌ وحَصرٌ، لا يخرجُ منه شَيءٌ). ((تفسير السعدي)) (ص: 565). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 143، 144). .
وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ .
أي: والطَّيِّباتُ مِنَ الأقوالِ والأعمالِ والنِّساءِ وغيرِ ذلك لائقةٌ ومُناسِبةٌ للطَّيِّبينَ، وكذلك الطيِّبون أهلٌ للطَّيِّباتِ مِنَ الأقوالِ والأعمالِ والنِّساءِ وغيرِ ذلك [526] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (1/66)، ((تفسير السعدي)) (ص: 565). .
أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ.
أي: أولئك الطَّيِّبون والطَّيِّباتُ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ بُعَداءُ ومنزَّهونَ مِن الخُبْثِ الذي يَنسُبُه إليهم أهلُ الإفكِ [527] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/194)، ((الوسيط)) للواحدي (3/314)، ((تفسير السمعاني)) (3/516)، ((تفسير ابن كثير)) (6/35). قال السعديُّ: (الإشارةُ إلى عائشةَ رضي اللهُ عنها أصلًا، وللمؤمناتِ المُحصَناتِ الغافلاتِ تبعًا). ((تفسير السعدي)) (ص: 565). وقال الواحدي: (قال الفرَّاء: يعني عائِشةَ وصَفوانَ، فذكَر الاثنينِ بلَفظِ الجمعِ، كقَولِه: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النساء: 11] يريدُ: أخَوَين، وقَولِه: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ [الأنبياء: 78] يريدُ: داودَ وسليمانَ. وقال الزَّجَّاجُ: كلُّ مِن قُذِفَ مِنَ المؤمنينَ والمؤمناتِ مُبَرَّؤونَ ممَّا يقولُ أهلُ الخبثِ القاذِفونَ). ((البسيط)) (16/186). قال ابنُ جرير: (وقَولُه: أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ يقولُ: الطَّيِّبونُ مِنَ النَّاسِ مُبَرَّؤونَ مِن خَبيثاتِ القَولِ، إنْ قالوها فإنَّ اللهَ يَصفَحُ لهم عنها، ويَغفِرُها لهم، وإنْ قِيلَت فيهم ضَرَّت قائِلَها ولم تَضُرَّهم، كما لو قال الطَّيِّبَ مِنَ القَولِ الخَبيثُ مِن النَّاسِ لم يَنفَعْهُ اللهُ به؛ لأنَّ اللهَ لا يَتقبَّلُه، ولو قِيلَت له لَضَرَّتْه؛ لأنَّه يَلحَقُه عارُها في الدُّنيا، وذُلُّها في الآخرةِ). ((تفسير ابن جرير)) (17/238). .
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ.
أي: لهؤلاءِ الطيِّبين مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ، في الآخرةِ، مَغفِرةٌ من اللهِ لذُنوبِهم، ورِزقٌ حسَنٌ في جنَّاتِ النَّعيمِ [528] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/239)، ((البسيط)) للواحدي (16/188)، ((تفسير ابن كثير)) (6/35)، ((تفسير السعدي)) (ص: 565). وقال ابن عثيمين: (أي: هؤلاء لهم مَغفِرةٌ على ذنوبِهم، ورِزقٌ كريمٌ على طاعاتِهم؛ فإنَّ الذنْبَ يناسِبُه المغفرةُ، والأعمالَ الصَّالحةَ يناسِبُها الرِّزقُ الكريمُ؛ لأنَّ مَن فعَلَ حَسَنةً يُجزى بعشرِ حَسَناتٍ إلى سَبعِ مئةِ ضِعفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ، فنَفْهَمُ مِن هذا أنَّ هؤلاء الذين قيل عليهم ما قيل قد حصَلَ لهم تكفيرُ سَيِّئاتٍ ومغفرةُ ذُنوبٍ، وكذلك رِفعةُ دَرَجاتٍ... وهنا قال عزَّ وجَلَّ: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فهؤلاء أُصيبوا مُصيبةً عَظيمةً، ولا شَكَّ أنَّهم صبَروا حتى فرَّج الله عنهم هذه الغُمَّةَ، فكان جزاءَ ما أُصيبوا به في هذه القضيَّةِ أن حصَلَت لهم المغفرةُ، وفي مقابلةِ الصبرِ حصَل لهم الرِّزقُ الكريمُ). ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 146، 147). .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ قضى اللهُ العليمُ الخبيرُ أنَّ كُلَّ شَكلٍ ينضَمُّ إلى شَكلِه، ويفعَلُ أفعالَ مِثلِه [529] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/244). .
2- قال الله تعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ الغالبُ الْتِئامُ الطَّيِّبةِ مع الطَّيِّبِ، والخَبيثةِ مع الخَبيثِ، لكن قد يَخْرِمُ اللهُ هذه القاعِدةَ لحِكَمٍ عَظيمةٍ، فيَضرِبُها أمثالًا للنَّاسِ، كما ضَرَبَ لهم بامرأتَيْ نوحٍ ولوطٍ، وامرأةِ فِرعونَ، وكما ضَرَبَ مثلًا لابنِ نوحٍ معه، وأبِي إبراهيمَ مع إبراهيمَ. والحكمةُ في ذلك: التفكُّرُ والاتِّعاظُ، وعدَمُ ركونِ الإنسانِ على قريبِه التقيِّ؛ قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت: 43] ، وقال تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21] ، فإذا عُلِمَ أنَّ أعظمَ مُداخلةٍ بيْن النَّاسِ هي الزوجيَّةُ، ومع ذلك فَصِلَةُ امرأتَيْ نوحٍ ولوطٍ بهما -وهما نبيَّانِ- لم تنفعْهما، كما قال تعالى: فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [التحريم: 10] ، وقال تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [النساء: 123] . إذا عَلِمَ الإنسانُ ذلك وأنَّ قرابةَ الصَّالحِ لا تنفعُ العاصيَ، كان ذلك باعثًا على العمَلِ، والاتِّصافِ بالصَّلاحِ، والمعروفُ أنَّ اللهَ تعالى نهى عن مُقاربةِ أهلِ السُّوءِ، والاختلاطِ بهم، وقال فيمَن يجالِسُهم إنَّهم يكونون مِثلَهم، كما قال تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء: 140] ، ولكنَّ الصالحِينَ قد يَلجَؤون إلى مُخالطةِ الفاسدِين، فلا يَضُرُّهم ذلك في حُدودِ الضَّرورةِ المُلجِئةِ [530] يُنظر: ((تفسير سورة النور)) للشنقيطي (ص: 85- 87). .
3- قَولُ الله تعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ فيه أنَّ كُلَّ خَبيثٍ مِن الرِّجالِ والنِّساءِ، والكَلِماتِ والأفعالِ: مُناسِبٌ للخبيثِ، ومُوافِقٌ له، ومُقتَرِنٌ به، ومشاكِلٌ له؛ وكُلَّ طيِّبٍ مِن الرِّجالِ والنِّساءِ، والكَلِماتِ والأفعالِ: مُناسِبٌ للطيِّبِ، وموافِقٌ له، ومُقتَرِنٌ به، ومُشاكِلٌ له [531] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 563). .
4- قال الله تعالى: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ دلَّت الآيةُ على النَّهيِ عن مُقارنةِ الفُجَّارِ ومُزاوجتِهم [532] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/326). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ لقد برَّأ اللهُ تعالى أربعةً بأربعةٍ: برَّأ يوسُفَ بلِسانِ الشَّاهِدِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا [يوسف: 26] ، وبرَّأ موسى مِن قَولِ اليهودِ فيه بالحَجَرِ الذي ذهَبَ بثَوبِه [533] يُنظر ما أخرجه البخاري (278، 3404) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ، وبرَّأ مريمَ بإنطاقِ ولَدِها حين نادى مِن حِجْرِها: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم: 30] ، وبرَّأ عائشةَ بهذه الآياتِ العِظامِ في كتابِه المُعجِزِ المتلُوِّ على وجهِ الدَّهرِ مِثْلَ هذه التبرئةِ بهذه المبالغاتِ، فانظُرْ: كَمْ بيْنها وبيْن تبرئةِ أولئك؟! وما ذاك إلَّا لإظهارِ علُوِّ مَنزلةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والتنبيهِ على إنافةِ محلِّ سَيِّدِ ولدِ آدمَ، وخِيرةِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، وحُجَّةِ الله على العالَمينَ، ومَن أراد أن يتحقَّق عظَمةَ شأنِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتقَدُّمَ قدَمِه، وإحرازَه لقصَبِ السَّبْقِ دونَ كُلِّ سابقٍ؛ فليتلَقَّ ذلك من آياتِ الإفكِ، وليتأمَّلْ كيف غَضِبَ اللهُ في حُرمتِه، وكيف بالغَ في نفيِ التُّهمةِ عن حِجابِه [534] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/223، 224). ؟!
2- في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ أنَّ مَن رمى زانيةً مجلودةً لا يُحَدُّ؛ لثبوتِ الفاحِشةِ فيها، وليس المرادُ مِن هذا إباحةَ عِرْضِ مَن ثَبَتَ عليه الزِّنا، فلا يجوزُ ذلك، ويُؤَدِّبُ السلطانُ مَن رماهُ بما يَراهُ [535] يُنظر: ((تفسير سورة النور)) للشنقيطي (ص: 80). .
3- قولُه تعالى: الْغَافِلَاتِ فيه مِن الدَّلالةِ على كَمالِ النَّزاهةِ ما ليس في الْمُحْصَنَاتِ، أي: السَّليماتِ الصُّدورِ، التَّقيَّاتِ القُلوبِ عن كلِّ سُوءٍ [536] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/165، 166). .
4- قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ تضمَّنت هذه الآيةُ بيانَ أنَّ القَذْفَ مِن الكبائرِ، وهذا بِناءً على أنَّ كلَّ ما تُوُعِّدَ عليه باللَّعْنِ أو العذابِ، أو شُرِعَ فيه حَدٌّ؛ فهو كبيرةٌ، وهو المعتمَدُ [537] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (12/181). .
5- في قَولِه تعالى: لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لم يَقُلْ سُبحانَه: «لَعَنَهم اللهُ»، وإنما قال: لُعِنُوا؛ لأجلِ أنْ يشمَلَ ذلك لعنةَ اللهِ سُبحانَه وتعالى وغَيرِه، وهذا مِثلُ قولِه تعالى: أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة: 159] ، يعني: أنَّ اللهَ يَلعنُهم، وكذلك اللاعِنونَ يلعنونَهم، وبِناءُ الفِعلِ للمفعولِ أفاد في هذه الآيةِ العمومَ [538] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 129). .
6- قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ هذا الحُكمُ وإن كان عامًّا فهو لأجلِ الصِّدِّيقةِ بالذَّاتِ وبالقَصدِ الأوَّلِ، وفيما فيه مِن التَّشديدِ الذي قَلَّ أن يوجَدَ مِثلُه في القرآنِ مِن الإعلامِ بعَليِّ قَدرِها، وجَليِّ أمرِها، في عَظيمِ فَخرِها- ما يَجِلُّ عن الوَصفِ [539] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/241). .
7- قَولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ وعيدٌ مِن اللهِ تعالى للذين يَرمونَ المُحصَناتِ الغافلاتِ المُؤمِناتِ؛ فأُمَّهاتُ المؤمنينَ أَولى بالدُّخولِ في هذا مِن كُلِّ مُحصَنةٍ، ولا سيَّما التي كانت سبَبَ النُّزولِ، وهي عائشةُ الصِّدِّيقةُ بنتُ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللهُ عنهما [540] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/31، 32). .
8- قال تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ قد أقرُّوا بوجودِه عزَّ وجَلَّ في الدُّنيا، لكنْ في ذلك اليومِ يَعلَمونَ أنَّه الحقُّ المُبينُ دونَ ما سِواه؛ ولهذا قال: هُوَ الْحَقُّ بصيغةِ الحَصرِ؛ فإنَّه يومئذٍ لا يبقَى أحَدٌ يُدَّعَى فيه الإلهيَّةُ، ولا أحدٌ يُشرِكُ برَبِّه أحدًا [541] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (5/517). .
9- في قولِه تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ تمامُ قُدرةِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ حيثُ إنَّ هذه الأعضاءَ تنطِقُ مع أنَّ النُّطقَ في العادةِ باللِّسانِ، لكنْ يكونُ النُّطقُ بكلِّ شَيءٍ إذا أراد اللهُ سُبحانَه وتعالى؛ ولهذا تقولُ الجلودُ: أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [542] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 137). [فصلت: 21] .
10- في قَولِه تعالى: أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ سؤالٌ: وهو أنَّ الذين تشهَدُ عليهم ألسِنتُهم وأيديهم وأرجلُهم كثيرون، فما سببُ جمْعِها على «أفعُل» وهو مِن جُموعِ القلَّةِ؟!
والجوابُ: أنَّ هذا البحثَ قد حقَّقَه الأصوليُّونَ، وأهملَه النحْويُّونَ، وذلك أنَّ مَحَلَّ القِلَّةِ والكثرةِ حينما تكونُ الصِّيغةُ مُنَكَّرةً، أمَّا إذا دخلتْ عليها «أل» أو أُضيفتْ إلى مَعرفةٍ فتَكونُ عامَّةً، فهي أكثرُ مِن الكَثرةِ [543] يُنظر: ((تفسير سورة النور)) للشنقيطي (ص: 83). .
11- في قَولِه تعالى: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ دَلالةٌ على أنَّ الحقَّ مِن أسماءِ اللهِ الحُسنى [544] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (اللقاء رقم: 143). .
12- في قَولِه تعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ بيانُ أنَّ الرِّجالَ الطَّيِّبينَ للنِّساءِ الطيِّباتِ، والرِّجالَ الخَبيثين للنِّساءِ الخَبيثاتِ، وكذلك في النِّساءِ؛ فإذا كانت المرأةُ خَبيثةً كان قرينُها خَبيثًا، وإذا كان قرينُها خَبيثًا كانت خَبيثةً، وبهذا عَظُمَ القولُ فيمَن قَذَفَ عائِشةَ ونحوَها مِن أمَّهاتِ المؤمنينَ، ولولا ما على الزَّوجِ في ذلك مِن العَيبِ ما حَصَلَ هذا التَّغليظُ [545] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (32/145). . والأنبياءُ -خصوصًا أُولي العَزمِ منهم، خصوصًا سَيِّدَهم محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، الذي هو أفضَلُ الطيِّبينَ مِن الخَلقِ على الإطلاقِ- لا يناسِبُهم إلَّا كُلُّ طَيِّبٍ مِن النِّساءِ؛ فالقَدحُ في عائشةَ رَضِيَ الله عنها بهذا الأمرِ قدْحٌ في النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو المقصودُ بهذا الإفكِ، مِن قَصدِ المنافِقين، فمُجَرَّدُ كَونِها زوجةً للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يُعلِمُ أنَّها لا تَكونُ إلَّا طيِّبةً طاهِرةً مِن هذا الأمرِ القَبيحِ. فكيف وهي هي؛ صِدِّيقةُ النِّساءِ، وأفضَلُهنَّ، وأعلَمُهنَّ، وأطيبُهنَّ، حَبيبةُ رَسولِ رَبِّ العالمَينَ، التي لم يَنزِلِ الوحيُ عليه وهو في لحافِ زَوجةٍ مِن زَوجاتِه غَيرِها؟! ثمَّ صرَّح بذلك، بحيثُ لا يُبقي لمُبطِلٍ مَقالًا، ولا لشَكٍّ وشُبهةٍ مَجالًا، فقال: أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ، والإشارةُ إلى عائشةَ رَضِيَ الله عنها أصلًا، وللمُؤمِناتِ المُحصَناتِ الغافلاتِ تَبَعًا [546] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 563). .
13- في قَولِه تعالى: أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ سؤالٌ: وهو أنَّ الرَّميَ وَقَعَ على اثنينِ، فكيف يُعَبَّرُ عنهما بصيغةِ الجَمعِ؟
الجوابُ مِن أوجُهٍ:
الوجهُ الأولُ: أنَّ هذا مِمَّا استدَلَّ به بعضُ العُلماءِ على ما رآه الإمامُ مالكٌ مِن أنَّ أقلَّ الجَمعِ اثنانِ، ومِثلُ هذا قولُه تعالى: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النساء: 11] ؛ فإنه يَصْدُقُ على اثنينِ عندَ غيرِ ابنِ عباسٍ. وقَولُه تعالى: وَأَطْرَافَ النَّهَارِ [طه: 130] أي: طَرَفاه. وقَولُه تعالى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم: 4] أي: قَلْباكُما.
الوجهُ الثَّاني: أنَّ المرادَ بالجمعِ التَّعظيمُ.
وهناك وجهٌ ثالثٌ: وهو أنَّ مَرجِعَ الضَّميرِ هو عائشةُ وصَفْوانُ، وأبو بكرٍ والرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فالآيةُ تدُلُّ على بَعضِهم -وهما عائشةُ وصَفوانُ- بالمُطابقةِ، وعلى بعضِهم -وهما الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم وأبو بكرٍ- باللُّزومِ [547] يُنظر: ((تفسير سورة النور)) للشنقيطي (ص: 87). .
14- قَولُ الله تعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ فيه سؤالٌ: هذه الآيةُ الكريمةُ نزَلتْ في براءةِ أُمِّ المؤمنينَ عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها مِمَّا رُمِيَت به، وعلى هذا فالآيةُ الكريمةُ يظهَرُ تعارُضُها مع قَولِه تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ [التحريم: 10] ، إلى قَولِه: مَعَ الدَّاخِلِينَ، وقولِه أيضًا: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ ... [التحريم: 11] ؛ إذ الآيةُ الأولى دلَّت على خُبثِ الزَّوجَتينِ الكافرتَينِ، مع أنَّ زوجَيهما مِن أطيبِ الطيِّبينَ، وهما نوحٌ ولوطٌ عليهما وعلى نبيِّنا الصلاةُ والسَّلامُ، والآيةُ الثانيةُ دلَّت على طِيبِ امرأةِ فِرعونَ مع خُبثِ زَوجِها؟
الجوابُ عن ذلك مِن أوجُهٍ:
الأول: أنَّ معنى الآيةِ: الخبيثاتُ من القولِ للخبيثينَ مِن الرجالِ، والخَبيثون مِنَ الرِّجالِ للخَبيثاتِ مِنَ القَولِ؛ والطيَّباتُ مِن القَولِ للطيِّبينَ مِن الرِّجالِ، والطيِّبونَ مِن الرِّجالِ للطيِّباتِ مِن القَولِ، أي فما نسَبَه أهلُ النِّفاقِ إلى عائشةَ مِن كَلامٍ خَبيثٍ هم أَولى به، وهي أَولى بالبراءةِ والنَّزاهة منهم؛ ولذا قال تعالى: أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ [النور: 26] ، وعلى هذا الوجهِ فلا تعارُضَ أصلًا بين الآياتِ.
الثاني: أنَّ قَولَه تعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ  ... إلى آخِرِه: مِن العامِّ المخصوصِ، بدليلِ امرأةِ نوحٍ وامرأةِ فِرعَونَ، وعليه فالغالِبُ تَقييضُ كُلٍّ مِن الطيِّباتِ والطيِّبين والخبيثاتِ والخَبيثين لجِنسِه وشَكلِه الملائِمِ له في الخُبثِ أو الطِّيبِ، مع أنَّه تعالى ربَّما قَيَّض خبيثةً لطَيِّبٍ، كامرأةِ نوحٍ ولوطٍ، أو طيِّبةً لخبيثٍ، كامرأةِ فِرعَونَ؛ لحِكمةٍ بالغةٍ، كما دلَّ عليه قولُه: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا [التحريم: 10] ، وقَولُه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا [التحريم: 11] مع قَولِه: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت: 43] ؛ فدلَّ ذلك على أنَّ تقييضَ الخبيثةِ للطيِّبِ أو الطيِّبةِ للخَبيثِ فيه حِكمةٌ لا يَعقِلُها إلَّا العُلماءُ، وهي في تقييضِ الخبيثةِ للطيِّبِ أن يبَيِّنَ للنَّاسِ أنَّ القرابةَ مِن الصالحينَ لا تنفَعُ الإنسانَ، وإنَّما ينفَعُه عَمَلُه [548] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 168، 169). .
الثالث: أنَّ المرادَ بالخُبثِ: خُبثُ الصِّفاتِ الإنسانيَّةِ كالفواحشِ، وكذلك المرادُ بالطِّيبِ: زكاءُ الصِّفاتِ الإنسانيَّةِ مِن الفضائِلِ المعروفةِ في البشَرِ، فليس الكُفرُ مِن الخُبثِ، ولكِنَّه من متمِّماتِه، وكذلك الإيمانُ مِن مكَمِّلاتِ الطِّيبِ؛ فلذلك لم يكُنْ كُفرُ امرأةِ نوحٍ وامرأةِ لوطٍ ناقضًا لعمومِ الآيةِ [549] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/195). .
15- قال الله تعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ فليس في الأنبياءِ ولا الصَّالحينَ مَن تزوَّج بَغِيًّا؛ لأنَّ البِغاءَ يُفسِدُ فِراشَه؛ ولهذا أُبيحَ للمسلِمِ أن يتزوَّجَ الكتابيَّةَ اليهوديَّةَ والنصرانيَّةَ إذا كان مُحصَنًا غيرَ مُسافِحٍ ولا متَّخِذِ خِدنٍ، فعُلِمَ أنَّ تزَوُّجَ الكافرةِ قد يجوزُ، وتزَوُّجَ البَغِيِّ لا يجوزُ؛ لأنَّ ضَرَرَ دِينِها لا يتعدَّى إليه، وأمَّا ضرَرُ بِغائِها فيتعَدَّى إليه [550] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (32/146). .
16- في قَولِه تعالى: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ دَليلٌ على أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى يُبَرِّئُ أهلَ الرَّجُلِ الطيِّبِ العفيفِ مِن الخُبثِ؛ لأنَّ الطيِّباتِ للطَّيِّبينَ، والطيِّبينَ للطيِّباتِ، وهذا مِن حكمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ: أنَّ الإنسانَ كلَّما كان طيِّبًا نظيفًا وطاهِرًا، فإنَّ اللهَ سُبحانه وتعالى يُهيِّئُ له أهلًا بهذه المَثابةِ؛ جزاءً وِفاقًا، والأمرُ كذلك بالعَكسِ فيما لو كان خبيثًا، ولا سيَّما فيما يتعلَّقُ بالعِفَّةِ، وهذا هو الغالِبُ في الواقِعِ: أنَّ المرءَ ذا الخُلُقِ الخَبيثِ يكونُ أهلُه كذلك؛ لأنَّه لم يَحْمِ نَفْسَه حتى يحميَه اللهُ عزَّ وجَلَّ [551] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 148). .
17- قَولُ الله تعالى أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فيه وَعدٌ بأنْ تكونَ عائشةُ رَضِيَ الله عنها -زوجةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في الجنَّةِ [552] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/35). .
18- في قَولِه تعالى: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ دَليلٌ على أنَّ مَن أُصيبَ بمصيبةٍ قوليَّةٍ أو فعليَّةٍ، فإنَّ اللهَ تعالى يَغفِرُ له، فإن صَبَر فله أجرٌ أيضًا [553] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 148). .
19- قَولُه: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ذِكْرُ الرِّزقِ الكريمِ هاهنا مِثْلُه في قولِه تعالى: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا [الأحزاب: 31] ؛ فكما أُرِيدَ بالرِّزقِ الكريمِ هنالك البِشارةُ بالجنَّةِ؛ لقولِه تعالى: وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا بدليلِ قولِه: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133] ، كذلك يَنْبغي أنْ يكونَ هاهنا؛ لأنَّ الآيتينِ مِثْلانِ، وكما أنَّ الرِّزقَ الكريمَ هناك مَسبوقٌ بـ نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ، كذلك هاهنا مَسبوقٌ بقولِه: لَهُمْ مَغْفِرَةً، وكما أنَّ إيتاءَ الأجرِ هناك مُسبَّبٌ عن قُنوتِهنَّ، كذلك هنا لَهُمْ مَغْفِرَةً مُسبَّبٌ عن كونِها مُبرَّأةً عمَّا قِيلَ فيها، وليس ذلك إلَّا لقُنوتِها وطَهارتِها، وكما أنَّ تلك الآيةَ في شأْنِ نِساءِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كذلك هذه في شأْنِ حَبيبتِه وصَفيَّتِه؛ فالكلامُ مَبْنيٌّ على حمْلِ المُطْلَقِ على المُقيَّدِ [554] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/52). .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
- جُملةُ: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ... استِئنافٌ بعدَ استئنافِ قولِه: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ [النُّور: 19]، والكلُّ تَفصيلٌ للموعظةِ الَّتي في قولِه: يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [النُّور: 17]؛ فابْتُدِئَ بوعيدِ العَودِ إلى محبَّةِ ذلك، وثُنِّيَ بوَعيدِ العَودِ إلى إشاعةِ القالةِ؛ فالمُضارِعُ يَرْمُونَ للاستقبالِ، وإنَّما لم تُعطَفْ هذه الجُملةُ؛ لوُقوعِ الفصلِ بيْنها وبيْنَ الَّتي تُناسِبُها بالآياتِ النَّازلةِ بيْنهما مِن قولِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [555] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/190، 191). [النور: 21] .
- قَولُه: الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ كِنايةٌ عن عدَمِ وُقوعِهنَّ فيما رُمِينَ به؛ لأنَّ الَّذي يفعَلُ الشَّيءَ لا يكونُ غافلًا عنه؛ فالمعنى: إنَّ الَّذين يَرْمُون المُحصَناتِ كذِبًا عليهنَّ. وذُكِرَ وَصفُ الْمُؤْمِنَاتِ؛ لتَشنيعِ قذْفِ الَّذين يَقْذِفونَهنَّ كذِبًا؛ لأنَّ وصْفَ الإيمانِ وازِعٌ لهنَّ عن الخَنا [556] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/191). .
- قَولُه: الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ المُرادُ عائشةُ الصِّدِّيقةُ رضِيَ اللهُ عنَها، والجمْعُ باعتبارِ أنَّ رمْيَها رمْيٌ لسائرِ أُمَّهاتِ المُؤمنينَ؛ لاشتراكِ الكلِّ في العِصمةِ والنَّزاهةِ والانتِسابِ إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. وقِيلَ: المُرادُ أُمَّهاتُ المؤمنينَ، فيَدخُلُ فيهنَّ الصِّدِّيقةُ دُخولًا أوَّليًّا [557] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/224)، ((تفسير أبي حيان)) (8/26)، ((تفسير أبي السعود)) (6/165، 166). . أو المُرادُ أُمُّ المؤمنينَ عائشةُ، فجُمِعَت إرادةً لها ولبَناتِها مِن نِساءِ الأُمَّةِ الموصوفاتِ بالإحصانِ والغفلةِ والإيمانِ [558] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/224)، ((تفسير أبي حيان)) (8/26). . وقِيلَ: أراد بالمُحصَناتِ العُمومَ، وإنْ كان الحديثُ مَسوقًا عن عائشةَ، والمقصودُ بذِكْرِهنَّ على العُمومِ وَعيدُ مَن وقَعَ في عائشةَ على أبلغِ الوُجوهِ؛ لأنَّه إذا كان هذا وعيدَ قاذفِ آحادِ المُؤمناتِ، فما الظَّنُّ بوعيدِ مَن وقَعَ في قذْفِ سيِّدتِهنَّ؟! على أنَّ تَعميمَ الوعيدِ أبلَغُ وأقطَعُ مِن تَخصيصِه؛ ولهذا عمَّمَت امرأةُ العزيزِ حينَ قالت: مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [يوسف: 25] ، فعمَّمت وأرادتْ يُوسفَ؛ تَهويلًا عليه وإرجافًا [559] يُنظر: ((تفسير الزمخشري- حاشية ابن المنير)) (3/224)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/588). .
2- قَولُه تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
- قَولُه: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ إمَّا مُتَّصلٌ بما قبْلَه، مَسوقٌ لتَقريرِ العذابِ المذكورِ بتَعيينِ وقْتِ حُلولِه وتَهويلِه ببَيانِ ظُهورِ جِناياتِهم المُوجِبةِ له، مع سائرِ جِناياتِهم المُستتبِعةِ لعُقوباتِها عَلى كيفيَّةٍ هائلةٍ وهيْئةٍ خارقةٍ للعاداتِ؛ فـ يَوْمَ ظرفٌ لِمَا في الجارِّ والمجرورِ المُتقدِّمِ: وَلَهُمْ من معنى الاستقرارِ، لا لـ عَذَابٌ، وإنْ أغْضَينا عن وصْفِه؛ لإخلالِه بجزالةِ المعنى. وإمَّا مُنقطِعٌ عنه، مَسوقٌ لتَهويلِ اليومِ بتَهويلِ ما يَحويهِ، على أنَّه ظرفٌ لفِعلٍ مُؤخَّرٍ قد ضُرِبَ عنه الذِّكرُ صَفْحًا؛ للإيذانِ بقُصورِ العبارةِ عن تَفصيلِ ما يقَعُ فيه مِن الطَّامَّةِ التَّامَّةِ، والدَّاهيةِ العامَّةِ؛ كأنَّه قِيلَ: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ: يكونُ مِن الأحوالِ والأهوالِ ما لا يُحِيطُ به حيطةُ المقالِ، على أنَّ الموصولَ المذكورَ عِبارةٌ عن جميعِ أعمالِهم السَّيِّئةِ، وجِناياتِهم القبيحةِ، لا عن جِناياتِهم المعهودةِ فقطْ. والموصولُ والمحذوفُ عبارةٌ عنها وعن فُنونِ العُقوباتِ المُترتِّبةِ عليها كافَّةً، لا عنْ إحداهما خاصَّةً؛ ففيهِ مِن ضُروبِ التَّهويلِ بالإجمالِ والتَّفصيلِ ما لا مَزيدَ عليه [560] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/166). .
- والجمْعُ بين صِيغتَيِ الماضِي والمُستقبَلِ كَانُوا يَعْمَلُونَ؛ للدَّلالةِ على استِمرارِهم عليها في الدُّنيا. وتَقديمُ عَلَيْهِمْ على الفاعلِ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ؛ للمُسارَعةِ إلى بَيانِ كونِ الشَّهادةِ ضارَّةً لهم، مع ما فيه مِن التَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ [561] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/166). .
- وتَخصيصُ هذه الأعضاءِ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بالذِّكرِ، مع أنَّ الشَّهادةَ تكونُ مِن جميعِ الجسَدِ كما قال تعالى: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا [فصلت: 21] ؛ لأنَّ لهذه الأعضاءِ عمَلًا في رمْيِ المُحصَناتِ؛ فهم يَنطِقون بالقذْفِ، ويُشيرون بالأيدي إلى المقذوفاتِ، ويَسْعَون بأرجُلِهم إلى مجالِسِ النَّاسِ لإبلاغِ القذْفِ [562] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/191). .
3- قَولُه تعالى: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ ذِكْرَ شَهادةِ الأعضاءِ يُثِيرُ سُؤالًا عن آثارِ تلك الشَّهادةِ، فيُجابُ بأنَّ أثَرَها أنْ يُجازِيَهم اللهُ على ما شهِدَت به أعضاؤُهم عليهم [563] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/167)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/192). .
- ووصْفُ الدِّينِ بالحقِّ، وكذلك وصْفُ اللهِ تعالى بالحقِّ في قولِه: دِينَهُمُ الْحَقَّ، وقولِه: أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ وَصْفٌ بالمصدَرِ؛ للمُبالَغةِ، ولإفادةِ تحقُّقِ اتِّصافِه بالحقِّ [564] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/167)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/192). .
- وأيضًا في قولِه: أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ إنْ كان وصْفُ اللهِ بـ الْحَقُّ بالمعنى المصدريِّ؛ فالحصْرُ المُستفادُ مِن ضَميرِ الفصلِ ادِّعائيٌّ؛ لعدَمِ الاعتِدادِ بالحقِّ الَّذي يَصدُرُ مِن غيرِه مِن الحاكمينَ؛ لأنَّه وإنْ يُصادِفِ المِحَزَّ فهو مع ذلك مُعرَّضٌ للزَّوالِ وللتَّقصيرِ وللخطأِ، فكأنَّه ليس بحقٍّ، أو ليس بمُبينٍ. وإنْ كان الخبَرُ عن اللهِ بأنَّه الحقُّ بالمعنى الاسميِّ للهِ تعالى؛ فالحصْرُ حقيقيٌّ؛ إذ ليس اسمُ الحقِّ مُسمًّى به غيرُ ذاتِ اللهِ تعالى، فالمعنى: أنَّ اللهَ هو صاحبُ هذا الاسمِ. وعلى أنَّ المُرادَ بـ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ خُصوصُ عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ ابنِ سَلولَ ومَن يتَّصِلُ به مِن المُنافقينَ المُبْطِنينَ الكُفْرَ، بلْهَ الإصرارَ على ذنْبِ الإفكِ؛ إذ لا توبةَ لهم، فهم مُستمِرُّون على الإفكِ فيما بيْنهم؛ لأنَّه زُيِّنَ عندَ أنفُسِهم، فلم يَرُوموا الإقلاعَ عنه في بَواطنِهم مع علْمِهم بأنَّه اختِلاقٌ منهم، لكنَّهم -لِخُبْثِ طَواياهم- يَجعَلون الشَّكَّ الَّذي خالَجَ أنفُسَهم بمَنزلةِ اليقينِ، فهم ملْعونونَ عندَ اللهِ في الدُّنيا والآخرةِ، ولهم عذابٌ عظيمٌ في الآخرةِ، ويعْلمون أنَّ اللهَ هو الحقُّ المُبينُ فيما كذَّبَهم فيه مِن حديثِ الإفكِ، وقد كانوا مِن قبْلُ مُبْطنينَ الشِّركَ مع اللهِ، فجاعلينَ الحقَّ ثابتًا لأصنامِهم؛ فالقصْرُ حينئذٍ إضافيٌّ [565] القصرُ -في اصطلاحِ البلاغيينَ-: هو تخصيصُ شيءٍ بشيءٍ وحصرُه فيه، ويُسمَّى الأوَّلُ: مقصورًا، والثاني: مقصورًا عليه، مثل: إنَّما زيدٌ قائمٌ، وما ضربتُ إلَّا زيدًا. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكون المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدمِ صحةِ ما تصوَّره بشأنِه، أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وتردُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنما هو قصر بالإضافة إلى موضوعٍ خاصٍّ يدورُ حولَ احتمالينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويستدلُّ عليها بالقرائنِ. مثل: قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 288)، ((التعريفات)) للجرجاني (1/175-176)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّـكَة الميداني (1/525). ، أي: يعْلَمون أنَّ اللهَ وحْدَه دونَ أصنامِهم [566] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/193، 194). .
- قَولُه: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ هذا مِنَ التَّغليظِ الشَّديدِ الَّذي أُوعِدَ به العُصاةُ؛ ولم يُغلِّظِ اللهُ تعالى في شَيءٍ تَغليظَه في إفكِ عائشةَ رضوانُ اللهِ عليها، ولا أنزَلَ مِن الآياتِ القوارعِ، المشحونةِ بالوعيدِ الشَّديدِ، والعِتابِ البليغِ، والزَّجرِ العنيفِ، واستِعظامِ ما رُكبَ مِن ذلك، واستِفظاعِ ما أُقْدِمَ عليه، ما أنزَلَ فيه على طُرقٍ مُختلفةٍ، وأساليبَ مُفْتَنَّةٍ، كلُّ واحدٍ منها كافٍ في بابِه، ولو لم يُنزِلْ إلَّا هذه الثلاثَ لَكفَى بها؛ حيث جعَلَ القذفةَ ملْعونينَ في الدَّارينِ جميعًا، وتوعَّدَهم بالعذابِ العظيمِ في الآخرةِ، وبأنَّ ألْسنَتَهم وأيدِيَهم وأرجُلَهم تَشهَدُ عليهم بما أفَكُوا وبَهَتوا، وأنَّه يُوفِّيهم جزاءَهم الحقَّ الواجبَ الَّذي هم أهْلُه، حتَّى يَعْلَموا عندَ ذلك أنَّ اللهَ هو الحقُّ المبينُ؛ فأوجَزَ في ذلك وأشبَعَ، وفصَّلَ وأجمَلَ، وأكَّدَ وكرَّرَ، وجاء بما لم يقَعْ في وَعيدِ المشركينَ عبدةِ الأوثانِ إلَّا ما هو دونَه في الفظاعةِ، وما ذاك إلَّا لأمْرٍ [567] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/223)، ((تفسير البيضاوي)) (4/103)، ((تفسير أبي حيان)) (8/27)، ((تفسير أبي السعود)) (6/167). ؛ ففصَّلَ وأجمَلَ؛ حيث أوقَعَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ إجمالًا لِمَا سبَقَ، وأكَّدَ وكرَّرَ من حيث إنَّ البدَلَ -وهو قولُه: يَوْمَئِذٍ- بدلُ تكريرٍ للمُبدَلِ وتَوكيدٍ له، وجاء بما لم يقَعْ في وَعيدِ المشركينَ إلَّا ما هو دونه في الفظاعةِ، وهو قولُه: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [568] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/47، 48). .
4- قَولُه تعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فيه تَعريضٌ بالَّذين اختَلَقوا الإفكَ بأنْ ما أفَكُوه لا يَليقُ مثْلُه إلَّا بأزواجِهم؛ فقولُه: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ تعريضٌ بالمُنافقينَ المُختلقينَ للإفكِ. والابتداءُ بذِكْرِ الخبيثاتِ؛ لأنَّ غرَضَ الكلامِ الاستِدلالُ على بَراءةِ عائشةَ وبقيَّةِ أُمَّهاتِ المؤمنينَ رضِيَ اللهُ عنهنَّ [569] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/194). .
- وعطْفُ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ إطنابٌ؛ لمَزيدِ العنايةِ بتَقريرِ هذا الحُكْمِ، ولتكونَ الجُملةُ بمَنزلةِ المَثَلِ مُستقِلَّةً بدَلالتِها على الحُكْمِ، ولِيَكونَ الاستِدلالُ على حالِ القرينِ بحالِ مُقارِنِه حاصلًا مِن أيِّ جانبٍ ابتدأَهُ السَّامعُ. وذِكْرُ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ إطنابٌ أيضًا؛ للدَّلالةِ على أنَّ المُقارَنةَ دليلٌ على حالِ القرينَينِ في الخيرِ أيضًا. وعطْفُ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ كعطْفِ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ [570] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/195). ؛ فقولُه: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ ... الآيةَ، هذه قضيَّةٌ كُلِّيَّةٌ؛ ولذلك حُقَّ لها أنْ تَجرِيَ مَجرى المثَلِ، وجُعِلَت في آخرِ القصَّةِ كالتَّذييلِ [571] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/195). .
- قَولُه: أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ قولُه: أُولَئِكَ إشارةٌ إلى الطَّيِّبينَ، وأنَّهم مُبرَّؤونَ ممَّا يقولُ الخبيثونَ مِن خَبيثاتِ الكلِمِ، وهو كلامٌ جارٍ مَجرى المثَلِ لعائشةَ رضِيَ اللهُ عنها وما رُمِيَت به مِن قولٍ لا يُطابِقُ حالَها في النَّزاهةِ والطِّيبِ [572] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/225). ؛ فالآيةُ عامَّةٌ تَذييلٌ للكلامِ السَّابقِ [573] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/51). . وما في اسمِ الإشارةِ مِن معنى البُعدِ؛ للإيذانِ بعُلوِّ رُتبةِ المُشارِ إليهم، وبُعدِ مَنزلَتِهم في الفضلِ [574] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/167). .
- وفي العُدولِ عن التَّعبيرِ عن الإفكِ باسْمِه إلى مِمَّا يَقُولُونَ: إيماءٌ إلى أنَّه لا يَعْدو كونَه قولًا، أي: أنَّه غيرُ مُطابِقٍ للواقعِ [575] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/195). .