موسوعة التفسير

سُورةُ الأنعامِ
الآيات (74 - 79)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ

غريب الكلمات :

مَلَكُوتَ: أي: مُلْك، أو هُو أعظمُ المُلْك، وهو مُختصٌّ بمُلْكِ اللهِ تعالى؛ والملكوتُ مَصدرٌ من المُلْك، كالرَّغبوتِ مِنَ الرَّغبة، والرَّهبوتِ من الرَّهبة؛ زِيدَتْ فيه الواوُ والتاءُ، وبني على (فَعَلُوت)، وهو بِناءُ مُبالغةٍ؛ فالملكوتُ أبلغُ مِن المُلك؛ لفَخامةِ لفْظِه، وأصلُ (ملك): يدُلُّ على قُوَّةٍ في الشَّيءِ وصِحَّةٍ [1203] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 156)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/414)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/351- 352)، ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص: 246-247)، ((المفردات)) للراغب (ص: 775)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (1/97)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (2/547). .
الْمُوقِنِينَ: جمْع موقِنٍ، واليقينُ من صفاتِ العلمِ، يُقال: علم يَقِينٍ، وهو سكونُ الفَهمِ، وثبوتُ الحُكم، واليَقينُ: زوالُ الشَّكِّ، أو الاعتقادُ الجازمُ الثَّابِتُ المطابِق للواقِع [1204] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/157)، ((المفردات)) للراغب (ص: 892)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 979). .
جَنَّ عَلَيهِ: أي: أظلَمَ عليه وسَترَه، وغَطَّى عليه، وأصل (جنن): السَّتْرُ والتستُّر [1205] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 156)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/175)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/421- 422)، ((المفردات)) للراغب (ص: 203)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (1/98)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 158). .
الْآفِلِينَ: أي: الغائبينَ عن العُيونِ، أي: مِن: أَفَل إذا غابَ، والأُفُول: غَيبوبةُ النيِّراتِ؛ كالقَمَر والنُّجومِ [1206] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 260)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/58)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/119)، ((المفردات)) للراغب (ص: 80)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (1/98). .
بَازِغًا: أي: طالعًا منتَشِرَ الضَّوءِ، أو مُبتدِئًا في الطُّلوعِ، وأصلُ البُزوغِ: طلوعُ الشَّيءِ وظهورُه [1207] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 156)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/120)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/244)، ((المفردات)) للراغب (ص: 122)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 158)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 251). .
فَطَرَ: أي: خلَق، وأصلُ الفَطْر: فتْحُ الشَّيءِ وإبرازُه، أو الشقُّ طولًا [1208] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 341)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/371)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/510)، ((المفردات)) للراغب (ص: 640). .
حَنِيفًا: أي: مقبلًا على الله، مُعرضًا عما سِواه، وقيل: مُستقيمًا، أو: مائلًا عَنِ الشِّرك والدِّينِ الباطِلِ؛ قَصدًا إلى التَّوحيدِ والدِّين الحقِّ المُستقيمِ، والدِّينُ الحنيفُ هو الإقبالُ على اللهِ وحدَه، والإعراضُ عما سِواه، وهو الإخلاصُ، والحنفُ: الميلُ عن الشيءِ بالإقبالِ على آخرَ، فالحَنَفُ: مَيلٌ عن الضَّلالِ إلى الاستقامةِ، وأصْله: مَيلٌ في إبْهامَي القَدمينِ، كلُّ واحدةٍ على صاحبتِها [1209] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/591)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 184)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/110)، ((المفردات)) للراغب (ص: 260)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 291)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (9/319)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (1/269)، ((تفسير ابن كثير)) (2/422)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 359). .

المعنى الإجمالي :

يقول تعالى: اذكرُ- يا محمَّدُ- حينَ قال إبراهيمُ لأبيهِ المُشْرِك: أتجعَلُ الأصنامَ آلهةً تَعبُدُها من دون اللهِ، إنِّي أراك وقومَك الذين يعبدونَ الأصنامَ في ضلالٍ بَيِّنٍ، وانحرافٍ واضحٍ عن الطَّريقِ المستقيمِ.
ثم يُخبِر تعالى أنَّه كما وفَّقَ إبراهيمَ في دِينِه، فهداه لتوحيدِه عزَّ وجلَّ، كذلك يُريه ما تشتَمِلُ عليه السَّمواتُ والأرضُ مِن مُلْكٍ عَظيمٍ وواسعٍ؛ ليستدلَّ بذلك على وحدانيَّة الله، واستحقاقِه وَحْدَه للعبادة، ولِيَكونَ من المُوقنينَ.
فحِين أظلَمَ عليه اللَّيل رأى كوكبًا، فقال على وجه التنزُّلِ مع الخَصْم: هذا ربِّي، فلَمَّا غاب ذلك الكوكَبُ قال إبراهيمُ عليه السَّلامُ: لا أحِبُّ المعبودَ المُتَغَيِّر، الذي يغيبُ وينصرِفُ عمَّن عَبَده، فلَمَّا رأى القَمَر في أوَّلِ طلوعه قال تنزُّلًا مع الخصم: هذا ربِّي، فلمَّا غاب قال إبراهيمُ: لَئِنْ لم يُوفِّقْني ربِّي لِلحَقِّ لأكونَنَّ من القومِ الضَّالِّينَ.
فلَمَّا رأى الشَّمْس في أوَّلِ طُلُوعها قال تنزُّلًا: هذا الطَّالِعُ ربِّي، وهو أكبرُ من الكوكَبِ والقمرِ، فلَمَّا غابت الشَّمْس قال إبراهيم: إنِّي أبْرَأُ من كلِّ ما تعبدونَه مع اللهِ، إنِّي أخلَصْتُ قَصْدي، وأَفْرَدْتُ العبادةَ لله الذي أبدَعَ السَّمواتِ والأرضَ على غيرِ مثالٍ سابقٍ، مائلًا عن الشِّرْك، مستقيمًا على التَّوحيدِ، وما أنا مِن المشْركينَ مع الله تعالى غَيرَه.

تفسير الآيات :

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (74).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا قال الله تعالى: قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا، ناسَبَ ذِكْرَ هذه الآيةِ هنا، وكان التَّذكارُ بقِصَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ مع أبيه وقومِه أنسَبَ؛ لرُجوعِ العَرَب إليه؛ إذ هو جَدُّهم الأعلى، فذُكِّروا بأنَّ إنكارَ هذا النبيِّ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم عليكم عِبادَةَ الأصنامِ هو مِثْلُ إنكارِ جَدِّكم إبراهيمَ على أبيه وقَوْمِه عِبادَتَها [1210] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/561). ، فقال تعالى:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً.
أي: واذكُرْ- يا محمَّدُ- حين قال إبراهيمُ عليه السَّلام لأبيهِ آزَرَ مُفارِقًا دِينَه، وعائبًا عبادَتَه الأصنامَ: أتَعبُدُ الأصنامَ من دون الله عزَّ وجلَّ [1211] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/342، 346)، ((تفسير ابن كثير)) (3/289)، ((تفسير السعدي)) (ص: 262)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/406). ؟!
إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ.
أي: إنِّي أراك وقومَك الذين يَعبُدونَ الأصنامَ في عُدولٍ واضِحٍ عن الصِّراطِ المستقيمِ، وانحرافٍ بيِّنٍ عن الطَّريقِ القويم، يَتبيَّنُ لكلِّ من أبصره مِمَّن له عقلٌ صحيح؛ حيث عبدْتُم مَن لا يَستحِقُّ مِن العبادةِ شيئًا، وتركتُم عبادةَ خالِقِكم ورازِقِكم سبحانه وتعالى [1212] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/346-347)، ((تفسير ابن كثير)) (3/289)، ((تفسير السعدي)) (ص: 262)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/408). !
كما قال الله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا [مريم: 41- 48] .
وعن أبي هريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((يَلْقَى إبراهيمُ أباه آزرَ يومَ القيامةِ، وعلى وَجْهِ آزرَ قتَرةٌ وغَبَرةٌ، فيقول له إبراهيمُ: ألم أقُلْ لك لا تَعصِني؟ فيقول أبوه: فاليومَ لا أَعصيكَ، فيقول إبراهيمُ: يا ربِّ، إنَّك وعدْتَني ألَّا تُخزيَني يومَ يُبعثونَ، فأيُّ خِزيٍ أَخْزى مِن أبي الأَبعدِ؟ فيقول اللهُ تعالى: إنِّي حرَّمتُ الجنَّةَ على الكافرينَ، ثم يُقال: يا إبراهيمُ، ما تحتَ رِجْلَيك؟ فينظر، فإذا هو بذِيخٍ مُلتطِّخٍ [1213] بذِيخٍ مُلتطِّخ: الذِيخُ: ذَكَرُ الضِّباعِ الكثيرُ الشَّعرِ. وَأَرَادَ بالتَّلطُّخِ: التلطُّخَ برَجِيعِه، أو بالطِّين. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (1/421)، ((النهاية)) لابن الأثير (2/174). ، فيُؤخذُ بقَوائمِه فيُلقَى في النَّارِ )) [1214] رواه البخاري (3350). .
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75).
أي: وكما بصَّرْنا إبراهيمَ عليه السَّلامُ في دِينه فوفَّقناه لتوحيدِ الله تعالى، خلافًا لِمَا كان عليه أبوه وقومُه من الضَّلالِ؛ نُرِيه أيضًا مُلْك السَّمواتِ والأرض، فيَرَى ما أبدَعَه اللهُ تعالى فيهما من مَخلوقاتٍ؛ كالشَّمْس والقَمَر والنُّجومِ والشَّجَر والدوابِّ وغير ذلك، ويَتبيَّنُ له ببصيرتِه ما اشتمَلَت عليه من أدلَّةِ وحدانيَّة اللهِ عزَّ وجلَّ، واستحقاقِه للعبادة وَحْده لا شريكَ له، ويَصِلُ إلى دَرجةِ اليقينِ؛ فلا يتطرَّقُ إليه شكٌّ أو وهْمٌ في ذلك مُطلقًا [1215] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/347، 353)، ((تفسير ابن كثير)) (3/290-291)، ((تفسير السعدي)) (ص: 262)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/409-412). .
قال عزَّ وجلَّ: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الأعراف: 185] .
وقال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 105- 106] .
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا كانت الأمورُ السماويَّةُ مُشاهَدةً لجميعِ الخَلْقِ: دَانِيهم وقاصِيهم، وهي أشرفُ مِنَ الأرضيَّةِ، فإذا بَطَلَت صلاحيتُها للإلهيَّة، بَطَلَت الأرضيَّةُ من بابِ الأَوْلى- نَصَبَ لهم الحِجَاجَ في أَمْرِها، فقال مسبِّبًا عن الإراءةِ المذكورةِ [1216] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/158). :
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي.
أي: فلمَّا واراه اللَّيلُ، وتغشَّاه بظَلامِه، أبصَرَ بعينِه كوكبًا حين طَلَع، فقال على وجْهِ التنزُّلِ مع قومِه [1217] فلم يكنْ هذا المقامُ مَقامَ نظَرٍ، بل كان مَقامَ مُناظرةٍ مِن إبراهيمَ عليه السَّلام لقومِه. وهذا اختيارُ ابنِ عطيةَ في ((تفسيره)) (2/313)، وابنِ كثيرٍ في ((تفسيره)) (3/292)، والسعديِّ في ((تفسيره)) (ص: 262)، والشِّنقيطيِّ في ((العذب النمير)) (1/427) ، وابنِ عاشورٍ في ((تفسيره)) (7/319).  قال الشنقيطي: (إبراهيم لَمْ يَظُنَّ يومًا في ربوبيةِ كوكبٍ، ولم يشكَّ يومًا واحدًا في ربوبيةِ اللَّهِ، هذا التحقيقُ الواجبُ اعتمادُه، الذي دَلَّ عليه كتابُ اللَّهِ وسنةُ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، أما القرآنُ: فقد دَلَّ على هذا في مواضعَ كثيرةٍ: منها: أنه أوَّلًا قال رافعًا لهذا الاحتمالِ: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ  فلما أَثْبَتَ له اليقينَ قال بَعْدَ ذلك مرتِّبًا عليه بالفاءِ: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي. والثانيةُ: أن الله ذَكَرَ أنه قال هذا في سبيلِ المناظرةِ والمُحاجَّةِ، لا في سبيلِ النظرِ بنفسِه، حيثُ قال: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ [الأنعام: 80] ، وقال: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ [الأنعام: 83] ومِن أصْرَحِ الأدلةِ في هذا: أن الله نَفَى عن إبراهيمَ كونَ الشركِ في ماضِي الزمنِ مُطْلقًا، حيث قال في آياتٍ كثيرةٍ من كتابِه: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 123] ونَفْيُ الكونِ الماضِي يستغرقُ الكونَ في جميعِ الزمنِ كائنًا ما كانَ، وكذلك قولُه: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران: 67] هذا جاء في آياتٍ كثيرةٍ، ونفيُ الإشراكِ عنه في الكونِ الماضي يدُلُّ بدلالةِ القرآنِ- دلالةِ المطابقةِ- على أنَّه لم يتقَدَّمْ له كونُ إشراكٍ ألبتةَ، والله يقولُ: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ [الأنبياء: 51] فعِلمُ الله به وبصلاحِه يدلُّ على ذلك، هذا هو الحقُّ الذي لا شكَّ فيه). ((العذب النمير)) (1/414). : هذا ربِّي [1218] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/354، 356)، ((تفسير ابن كثير)) (3/291)، ((تفسير السعدي)) (ص: 262)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/409-412). قال ابن تيمة: (قومُ إبراهيم كانوا مُقرِّين بالصَّانع، وكانوا يُشرِكون بعبادتِه كأمثالِهم مِن المشركين). ((الجواب الصحيح)) (1/354). .
فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ.
أي: فلمَّا غاب ذلك الكوكبُ وذهَبَ؛ قال إبراهيمُ عليه السَّلام: لا أُحِبُّ المعبودَ المتغيِّرَ، المُسَخَّر، والذي يغيبُ وينصرِفُ عمَّن عَبَدَه؛ لأنَّه لا يُمكِن أنْ يكونَ مَن هذا حالُه هو القائِمَ بمصالح عبادِه، المدبِّرَ لشؤون العالَم، الذي بيده النَّفْعُ والضُّرُّ، وعليه فلا يَصْلُح أن يكون إلهًا يستحِقُّ أن يُعبَدَ [1219] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/361)، ((بغية المرتاد)) لابن تيمية (ص: 374)، ((تفسير السعدي)) (ص: 262)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/422-423). وقال ابنُ تَيميَّة: (الأفولُ هو التغيُّبُ والاحتجابُ باتِّفاق أهل اللُّغةِ والتفسيرِ، وهو من الأمور الظاهرة في اللُّغة، وسواءٌ أُريد بالأفول ذَهابُ ضوءِ القمر والكواكب بطلوع الشمس، أو أُريد به سُقوطُه من جانبِ المغرب) ((مجموع الفتاوى)) (5/547-548). .
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا بصَّرَهم قُصورَ صغيرِ الكواكِبِ رَقِيَ النَّظَرُ إلى أكبَرَ منه، فسبَّبَ عن الإعراضِ عن الكواكِبِ لقصورِه قولَه [1220] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/160). :
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـذَا رَبِّي.
أي: فلمَّا رأى إبراهيمُ عليه السَّلامُ القَمَرَ في أوَّلِ طلوعِه قال تنزُّلًا: هذا ربِّي [1221] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/362)، ((تفسير السعدي)) (ص: 262)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/423). .
فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ.
أي: فلمَّا غاب القمرُ قال إبراهيم عليه السَّلامُ: لئِنْ لم يُوفِّقْني ربِّي لإصابةِ الحَقِّ لأكونَنَّ من القومِ الذين أخطَؤوا طريقَ الحَقِّ، فلم يُصيبُوا الهُدَى [1222] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/362)، ((تفسير السعدي)) (ص: 262)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/424). .
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) .
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَآ أَكْبَرُ.
أي: فلمَّا رأى إبراهيمُ عليه السَّلامُ الشَّمْسَ في أوَّلِ طُلُوعِها قال تنزُّلًا: هذا الطَّالِعُ المُنير ربِّي، وهو أكبرُ من الكوكَبِ ومن القَمَر [1223] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/362)، ((تفسير ابن كثير)) (3/291)، ((تفسير السعدي)) (ص: 262)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/424-425). .
فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ.
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا ثبَتَ بالدَّليلِ أنَّ هذه الكواكِبَ لا تَصلُحُ للربوبيَّة والإلهيَّة؛ لا جَرَم تبرَّأَ من الشِّرْك [1224] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/47). .
فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ.
أي: فلمَّا غابتِ الشَّمْسُ قال إبراهيمُ لقومِه: إنِّي أتبرَّأُ مِن كلِّ ما تَعبُدونَه مع اللهِ عزَّ وجلَّ [1225] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/362)، ((تفسير ابن كثير)) (3/291)، ((تفسير السعدي)) (ص: 262)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/425). .
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا أنكَرَ على أبيه عِبادةَ الأصنامِ وضَلَّلَه وقَوْمَه، ثم استدَلَّ على ضلالِهم بقضايا العُقولِ؛ إذ لا يُذعِنونَ للدَّليلِ السَّمعيِّ؛ لتوقُّفِه في الثُّبوتِ على مُقدِّماتٍ كثيرةٍ، وأَبْدَى تلك القضايا منوطةً بالحِسِّ الصادِقِ- تبرَّأَ من عِبادتِهم وأكَّد ذلك بـ(إنَّ)، ثمَّ أخبَرَ أنَّه وجَّه عبادَتَه لمُبدِع العالَم الذي هذه النَّيِّراتُ المُستَدَلُّ بها بَعْضُه، ثمَّ نفَى عن نفْسِه أنْ يكونَ من المُشْرِكين؛ مبالغةً في التبرُّؤِ منهم [1226] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/568). .
وأيضًا لَمَّا أبطَلَ جميعَ مذهَبِهم، أظهَرَ التوجُّهَ إلى الإلهِ الحَقِّ، وأنَّه قدِ انكشَفَ له الصَّوابُ بهذا النَّظَر، والمرادُ هم، ولكنَّ سَوْقَه على هذا الوَجْه أَدْعى لقَبولِهم إيَّاه، فقال مُستنتِجًا عمَّا دَلَّ عليه الدَّليلُ العقليُّ في الملكوتِ [1227] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/161). :
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ.
أي: إنِّي قدْ أخلصْتُ قَصْدي، وأفرَدْتُ عِبادتي لِمَن يَستحِقُّ ذلك، وهو اللهُ تعالى؛ لأنَّه الذي أَبْدَع خَلْقَ السَّمواتِ والأرضِ، على غير مثالٍ سَبَقَ؛ فهو القادِرُ وحْده على أن يُنْشِئَ الخَلْقَ من العَدَم إلى الوجودِ [1228] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/363)، ((تفسير ابن كثير)) (3/291)، ((تفسير السعدي)) (ص: 262)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/425). .
كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 21-22] .
وقال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيل النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْس وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54] .
حَنِيفًا.
أي: مائلًا عن الشِّرْك، مستقيمًا على التَّوحيدِ، مُقبلًا على الله تعالى، مُعْرِضًا عمَّا سِواه [1229] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/363)، ((تفسير ابن كثير)) (3/291)، ((تفسير السعدي)) (ص: 262)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/426-427). .
وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
مناسَبَتُها لما قَبْلَها:
لَمَّا تَبرَّأَ إبراهيمُ مِن أصنامِهم بقولِه: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، تَبَرَّأَ من القَوْمِ [1230] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/324). ، فقال:
وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
أي: ولسْتُ ممَّن يَدينُ بِدِينِكم، ويتَّبِعُ مِلَّتَكم- أيُّها المشركونَ- ولستُ أُشِركُ بربِّي شَيئًا [1231] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/363)، ((تفسير السعدي)) (ص: 262)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/427). .
كما قال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 120- 123] .

الفوائد التربوية :

1- قولُه تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا في إنكارِ إبراهيمَ على أبيه دَليلٌ على الإنكارِ على مَن أُمِر الإنسانُ بإكرامِه، إذا لم يَكُنْ على طَريقةٍ مُستقيمةٍ، وعلى البَدَاءةِ بمن يقرُبُ من الإنسانِ؛ كما قال: وَأَنْذِرْ عَشِيْرَتَكَ الْأَقْرَبِيْنَ [1232] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/562). .
2- في قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا التنبيهُ على اقتفاءِ مَن سَلَفَ مِن صالحي الآباءِ والأجدادِ؛ فقد احتجَّ سبحانه على مُشرِكي العَرَب بأحوالِ إبراهيم عليه السَّلام؛ وذلك لأنَّه يَعترفُ بفَضْلِه جميعُ الطَّوائفِ والمِلَل؛ فالمشرِكونَ كانوا معترفينَ بفَضْلِه، مُقِرِّين بأنَّهم مِن أولادِه، واليهودُ والنَّصارى والمسلمونَ كُلُّهم مُعَظِّمونَ له، مُعترفونَ بجلالةِ قَدْرِه، فلا جَرَمَ ذَكَرَ اللهُ حكايةَ حالِه في مَعْرِض الاحتجاجِ على المُشركينَ [1233] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/29)، ((تفسير أبي حيان)) (4/561). .

الفوائد العلمية واللطائف :

1- في قولِه تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً اشتَمَلَ كلامُ إبراهيمَ عليه السَّلام في هذه الآيَةِ على ذِكْرِ الحُجَّة العقليَّةِ على فسادِ قَولِ عَبَدَة الأصنامِ من وجهينِ: الأوَّلُ: أنَّ قوله: أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً يدلُّ على أنَّهم كانوا يَقولونَ بكَثرةِ الآلِهَةِ، إلَّا أنَّ القولَ بكَثرةِ الآلهةِ باطلٌ بالدَّليلِ العقليِّ، الذي فُهِمَ مِن قوله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا، والثاني: أنَّ هذه الأصنامَ لو حَصَلَت لها قدرةٌ على الخيرِ والشَّرِّ لكان الصَّنمُ الواحدُ كافيًا، فلمَّا لم يكُنِ الواحِدُ كافيًا دلَّ ذلك على أنَّها وإن كثُرت فلا نَفْعَ فيها البتَّةَ [1234] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/34). .
2- في قوله: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً أي: اذكرْ قولَه، وحِكمةُ التَّذكيرِ بوقتِه التَّنبيهُ على أنَّ هذا لم يَزلْ ثابتًا مُقرَّرًا على ألْسنةِ جميعِ الأنبياءِ في جميعِ الدُّهور، وكان في هذه المحاجَّةِ التصريحُ بما لَوَّح إليه أوَّلَ هذه السورةِ مِن إبطالِ هذا المذهبِ، وانعطَفَ هذا على ذاكَ أيَّ انعطافٍ! وصار كأنَّه قيل: ثمَّ الذين كفروا بربِّهم يعدلون الأصنامَ والنجومَ والنورَ والظُّلمةَ، فنبِّهْهم يا رسولَ اللهِ على ذلك؛ بأنَّه لا مُتصرِّفَ غيرُنا، اذكرْ لهم أنِّي أنا الذي خلقتُهم وخلقتُ جميعَ ما يُشاهِدون مِن الجواهرِ والأعراضِ، فإنْ تَنبَّهوا فهو حظُّهم، وإلَّا فاذْكُرْ لهم مُحاجَّةَ خليلِنا إبراهيمَ عليه السَّلامُ، إذ قال: لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً [1235] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/155). .
3- قوله تعالى: إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِيْنٍ فيه دليلٌ على هِدايةِ إبراهيمَ وعِصمَتِه مِن سَبْق ما يُوهِم ظاهِرُ قولِه: هَذَا رَبِّي مِن نِسبةِ ذلك إليه على أنَّه أخبَرَ عن نَفْسِه، وإنَّما ذلك على سَبيلِ التنزُّلِ مع الخَصْمِ، وتقريرِ ما يَبني عليه مِن استحالةِ أن يكون متَّصفًا بصفاتِ المخلوقين [1236] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/562). .
4- قال تعالى: إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ فائدةُ عَطفِ وَقَوْمَكَ على ضَميرِ المخاطَبِ، مع العِلم بأنَّ رؤيتَه أباه في ضَلالٍ تَقتضي أنْ يرَى مماثِلِيه في ضلالٍ أيضًا- أنَّ المقامَ مقامُ صراحةٍ، لا يُكتَفَى فيه بدَلالةِ الالْتزامِ، ولِيُنبِّئَه من أوَّلِ وهْلةٍ على أنَّ موافقةَ جَمْع عظيمٍ إيَّاه على ضَلالِه لا تُعَضِّدُ دِينَه، ولا تُشَكِّك مَن يُنْكِر عليه ما هو فيه [1237] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/314). .
5- في قوله: فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِيْنَ احتجَّ عليهم بالأُفولِ دون البُزوغِ، وكِلاهما انتقالٌ من حالٍ إلى حالٍ؛ في قوله: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْس بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ؛ لأنَّ الاحتجاجَ بالأُفولِ أظهَرُ؛ لأنَّه انتقالٌ مع خفاءٍ واحتجابٍ، والبزوغُ وإنْ كان طرأَ بعدَ أُفولٍ، لكنَّ الأفولَ السَّابقَ غيرُ مشاهَدٍ لهم؛ فكان الأفولُ أخْصرَ في الاحتجاجِ مِن أنْ يقولَ: إنَّ هذا البازغَ كان مِن قبلُ آفِلًا [1238] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (1/432)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/321). ، وإنَّما تريَّثَ إلى أُفولِ القَمَرِ فاستدلَّ به على انتفاءِ إلهيَّتِه، ولم يَنْفِها عنه بمُجرَّدِ رُؤيَتِه بازغًا، مع أنَّ أُفُولَه مُحقَّقٌ بحَسَب المعتادِ؛ لأنَّه أرادَ أن يُقيمَ الاستدلالَ على أَساسِ المشاهَدةِ، على ما هو المعروفُ في العُقولِ؛ لأنَّ المشاهدةَ أقوى [1239] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/322). .
6- جاء بلفْظِ الْآفِلِيْنَ ليدُلَّ على أنَّ ثَمَّ آفلينَ كثيرينَ، ساواهم هذا الكوكبُ في الأُفولِ، فلا مزيةَ له عليهم في أن يُعبَدَ؛ للاشتراكِ في الصِّفةِ الدالَّةِ على الحدوثِ [1240] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/565). .
7- قوله تعالى: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي لم يأتِ في الكواكب (رأى كوكبًا بازغًا)؛ لأنَّه أوَّلًا ما ارتقبَ حتَّى بزَغَ الكوكبُ؛ لأنَّه بإظلام اللَّيل تظهرُ الكواكبُ بخلاف حالِه مع القَمَر والشَّمْس؛ فإنَّه لَمَّا أوضَحَ لهم أنَّ هذا النَّيِّرَ- وهو الكوكَبُ الذي رآه- لا يَصلُحُ أن يكون ربًّا؛ ارتقَبَ ما هو أنورُ منه وأَضْوَأُ؛ على سَبيلِ إلحاقِه بالكوكبِ، والاستدلالِ على أنَّه لا يَصلُح للعِبادةِ، فرآه أوَّلَ طُلوعِه وهو البزوغُ، ثم عَمِلَ كذلك في الشَّمْس؛ ارتقَبَها إذ كانتْ أنْوَرَ من القَمَرِ وأضْوَأَ وأكبَرَ جِرْمًا وأعَمَّ نَفْعًا؛ فقال ذلك على سَبيلِ الاحتجاجِ عليهم، وبَيَّن أنَّها مُساوِيَةٌ للقَمَر والكواكِبِ في صفةِ الحدوثِ [1241] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/565، 566). .
8- قوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِيْ رَبِّيْ لَأَكُوْنَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّيْنَ يدلُّ على أنَّ الهدايةَ ليستْ إلَّا مِن اللهِ تعالى [1242] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/46). .
9- قال في الشَّمْس هَذَا مع أنَّها مؤنَّثةٌ، ولم يَقُلْ (هَذِه)؛ لوجوهٍ: أحدُها: أنَّ الشَّمْس بمعنى الضِّياءِ والنورِ، فحُمِلَ اللَّفظُ على التأويلِ فذُكِّرَ. وثانيها: أنَّ الشَّمْس لم يحصُلْ فيها علامةُ التأنيثِ، فلمَّا أشبَهَ لفظُها لفظَ المُذكَّر، وكان تأويلُها تأويلَ النُّورِ؛ صَلَح التَّذكيرُ من هاتين الجِهَتينِ، وثالثها: أراد: هذا الطَّالِعُ، أو هذا الذي أراه، ورابعُها: المقصودُ منه رعايةُ الأدَبِ، وهو ترْكُ التأنيثِ عندَ ذِكْرِ اللَّفظِ الدَّالِّ على الربوبيَّة، وخامسها: لوجود المُسَوِّغ، وهو تذكيرُ الخبَرِ؛ إظهارًا لتعظيمِها، إبعادًا عن التُّهمةِ، وسادسها: للتَّنبيهِ من أوَّلِ الأَمْرِ على أنَّ المؤنَّثَ لا يَصْلُح للربوبيَّةِ [1243] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/46)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/161). .
10- في قولِه تعالى: فَلَمَا أَفَلَتْ مسألةٌ: لَمَّا كانَ الأُفولُ حاصلًا في الشَّمْس، والأُفولُ يمنعُ من صفةِ الربوبيَّة، وإذا ثبت امتناعُ صفةِ الربوبيَّة للشَّمس كان امتناعُ حصولها للقمرِ ولسائرِ الكواكبِ أَوْلَى، وبهذا الطَّريقِ يظهر أن ذِكْرَ هذا الكلام في الشَّمْس يُغني عن ذِكْره في القَمَر والكواكب، فلِمَ لم يقتصِرْ على ذِكْر الشَّمْس رعايةً للإيجازِ والاختصارِ؟
قلنا: إنَّ الأخْذَ من الأدْوَنِ فالأدونِ، مترقيًا إلى الأعلى فالأعلى؛ له نوعُ تأثيرٍ في التقريرِ والبيانِ والتَّأكيدِ، لا يحصُل مِن غيره، فكان ذِكْرُه على هذا الوَجْه أَوْلى [1244] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/46). .
11- في قوله تعالى: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، قد يقول قائلٌ: هَبْ أنَّه ثبت بالدَّليل أنَّ الكواكبَ والشَّمْس والقَمرَ لا تصلحُ للربوبيَّة والإلهيَّة، لكنْ لا يلزمُ مِن هذا القَدْر نفيُ الشَّريكِ مُطلقًا، وإثباتُ التَّوحيد، فلِمَ فَرَّعَ على قيامِ الدَّليل على كونِ هذه الكواكِبِ غيرَ صالحةٍ للربوبيَّة، الجَزْمَ بإثباتِ التوحيدِ مطلقًا.
والجوابُ: أنَّ القومَ كانوا مُساعدينَ على نفْيِ سائرِ الشُّركاءِ، وإنَّما نازعوا في هذه الصورةِ المُعَيَّنة، فلمَّا ثبت بالدَّليلِ أنَّ هذه الأشياءَ ليست أربابًا ولا آلهةً، وثبت بالاتِّفاقِ نَفْيُ غيرِها؛ لا جَرَمَ حصل الجَزْمُ بنفيِ الشُّركاءِ على الإطلاقِ [1245] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/47). .

بلاغة الآيات :

1- قوله: أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ الاستفهامُ للإنكارِ والتَّوبيخِ، وقدْ نبَّه بهذا الإنكارِ على أنَّ مَعرفةَ بُطلانِ ما هو مُتدَيَّنٌ به لا يحتاجُ إلى كثيرِ تأمُّلٍ، بل هو أمرٌ بديهيٌّ أو قريبٌ منه؛ فإنَّهم يُباشِرونَ أمْرها بجميعِ جوانبِهم، ويَعلَمون أنَّها مصنوعةٌ، وليستْ بصانعةٍ، وكثرتُها تدلُّ على بُطلانِ إلهيتِها بما أشارَ إليه قولُه تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [1246] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/562)، ((تفسير ابن عادل)) (8/231)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/157)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/312). [الأنبياء: 22] .
- وعبَّر بصيغةِ الافتعالِ في (تتَّخِذ)- فهو افتعالٌ من الأخْذِ- للدَّلالة على التكلُّفِ للمبالغةِ في تَحصيل الفِعلِ، وأنَّ ذلك مُصطنَعٌ مُفتعَلٌ، وأنَّ الأصنامَ ليست أهلًا للإلهيَّة، وفي ذلك تعريضٌ بسخافةِ عَقْلِه؛ أن يجعَلَ إلهَه شيئًا هو صَنَعَه [1247] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/313). .
- وفي ذِكْره أَصْنَامًا آلِهَةً بالجمْعِ تقبيحٌ عظيمٌ لِفِعْلِهم [1248] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/562). .
- قوله: إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ جملةٌ مُبَيِّنةٌ للإنكارِ في جملة: أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً، وأكَّدَ الإخبارَ بحرْفِ التأكيدِ؛ لِمَا يتضمَّنُه ذلك الإخبارُ مِن كَوْنِ ضَلالِهم بيِّنًا [1249] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/313). .
2- قوله: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جملةُ اعتراضٍ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه، وهما قوله: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ وجملةُ الاستدلالِ عليهم بإفرادِ المعبودِ، وكونِه لا يُشْبِه المخلوقين فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيل...؛ إذ إنَّ أباه وقومَه كانوا يعبدونَ الأصنامَ والكواكِبَ، فأراد أن يُنَبِّهَهم على ضلالَتِهم، ويُرْشِدَهم إلى الحقِّ من طريقِ المُناظَرةِ والاستدلالِ [1250] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/169)، ((تفسير أبي حيان)) (4/562). .
3- قوله: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي
- فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ قَصَر الفِعلَ جَنَّ- وإنْ كان مُتعدِّيًا-؛ دَلالةً على شِدَّةِ ظلامِ تلك اللَّيلةِ؛ ولذلك عدَّاه بأداةِ الاستعلاءِ فقال: عَلَيْهِ اللَّيْلُ، أي وقَعَ السَّترُ عليه [1251] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/158). ؛ فقوله: جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ يُقصَد به المبالغةُ في السَّترِ بالظُّلْمَةِ حتَّى صارتْ كأنَّها غِطاءٌ؛ إذ الأصْلُ أنْ يُقالَ: جَنَّه اللَّيلُ، أي: أخْفاهُ [1252] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/318). .
- قوله: قَالَ هَذَا رَبِّي جملةٌ مستأنفةٌ استئنافًا بيانيًّا؛ جوابًا لسؤالٍ ينشأُ عن مَضمونِ جملةِ (رأى كوكبًا)، وهو أنْ يسأل سائِلٌ: فماذا كان عِندَما رآه؟ فيكون قولُه: قَالَ هَذَا رَبِّي جوابًا لذلِك [1253] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/318). .
- واسمُ الإشارةِ هَذَا هنا لقَصْدِ تمييزِ الكوكَبِ مِنْ بينِ الكواكِبِ، ولكِنْ إجراؤُه على نظيرَيهِ في قوله حينَ رأى القَمَر، وحين رأى الشَّمْس: «هذا ربِّي- هذا ربِّي» يُعَيِّن أن يكون القَصْدُ الأصليُّ منه هو الكنايةَ بالإشارةِ عن كونِ المشارِ إليه أمرًا مطلوبًا مبحوثًا عنه، فإذا عُثِرَ عليه أُشِيرَ إليه [1254] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/318-321). .
- وتعريف الجزأينِ في قولِه: هَذَا رَبِّي مفيدٌ للقصر؛ لأنه لم يقل: هذا ربٌّ؛ فدلَّ على أنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ أراد استدراجَ قومِه، فابتدأ بإظهارِ أنَّه لا يرى تعدُّدَ الآلهَةِ؛ لِيصِلَ بهم إلى التوحيدِ، واستبقى واحدًا من معبوداتِهم، ففَرَض استحقاقَه الإلهيَّةَ؛ كيلا ينفرُوا من الإصغاءِ إلى استدلالِه [1255] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/319). .
4- قوله: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ
- قوله: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي التقديرُ: فطَلَع القمرُ، فلمَّا رآه بازغًا، فحُذِفت الجملةُ للإيجازِ، وهو يقتضي أنَّ القَمَرَ طلَعَ بعد أُفُولِ الكوكبِ [1256] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/321). .
- وأفاد تعريفُ الجزأينِ هَذَا رَبِّي أنه أكثرُ ضوءًا من الكوكب؛ فإذا كان استحقاقُ الإلهيَّة بسبب النُّور، فالذي هو أشدُّ نورًا أَوْلَى بها من الأَضْعَفِ [1257] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/321). .
- قوله: قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فيه تعريضٌ حسنٌ؛ حيث عرَّض في كلامِه بأنَّ له ربًّا يهديه، وهم لا يُنكِرون عليه ذلك؛ لأنَّهم قائلون بعدَّةِ أربابٍ، وفي هذا تهيئةٌ لنفوسِ قَومِه لِمَا عَزَمَ عليه من التَّصريحِ بأنَّ له ربًّا غيرَ الكواكب، ثم عرَّضَ بقومِه أنَّهم ضالُّون، وهيَّأَهم قبل المصارَحَةِ للعِلْمِ بأنَّهم ضالُّون؛ لأنَّ قَوْلَه: لَأَكُوْنَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّيْنَ يُدخِل على نفوسِهم الشَّكَّ في معتقَدِهم أن يكونَ ضَلالًا؛ ولأجَل هذا التعريضِ لم يقُلْ: لأكونَنَّ ضالًّا، وقال: لَأَكُوْنَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّيْنَ ليشيرَ إلى أنَّ في الناس قومًا ضالِّين، يعني: قومَه [1258] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/321). .
- والتعريضُ بضلالهم هنا أصرحُ وأقْوَى مِن قولِه أوَّلًا: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، وإنَّما ترقَّى إلى ذلك؛ لأنَّ الخُصومَ قد أقامَتْ عليه الاستدلالَ الأوَّلَ حُجَّةً، فأَنِسُوا بالقَدْحِ في مُعتقَدِهم، ولو قيل هذا في الأوَّل، فلعَلَّهم كانوا يَنْفِرون، ولا يُصغونَ إلى الاستدلالِ، فما عرَّض إبراهيمُ عليه السَّلام بأنَّهم في ضلالةٍ إلَّا بعد أن وَثِقَ بإصغائِهم إلى تمامِ المقصودِ، واستماعِهم إلى آخِرِه؛ ولذلك ترقَّى في النَّوبةِ الثالثةِ إلى التَّصريحِ بالبراءةِ منهم، والتقريعِ بأنَّهم على شِرْكٍ، حين قيامِ الحُجَّة عليهم، ووضوحِ الحَقِّ، وبلوغِه من الظُّهورِ غايةَ المقصودِ [1259] يُنظر: ((تفسير الزمخشري- الحاشية)) (2/40)، ((تفسير القاسمي)) (4/403). ؛ فعرَّض بضلالِهم في أمْرِ القَمَر؛ لأنه أَيِسَ منهم في أمْرِ الكوكب؛ ولهذا أعْلَن في أمْرِ الشَّمْس البَراءةَ منها عن طريقِ استدراجِ الخَصْمِ، وإيقاعِه تحتَ الحُجَّةِ [1260] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (3/157). .
5- قوله: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فيه التأكيدُ بـ(إنَّ)، ثم الإخبارُ أنَّه وجَّه عبادَتَه لِمُبدِع العالَم، الذي هذه النيِّراتُ المستدَلُّ بها بعضُه، ثم نفى عن نفْسِه أن يكون من المشركينَ؛ مبالغةً في التبرُّؤِ منهم [1261] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/568). ؛ فإنَّ قوله: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أفاد تأكيدًا لجملة إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِيْ فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا أيضًا [1262] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/324). .