موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيات (104-112)

ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ

غريب الكلمات :

حَقِيقٌ: أي: حَريصٌ، أو جديرٌ، وحقيقٌ عليَّ: أي حقٌّ وواجبٌ عليَّ، وأصْلُ (حقق): يدُلُّ على إحكامِ الشَّيءِ وصِحَّتِه [1269] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/342- 343)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/15، 18)، ((المفردات)) للراغب (ص: 247)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 115). .
نَزَعَ: أَي: أَخْرَجَ وأَظْهَرَ [1270] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/415)، ((المفردات)) للراغب (ص: 798)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 115)، ((تفسير القرطبي)) (7/257). .
أَرْجِهْ: أي: احبِسْهُ، وأَخِّرْ أمْرَه، أو أَمْهِلْه، وأَصْلُ الإرجاءِ: التَّأْخيرُ [1271] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 170)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/495)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 115)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 207). .
الْمَدَائِنِ: أي: الأَقاليمِ ومَعالِمِ مُلْكِكَ، وبلادِكَ وأمصارِ مِصْرَ [1272] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/567)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/306)، ((المفردات)) للراغب (ص: 763)، ((تفسير ابن كثير)) (3/456). .
حَاشِرِينَ: أي: جامِعينَ للنَّاسِ بأمْرِ السَّحَرَةِ، والحَشْرُ: إخراجُ الجَماعةِ عن مَقرِّهم، وإزعاجُهم عنه إلى الحَربِ ونَحْوِها، وَأصْلُ (حشر): سَوْقٌ وبَعْثٌ [1273] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/66)، ((المفردات)) للراغب (ص: 237)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 115)، ((تفسير ابن كثير)) (5/307). .

المعنى الإجمالي :

يُخبِرُ تعالى أنَّ موسى عليه السَّلامُ قال لِفرعونَ: إنَّه مُرْسَلٌ إليه من ربِّ العالَمينَ، وإنَّه حقيقٌ على ألَّا يقولَ على اللهِ إلَّا الحَقَّ، وأنَّه قد جاءَهَ ببيِّنةٍ من ربِّه؛ فَلْيُرْسِلْ معه بني إسرائيلَ. فقال له فرعونُ: إنْ كُنْتَ أَتَيْتَ بآيةٍ فأَظْهِرْها، إنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقينَ، فأَلْقى موسى عصاهُ؛ فإذا هي ثُعبانٌ عظيمٌ واضِحٌ لِمَنْ يَراهُ، وأَخْرَجَ يَدَهُ من جَيْبِهِ فإذا هي بيضاءُ لِكُلِّ مَنْ نَظَرَ إليها.
قال الملأُ من قومِ فرعونَ: إنَّ موسى لَساحِرٌ حاذِقٌ، عليمٌ بالسِّحْرِ، يُريدُ أنْ يُخرِجَكم من أرضِكم بسِحْرِهِ؛ فما الَّذي تَأْمرونَ به في شَأْنِهِ؟
قال الملأُ لفرعونَ: أَخِّرْ موسى وأَخاهُ، وأَرْسِلْ في مُدُنِ مملكتِكَ مَنْ يَحْشُدُ السَّحَرَةَ؛ فَيَجيئونَ لكَ بِكُلِّ ساحِرٍ ماهِرٍ.

تفسير الآيات :

وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
أنه لما لُخِّصَ في الآيةِ السَّابقةِ جميعُ القِصَّةِ على طولِها، فقال: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ، فبَعْدَ هذا التَّشويقِ والتَّنبيهِ قَصَّ تعالى علينا ما كان مِن مَبْدَأِ أمْرِ أولئك المُفسِدينِ، الَّذي انْتَهى إلى تلك العاقبةِ [1274] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/36-37). ، فقال:
وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104)
أي: وقال موسى عليه السَّلامُ لَمَّا دخَلَ على مَلِكِ مِصْرَ: يا فِرعونُ، إنِّي رسولٌ إليكَ من مُرْسِلٍ عظيمٍ، وهو ربُّ جميعِ الخلائقِ، ومالِكُهم ومُدبِّرُ أُمورِهم [1275] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (2/218)، ((تفسير ابن كثير)) (3/454)، ((تفسير السعدي)) (ص: 299). قال ابن عاشور: (الظَّاهرُ أنَّ خِطابَ موسى فرعونَ بقوله: يَا فِرْعَوْنُ خطابُ إكرامٍ؛ لأنَّه ناداه بالاسمِ الدَّالِّ على المُلكِ والسُّلطانِ بحسَبِ مُتعارَفِ أُمَّتِه، فليس هو بترفُّعٍ عليه؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال له ولهارونَ: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا [طه:44] ). ((تفسير ابن عاشور)) (9/37). .
حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)
حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قولِهِ تعالى: حَقِيقٌ عَلَى قراءتانِ:
قِراءة حَقِيقٌ عَلَيَّ بتشديدِ الياءِ، ومعناها: واجبٌ وحقٌّ عليَّ [1276] قرأ بها نافعٌ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/270). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((تفسير ابن جرير)) (10/342- 343)، ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 159)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 289). .
قِراءة حَقِيقٌ عَلَى، قيل: معناها: جَديرٌ وخَليقٌ بألَّا [1277] قال الفرَّاء: (والعربُ تجعلُ الباءَ فِي موضعِ عَلَى: رميت عَلَى القوسِ، وبالقوسِ، و: جئت عَلَى حالٍ حسنةٍ، وبحالٍ حسنةٍ). (( معاني القرآن)) (1/386)، ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/342). أقولَ...، وقيل: معناها: حَريصٌ على [1278] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/270). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((تفسير ابن جرير)) (10/342- 343)، ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 159)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 289). .
حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ
قيل: أي: أنا جديرٌ وخليقٌ بألَّا أكذِبَ على اللهِ، ولا أقولَ عليه إلَّا الحَقَّ [1279] وممَّنِ اختار هذا القولَ: ابن عطيَّةَ، وأبو حيَّانَ، وابن تيميَّةَ، والقاسميُّ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (2/435)، ((تفسير أبي حيان)) (5/127)، ((الجواب الصحيح)) (1/141)، ((تفسير القاسمي)) (5/162). وذكَرَه بعضُ المفسِّرين وجهًا في تفسيرِ الآيةِ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/342)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/142)، ((تفسير ابن كثير)) (3/454). قال ابنُ تيميَّةَ: (وفي القراءةِ المشهورةِ: يُخبِرُ أنَّه جديرٌ وحَرِيٌّ وثابتٌ ومستقِرٌّ على ألَّا يقولَ على اللهِ إلَّا الحقَّ، وعلى القِراءةِ الأخرى: أخبَرَ أنَّه واجبٌ عليه ألَّا يقولَ على اللهِ إلَّا الحقَّ). ((الجواب الصحيح)) (1/141). .
وقيل: أي: أنا حريصٌ على ألَّا أقولَ على الله إلا الحقَّ [1280] وممَّنِ اختار هذا القولَ: أبو عُبيدةَ مَعْمَرُ بن المُثنَّى، والقرطبيُّ. يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (1/224)، ((تفسير القرطبي)) (7/256). وذكَرَه بعضُ المفسِّرينَ وجهًا في تفسيرِ الآيةِ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/342)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/142)، ((تفسير ابن كثير)) (3/454). قال ابن عطيَّةَ: (وفي هذا القولِ بُعْدٌ). ((تفسير ابن عطية )) (2/435). وقال الشنقيطيُّ: (وهذا القولُ مِنَ الأقوالِ الَّتي لا تَظهرُ؛ فلا يخلو عِندي من بُعْدٍ، واللهُ أعلَم). ((العذب النمير)) (4/68). وفسَّرها بالقولَيْنِ محمد رشيد رضا، فقال: (جديرٌ بألَّا أقولَ على اللهِ إلَّا الحقَّ، وحَريصٌ على ذلك؛ فَلَنْ أُخِلَّ به). ((تفسير المنار)) (9/38). وذكَرَ الشِّنقيطيُّ قولًا آخَرَ، فقال: (إنِّي رسولٌ حقيقٌ، أي: رِسالتي لا شكَّ فيها... الوجه الَّذي يظهر أنَّه أصوبُ الأوجهِ، ولا ينبغي العدولُ عنه، وإنْ قلَّ مَنْ تنبَّه إليه من علماءِ التَّفسيرِ: هو أنَّ معنى الآيةِ الكريمةِ: إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ، وأمَّا قولُهُ: عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [فيتعلَّقُ] بمعنى الرِّسالةِ المُشارِ إليها في الرَّسولِ...، أي: أرسلني ربِّي على شَرطٍ ووتيرةٍ معيَّنةٍ، وهي ألَّا أقولَ عليه إلَّا الحقَّ). ((العذب النمير)) (4/66- 72). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية )) (2/435). .
قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
أي: قال موسى عليه السَّلامُ لفرعونَ ومَلَئِهِ: قد جِئْتُكم بحُجَّةٍ قاطعةٍ، ومعجزةٍ ظاهرةٍ من ربِّكم، تَدُلُّكم على صِدْقي [1281] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/343)، ((تفسير البغوي)) (2/218)، ((تفسير الرازي)) (14/326)، ((تفسير ابن كثير)) (3/454). .
فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
أي: فأَطْلِقْ- يا فرعونُ- ذُرِّيَّةَ النَّبيِّ يعقوبَ من أَسْرِكَ وقَهْرِكَ، وخَلِّهم يَخرُجُوا معي من مِصْرَ؛ لِنَعْبُدَ اللهَ تعالى حيث نَشاءُ [1282] يُنظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/392)، ((تفسير ابن كثير)) (3/454)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/39)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/73). قال ابن عاشور: (تَقْييدُهُ بـ(معي)؛ لأنَّ المقصودَ من إخراجِهم من مِصرَ أنْ يكونوا مع الرَّسولِ؛ لِيُرشدَهم، ويُدبِّرَ شُؤونَهم). ((تفسير ابن عاشور)) (9/40). .
كما قال تعالى: فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ [طه:47].
قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106)
أي: قال فرعونُ لموسى عليه السَّلامُ: إنْ كنتَ مُتمكِّنًا من إظهارِ حُجَّةٍ ومعجزةٍ تؤيِّدُ كلامَكَ، فهاتِها؛ لِنَرى إنْ كنتَ حقًّا مِنَ الصَّادقينَ فيما تَقولُ [1283] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/343)، ((تفسير ابن كثير)) (3/454)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/40)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/74). .
كما قال تعالى: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ [الشعراء: 30-33] .
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)
أي: فأَلْقى موسى عصاهُ في الأرضِ؛ فانقلَبَتْ بإذنِ اللهِ ثُعبانًا عظيمًا واضحًا لِمَنْ يَراهُ [1284] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/343)، ((الوسيط)) للواحدي (2/392)، ((تفسير القرطبي)) (7/257)، ((تفسير ابن كثير)) (3/454)، ((تفسير السعدي)) (ص: 299). قال البَغويُّ: (والثُّعبانُ: الذَّكَرُ العظيمُ من الحيَّاتَ، فإنْ قيل: أليس قد قال في موضعٍ آخَرَ: كَأَنَّهَا جَانٌّ [النمل: 10] ، والجانُّ الحيَّةُ الصَّغيرةُ؟ قيل: إنَّها كانت كالجانِّ في الحركةِ والخفَّةِ، وهي في جُثَّتِها حيَّةٌ عظيمةٌ). ((تفسير البغوي)) (2/218). .
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)
أي: وأَخْرَجَ موسى يَدَهُ من جَيْبِه، فظَهَرَتْ بيضاءَ لِكُلِّ مَنْ نَظَرَ إليها، وهذا البَياضُ مِن غيرِ بَرَصٍ [1285] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/346)، ((تفسير القرطبي)) (7/257)، ((تفسير ابن كثير)) (3/455)، ((تفسير السعدي)) (ص: 299). قال الزَّجَّاجُ: (وقال في موضعٍ آخَرَ: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ [النمل: 12] ، وفي موضِعٍ آخَرَ: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [طه: 22] ، فهذا دليلٌ أنَّ معنى نَزْعِ يدِهِ إخراجُها من جيبِهِ، وإخراجُها من جَناحِهِ، وجَناحُ الرَّجلِ عَضُدُهُ، وقيل: جناح الرَّجلِ عِطْفُه، وتأويلُ الجَناحَيْنِ مِنَ الإنسانِ أنَّهما كالجَناحينِ مِنَ الطَّائرِ، وهما العَضُدانِ). ((معاني القرآن)) (2/363). .
كما قال تعالى: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ [القصص: 32] .
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109)
أي: قال الأشرافُ والسَّادةُ من قومٍ فِرعونَ: إنَّ موسَى ساحرٌ حاذقٌ، عليمٌ بالسِّحرِ، ماهرٌ فيه، يُرِي الشَّيءَ بخِلافِ ما هو عليه، فيُخيِّلُ إلى النَّاسِ أنَّ عصاهُ تنقلِبُ حيَّةً، وأنَّ يَدَهُ تَصيرُ بيضاءَ من غيرِ سُوءٍ [1286] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/347، 348)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/392)، ((تفسير البغوي)) (2/219)، ((تفسير ابن كثير)) (3/455)، ((تفسير السعدي)) (ص: 299). قال ابنُ عطيَّةَ: (السَّاحرُ كان عندهم في ذلك الزَّمنِ أعلى المراتبِ، وأعظمَ الرِّجالِ، ولكنَّ وصْفَهم موسى بذلك مع مُدافَعتِهم له عن النُّبوَّةِ ذمٌّ عظيمٌ وحطٌّ، وذلك قَصَدوا إذ لم يُمكنْهم أكثرُ). ((تفسير ابن عطية)) (2/437). وقال ابنُ عاشور: (وهذا القولُ قد أعرَبَ عن رأيِ جميعِ أهلِ مجلسِ فرعونَ، ففِرعونُ كان مُشارِكًا لهم في هذا؛ لأنَّ القرآنَ حَكَى عن فرعونَ في غيرِ هذه السُّورةِ أنَّه قال للملأ حوله: إنَّ هذا لساحرٌ عليمٌ، وهذه المَعذرةُ قد انتحلوها وتواطؤوا عليها، تَبِعوا فيها ملِكَهم أو تَبِعهم فيها، فكلُّ واحدٍ من أهلِ ذلك المجلسِ قد وطَّنَ نفسَه على هذا الاعتذارِ). ((تفسير ابن عاشور)) (9/42). .
وقد حَكَى اللهُ عزَّ وجلَّ عن فرعونَ رَمْيَهُ موسى عليه السَّلامُ بهذه الفِرْيَةِ نَفْسِها، فقال: قَالَ لِلْمَلَأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ [الشعراء: 34] .
وقال تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ [القصص: 36] .
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ
أي: قال الأشرافُ والسَّادةُ من قومٍ فِرعونَ [1287] قال ابن عاشور: (قالوا هذا الكلامَ على وجهِ الشُّورى مع فرعونَ واستنباطِ الاعتذارِ لأنفسِهم عن قِيامِ حُجَّةِ موسى في وجوههم؛ فاعتلُّوا لأنفسِهم بعضُهم لبعضٍ بأنَّ موسى إنَّما هو ساحرٌ... ولذلك فالخِطابُ في قوله: يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ خِطابُ بعضِهم لبعضٍ، وهو حاصلٌ من طوائفِ ذلك الملأِ لطوائفَ يُردِّدونه بينهم، ويقوله بعضُهم لبعضٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (9/42). : يُريدُ موسى بسِحْرِه أنْ يُخرجَكم مِن أرضِكم؛ مِصْرَ [1288] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/348)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 406)، ((تفسير البغوي)) (2/219)، ((تفسير ابن عطية)) (2/437)، ((تفسير ابن كثير)) (3/455)، ((تفسير السعدي)) (ص: 299)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/42). وقال ابنُ عاشور: (وجهُ استفادتِهم أنَّ موسى يُريدُ إخراجَهم من أرضِهم، إمَّا أنَّهم قاسوا ذلك عن قولِ موسى: فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بقاعدةِ ما جاز على المِثلِ يجوزُ على المُماثِلِ، يَعنونَ أنَّه ما أظهَرَ إخراجَ بني إسرائيلَ إلَّا ذريعةً لإخراجِ كلِّ مَنْ يؤمِنُ به؛ ليتَّخذَهم تَبَعًا، ويُقيمَ بهم مُلكًا خارجَ مِصرَ، فزعموا أنَّ تلك مكيدةٌ من موسى؛ لِثَلْمِ مُلكِ فرعونَ. وإمَّا أنْ يكونَ ملأُ فرعونَ محتويًا على رجالٍ من بني إسرائيلَ كانوا مُقرَّبينَ عِند فرعونَ ومن أهلِ الرَّأيِ في المملكةِ، فهُمُ المقصودُ بالخِطابِ، أي: يُريدُ إخراجَ قومِكم من أرضِكم الَّتي استوطنتموها أربعةَ قرونٍ، وصارتْ لكم موطنًا، كما هي للمِصريِّينَ، ومقصِدُهم من ذلك تذكيرُهم بحُبِّ وطنِهم، وتقريبُهم من أنفسِهم، وإنساؤُهم ما كانوا يلقَوْنَ من اضطهادِ القِبطِ واستذلالِهم؛ شُعورًا منهم بحراجةِ الموقفِ. وإمَّا أنَّهم علِموا أنَّه إذا شاعَ في الأُمَّةِ ظُهورُ حُجَّةِ موسى وعجْزِ فرعونَ وملئِهِ، أدخَلَ ذلك فِتنةً في عامَّةِ الأمَّةِ فآمَنوا بموسى، وأصبح هو الملِكَ على مِصر؛ فأخرج فرعونَ وملأَهُ منها. ويجوز أنْ يكونَ الملأُ خاطَبوا بذلك فرعونَ، فجرَتْ ضمائرُ الخطابِ في قوله: أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ على صيغةِ الجمعِ؛ تعظيمًا للمُلكِ؛ كما في قوله تعالى: قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون: 99] ، وهذا استعمالٌ مُطَّرِدٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (9/42-43). .
كما قال تعالى عن فِرعونَ: قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ [الشعراء: 34-35] .
فَمَاذَا تَأْمُرُونَ
أي: فما الَّذي تَأمرونَ به في شأنِ مُوسَى [1289] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/348)، ((معاني القرآن)) للزجاج (2/364)، ((تفسير البغوي)) (2/219)، ((تفسير السعدي)) (ص: 299). اختار ابنُ جرير، والزَّجَّاج، والواحدي، والبغوي، والقرطبي، أنَّ القائلَ هو فرعونُ، يُخاطِبُ بذلك ملأَه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/348)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (2/364)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 406)، ((تفسير البغوي)) (2/219)، ((تفسير القرطبي)) (7/257). وقيل: هو مِن كلامِ الملأ بعضِهم إلى بعضٍ يتشاورون فيما بينهم ما يَفعلون بموسى عليه السَّلامُ. وهذا اختيارُ ابن عَطيَّةَ، وظاهر اختيار السعدي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (2/437)، ((تفسير السعدي)) (ص: 299). وقال القرطبيُّ: (أي: قال فِرعونُ: فماذا تأمرون؟ وقيل: هو من قولِ الملأ، أي: قالوا لفرعونَ وحدَهُ: فماذا تأمرون؟ كما يخاطَبُ الجبَّارون والرُّؤساء: ما ترون في كذا؟ ويجوز أن يكونَ قالوا له ولأصحابِه). ((تفسير القرطبي)) (7/257). ؟
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ
أي: قال الملأُ لفرعونَ: أخِّرْ موسى وأخاهُ هارونَ، وأمهِلْهما [1290] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/349)، ((تفسير ابن كثير)) (3/456)، ((تفسير السعدي)) (ص: 299). .
وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ
أي: وابعَثْ- يا فرعونُ- في مُدُنِ مملكتِكَ أُناسًا [1291] قال الماورديُّ: (قال ابنُ عبَّاسٍ: «هُمْ أصحابُ الشُرَطِ»، وهو قولُ الجماعةِ). ((تفسير الماوردي)) (2/245). يَحشُدونَ منها السَّحرةَ [1292] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/351)، ((تفسير ابن كثير)) (3/456)، ((تفسير السعدي)) (ص: 299). .
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قولِهِ تعالى: سَاحِرٍ قِراءتانِ:
قِراءة سَحَّارٍ على وَزْنِ (فَعَّالٍ)، وهو مِن أبنيةِ المُبالَغةِ، فـ(سحَّار) أشدُّ مُبالَغةً في الوَصْفِ من (ساحر)؛ إذْ تدُلُّ على بُلوغِهِ النِّهايةَ في عِلْمِ السِّحرِ، وتدُلُّ على تَكريرِ الفِعْلِ، وعلى أنَّ ذلك ثابتٌ لهم فيما مَضَى مِنَ الزَّمانِ [1293] قرأ بها حمزةُ والكسائيُّ وخلَف. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/270). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/416)، ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص:160)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 291)، ((الكشف)) لمكي (1/471-472). .
قِراءة سَاحِرٍ، وهي اسْمُ فاعلٍ من سَحَرَ [1294] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/270). ويُنظر: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/416)، ((الكشف)) لمكي (1/471-472). .
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)
أي: يَجيئوا لك من سائرِ البِلادِ بالسَّحَرةِ المَهَرَةِ الَّذين بلَغوا النِّهايةَ في فَنِّ السِّحْرِ؛ ليُعارِضوا ما جاءَ به موسى [1295] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/352)، ((تفسير ابن كثير)) (3/456)، ((تفسير السعدي)) (ص: 299). .
كما قال تعالى حاكيًا قولَ فرعونَ لِموسى عليه السَّلامُ: قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ [طه: 57-58] .

الفوائد العلمية واللطائف:

حِكمةُ بَدءِ قِصَّةِ موسى عليه السلام بذِكرِ نَتيجَتِها، والعبرةِ المقصودةِ منها، في قولِه تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ هي أن تكونَ مُتَّصلةً بما يُناسِبُها من العِبرةِ في القَصَص التي قَبلَها، مِن حيثُ إهلاكُ مُعاندي الرُّسُل- عليهم السَّلامُ- جُحودًا واستكبارًا، وقد ذُكِرَت هذه العبرةُ بعد جملةِ تلك القَصَص؛ لتَشابُهِها مبدأً وغايةً، وقصَّةُ موسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طويلةٌ، فهي تُساويها في هذا من حيثُ رسالتُه إلى فِرعونَ ومَلَئِه فقط، وفيها عِبَرٌ أخرى فيما تُشابِهُ به أمْرَ خاتَمِ الرُّسُل صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن حيث إرسالُه إلى بني إسرائيلَ، وإرسالُ محمَّدٍ خاتَمِ النبيِّينَ إلى العَربِ وسائِر البَشرِ، وتوفيقُ اللهِ قَومَهما للإيمانِ، ونَشر شَريعَتِهما فيمن أُرسِلا إليهم، إلى غيرِ ذلك؛ ولذلك ذكَرَ في أواخِرِها تبشيرَ موسى، وكذا عيسى، بالنبيِّ الأمِّيِّ الخاتَمِ محمَّدٍ، صلواتُ اللهِ عليهم أجمعينَ [1296] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/38). .
شأْنُ الرُّسلِ ألَّا يَبتَدئوا بإظهارِ المعجزاتِ؛ صَوْنًا لِمَقامِ الرِّسالةِ عن تعريضِه للتَّكذيبِ، يُبيِّنُ ذلك قوْلُ اللهِ تعالى: وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ؛ فأَظْهَرَ موسى- عليه السَّلامُ- الاستعدادَ للتَّبيينِ على ذلك الصِّدْقِ بالبراهينِ أو المعجزةِ، شريطَةَ أنْ يطلبَها فرعونُ [1297] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/39). .
قال اللهُ تعالى: وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وفي اختيارِ صِفةِ رَبِّ العالَمينَ في الإعلامِ بالمُرْسِلِ عِدَّةُ لَطائِفَ:
منها: أنَّ مَنْ كان مُرْسَلًا مِنْ جِهَةِ مَنْ هو رَبُّ العالَمينَ أَجمَعينَ فهو حَقيقٌ بالقَبولِ لِمَا جاءَ به، كما يَقولُ مَنْ أَرْسَلَهُ المَلِكُ في حاجةٍ إلى رَعِيَّتِهِ: أنا رسولُ الملِكِ إليكم، ثمَّ يَحْكي ما أُرْسِلَ به؛ ففي ذلك مِن تَربيةِ المَهابةِ، وإدخالِ الرَّوْعَةِ ما لا يُقادَرُ قَدْرُه [1298] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (2/263). .
ومنها: الإبطالُ لاعتقادِ فرعونَ أنَّه رَبُّ مِصْرَ وأَهْلِها؛ فإنَّه قال لهم: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24] ، فلمَّا وَصَفَ موسى مُرْسِلَه بأنَّه ربُّ العالَمِينَ شَمِلَ فِرعونَ وأهلَ مملكتِهِ؛ فتَبْطُلُ دَعْوى فِرعونَ أنَّه إلهُ مِصْرَ بطريقِ اللُّزومِ، ودخَلَ في ذلك جميعُ البِلادِ والعِبادِ الَّذينَ لم يكُنْ فِرعونُ يَدَّعي أنَّه إلهُهُم؛ مِثْلُ الفُرْسِ والآشُورِيِّينَ [1299] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/38). .
ومنها: أنَّ ربَّ العالَمين هو مُرَبِّي جَميعِ خَلْقِهِ بأنواعِ التَّدابيرِ الإلهيَّةِ، الَّتي من جُمْلتِها أنَّه لا يترُكُهم سُدًى، بل يُرسِلُ إليهم الرُّسلَ مُبشِّرينَ ومُنذرينَ، وهو الَّذي لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أنْ يتجرَّأَ عليه، ويَدَّعِيَ أنَّه أرْسَلَه ولم يُرْسِلْه [1300] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 299). .
في قول موسى عليه السَّلامُ: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ إيماءٌ إلى أنَّهم مَرْبوبونَ، وأنَّ فرعونَ ليس ربًّا ولا إلهًا، وإلى أنَّ البيِّنةَ ليسَتْ من كَسْبِ موسى، ولا ممَّا يَستقِلُّ به عليه السَّلامُ [1301] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (9/23). .
قولُ اللهِ تعالى: فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ، ما أَعْجَبَ أمْرَ هذَيْنِ الخارقَيْنِ! أحدُهما في نفسِهِ وذلك اليَدُ البيضاءُ، والآخَرُ في غيرِ نفسِهِ وهي العصا، وجمَعَ بِذَيْنِكَ تَبَدُّلَ الذَّواتِ وتبدُّلَ الأعراضِ، فكانا دالَّيْنِ على جوازِ الأمرَيْنِ، وأنَّهما كِلاهما ممكِنُ الوُقوعِ [1302] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/131). .
قولُ اللهِ تعالى: وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ، في ذِكْرِ لِلنَّاظِرِينَ- أي: للنُّظَّارِ- تنبيهٌ على عِظَمِ بَياضِ يدِهِ عليه السَّلامُ؛ لأنَّه لا يَعْرِضُ لها للنُّظَّارِ إلَّا إذا كان بَياضُها عجيبًا، خارجًا عَنِ العادةِ، يَجتمِعُ النَّاسُ إليه، كما يَجتمِعُ النُّظَّارُ للعجائبِ [1303] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/130). .
قولُ اللهِ تعالى: قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ يدُلُّ على أنَّ السَّحَرةَ كانوا كثيرينَ في ذلك الزَّمانِ [1304] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/332 ). .
قولُ اللهِ تعالى: قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ دلَّ على أنَّ مُعْجِزَةَ كُلِّ نَبِيٍّ في زَمانِه كانت بما يُناسِبُ أهلَ ذلك الزَّمانِ فَمُوسَى عليه السَّلامُ كانت مُعْجِزَتُه مِمَّا يُناسِبُ أهلَ زمانِه، وكانوا سَحَرَةً أذكِياءَ، فبُعِثَ بآياتٍ بَهَرَتِ الأبصارَ، وخَضَعَتْ لها الرِّقابُ، ولمَّا كان السَّحَرَةُ خَبيرينَ بفُنونِ السِّحْرِ، وما يَنْتَهي إليه، وعايَنوا ما عايَنوا مِن الأمرِ الباهرِ الهائلِ، الَّذي لا يُمْكِنُ صدورُه إلَّا عمَّن أيَّدَه اللَّه وأجرَى الخارِقَ على يَدَيْه تصديقًا له أسْلَموا سِراعًا، ولم يتَلَعْثَموا [1305] يُنظر: (((تفسير الرازي)) (14/333)، (البداية والنهاية)) لابن كثير (2/99). .

بلاغة الآيات :

قوله: وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ كلامٌ مبتدأٌ مسوقٌ لتفصيلِ ما أُجمل فيما قَبْلَه من كيفيَّةِ إظهارِ الآياتِ، وكيفيَّةِ عاقبةِ المفسدِين [1306] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/257). .
وفيه مناسبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: وَقَالَ مُوسَى فعطَف هنا بالواو، ولم يَفصِلْ أو يعطِف بالفاءِ كما في سُورة طه؛ حيثُ قال بعدَ أمْرِ موسى بالذَّهابِ مع أخيه هارونَ إلى فِرعونَ، وتَبليغِه الدَّعوةَ، مُبيِّنًا كيف كان امتثالُهما للأمرِ:إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: 48] ؛ فجاء به مفصولًا على وجهِ الاستئنافِ البيانيِّ غيرَ مَوصولٍ بالواو، ولا بـ«أو» ولا بالفاءِ، ووجهُ العَطفِ بالواوِ هنا: أنَّه قد قفَّى في قِصَّةِ موسى هنا على ذِكرِ إرسالِه إلى فِرعون وملئه بذِكرِ نتيجةِ هذا الإرسالِ وعاقبتِه بالإجمالِ، وهو قوله تعالى: فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ، وبُدِئتِ القصةُ بَعدَه بتفصيل ذلك الإجمالِ ومُقدِّمات تِلك النتيجة، فكان المناسبُ أن يُعطَف عليها، لا أنْ يُستأنَف استئنافًا بيانيًّا؛ لِمَا هو ظاهرٌ مِن الاشتراكِ بين المقدِّمات والنتيجةِ، أو بين التفصيلِ والإجمالِ، وأنْ يكون العطفُ بالواوِ لا بالفاء؛ لأنَّ الفاءَ تدلُّ على التعقيبِ والترتيبِ، وهو لا يناسبُ هنا؛ لأنَّه يَقتضي أن تكونَ المقدِّماتُ متأخِّرةً عن النتيجةِ، وذلك باطلٌ بالبداهةِ؛ فتعيَّن أن يكونَ العطفُ بالواوِ [1307] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/37). .
وقوله: إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فيه حِكاية كلام موسى بصِيغةِ التأكيدِ بحَرْفِ (إنَّ)؛ لأنَّ المُخاطَب مَظنَّةُ الإنكارِ، أو التردُّد القويِّ في صِحَّةِ الخبرِ [1308] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/38). .
قوله: حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
قولُه: حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ  فيه تضمينٌ، حيث ضُمِّنَ حَقِيقٌ مَعْنَى (حَرِيص)؛ ليُفيدَ أنَّه مَحْقوقٌ بقولِ الحقِّ، وحريصٌ عليه [1309] يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/136). . وذلك على أحدِ أوجهِ التأويلِ.
قولُه: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ استئنافٌ مُقرِّرٌ لما قبله، من كونه رسولًا من ربِّ العالمين، وكونِه حقيقًا بقولِ الحقِّ، وفيه تعريضٌ بأنَّ فرعون ليس ربًّا لهم، بل ربهم هو الذي جاء موسى بالبيِّنةِ مِن عِندَه [1310] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (5/129)، ((تفسير أبي السعود)) (3/258). .
وتنكيرُ (بيِّنةٍ) للتَّفخيمِ والتَّعظيمِ، أي: قد جِئْتُكم ببيِّنةٍ عظيمةِ الشَّأْنِ، ظاهرةِ الحُجَّةِ في بيانِ الحَقِّ [1311] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/39). .
ومِنْ على القولِ بأنَّها مُتعلِّقةٌ بمَحذوفٍ وقَعَ صِفةً لـ(بيِّنَةٍ)؛ فإنَّها مُفيدةٌ لفخامتِها الإضافيَّةِ المؤكِّدةِ لفخامتِها الذاتيَّة، المستفادَة من التنوينِ التفخيميِّ [1312] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/258). .
وإضافةُ اسمِّ الربِّ إلى المخاطَبين بعد إضافتِه فيما قبله إلى (العالَمين)؛ لتأكيدِ وجوبِ الإيمان به [1313] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/258). .
قوله: قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ استئنافٌ وقَع جوابًا عن سؤال يَنساقُ إليه الكلامُ؛ كأنه قيل: فماذا قال فرعونُ له عليه السَّلام حِين قال له ما قال؟ فقيل: قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ... [1314] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/258). .
قوله: قَالَ المَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ فيه مناسبةٌ حسنة، حيثُ قال هنا في الأعراف: قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ فنسَبَ القَولَ للمَلأِ، وقال في سورةِ الشُّعَراءِ: قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ [الشعراء: 34] فنَسَبه لفِرعون، فأخبَرَ في الأولى أنَّ قائلَ ذلك الملأُ من قومِهِ، وفي الثَّانيةِ أنَّ فرعونَ هو القائلُ ذلك لملئِه؛ ووجهُ ذلك: أنَّ قولَ الملأِ فيما حَكاهُ اللهُ تعالى في سورةِ الأعرافِ قولُ فرعونَ، أدَّاهُ عنه رؤساءُ قومِهِ إلى عامَّةِ أصحابِهِ، وإنَّما اخْتَصَّتْ سورةُ الأعرافِ بحكايةِ ما قال الملأُ، وسورةُ الشُّعَراءِ بما قالَهُ فرعونُ؛ لأنَّ أوَّلَ مَنْ رَدَّ قولَ موسى عليه السَّلامُ فرعونُ، ثمَّ مالَأَهُ عليه مَلَؤُهُ، وهو ما حَكاهُ اللهُ تعالى في سورةِ الشُّعَراءِ واقْتَصَّ حالَهُ، حيث أخبَرَ عنه بما قاله: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ [الشعراء: 18] ، إلى أنِ انتهتِ الآياتُ إلى القِصَّةِ المودَعةِ ذِكْرَ السَّحَرَةِ، فقال فرعونُ للملأِ حَوْلَهُ ما أدَّوْهُ عنه إلى غيرِهم، وسورةُ الشُّعَراءِ مكِّيَّةٌ كسُورةِ الأعرافِ، وترتيبُ الاقتصاصِ يَقتضي أنْ تكونَ قَبْلَها، وفي السُّورةِ الثَّانيةِ أخبَرَ عمَّا أدَّاهُ عنه ملؤُهُ إلى النَّاسِ الَّذينَ أجابوهُ بأنْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ، فكان قولُ فرعونَ للملأِ حَوْلَهُ سابقًا قولَ الملأِ الَّذينَ أدَّوْا إلى غيرِهم قولَهُ، فذُكِر حيثُ قُصِدَ اقتِصاصُ أوَّلِ مَن دَعاه موسى عليه السَّلامُ إلى طَاعةِ اللهِ تعالى [1315] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (2/647-649)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 126-127)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (1/203). . وقيل: لَمَّا تَقدَّم في سُورة الأعراف قولُه تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، فوقَعَ ذِكرُ الملأ مبعوثًا إليهم مع فِرعون؛ ناسَبَ ذلك أنْ يُذكَروا في الجوابِ؛ حتى يكونَ في قُوَّة أنْ لو قيل: بعث إليهم وخُوطِبوا فقالوا، ولم يكُن ليُناسِبَ: بعث إليهم فقال فرعون. ولَمَّا تَقدَّم في سُورة الشعراء قولُه: فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ، ثم جرَى ما بعدَ المحاورةِ ومراجعةِ الكلام بَينَ موسى عليه السلام وفرعون، ولم يقعِ الملأُ هنا ناسَبَ ذلك نِسبةُ القولِ لفِرعونَ؛ لأنَّه هو الذي راجَع وخُوطِب؛ فجاء كلٌّ على ما يُناسِب [1316] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/214- 215). .
قوله: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ فيه مناسبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال اللهُ تعالى هُنا في سورةِ الأعرافِ: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ، وقال في سورةِ الشُّعَراءِ: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ [الشعراء: 35] ، بزِيادة بِسِحْرِهِ؛ وذلك لأنَّه لَمَّا أَسْنَدَ الفِعْلَ في سورةِ الشُّعَراءِ إلى فِرعونَ، وحَكى ما قالَهُ، وأنَّه قال للملأِ حولَهُ من قومِهِ: إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ [الشعراء: 34] ، وكان فرعونُ أشدَّهم تمرُّدًا، وأوَّلَهم تجبُّرًا، وأبلغَهم فيما يُرَدُّ به الحقُّ، كان في قوله: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ [الشعراء: 35] ذِكْرُ السَّبَبِ الَّذي يَصِلُ به إلى الإخراجِ، وهو: بِسِحْرِهِ، فأَشْبَعَ المَقالَ بعْدَ قولِهِ: إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ [الشعراء: 34] بأنْ ذَكَرَ بِسِحْرِه وأمَّا في الأعرافِ فلم يذكُرْ فيه بِسِحْرِهِ لأنَّه مِن قولِ الملأِ، حيثُ قال: قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ* يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ، والملأُ لم يبلُغوا مَبْلَغَ فرعونَ في إبطالِ ما أَوْرَدَهُ موسى عليه السَّلامُ، ولم يَجْفوا في الخِطابِ جَفاءَهُ، فتناولَتِ الحِكايةُ ما قاله فرعونُ على جِهتِه بتكريرِ لَفْظِ السِّحْرِ من فِعْلِهِ بعدما أخرَجَه بصِفتِه، حيثُ قال: إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ [1317] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (2/651-653)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/215-216). .
وقيل: إنَّ المُناسَبةَ أنَّ آيةَ الأعرافِ بُنِيَتْ على الاقتصارِ، ولأنَّ لَفْظَ السَّاحِرِ في قوله قَبْلَ الآيةِ هنا: لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يدلُّ على السِّحْرِ بخِلافِ الآيةِ في سُورةِ الشُّعراءِ [1318] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 127)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (1/203). .
قوله: قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حاشِرِين فيه مناسبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال اللهُ تعالى هُنا في سورةِ الأعرافِ: وَأَرْسِلْ، وقال في سورةِ الشُّعَراءِ: وَابْعَثْ [الشعراء:36] ؛ قيل: هذا الاختِلافُ في التعبيرِ مَبْنِيٌّ على التَّرتيبِ الَّذي استقرَّ عليه المصحَفُ، فـ(أَرْسِلْ) أخصُّ في بابِ الإرسالِ مِنَ البَعْثِ؛ إذْ لا يُقالُ: (أَرْسِلْ) إلَّا فيما كان توجيهًا فيه معنى الانتقالِ، أمَّا (بَعَثَ) فأَوْسَعُ؛ فإنَّه يقَعُ بمعنى الإرسالِ وبمعنى الإحياءِ؛ ففيه اشتراكٌ، فلمَّا كان الإرسالُ أخصَّ وَقَعَ الإخبارُ به أوَّلًا، ثمَّ وَقَعَ ثانيًا بالبَعْثِ؛ تَنويعًا للعِبارةِ، وعلى التَّرتيبِ في مَوْضِعِ اللَّفظِ المُطَّرِدِ مِنَ القرآنِ، ولا يُمكِنُ على ما تقرَّرَ من ذلك العَكْسُ [1319] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (2/654-655)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/216). . وقيل: إنَّ (أَرْسِل) و(ابْعَثْ) بمعنًى واحدٍ؛ وإنَّما عُبِّر بكلِّ واحدٍ في مَوضِعٍ؛ تَكثيرًا للفائدةِ في التَّعبيرِ عن المرادِ بلَفظيْنِ متساوييْنِ معنًى [1320] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (1/204). .