موسوعة التفسير

سورةُ المُرسَلاتِ
الآيات (1-7)

ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ

غريب الكلمات:

وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا: المرادُ بالمُرْسَلاتِ: الرِّياحُ، وقيل: الملائكةُ، وقيل: الأنبياءُ، والعُرْفُ: التَّتابُعُ؛ مِن قَولِ العَرَبِ: تركْتُ النَّاسَ إلى فُلانٍ عُرْفًا واحِدًا: إذا توَجَّهوا إليه فأكثَروا، والعُرْفُ على هذا: اسمٌ أُقيمَ مُقامَ الحالِ؛ لأنَّ المعنى: والرِّياحِ الَّتي أُرسِلَت مُتتابِعةً. وقيل: العُرْفُ: المعروفُ والإِحسانُ. وأصلُ (عرف): يدُلُّ على تتابُعِ الشَّيءِ مُتَّصِلًا بَعْضُه بَبعضٍ، ويدُلُّ كذلك على السُّكونِ والطُّمأنينةِ؛ لأنَّ النُّفوسَ تَسكُنُ إلى المعروفِ والإحسانِ [13] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 302)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/281)، ((البسيط)) للواحدي (23/73)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/629). .
فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا: أي: الرِّياحِ الشَّديدةِ الهُبوبِ، وأصلُ (عصف): يدُلُّ على خِفَّةٍ وسُرعةٍ [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/583)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 302)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/328)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 441). .
وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا: هم الملائِكةُ الَّتي تَنشُرُ أجنحَتها في الجوِّ، وتنشُرُ الشَّرائِعَ في الأرضِ وقيل غير ذلك، وقيل: هي الرِّياحِ الَّتي تَنشُرُ السَّحابَ، وتأتي بالمطَرِ. وأصلُ (نشر): يدُلُّ على فَتحِ شَيءٍ وتشَعُّبِه [15] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 302)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/430)، ((المفردات)) للراغب (ص: 805)، ((تفسير الزمخشري)) (4/677)، ((تفسير البغوي)) (8/301). .
فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا: أي: الملائِكةِ تأتي بما يَفرُقُ بيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، والحَلالِ والحَرامِ، وقيل غيرُ ذلك، وأصلُ (فرق): يدُلُّ على تمييزٍ بيْن شَيئَينِ [16] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 505)، ((تفسير ابن جرير)) (23/587)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 303)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/493)، ((المفردات)) للراغب (ص: 633)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 441). .

مشكل الإعراب :

1- قَولُه تعالى: وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا
قَولُه تعالى: عُرْفًا: فيه ثلاثةُ أوجُهٍ؛ أحدُها: أنَّه مَفعولٌ مِنْ أجْلِه، أي: والمُرْسَلاتِ للإحسانِ والمَعروفِ، والعُرْفُ: ضِدُّ النُّكْرِ. الثَّاني: أنْ يَنتصِبَ على الحالِ، بمعنى: مُتتابِعةً؛ مِنْ قولِهم: جاؤُوا عُرْفًا واحِدًا: إذا جاؤوا يَتْبَعُ بَعْضُهم بعضًا. الثَّالثُ: أنْ يَنتصِبَ على إسقاطِ الخافضِ، أي: والمُرسَلاتِ بالعُرْفِ [17] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/221)، ((تفسير ابن عطية)) (5/416)، ((تفسير أبي حيان)) (10/373)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/629)، ((تفسير الألوسي)) (15/188). .
2- قَولُه تعالى: فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا
قولُه تعالى: ذِكْرًا: مَفعولٌ به لاسمِ الفاعِلِ «المُلْقِياتِ».
قَولُه: عُذْرًا أَوْ نُذْرًا: عُذْرًا: فيه أوجهٌ؛ أحدُها: أنَّه بَدَلٌ مِنْ «ذِكْرًا». الثَّاني: أنَّه مَفعولٌ به منصوبٌ بالمصدرِ ذِكْرًا. الثَّالثُ: أنَّه مفعولٌ مِنْ أجْلِه، والعامِلُ فيه: إمَّا «المُلْقِيات»، وإمَّا «ذِكْرًا»، أي: فالْمُلْقِياتِ ذِكْرًا للإِعذارِ والإِنذارِ. الرَّابعُ: أنَّه مَنصوبٌ على الحالِ مِن «المُلْقِيات»، أو مِن الضَّميرِ فيها، أي: فالمُلْقِياتِ ذِكْرًا مُعْذِرينَ أو مُنْذِرينَ. نُذْرًا: مَعطوفٌ على «عُذْرًا» منصوبٌ مِثلُه، وله حُكْمُه [18] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/222)، ((تفسير ابن عطية)) (5/417)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/630، 631)، ((تفسير الألوسي)) (15/189). .

المعنى الإجمالي:

افتتح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بأنْ أقسَمَ بالرِّياحِ الَّتي تُرسَلُ مُتتابِعةً، وتَهُبُّ شَيئًا فشَيئًا، وبالرِّياحِ الشَّديدةِ الهُبوبِ، وبالملائكةِ الَّتي تَنشُرُ ما دُبِّرتْ على نشرِه، وبالملائِكةِ الَّتي تأتي بما يَفرُقُ بيْنَ الحقِّ والباطِلِ، وبالملائِكةِ الَّتي تُبَلِّغُ رُسُلَ اللهِ وَحْيَه؛ إقامةً للحُجَّةِ مِنَ اللهِ على خَلْقِه، وتحذيرًا لهم مِن عَذابِه؛ أقسَمَ سُبحانه بما تقَدَّمَ على أنَّ الَّذي يوعَدُ به النَّاسُ به مِنَ البَعثِ يومَ القيامةِ والحِسابِ والجَزاءِ: واقِعٌ لا شَكَّ فيه.

تفسير الآيات:

وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1).
أي: أُقسِمُ بالرِّياحِ الَّتي تُرسَلُ مُتتابِعةً، فيَتْبَعُ بَعْضُها بَعْضًا، وتَهُبُّ شَيئًا فشَيئًا [19] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/407)، ((تفسير ابن كثير)) (8/297)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/420)، ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/400). وممَّن ذهَب إلى أنَّ المُرسَلاتِ هي الرِّياحُ المُرسَلةُ: الواحديُّ، وابنُ جُزَي، وأبو حيَّان، وابنُ كثير، ورجَّحه الشوكانيُّ، وابنُ عاشور، واختاره الشنقيطيُّ كما نقله عنه صاحبُ التَّتِمَّةِ. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/407)، ((تفسير ابن جزي)) (2/441)، ((تفسير أبي حيان)) (10/ 374)، ((تفسير ابن كثير)) (8/297)، ((تفسير الشوكاني)) (5/430)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/420)، ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/400). ونسَبَ السَّمْعانيُّ، والقُرطبيُّ، وابنُ القيِّمِ هذا القولَ إلى جمهورِ المفَسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (6/125)، ((تفسير القرطبي)) (19/154)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 144). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ مسعودٍ في روايةٍ عنه، وابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وأبو صالحٍ في روايةٍ عنه، ومجاهِدٌ في روايةٍ عنه، وقَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/580). قال ابن كثير: (والأظهرُ أنَّ «المُرْسَلاتِ» هي الرِّياحُ، كما قال تعالَى: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ  [الحجر: 22] ، وقال تعالَى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف: 57] ). ((تفسير ابن كثير)) (8/297). وقال ابن القيِّم: (ويؤيِّدُ كَوْنَها الرِّياحَ عَطْفُ العاصِفاتِ عليها بفاءِ التَّعقيبِ والتَّسَبُّبِ، فكأنَّها أُرسِلَت فعصَفَت). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 143). وقيل: هي الملائِكةُ. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ قُتَيْبةَ، والزمخشريُّ، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/543)، ((تأويل مُشْكِل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 106)، ((تفسير الزمخشري)) (4/677)، ((تفسير السعدي)) (ص: 903). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ مسعودٍ في روايةٍ عنه، وابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وأبو هُرَيرةَ، ومَسروقٌ، وأبو صالحٍ في روايةٍ عنه، ومجاهِدٌ في روايةٍ عنه، وقَتادةُ، وأبو الضُّحى، والسُّدِّيُّ، والرَّبيعُ بنُ أنسٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/581، 582)، ((تفسير الماوردي)) (6/175)، ((تفسير ابن كثير)) (8/296). وممَّن جمَع بيْن القولَينِ: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/165). ويُنظر أيضًا: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 142-144). وقيل: المرادُ: الأنبياءُ المُرسَلونَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/175)، ((تفسير ابن عطية)) (5/416)، ((تفسير الشوكاني)) (5/429). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وأبو صالحٍ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (23/72)، ((تفسير ابن كثير)) (8/297). قال ابن عطيَّة: (قال كثيرٌ مِن المفَسِّرينَ: المُرسَلاتُ: الرُّسُلُ إلى النَّاسِ مِنَ الأنبياءِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/416). وضعَّف ابنُ القَيِّمِ هذا القَولَ. يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 143). وقد اختار ابنُ جريرٍ العُمومَ، فقال: (الصَّوابُ مِنَ القَولِ في ذلك عندَنا أن يُقالَ: إنَّ اللهَ تعالى ذِكْرُه أقسَمَ بالمُرسَلاتِ عُرْفًا، وقد تُرسَلُ عُرْفًا الملائِكةُ، وتُرسَلُ كذلك الرِّياحُ، ولا دَلالةَ تدُلُّ على أنَّ المَعْنيَّ بذلك أحدُ الجِنسَينِ دونَ الآخَرِ، وقد عَمَّ جَلَّ ثناؤُه بإقسامِه بكُلِّ ما كانت صِفتُه ما وَصَف، فكُلُّ مَن كانت صِفتُه كذلك فداخِلٌ في قَسَمِه ذلك؛ مَلَكًا أو رِيحًا أو رَسولًا مِن بني آدَمَ مُرسَلًا). ((تفسير ابن جرير)) (23/583). قال القرطبيُّ: (وقيل: يحتَمِلُ أن يكونَ المرادُ بالمُرسَلاتِ السَّحابَ؛ لِما فيها مِن نِعمةٍ ونِقمةٍ، عارفةً بما أُرسِلَت فيه، ومَن أُرسِلَت إليه). ((تفسير القرطبي)) (19/154). .
كما قال تعالى: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ [الحجر: 22] .
وقال سُبحانَه وتعالى: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف: 57] .
فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان العُصوفُ للعَواصِفِ يَتعَقَّبُ الهُبوبَ، عطَفَ بالفاءِ؛ تَعقيبًا وتَسبيبًا [20] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/165). :
فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2).
أي: فالرِّياحِ الشَّديدةِ الهُبوبِ [21] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/583)، ((الوسيط)) للواحدي (4/407)، ((تفسير القرطبي)) (19/155)، ((تفسير ابن كثير)) (8/297)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/420). قال ابنُ عاشور: (فَالْعَاصِفَاتِ تَفريعٌ على المُرسَلاتِ، أي: تُرسَلُ فتَعْصِفُ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/421). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بالعاصِفاتِ الرِّياحُ: ابنُ جرير، والواحديُّ، والبغوي، وابن جُزَي، وأبو حيَّان، وابن كثير، والشوكاني، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/583)، ((الوسيط)) للواحدي (4/407)، ((تفسير البغوي)) (5/196)، ((تفسير ابن جزي)) (2/441)، ((تفسير أبي حيان)) (10/374)، ((تفسير ابن كثير)) (8/297)، ((تفسير الشوكاني)) (5/430)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/420). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: عليٌّ، وابنُ مسعودٍ، وابنُ عبَّاسٍ، وأبو صالحٍ، وقَتادةُ، ومجاهدٌ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/583)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/381). قال أبو حيَّان: (الظَّاهِرُ أنَّه أقسَم أوَّلًا بالرِّياحِ، فهي مُرسَلاتُه تعالى، ويدُلُّ عليه عَطفُ الصِّفةِ بالفاءِ،... وأنَّ العَصفَ مِن صفاتِ الرِّيحِ في عدَّةِ مَواضِعَ مِن القرآنِ). ((تفسير أبي حيان)) (10/ 374). وقيل: هي الملائِكةُ. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: الزمخشريُّ، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/677)، ((تفسير السعدي)) (ص: 903). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهدٌ في روايةٍ عنه، ومسروقٌ، ومسلمُ بنُ صُبَيحٍ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/176)، ((البسيط)) للواحدي (23/74)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/382). وممَّن جمَع بيْن القولَينِ: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/165). .
وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3).
أي: وأُقسِمُ بالملائكةِ الَّتي تَنشُرُ ما دُبِّرتْ على نشرِه [22] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 145)، ((تفسير السعدي)) (ص: 903). ممَّن اختار أنَّ المرادَ: الملائكةُ: الزمخشريُّ، والقرطبي، وابن جُزَي، وأبو حيَّان، وهو ظاهرُ اختيارِ ابنِ القيِّم، واختاره ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/677)، ((تفسير القرطبي)) (19/155)، ((تفسير ابن جزي)) (2/441)، ((تفسير أبي حيان)) (10/374)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 145)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/420). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: أبو صالحٍ في روايةٍ عنه، ومجاهِدٌ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/587)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/382). قال أبو حيَّان: (والَّذي أراه أنَّ المُقسَمَ به شيئان؛ ولذلك جاء العطفُ بالواوِ في وَالنَّاشِرَاتِ، والعطفُ بالواوِ يُشعِرُ بالتَّغايُرِ، بل هو مَوضوعُه في لسانِ العرَبِ... فالظَّاهِرُ أنَّه أقسَمَ أوَّلًا بالرِّياحِ، فهي مُرسَلاتُه تعالى، ويدُلُّ عليه عطفُ الصِّفةِ بالفاءِ، ... وأنَّ العصفَ مِن صفاتِ الرِّيحِ في عِدَّةِ مواضِعَ من القرآن. والقَسَمُ الثَّاني فيه تَرَقٍّ إلى أشرَفَ مِن المقسَمِ به الأوَّلِ، وهم الملائكةُ، ويكون فَالْفَارِقَاتِ... فَالْمُلْقِيَاتِ مِن صِفاتِهم، كما قُلْنا في عَطفِ الصِّفاتِ. وإلقاؤُهم الذِّكْرَ -وهو ما أنزَلَ اللهُ- يصِحُّ إسنادُه إليهم). ((تفسير أبي حيان)) (10/374). وقال ابن عاشور: (... الصِّفات الَّتي عُطِفَت بالفاءِ تابعةٌ لجِنسِ ما عُطِفَت هي عليه، والَّتي عُطِفَت بالواوِ يَترجَّحُ أنَّها صِفاتُ جِنسٍ آخَرَ. فالأرجَحُ أنَّ المُرسَلاتِ والعاصِفاتِ صِفتانِ للرِّياحِ، وأنَّ ما بَعْدَها صِفاتٌ للملائكةِ، والواوُ الثَّانيةُ للعطْفِ وليستْ حرْفَ قسَمٍ. ومُناسَبةُ الجمْعِ بيْن هذَينِ الجِنسينِ في القسَمِ أنَّ كِلَيْهما مِن الموجوداتِ العُلويَّةِ؛ لأنَّ الأصلَ في العطْفِ بالواوِ أنْ يكونَ المعطوفُ بها ذاتًا غيرَ المعطوفِ عليه). ((تفسير ابن عاشور)) (29/420). وقال ابنُ القيِّم: (لكِنَّ هنا أمرًا يَنبغي التَّفطُّنُ له، وهو أنَّه سُبحانَه جعَل الأقسامَ في هذه السُّورةِ نوعَينِ، وفَصَل أحدَهما مِن الآخَرِ، وجعَل «العاصِفاتِ» معطوفًا على «المرسَلاتِ» بفاء التَّعقيبِ؛ فصارَا كأنَّهما نوعٌ واحدٌ، ثمَّ جعَل «النَّاشِراتِ» كأنَّه قسَمٌ مُبتدَأٌ، فأتى فيه بالواوِ، ثمَّ عطَف عليه «الفارِقاتِ» و«المُلْقياتِ» بالفاءِ، فأوهَمَ هذا أنَّ «الفارِقاتِ» و«المُلْقياتِ» مُرتبطٌ بـ «النَّاشراتِ»، وأنَّ «العاصِفاتِ» مرتبطٌ بـ «المرسَلاتِ»... ويَظهَرُ -واللهُ أعلَمُ بما أراد مِن كلامِه- أنَّ القسَمَ في هذه الآيةِ وقَع على النَّوعَينِ: الرِّياحِ والملائكةِ، ووجْهُ المُناسَبةِ أنَّ حياةَ الأرضِ والنَّباتِ وأبدانِ الحيَوانِ: بالرِّياحِ؛ فإنَّها مِن رَوْحِ الله، وقد جعَلها اللهُ تعالى نُشورًا؛ وحياةَ القُلوبِ والأرواحِ بالملائكةِ، فبِهَذَينِ النَّوعَينِ يحصُلُ نَوْعَا الحياةِ، ولهذا -واللهُ أعلَمُ- فصَل أحدَ النَّوعَينِ مِن الآخَرِ بالواوِ، وجعل ما هو تابعٌ لكلِّ نَوعٍ بعدَه بالفاءِ). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 145، 146). قال الزمخشري: (نَشَرْنَ أجنِحَتَهنَّ في الجَوِّ عندَ انحطاطِهنَّ بالوَحْيِ، أو نَشَرْنَ الشَّرائِعَ في الأرضِ، أو نشَرْنَ النُّفوسَ الموتى بالكُفرِ والجَهلِ، بما أَوْحَينَ). ((تفسير الزمخشري)) (4/677). وقال القرطبي: (وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا الملائِكةُ الموكَّلونَ بالسُّحُبِ يَنشُرونَها). ((تفسير القرطبي)) (19/155). وقيل: المرادُ بالنَّاشِراتِ: الرِّياحُ. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: ابنُ أبي زَمَنِين، والواحديُّ، والسمعاني، والبغوي، وابن كثير، والعُلَيمي، والشوكاني، والشنقيطيُّ كما نقله عنه صاحبُ التَّتِمَّةِ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/77)، ((الوسيط)) للواحدي (4/407)، ((تفسير السمعاني)) (6/125)، ((تفسير البغوي)) (5/196)، ((تفسير ابن كثير)) (8/297)، ((تفسير العليمي)) (7/244)، ((تفسير الشوكاني)) (5/430)، ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/400). ونسَبَ الرَّسْعَنيُّ هذا القولَ إلى جمهورِ المفسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (8/428). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ مسعودٍ، ومجاهِدٌ في روايةٍ عنه، وأبو صالحٍ في روايةٍ عنه، وقَتادةُ، والحسَنُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/585)، ((تفسير الثعلبي)) (10/109). قال ابن كثير: (النَّاشِراتُ هي: الرِّياحُ الَّتي تَنْشُرُ السَّحابَ في آفاقِ السَّماءِ، كما يَشاءُ الرَّبُّ عزَّ وجلَّ). ((تفسير ابن كثير)) (8/297). وممَّن جمَع بيْنَ القولَينِ: الملائكةِ والرِّياحِ: البِقاعيُّ. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/165). وذهب ابنُ جريرٍ إلى العُمومِ، فقال: (إنَّ اللهَ -تعالى ذِكْرُه- أقسَمَ بالنَّاشِراتِ نَشْرًا، ولم يَخصُصْ شَيئًا مِن ذلك دونَ شَيءٍ، فالرِّيحُ تَنشُرُ السَّحابَ، والمطَرُ يَنشُرُ الأرضَ، والملائِكةُ تَنشُرُ الكُتُبَ، ولا دَلالةَ مِن وَجهٍ يَجِبُ التَّسليمُ له على أنَّ المرادَ مِن ذلك بَعضٌ دونَ بَعضٍ، فذلك على كُلِّ ما كان ناشِرًا). ((تفسير ابن جرير)) (23/587). وقال السعدي: (يحتَمِلُ أنَّها الملائِكةُ تَنشُرُ ما دُبِّرَت على نَشْرِه، أو أنَّها السَّحابُ الَّتي يَنشُرُ بها اللهُ الأرضَ، فيُحييها بعدَ مَوتِها). ((تفسير السعدي)) (ص: 903). .
فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4).
أي: فالملائِكةِ الَّتي تأتي بما يَفرُقُ بيْنَ الحقِّ والباطِلِ [23] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/265)، ((تفسير القرطبي)) (19/155)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 145)، ((تفسير ابن كثير)) (8/297)، ((تفسير الشوكاني)) (5/430). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بالفارقاتِ: الملائكةُ: الزَّجَّاجُ، والقرطبي، وابن كثير، والشوكاني، ونسبه ابنُ القيِّمِ إلى الجمهورِ. يُنظر: المصادر السَّابقة. قال ابن كثير: (وقولُه: فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا يعني: الملائكةَ. قاله ابنُ مسعودٍ، وابنُ عبَّاسٍ، ومَسروقٌ، ومجاهِدٌ، وقَتادةُ، والرَّبيعُ بنُ أنسٍ، والسُّدِّيُّ، والثَّوْريُّ. ولا خِلافَ هاهنا؛ فإنَّها تنزِلُ بأمرِ الله على الرُّسُلِ، تُفَرِّقُ بيْن الحقِّ والباطِلِ، والهُدى والغَيِّ، والحلالِ والحرامِ، وتُلْقي إلى الرُّسُلِ وحيًا فيه إعذارٌ إلى الخَلقِ، وإنذارٌ لهم عِقابَ الله إن خالَفوا أمْرَه). ((تفسير ابن كثير)) (8/297). وقيل: المرادُ: القُرآنُ، فهو يَفْرُقُ بيْن الحَقِّ والباطِلِ. وممَّن قال بهذا القولِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/543)، ((تفسير السمرقندي)) (3/531). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ، والحسَنُ، وابنُ كَيْسانَ. ((تفسير ابن جرير)) (23/ 588)، ((تفسير الثعلبي)) (10/109)، ((الوسيط)) للواحدي (4/407). وقيل: المرادُ: الرِّياحُ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/176). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهدٌ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/407)، ((تفسير البغوي)) (5/196). قال الرَّسْعَني: (فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا قال مجاهدٌ: هي الرِّياحُ تُفَرِّقُ بيْن السَّحابِ فتُبَدِّدُه). ((تفسير الرسعني)) (8/428). وقيل: المرادُ: السَّحابُ. وممَّن ذهب إليه: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) (21/166). قيل: السُّحبُ فرَّقْنَ بيْن مَن يَشكُرُ اللهَ تعالى وبيْن مَن يَكفُرُ. يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (9/382). وقيلَ: شُبِّهَتِ السَّحاباتُ الماطِرةُ بالنَّاقةِ الفارِقِ -وهي الحامِلُ- الَّتي تَخرُجُ وتَنِدُّ في الأرضِ حينَ تضَعُ، شَبَّهوا السَّحابةَ الَّتي تَنْفَرِدُ مِن السَّحابِ بهذه النَّاقةِ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (19/155). وذهب ابنُ جريرٍ إلى عَدَمِ التَّخصيصِ بشَيءٍ مُعَيَّنٍ، فقال: (الصَّوابُ مِنَ القَولِ في ذلك أنْ يقالَ: أَقسَمَ رَبُّنا -جَلَّ ثناؤه- بالفارِقاتِ، وهي الفاصِلاتُ بيْن الحَقِّ والباطِلِ، ولم يَخصُصْ بذلك منهنَّ بَعضًا دونَ بَعضٍ، فذلك قَسَمٌ بكُلِّ فارِقةٍ بيْن الحَقِّ والباطِلِ؛ مَلَكًا كان أو قُرآنًا أو غيرَ ذلك). ((تفسير ابن جرير)) (23/588). .
فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5).
أي: فالملائِكةِ الَّتي تُبَلِّغُ رُسُلَ اللهِ وَحْيَه المُذَكِّرَ بالحَقِّ لعِبادِه [24] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/588)، ((الوسيط)) للواحدي (4/407)، ((تفسير ابن عطية)) (5/417)، ((تفسير السعدي)) (ص: 903). حكى غيرُ واحدٍ الاتِّفاقَ وعدمَ الخلافِ في أنَّ المرادَ: الملائكةُ؛ منهم: المهدويُّ، والقرطبيُّ، وابنُ القيم، وابنُ كثير، وابنُ عاشور. يُنظر: ((التحصيل)) للمهدوي (6/560)، ((تفسير القرطبي)) (19/156)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 145)، ((تفسير ابن كثير)) (8/297)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/419). ونسَبَه ابنُ عطيَّةَ إلى الجمهورِ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/417). .
عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6).
أي: وذلك الوَحيُ إقامةٌ للحُجَّةِ مِنَ اللهِ على خَلْقِه، وتحذيرٌ لهم مِن عَذابِه [25] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/589)، ((الوسيط)) للواحدي (4/407)، ((تفسير القرطبي)) (19/156)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/201)، ((تفسير ابن كثير)) (8/297)، ((تفسير السعدي)) (ص: 904). .
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7).
أي: إنَّ الَّذي تُوعَدونَ به مِنَ البَعثِ يومَ القيامةِ والحِسابِ والجَزاءِ: لَكائِنٌ لا شَكَّ في ذلك [26] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/590)، ((الوسيط)) للواحدي (4/407)، ((تفسير ابن عطية)) (5/417)، ((تفسير ابن كثير)) (8/297)، ((تفسير السعدي)) (ص: 904). قال الماوَرْدي: (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ هذا جوابُ ما تقَدَّمَ مِنَ القَسَمِ؛ لأنَّ في أوَّلِ السُّورةِ قَسَمًا). ((تفسير الماوردي)) (6/177). قيل: الخِطابُ للنَّاسِ. وممَّن قال به: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/590). وقيل: الخِطابُ للمُشرِكين. وممَّن اختاره: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/423). .
كما قال تعالى حِكايةً عن الرَّاسِخينَ في العِلمِ: رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران: 9] .
وقال سُبحانَه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [فاطر: 5] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال اللهُ تعالى: وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا الإرسالُ نَوعانِ: إرسالُ دينٍ يُحِبُّه ويَرضاه، كإرسالِ رُسُلِه وأنبيائِه، وإرسالُ كَونٍ، وهو نَوعانِ: نوعٌ يُحِبُّه ويَرضاه، كإرسالِ ملائكتِه في تدبيرِ أمرِ خَلْقِه -على قولٍ في تفسيرِ الآيةِ-، ونوعٌ لا يحِبُّه، بل يَسخَطُه ويُبغِضُه، كإرسالِ الشَّيطانِ على الكُفَّارِ [27] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 142). .
2- في قَولِه تعالى: فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا أنَّه مِن تمامِ عَدْلِه وإحسانِه سُبحانَه أنْ أعْذَرَ إلى عبادِه، وألَّا يُؤاخِذَ ظالِمَهم إلَّا بعدَ كَمالِ الإعذارِ، وإقامةِ الحُجَّةِ عليه [28] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/201). .

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالَى: وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا * وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا * فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا
- قولُه: وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا * وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا * فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا صِفاتٌ لمَوصوفاتٍ قد حُذِفَت، وأُقِيمَت صِفاتُها مُقامَها [29] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/373، 374)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/420)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/332). .
- وهذا قَسَمٌ بمَخلوقاتٍ عَظيمةٍ دالَّةٍ على عَظيمِ عِلمِ اللهِ تعالَى وقُدرتِه، والمَقصودُ مِن هذا القسَمِ تأْكيدُ الخبَرِ، وفي تَطويلِ القسَمِ تَشويقُ السَّامعِ لتَلقِّي المُقسَمِ عليه [30] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/419). .
- قولُه: عُرْفًا حالٌ مُفيدةٌ معْنى التَّشبيهِ البليغِ، أي: مِثلَ عُرْفِ الفرَسِ في تَتابُعِ الشَّعرِ بَعضِه ببَعضٍ، يُقالُ: همْ كعُرْفِ الضَّبعِ، إذا تَألَّبوا، ويُقالُ: جاؤوا عُرْفًا واحدًا. وهو صالِحٌ لوَصْفِ الملائكةِ ولوَصْفِ الرِّيحِ. وقيل غيرُ ذلك [31] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/677)، ((تفسير البيضاوي)) (5/274)، ((تفسير أبي حيان)) (10/373)، ((تفسير أبي السعود)) (9/78)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/421)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/332). .
- قولُه: فَالْعَاصِفَاتِ تَفريعٌ على وَالْمُرْسَلَاتِ، إنْ أُرِيدَ بالمُرسَلاتِ وصْفُ الملائكةِ، فالعصْفُ تَشبيهٌ لنُزولِهم في السُّرعةِ بشِدَّةِ الرِّيحِ؛ وذلك في المُبادَرةِ في سُرعةِ الوُصولِ بتَنفيذِ ما أُمِروا به، وعَصْفًا مُؤكِّدٌ للوصْفِ تَأكيدًا لتَحقيقِ الوصْفِ [32] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/677)، ((تفسير البيضاوي)) (5/274)، ((تفسير أبي حيان)) (10/373)، ((تفسير أبي السعود)) (9/77)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/421). .
- قولُه: وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا النَّشرُ: ضِدُّ الطَّيِّ، ويَكثُرُ استِعمالُه في الإظهارِ والإيضاحِ وفي الإخراجِ، فالنَّاشِراتُ إذا جُعِلَ وصْفًا للملائكةِ جاز أنْ يكونَ نَشْرَهم للوحيِ، أي: تكرير نزولِهم لذلك -على قولٍ-، وأنْ يكونَ النَّشرُ كِنايةً عن الوُضوحِ، أي: بالشَّرائعِ البيِّنةِ [33] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/421). .
وإذا كان قولُه: وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا وَصْفًا للرِّياحِ فهو نشْرُ السَّحابِ في الأجواءِ، فيكونُ عطْفُه بالواوِ دونَ الفاءِ للتَّنبيهِ على أنَّه مَعطوفٌ على وَالْمُرْسَلَاتِ لا على فَالْعَاصِفَاتِ؛ لأنَّ العصْفَ حالةُ مَضَرَّةٍ، والنَّشرَ حالةُ نفْعٍ [34] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/374)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/421). .
- قولُه: فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا قيل: لتَفرُّعِ الفرْقِ عن النَّشرِ عُطِفَ فَالْفَارِقَاتِ على (النَّاشِرَاتِ) بالفاءِ، وأُكِّدَ بالمَفعولِ المُطلَقِ تَأكيدًا لتَحقيقِ الوصْفِ [35] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/422). .
- قولُه: فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا الإلقاءُ مُعبَّرٌ به عن تَبليغِ الذِّكرِ مِن العالَمِ العُلويِّ إلى أهلِ الأرضِ، بتَشبيهِهِ بإلقاءِ شَيءٍ مِن اليَدِ إلى الأرضِ، وإلقاءُ الذِّكرِ تَبليغُ المواعظِ إلى الرُّسلِ ليُبلِّغوها إلى النَّاسِ، وهذا الإلقاءُ مُتفرِّعٌ على الفرْقِ؛ لأنَّهم يَخُصُّون كلَّ ذِكْرٍ بمَن هو مُحتاجٌ إليه، فذِكرُ الكُفَّارِ بالتَّهديدِ والوعيدِ بالعَذابِ، وذِكرُ المؤمنين بالثَّناءِ والوعْدِ بالنَّعيمِ [36] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/422). .
- على القولِ بأنَّ الآياتِ إقسامٌ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ بطَوائفَ مِن الملائكةِ أرسَلَهنَّ بأوامِرِه فلَعلَّ تَقديمَ النَّشْرِ -نشْرِ الشَّرائعِ ونشْرِ النُّفوسِ- والفَرْقِ على الإلقاءِ؛ للإيذانِ بكَونِها غايةً للإلقاءِ، حَقيقةً بالاعتناءِ بها، أو للإشعارِ بأنَّ كُلًّا مِن الأوصافِ المَذكورةِ مُستقِلٌّ بالدَّلالةِ على استحقاقِ الطَّوائفِ الموصوفةِ بها التَّفخيمَ والإجلالَ بالإقسامِ بهِنَّ، ولو جِيءَ بها على تَرتيبِ الوُقوعِ لَرُبَّما فُهِمَ أنَّ مَجموعَ الإلقاءِ والنَّشْرِ والفرْقِ هو المُوجِبُ لِما ذُكِرَ مِن الاستِحقاقِ [37] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/77). .
2- قولُه تعالَى: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ
- جُملةُ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ جَوابُ القسَمِ، وزِيدَت تَأْكيدًا بـ (إنَّ)؛ لتَقويةِ تَحقيقِ وُقوعِ الجَوابِ [38] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/423). .
- و(إنَّما) في قولِه: إِنَّمَا تُوعَدُونَ كَلِمتانِ هما (إنَّ) الَّتي هي حرْفُ تَأكيدٍ، و(ما) الموصولةُ، وليست هي (إنَّما) الَّتي هي أداةُ حصْرٍ، وما يُوعَدون هو البعثُ للجَزاءِ، وهم يَعلَمون الصِّلةَ؛ فلذلك جِيءَ في التَّعبيرِ عنه بالمَوصوليَّةِ، والخِطابُ للمشرِكين -على قولٍ-، أي: ما تَوَعَّدكم اللهُ به مِن العِقابِ بعْدَ البعثِ واقعٌ لا مَحالةَ وإنْ شكَكْتُم فيه أو نَفَيتُموه [39] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/423). .
- والواقعُ: الثَّابتُ، وأصلُ الواقعِ السَّاقطُ على الأرضِ، فعُبِّرَ به عن الشَّيءِ المُحقَّقِ؛ تَشبيهًا بالمُستقِرِّ [40] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/423). .