موسوعة التفسير

سورةُ الإسراءِ
الآيات (4-8)

ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ

غريب الكلمات :

وَقَضَيْنَا: أي: أخبَرْنا وأعلَمْنا، فهذا قضاءٌ بالإعلامِ والفصلِ في الحكمِ، والقضاءُ: فَصْلُ الأمْرِ؛ قولًا كان ذلِك أو فِعلًا، وأصلُ (قضي): يَدُلُّ على إحكامِ أمرٍ وإتقانِه، وإنفاذِه لجِهتِه [86] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 251)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/99)، ((المفردات)) للراغب (ص: 674)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 202).   .
فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ: أي: طافُوا بينَ الدِّيارِ يَطلُبونَكم ويَقتُلونَكم ذاهِبينَ وجائِينَ، ومنه: الجَوسُ: وهو التَّردُّد خِلالَ الدُّورِ والبُيوتِ بالفَسادِ في الغارةِ ونحوِها، وأصلُ (جوس): يَدُلُّ على تَخَلُّلِ الشَّيءِ، وأصلُ الخلالِ: مِن الخَلَلِ: وهو الفُرجةُ بينَ الشيئينِ [87] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 251)، ((تفسير ابن جرير)) (11/483)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/495)، ((البسيط)) للواحدي (10/468) (13/257)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 264)، ((فتح القدير)) للشوكاني (3/249).   .
الْكَرَّةَ: الرَّجْعةَ والدَّوْلةَ، وأصلُ (كرر): يدُلُّ على العَطفِ والرُّجوعِ [88] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 251)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (9/327)، ((البسيط)) للواحدي (13/259)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 202)، ((تفسير الألوسي)) (8/18).   .
نَفِيرًا: أي: عَددًا، وأصلُه مَن يَنفِرُ مع الرَّجُلِ مِنْ عَشيرتِه وأهلِ بَيتِه، وأصلُ (نفر): يدُلُّ على الانزِعاجِ والفَزَعِ إلى الشَّيءِ [89] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 251)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 465)، إلى ((المفردات)) للراغب (ص: 817)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 264).   .
لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ: أي: ليَجعَلوا آثارَ المَساءةِ مِن غَمٍّ وحُزنٍ باديةً على وجوهِكم، يقال: ساءه يَسوؤُه، أي: غَمَّه وأحزَنَه [90] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (13/264)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/341)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/37).   .
 وَلِيُتَبِّرُوا: أي: لِيُدَمِّروا ويُخَرِّبوا، وأصلُ (تبر): يدُلُّ على هَلاكٍ [91] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 251)، ((تفسير ابن جرير)) (14/489)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/362)، ((المفردات)) للراغب (ص: 162)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 202)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 264)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 990).   .
مَا عَلَوْا: أي: ما غَلَبوا عليه مِن الأقطارِ، ومَلَكوه مِن البِلادِ، وأصلُ العُلُوِّ هنا: يدُلُّ على الاستِيلاءِ والغَلَبِ [92] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/440)، ((تفسير البغوي)) (3/123)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/37).   .
حَصِيرًا: أي: محبِسًا وسِجنًا [93] قال الواحدي: (حَصِيرًا، أي: محبِسًا ومحصِرًا، وهو قولُ جميعِ أهلِ اللغةِ). ((البسيط)) (13/267).   ، مِن حَصَرْتُه، أي: حبسْتُه. أو: بساطًا ومهادًا، مِن الحصيرِ، أي: البِساطِ الصَّغيرِ، وأصلُ (حصر): يدلُّ على حَبسٍ ومَنعٍ [94] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 251)، ((تفسير ابن جرير)) (14/509)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/72)، ((البسيط)) للواحدي (13/267)، ((المفردات)) للراغب (ص: 238)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 202).   .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى: وأعْلَمْنا بني إسرائيلَ في التَّوراةِ أنَّهم سيُفسِدون مَرَّتينِ في الأرضِ وسيستكبرونَ بغيرِ حقٍّ استكبارًا شديدًا. فإذا حان وَقتُ عُقوبتِكم على إفسادِكم الأوَّلِ سَلَّطْنا عليكم عِبادًا لنا ذَوي شَجاعةٍ وقُوَّةٍ شَديدةٍ، فطافوا بينَ دِيارِكم يقتُلونَكم ويُشَرِّدونَكم، وكان ذلك وَعدًا لا بدَّ مِن وُقوعِه، ثمَّ رَدَدْنا لكم -يا بني إسرائيلَ- الغَلَبةَ والظُّهورَ على أعدائِكم الذينَ سُلِّطوا عليكم، وأعطيناكم الأموالَ والأولادَ بكثرةٍ، وقَوَّيناكم وجَعَلْناكم أكثَرَ جُندًا مِن عَدوِّكم. ثم قال تعالى: إنْ أحسَنْتُم -يا بني إسرائيلَ- فقد أحسَنتُم لأنفُسِكم؛ لأنَّ ثَوابَ ذلك عائِدٌ إليكم، وإن أسأْتُم فضرَرُ ذلك عائِدٌ عليكم.
فإذا حان مَوعِدُ العُقوبةِ على إفسادِكم الثَّاني، سَلَّطْنا عليكم أعداءَكم مَرَّةً أخرى؛ لِيُذِلُّوكم ويَقهَروكم، فتبدوَ آثارُ الكآبةِ والإهانةِ والمَذلَّةِ على وُجوهِكم، ولِيَدخُلوا مسجِدَ بيتِ المَقدِسِ، كما دخَلوه أوَّلَ مَرَّةٍ، ولِيُدَمِّروا كُلَّ ما ظهَروا عليه تَدميرًا كامِلًا.
 ثم قال تعالى: عسَى رَبُّكم -يا بني إسرائيلَ- أن يَرحَمَكم بعدَ انتِقامِه إنْ تُبتُم وأصلَحْتُم، وإن عُدتُم إلى الإفسادِ والظُّلمِ عُدْنا إلى عِقابِكم ومَذَلَّتِكم. وجعَلْنا جَهنَّمَ للكافرينَ سِجنًا لا يخرجون منها أبدًا.

تفسير الآيات:

وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
هذه الآيةُ عَطفٌ على جُملةِ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ، أي: آتَينا موسى الكِتابَ هُدًى، وبيَّنَّا لبني إسرائيلَ في الكتابِ ما يحُلُّ بهم مِن جَرَّاءِ مُخالفةِ هَديِ التَّوراةِ؛ إعلامًا لهذه الأمَّةِ بأنَّ اللهَ لم يدَّخِرْ أولئك إرشادًا ونُصحًا؛ فالمناسَبةُ ظاهِرةٌ [95] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/28).   .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى إنعامَه على بني إسرائيلَ بإنزالِ التَّوراةِ عليهم، وبأنَّه جعَلَ التَّوراةَ هُدًى لهم؛ بيَّن أنَّهم ما اهتَدَوا بهُداه، بل وقَعُوا في الفَسادِ؛ فقال تعالى [96] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/299).   :
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ.
أي: وأعلَمْنا بني إسرائيلَ في التَّوراةِ [97] وممَّن ذهب إلى هذا المعنى لـ قَضَيْنَا والْكِتَابِ: ابنُ جريرٍ، والواحدي، وابنُ كثير، والسعدي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/454)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 628)، ((تفسير ابن كثير)) (5/47)، ((تفسير السعدي)) (ص: 453)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/14). وممن قال بهذا القولِ في معنى قَضَيْنَا مِن السلفِ: ابنُ عباس في روايةٍ عنه، وابنُ زيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/455). قال ابن جزي: (وقيل: قَضَينا إليه من القضاءِ والقَدَر، والكتابُ على هذا: اللَّوحُ المحفوظُ الذي كُتِبَت فيه مقاديرُ الأشياءِ، وإلى بمعنى على لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ هذه الجملةُ بيانٌ للمَقضيِّ). ((تفسير ابن جزي)) (1/441). وممن اختار هذا القولَ: القاسمي. يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (6/441- 442). وممن قال مِن السلفِ بنحوِ هذا القولِ في قَضَيْنَا: ابنُ عباسٍ في روايةٍ عنه، وقتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/455)، ((تفسير الماوردي)) (3/228)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/10). وقال ابنُ عطيَّةَ: (تلخيصُ المعنى عندي أنَّ هذا الأمرَ هو مِمَّا قضاه اللهُ تعالى في أمِّ الكِتابِ على بني إسرائيلَ، وألزَمَهم إيَّاه، ثمَّ أخبَرَهم به في التَّوراةِ على لسانِ موسى، فلمَّا أراد هنا الإعلامَ لنا بالأمرينِ جميعًا في إيجازٍ، جعَلَ (قَضَيْنا) دالَّةً على النُّفوذِ في أمِّ الكتاب، وقرَنَ بها [إلى] دالَّةً على إنزالِ الخَبرِ بذلك إلى بني إسرائيلَ، والمعنى المقصودُ مَفهومٌ خِلالَ هذه الألفاظِ؛ ولهذا فسَّرَ ابنُ عبَّاسٍ مَرَّةً بأن قال: قَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ معناه: أعلَمْناهم، وقال مَرَّةً: معناه: قَضَينا عليهم). ((تفسير ابن عطية)) (3/437). -بما سبَقَ في عِلْمِنا- أنَّهم سيُفسِدونَ في الأرضِ مَرَّتَينِ؛ بالكُفرِ والمعاصي، ومُخالَفةِ أحكامِ التَّوراةِ [98] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/454)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 628)، ((تفسير ابن عطية)) (3/437)، ((تفسير ابن كثير)) (5/47)، ((تفسير السعدي)) (ص: 453)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/28). وقيل: المرادُ بالأرضِ هنا: أرضُ الشَّامِ، وبيتُ المقدِس. وممَّن ذهب إلى ذلك: القرطبي، والخازن، والعليمي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/214)، ((تفسير الخازن)) (3/117)، ((تفسير العليمي)) (4/79)، ((تفسير الشوكاني)) (3/249). وقيل: هي أرضُ مِصرَ. وممَّن قال بذلك: الواحدي، وابنُ الجوزي، والرازي، والرسعني. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/97)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/10)، ((تفسير الرازي)) (20/299)، ((تفسير الرسعني)) (4/125). قال ابنُ تيميةَ: (كانت الأولى بعد سُلَيمانَ، وكانت الثَّانيةُ بعد زكريَّا ويحيى والمسيحِ، لَمَّا قتلوا يحيى بن زكريَّا الذي يسَمِّيه أهلُ الكِتابِ يوحنَّا المَعمداني. وكثيرٌ مِن المذكورين بالعِلمِ يظُنُّ أنَّ بُختنَصَّر هو الذي قَدِمَ الشَّامَ لَمَّا قتل يحيى بن زكريا، وهذا عند أهلِ العِلمِ مِن أهلِ الكتابِ وعندَ مَن له خبرةٌ مِن عُلَماءِ المُسلِمينَ: باطِلٌ. والمتواتِرُ أنَّ بختنَصَّر هو الذي قَدِمَ في المرَّةِ الأولى). ((الجواب الصحيح)) (6/338). وممن قال مِن السلفِ أنَّ أولَ الفسادينِ كان قتلَ زكريَّا: ابنُ مسعودٍ، وابنُ عباسٍ، وابنُ زيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/456)، ((تفسير الماوردي)) (3/229). وقال الماوردي: (أمَّا المقتولُ مِن الأنبياءِ في الفَسادِ الثَّاني فيحيى بنُ زكريَّا في قَولِ الجميعِ). ((تفسير الماوردي)) (3/229). .
وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا .
أي: وأعلمناهم أيضًا أنَّهم سَيَستَكبِرونَ على اللهِ بمُخالفةِ أمرِه، والتَّجَبُّرِ على عبادِه، استكبارًا وطُغيانًا شَديدًا [99] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/454، 469)، ((تفسير القرطبي)) (10/214)، ((تفسير ابن كثير)) (5/47).   .
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5).
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ.
أي: فإذا حان وَقتُ عُقوبتِكم -يا بَني إسرائيلَ- على أُولى المَرَّتَينِ اللَّتَينِ تُفسِدونَ فيهما في الأرضِ؛ سَلَّطنا عليكم جُنْدًا مِن خَلْقِنا، أصحابَ بَطشٍ وقُوَّةٍ شَديدةٍ [100] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/469، 470)، ((تفسير ابن كثير)) (5/47)، ((تفسير السعدي)) (ص: 453)، ((التفسير الوسيط)) لطنطاوي (8/291). قال السعدي: (اختلف المُفَسِّرونَ في تَعيينِ هؤلاء المُسَلَّطينَ، إلَّا أنَّهم اتَّفَقوا على أنَّهم قَومٌ كُفَّارٌ). ((تفسير السعدي)) (ص: 454). وقال ابنُ تيمية: (بيتُ المَقدِس خُرِّبَ مَرَّتين؛ فالخرابُ الأوَّلُ: لَمَّا جاء بُختنَصَّر وسَباهم إلى بابل وبَقِيَ خرابًا سبعين سنة، والخرابُ الثاني: بعد المسيحِ بنَحوِ سَبعينَ سَنةً... فبعد الخَرابِ الثَّاني تَفَرَّقوا في الأرض ولم يَبقَ لهم مُلكٌ). ((الجواب الصحيح)) (5/94، 95). وقال ابن عاشور: (هذه الآيةُ تُشيرُ إلى حوادثَ عظيمةٍ بينَ بني إسرائيلَ وأعدائِهم مِن أمَّتين عظيمتينِ: حوادث بينَهم وبينَ البابليينَ، وحوادث بينَهم وبينَ الرُّومانيينَ... فالمرةُ الأُولَى هي مجموعُ حوادثَ متسلسلةٍ، تُسمَّى في التاريخِ بـ «الأسر البابلي»، وهي غزواتُ بُختنَصَّر -ملكِ بابلَ وآشورَ- بلادَ أورشليمَ. والغزوُ الأوَّلُ كان سنةَ «606» قبلَ المسيحِ، أسَر جماعاتٍ كثيرةً مِن اليهودِ، ويُسمَّى «الأسر الأول». ثم غزاهم أيضًا غزوًا يُسمَّى «الأسر الثاني»، وهو أعظمُ مِن الأوَّلِ، كان سنة «598» قبلَ المسيحِ، وأسَر ملكَ يهوذا وجمعًا غفيرًا مِن الإسرائيليينَ، وأخَذ الذهبَ الذي في هيكلِ سليمانَ وما فيه مِن الآنيةِ النفيسةِ. والأسرُ الثالثُ المبير سنة «588» قبلَ المسيحِ، غزاهم بُختنَصَّر، وسبى كلَّ شعبِ يهوذا، وأحرَق هيكلَ سليمانَ، وبقِيت أورشليمُ خرابًا يبابًا... وأما المرة الثانيةُ فهي سلسلةُ غزواتِ الرومانيينَ بلادَ أورشليمَ). ((تفسير ابن عاشور)) (15/29، 30). وقال ابن كثير: (وقد اختلف المفسِّرون من السَّلَفِ والخلَفِ في هؤلاء المسلَّطين عليهم: مَن هم؟... وقد وردت في هذا آثارٌ كثيرة إسرائيلية... منها ما هو موضوع مِن وضعِ بعضِ زنادقتِهم، ومنها ما قد يحتمِلُ أن يكونَ صحيحًا، ونحن في غنيةٍ عنها، ولله الحمد. وفيما قصَّ الله تعالى علينا في كتابه غنيةٌ عما سواه من بقية الكتبِ قبله، ولم يحوِجْنا اللهُ ولا رسوله إليهم. وقد أخبر الله تعالى أنَّهم لَمَّا بَغَوا وطغَوا سلَّط الله عليهم عدوَّهم، فاستباح بيضتَهم، وسلك خلال بيوتِهم وأذلَّهم وقهرهم؛ جزاءً وِفاقًا، وما ربُّك بظلامٍ للعبيد؛ فإنَّهم كانوا قد تمرَّدوا وقتلوا خلقًا من الأنبياء والعلماء). ((تفسير ابن كثير)) (5/47). وقال الرازي: (اعلَمْ أنَّه لا يتعَلَّقُ كَثيرُ غَرَضٍ في معرفةِ أولئك الأقوامِ بأعيانهم، بل المقصودُ هو أنَّهم لَمَّا أكثَروا من المعاصي، سَلَّط عليهم أقوامًا قَتَلوهم وأفنَوْهم... والله أعلَمُ بأحوالِهم، ولا يتعَلَّقُ غَرَضٌ مِن أغراضِ تَفسيرِ القُرآنِ بمَعرفةِ أعيانِ هؤلاء الأقوامِ). ((تفسير الرازي)) (20/300، 302). .
فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ.
أي: فطاف الجُنودُ الذين سَلَّطَهم اللهُ على بني إسرائيلَ بينَ دُورِهم يتَرَدَّدونَ بينها جَيْئةً وذَهابًا لِقَتلِهم [101] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/470، 471)، ((معاني القرآن)) للزجاج (3/227)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 628). قال الواحدي: (قولُه تعالى: خِلَالَ الدِّيَارِ يعني: دِيارَ بَيتِ المَقدِسِ). ((البسيط)) (13/257).   .
وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا.
أي: وكان تَسليطُ اللهِ أولئك الجُنودَ على بني إسرائيلَ قَضاءً كائِنًا لا بُدَّ مِن وُقوعِه [102] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/471)، ((تفسير القرطبي)) (10/216)، ((تفسير السعدي)) (ص: 453).   .
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بَيَّنَ اللهُ سُبحانَه أنَّه قادِرٌ على إذلالِ العَزيزِ بعد ضَخامةِ عِزِّه؛ بيَّنَ أنَّه مُقتَدِرٌ على إدالتِه على مَن قَهَرَه بعدَ طولِ ذُلِّه إذا نَقَّاه مِن دَرَنِه، وهَذَّبَه مِن ذُنوبِه، فقال الله تعالى [103] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/310).   :
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ.
أي: ثمَّ أرْجَعْنا لكم -يا بني إسرائيلَ- الغَلَبةَ والنَّصرَ على أعدائِكم الذينَ غَلَبوكم وقَهَروكم، لَمَّا تُبتُم مِن الفسَادِ والطُّغيانِ والاستِكْبارِ، وأطعتُم [104] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/476)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/11)، ((تفسير القرطبي)) (10/217)، ((تفسير النسفي)) (2/246).   .
وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ.
أي: وأعْطَيناكم -يا بني إسرائيلَ- الأموالَ والبَنينَ بزِيادةٍ وكَثرةٍ [105] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/477)، ((الوسيط)) للواحدي (3/97)، ((تفسير السعدي)) (ص: 453).   .
وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا.
أي: وصيَّرناكم أكثَرَ جُندًا مِن عَدُوِّكم [106] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/477)، ((تفسير القرطبي)) (10/217)، ((تفسير السعدي)) (ص: 454). وممن قال بالقولِ المذكورِ: ابنُ جرير، والقرطبي، والسعدي. يُنظر: المصادر السابقة. وقيل: أكثَر عَددًا مِمَّا كُنتُم عليه مِن قَبلُ. وممَّن قال بهذا: البيضاوي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/248)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/33). .
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى حكَى عن بني إسرائيلَ أنَّهم لَمَّا عَصَوا سَلَّطَ عليهم أقوامًا قَصَدوهم بالقَتلِ والنَّهبِ والسَّبْيِ، ولَمَّا تابوا أزال عنهم تلك الِمحنةَ، وأعاد عليهم الدَّولةَ، فعند ذلك ظهَرَ أنَّهم إن أطاعوا فقد أحسَنوا إلى أنفُسِهم، وإن أصَرُّوا على المعصيةِ فقد أساؤوا إلى أنفُسِهم [107] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/301).   .
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ.
أي: إنْ أطَعْتُم اللهَ -يا بني إسرائيلَ- فإحسانُكم هذا عائِدٌ إليكم، وبه تَنفَعونَ أنفُسَكم، فيَزيدُكم اللهُ مِن الرِّزقِ والقُوَّةِ، ويُدافِعُ عنكم، ويُدخِلُكم الجَنَّةَ [108] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/478)، ((تفسير القرطبي)) (10/217)، ((تفسير السعدي)) (ص: 454)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/14).   .
كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة: 65- 66].
وقال سُبحانه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 96] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود: 3] .
وقال سُبحانَه: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10-12] .
وقال تعالى: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن: 16] .
وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا.
أي: وإنْ عَصَيتُم اللهَ فعلى أنفُسِكم ضَرَرُ إساءتِكم، فيُسَلِّطُ اللهُ عليكم في الدُّنيا أعداءَكم، ويُعَذِّبُكم في الآخرةِ [109] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/478)، ((تفسير القرطبي)) (10/217)، ((تفسير السعدي)) (ص: 454)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/14).   .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ [يونس: 23] .
وقال سُبحانَه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: 124] .
وقال عزَّ وجلَّ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] .
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ.
أي: فإذا حانَ وَقتُ عُقوبتِكم -يا بني إسرائيلَ- جرَّاءَ إفسادِكم في المَرَّةِ الثَّانيةِ، سَلَّطْنا عليكم عبادًا لنا؛ ليَجعَلُوا آثارَ الحُزنِ والكآبةِ بادِيةً في وُجوهِكم، وذلك بقَتلِكم وسَبْيِكم وقَهْرِكم وإذلالِكم [110] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/478)، ((تفسير القرطبي)) (10/223)، ((تفسير ابن كثير)) (5/48)، ((تفسير أبي السعود)) (5/157)، ((تفسير السعدي)) (ص: 454)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/15).   .
وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
أي: وَلِيَدخُلوا مَسجِدَ بَيتِ المَقدِسِ فيُخَرِّبوه قَهرًا وغَلَبةً وإذلالًا لكم، كما دخَلوه في المَرَّةِ الأولى حينَ عاقَبْناكم على إفسادِكم الأوَّلِ، فدَخَلوا المسجِدَ بالغَلَبةِ وخرَّبوه، وجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ يَقتُلونَكم [111] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/504)، ((تفسير أبي حيان)) (7/16)، ((تفسير ابن كثير)) (5/48)، ((فتح البيان)) للقنوجي (7/358)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/37).   .
وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا.
أي: ولِيُدَمِّرُوا كُلَّ ما غَلَبوا وظَهَروا عليه مِن بِلادِكم تَدميرًا، فيُخَرِّبوا بَيتَ المَقدِسِ وبُيوتَكم ومَزارِعَكم [112] يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/117)، ((تفسير ابن جرير)) (14/504)، ((تفسير ابن كثير)) (5/48)، ((تفسير السعدي)) (ص: 454). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/38).   .
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)  .
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ.
أي: لعلَّ اللهَ -يا بني إسرائيلَ- يَرحَمُكم بعدَ انتقامِه منكم، فيُنقِذُكم، ويُعِزُّكم بعدَ ذُلِّكم، ويَجعَلُ لكم قُوَّةً، ويردُّ الدولةَ إليكم [113] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/505)، ((البسيط)) للواحدي (13/266)، ((تفسير القرطبي)) (10/223)، ((تفسير السعدي)) (ص: 454). قال ابنُ جرير: (و«عسى» مِن الله: واجِبٌ. وفعَلَ اللهُ ذلك بهم، فكَثَّرَ عَدَدَهم بعدَ ذلك، ورفَعَ خَساسَتَهم، وجعل منهم المُلوكَ والأنبياءَ). ((تفسير ابن جرير)) (14/505). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/223)، ((تفسير السعدي)) (ص: 454). وقال ابنُ عطية: (و«عسى» تَرَجٍّ في حَقِّهم، وهذه العِدَةُ ليست برُجوعِ دَولةٍ، وإنَّما هي بأنْ يَرحَمَ المُطيعَ منهم، وكان مِن الطاعةِ اتِّباعُهم لعيسى ومُحمَّدٍ، فلم يفعلوا وعادوا إلى الكُفرِ والمَعصيةِ، فعاد عِقابُ اللهِ، فضَرَبَ عليهم الذُّلَّ، وقتَلَهم وأذَلَّهم بيَدِ كُلِّ أمَّةٍ). ((تفسير ابن عطية)) (3/440). قال القاسمي: (قوله: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ أي: إذا أخلصتُم للإنابةِ، وأحسنتُم الأعمال، وأقمتُم الكتابَ وما نزَل إليكم؛ لأنَّكم علمتُم مِن سنتِه تعالى أنَّه لا يُنزلُ بلاءً إلا بذنبٍ، ولا يرفعُه إلا بتوبةٍ، ولذا قال: وَإِنْ عُدْتُمْ أي: بعدَ هذه التوبةِ والإنابةِ إلى الاستكبارِ عُدْنَا أي: إلى تسليطِ الأعداءِ، وسلبِ الأموالِ والأولادِ في الدنيا). ((تفسير القاسمي)) (6/443). .
وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا.
أي: وإن رجَعْتُم إلى الإفسادِ في الأرضِ بمَعصيتي بعد رَحمتي لكم، رجَعْتُ إلى انتِقامي منكم، فسلَّطتُ عليكم مرَّةً أخرَى مَن يقتُلُكم ويُذِلُّكم [114] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/505)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 629)، ((تفسير البيضاوي)) (3/249)، ((تفسير ابن كثير)) (5/48)، ((تفسير السعدي)) (ص: 454). قال ابن جُزَيٍّ: (قد عادُوا فبعَثَ الله عليهم محمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأمَّتَه يَقتُلونَهم ويُذِلُّونَهم إلى يومِ القيامةِ). ((تفسير ابن جزي)) (1/442). وممَّن قال بأنَّهم قد عادوا للفسادِ فسلَّط الله تعالى عليهم محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم: البيضاوي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/249)، ((تفسير السعدي)) (ص: 454). قال الشنقيطي: (ولم يبيِّنْ هنا: هل عادوا للإفسادِ المرةَ الثالثة أو لا، ولكنَّه أشار في آياتٍ أخَرَ إلى أنَّهم عادوا للإفساد بتكذيب الرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكتْمِ صفاتِه ونقضِ عهودِه، ومظاهرةِ عدوِّه عليه، إلى غير ذلك من أفعالهم القبيحة. فعاد اللهُ جل وعلا للانتقام منهم؛ تصديقًا لقوله: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا فسلَّط عليهم نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمسلمين، فجرى على بني قريظةَ والنضيرِ وبني قَينقاعَ وخيبر ما جرى من القَتلِ والسبيِ والإجلاء، وضَرْب الجزية على من بقي منهم، وضَرْب الذِّلَّة والمسكنة. فمن الآيات الدالة على أنهم عادوا للإفسادِ قَولُه تعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ [البقرة: 89، 90]، وقوله: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ... [البقرة: 100]، وقوله: وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ [المائدة: 13] ، ونحو ذلك من الآيات. ومن الآياتِ الدالَّةِ على أنه تعالى عاد للانتقامِ منهم قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ * وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ* ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر: 2، 4]، وقوله تعالى: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [الأحزاب: 26، 27]، ونحو ذلك من الآيات). ((أضواء البيان)) (3/15-16). 
كما قال سُبحانَه: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف: 167].
وقال عزَّ وجلَّ: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [الأحزاب: 26-27] .
وقال تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر: 2] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِي الله عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم قال: ((تُقاتِلُكم اليَهودُ، فتُسَلَّطونَ عليهم، حتى يقولَ الحَجَرُ: يا مُسلِمُ، هذا يَهوديٌّ ورائي فاقتُلْه )) [115] رواه البخاري (3593)، ومسلم (2921) واللفظ له.   .
وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا.
أي: وجَعَلْنا جَهنَّمَ للكافرينَ سِجنًا ومحبِسًا، لا يَستَطيعونَ الخُروجَ منها أبدًا [116] يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (3/228)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 629)، ((تفسير الزمخشري)) (2/650)، ((تفسير الرازي)) (20/303)، ((تفسير أبي السعود)) (5/158)، ((تفسير الشوكاني)) (3/251)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/39). قال الواحدي: (قوله تعالى: وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا قال ابنُ عباسٍ والمفسرونَ كلُّهم: سِجنًا ومحبِسًا). ((البسيط)) (13/267). وقال الشنقيطي: (في قَولِه: حَصِيرًا في هذه الآيةِ الكريمةِ وجهانِ من التفسيرِ معروفان عند العلماء، كلٌّ منهما يشهد لمعناه قرآن... الأولُ: أن الحصير: المحبِسُ والسِّجنُ، من الحَصرِ وهو الحبس... وهذا الوجه يدُلُّ له قوله تعالى: وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [الفرقان: 13] ، ونحو ذلك من الآيات. الوجه الثاني: أنَّ معنى حصيرًا: فراشٌ ومِهادٌ، من الحصيرِ الذي يُفرَشُ؛ لأنَّ العرب تسمِّي البساطَ الصغير حصيرًا. قال الثعلبي: وهو وجهٌ حسن. ويدُلُّ لهذا الوجه قولُه تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف: 41] ، ونحو ذلك من الآيات. والمهاد: الفراش). ((أضواء البيان)) (3/16). ويُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (6/86). وممن قال بالقولِ الثاني: الحسنُ البصري، واختاره ابنُ جرير، فقال: (والصوابُ من القول في ذلك عندي أن يقال: معنى ذلك: وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا فراشًا ومِهادًا لا يزايلُه، من الحصيرِ الذي بمعنى البِساطِ؛ لأنَّ ذلك إذا كان كذلك كان جامعًا معنى الحبسِ والامتهاد، مع أنَّ الحصير بمعنى البساطِ في كلامِ العربِ أشهَرُ منه بمعنى الحبسِ... فلذلك قلتُ: قول الحسن أولى بالصوابِ في ذلك). ((تفسير ابن جرير)) (14/510). .
كما قال تعالى: وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [الفرقان: 13] .
وقال عزَّ وجَلَّ: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [الأحزاب: 64- 65] .

الفوائد التربوية:

قَولُ الله تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا فيه التَّحذيرُ لهذه الأمَّةِ مِن العَمَلِ بالمعاصي؛ لِئَلَّا يُصيبَهم ما أصابَ بني إسرائيلَ؛ فسُنَّةُ اللهِ واحِدةٌ لا تُبَدَّلُ ولا تُغَيَّرُ، ومَن نظَرَ إلى تَسليطِ الكَفَرةِ والظَّلَمةِ على المُسلِمينَ، عَرَف أنَّ ذلك مِن أجْلِ ذُنوبِهم عُقوبةً لهم، وأنَّهم إذا أقاموا كِتابَ اللهِ وسُنَّةَ رَسولِه، مكَّنَ لهم في الأرضِ ونصَرَهم على أعدائِهم [117] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 454).   ، فلَمَّا كان أهلُ المَشرِقِ قائِمينَ بالإسلامِ، كانوا مَنصورينَ على الكُفَّارِ المُشرِكينَ مِن التُّركِ والِهندِ والصِّينِ وغَيرِهم، فلمَّا ظهَرَ منهم ما ظهَرَ مِن البِدَعِ والإلحادِ والفُجورِ، سَلَّط عليهم الكُفَّارَ، فهذا هولاكو مَلِكُ التُّركِ التَّتار الذي قهَرَ الخَليفةَ بالعِراقِ، وقَتَل ببغدادَ مَقتلةً عَظيمةً جِدًّا، يقال: قتَلَ منهم ألفَ ألفٍ، وكذلك قتَلَ بحَلَب دارِ المُلْك حينئذٍ، كان بعضُ المشايخِ يَقولُ فيه: هو للمُسلِمينَ بمَنزلةِ بُختنَصَّر لبني إسرائيلَ، وكان مِن أسبابِ دُخولِ هؤلاء دِيارَ المُسلِمينَ ظُهورُ الإلحادِ والنِّفاقِ والبِدَعِ [118] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/179-180).   .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- البَعثُ في قَولِه تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ هو بعثٌ كَونيٌّ، ويُقابِلُه البَعثُ الدِّينيُّ، كما في قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [119] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/269).   [الجمعة: 2] .
2- كُلُّ ما تَراه في الوُجودِ مِن شَرٍّ وألَمٍ، وعُقوبةٍ وجَدْبٍ، ونَقصٍ في نَفسِك وفي غَيرِك؛ فهو مِن قِيامِ الرَّبِّ تبارَكَ تعالى بالقِسطِ، وهو عَدْلُ اللهِ وقِسطُه، وإنْ أجراه على يَدِ ظالِمٍ؛ فالمُسَلِّطُ له أعدَلُ العادلينَ، كما قال تعالى لِمَن أفسَدَ في الأرضِ: بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ [120] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/425).   .
3- في قَولِه تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا دَلالةٌ على أنَّ قُبورَ الصَّالحينَ أو الأنبياءِ التي في المَدائِنِ والقُرى، لا تَدفعُ البلاءَ عن أهْلِها؛ لأنَّه مِن المَعلومِ أنَّ في بيتِ المَقدِسِ وما حولَه مِن قُبورِ الأنبياءِ ما هو أكثرُ مِن غَيرِه مِن هذه القُبورِ، ومع ذلك لَمَّا غَلَوا وأفسَدوا عاقبَهم اللهُ بذُنوبِهم، وسَلَّطَ عليهم العَدُوَّ الذي جَاسَ خِلالَ الدِّيارِ، ودخلَ المَسجِدَ وقَتلَ فيهم مَن لا يُحصي عَدَدَه إلَّا اللهُ، فلم يَمنَعْهم أحدٌ مِن قُبورِ الأنبياءِ التي كانت هناك! فاللهُ تعالى هو الذي يَرزُقُهم ويَنصُرُهم، لا رازِقَ غيرُه ولا ناصِرَ إلَّا هو [121] يُنظر: ((الإخنائية)) لابن تيمية (ص: 189- 193).   .
4- قَولُ اللهِ تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ رَحمةَ الله تعالى غالبةٌ على غَضَبِه، بدليلِ أنَّه لَمَّا حكى عنهم الإحسانَ أعاده مرَّتينِ، فقال: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، ولَمَّا حكى عنهم الإساءةَ اقتصَرَ على ذِكرِها مرَّةً واحِدةً، فقال: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا، ولولا أنَّ جانِبَ الرَّحمةِ غالِبٌ لَما كان كذلك [122] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/301).   .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا
- قولُه: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ يجوزُ أنْ يكونَ المُرادُ بـ (الكِتاب) كِتابَ التَّوراةِ، والتَّعريفُ للعهدِ الذِّكري، حيثُ ذُكِرَ قَبْلَه في قولِه: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ؛ فيكونُ فيه عُدولٌ عن الإضمارِ إلى إظهارِ لفظِ (الكتابِ) لمُجرَّدِ الاهتمامِ. ويجوزُ أنْ يكونَ (الكتابُ) بعضَ كُتبِهم الدِّينيَّةِ؛ فيكونُ تَعريفُ (الكتابِ) تَعريفَ الجِنسِ، وليس تَعريفَ العهدِ الذِّكريِّ؛ إذ ليس هو الكتابَ المذكورَ آنفًا في قولِه: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ؛ لأنَّه لمَّا أظهَرَ اسمَ الكتابِ أشعَرَ بأنَّه كتابٌ آخَرُ من كُتبِهم [123] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/28). قال ابن عاشور: (ضمائرُ الخطابِ في هذه الجملةِ مانعةٌ مِن أنْ يكونَ المرادُ بالكتابِ في قولِه تعالَى: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ اللَّوحَ المحفوظَ، أو: كتابَ اللَّهِ، أي: علمَه). ((تفسير ابن عاشور)) (15/29).   .
- وجُملةُ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ إلى قولِه: حَصِيرًا مُبيِّنةٌ لجُملةِ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ [124] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/29).   .
- وقولُه: لَتُفْسِدُنَّ جوابُ قسَمٍ محذوفٍ، إن كان قَضَيْنَا بمعنَى (أعْلَمْنا). ويجوزُ أنْ يُجْرى القضاءُ المحتومُ مَجْرى القسَمِ، فيكونُ لَتُفْسِدُنَّ جوابًا له، كأنَّه قال: وأقْسَمنا لتُفسِدُنَّ، وذلك إذا كان قَضَيْنَا مِن القضاءِ والقدرِ [125] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/649)، ((تفسير ابن جزي)) (1/441)، ((تفسير أبي حيان)) (7/12)، ((تفسير أبي السعود)) (5/156).   .
- وإسنادُ الإفسادِ إلى ضَميرِ بني إسرائيلَ مُفيدٌ أنَّه إفسادٌ من جُمهورِهم، بحيث تُعَدُّ الأُمَّةُ كلُّها مُفسدةً وإنْ كانت لا تَخْلو من صالحِينَ [126] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/30).   .
2- قَولُه تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا
- قولُه: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ إضافةُ وَعْدُ إلى أُولَاهُمَا بَيانيَّةٌ، أي: الموعودُ الَّذي هو أُولى المرَّتَينِ من الإفسادِ والعُلُوِّ [127] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/30).   .
3- قَولُه تعالى: ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا
- قولُه: رَدَدْنَا جعَلَ رَدَدْنَا مَوضِعَ (نرُدُّ)؛ إذ وقْتُ إخبارِهم لم يقَعِ الأمْرُ بعدُ، لكنَّه لمَّا كان وعْدُ اللهِ في غايةِ الثِّقةِ أنَّه يقَعُ، عُبِّرَ عن مُستقبلِه بالماضي [128] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/14).   .
4- قَولُه تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا
- قولُه: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فيه ذِكْرُ الإساءةِ باللَّامِ في قولِه: فَلَهَا؛ ازْدواجًا، أي: قابَلَ قولَه: لِأَنْفُسِكُمْ بقولِه: فَلَهَا؛ فاللامُ على بابِها؛ لأنَّها للاختِصاصِ، والعامِلُ مُختَصٌّ بجَزاءِ عَملِه حَسَنِه وسيِّئِه. وقيل: اللَّامُ بمعنى (إلى)، أي: فإليها ترجِعُ الإساءةُ. وقيل: اللَّامُ بمعنى (على)، أي: فعَلَيها [129] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/249)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/813)، ((تفسير أبي حيان)) (7/15)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (1/319).   .
- قولُه: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا تَفريعٌ على قولِه: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا؛ إذ تَقديرُ الكلامِ: فإذا أسأتُمْ، وجاء وعْدُ المرَّةِ الآخرةِ. وقد حصَلَ بهذا التَّفريعِ إيجازٌ بَديعٌ قضاءً لحقِّ التَّقسيمِ الأوَّلِ في قولِه: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا، ولحَقِّ إفادةِ تَرتُّبِ مَجيءِ وعْدِ الآخرةِ على الإساءةِ، ولو عُطِفَ بالواوِ -كما هو مُقْتضى ظاهرِ التَّقسيمِ إلى مَرَّتينِ- فاتت إفادةُ التَّرتُّبِ والتَّفرُّعِ [130] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/35).   .
- قولُه: لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ، أي: بعَثْناهم ليَسُوؤا وُجوهَكم؛ فحُذِفَ (بعَثْناهم)؛ لدلالةِ ذكْرِه أوَّلًا عليه [131] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/249).   . وخُصَّتِ المَساءةُ بالوُجوهِ -والمُرادُ: أصحابُ الوجوهِ-؛ لِما يَبْدو عليها من أثَرِ الحُزنِ والكآبةِ [132] يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/11).   ، فآثارُ الأعراضِ النَّفسانيَّةِ الحاصِلة في القَلبِ إنَّما تَظهَرُ على الوَجهِ، فإنْ حَصَل الفَرَحُ في القَلبِ، ظَهَرَت النَّضْرةُ والإشراقُ والإسفارُ في الوَجهِ، وإن حصل الحُزنُ والخَوفُ في القَلبِ، ظهَرَ الكُلوحُ والغَبْرةُ والسَّوادُ في الوَجهِ؛ فلهذا السَّبَبِ عُزِيَت الإساءةُ إلى الوُجوهِ في هذه الآيةِ [133] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/302).   .
- وقَولُه تعالى: وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ قيل: هذا تعريضٌ بالتَّهديدِ لقُرَيشٍ بأنَّهم إن لم يَرجِعوا أبدَلَ أمْنَهم في الحَرمِ خَوفًا وعِزَّهم ذلًّا، فأدخَلَ عليهم جنودًا لا قِبَلَ لهم بها، وقد فعَلَ ذلك عامَ الفَتحِ، لكِنَّه فِعلُ إكرامٍ لا إهانةٍ، ببرَكةِ هذا النبيِّ الكريمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [134] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/341).   .
5- قَولُه تعالى: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا
- قَولُه: وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا فيه إظهارٌ في مقامِ الإضمارِ، حيث عُدِلَ عن أنْ يُقالَ: (وجعَلْنا جهنَّمَ لكم)؛ تَسجيلًا على كُفْرِهم بالعَودِ، وذَمًّا لهم بذلك، وإشعارًا بعلَّةِ الحُكمِ [135] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/158).   .