موسوعة التفسير

سورةُ الفُرقانِ
الآيات (11-16)

ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ

غريب الكلمات:

سَعِيرًا: أي: نارًا مُتَّقِدةً، وأصلُ (سعر): يدُلُّ على اشتِعالِ الشَّيءِ واتِّقادِه [184] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 259)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/75)، ((المفردات)) للراغب (ص: 411)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 136)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 521). .
تَغَيُّظًا:أي: غَضَبًا شَديدًا، والغَيظُ: أشدُّ الغَضَبِ، وهو الحرارةُ التي يجِدُها الإنسانُ مِن فوَرانِ دَمِ قَلبِه [185] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 151)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/405)، ((المفردات)) للراغب (ص: 619). .
وَزَفِيرًا: الزَّفيرُ: إخراجُ النَّفَسِ بقُوَّةٍ وشِدَّةٍ مِن الهَمِّ والكَربِ، وهو بمَنزلةِ ابتداءِ صَوتِ الحِمارِ بالنَّهيقِ، وأصلُ (زفر): يدُلُّ على صَوتٍ [186] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 251)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/14)، ((التفسير البسيط)) للواحدي (11/555)، ((المفردات)) للراغب (ص: 380)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 490). .
مُقَرَّنِينَ: أي: مُوثَقينَ في السَّلاسِلِ والأغلالِ، قد قُرِنَ بعضُهم إلى بعضٍ، أو قُرِنَت أيديهم وأرجلُهم إلى رِقابِهم، يقالُ: قَرَنتُ الشَّيءَ بالشَّيءِ: إذا شدَدْتَه به ووصَلْتَه، وأصلُ (قرن): يدُلُّ على جمعِ شَيءٍ إلى شَيءٍ [187] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 234)، ((تفسير ابن جرير)) (13/740)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/76)، ((البسيط)) للواحدي (12/518) و(16/425). .
ثُبُورًا: أي: هَلاكًا، وأصلُ (ثبر) هنا: الهلاكُ [188] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 310)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 171)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/400)، ((المفردات)) للراغب (ص: 171)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 25)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 330). .

المعنى الإجمالي:

يُبيِّنُ الله تعالى موقفَ المشركينَ مِن البعثِ، وما أعدَّه لهم مِن جزاءٍ، فيقولُ: قد كذَّب هؤلاء المُشرِكون بالبَعثِ يومَ القيامةِ، وقد هيَّأنا لهم نارًا شديدًا حَرُّها، إذا رأتْهم مِن مكانٍ بعيدٍ سَمِعوا صوتَ لهيبِها وصوتَ زَفيرِها؛ مِن شِدَّةِ غَيظِها منهم، وإذا طُرِحوا في مكانٍ ضَيِّقٍ مِن النَّارِ وقد قُرِنوا في الأغلالِ والسَّلاسِلِ، دَعَوا على أنفُسِهم بالهلاكِ لِيَستريحوا من العَذابِ. فيقولُ خَزَنةُ النَّارِ لهم: لا تَطلُبوا هلاكًا واحِدًا، بل اطلُبوا هلاكًا كثيرًا؛ فلن ينفَعَكم الدُّعاءُ أبدًا.
ثمَّ يأمُرُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أنَ يُبيِّنَ لهم ما أعدَّ الله سبحانَه للمتَّقينَ، فيقولُ: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لهؤلاء الكُفَّارِ: أذلك العذابُ خَيرٌ أم جَنَّةُ الخُلدِ التي وَعَد اللهُ بها المتَّقينَ، قد كانت ثوابًا لهم، ومَصيرًا يَصيرونَ إليها يومَ القيامةِ؟! ولهؤلاء المتَّقين ما يشاؤونَ في الجنَّةِ، لابثينَ فيها أبدًا، وكان هذا الوَعدُ وَعدًا واجِبًا.

تفسير الآيات:

بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كانت تلك الأقوالُ التي قالوها معلومةَ الفسادِ؛ أخبَرَ تعالى أنَّها لم تصدُرْ منهم لطَلَبِ الحقِّ، ولا لاتِّباعِ البُرهانِ، وإنَّما صَدَرتْ منهم تَعَنُّتًا وظُلمًا وتَكذيبًا بالحَقِّ، فقالوا ما بقُلوبِهم مِن ذلك؛ ولهذا قال [189] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 579). :
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ
أي: لا تظُنَّ أنَّهم كذَّبوا بما جئتَ به مِن الحَقِّ -يا محمَّدُ- لأنَّهم يعتَقِدونَ فيك كَذِبًا وافتراءً للقُرآنِ، أو نُقصانًا؛ لأكلِك الطَّعامَ ومَشيِكَ في الأسواقِ، وإنَّما سبَبُ كُفرِهم وتكذيبِهم واقتراحِهم ما اقترَحوه هو عَدَمُ إيمانِهم بالبَعثِ يومَ القيامةِ [190] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/408)، ((تفسير ابن كثير)) (6/96)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/352)، ((تفسير السعدي)) (ص: 579)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/22). .
وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا
أي: وهيَّأنا وأرصَدْنا لِمن أنكَرَ البَعثَ يومَ القيامةِ مِن هؤلاء المُشرِكين وغَيرِهم نارًا مُوقَدةً شَديدةَ الحرارةِ، نعَذِّبُهم فيها في الآخرةِ [191] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/408)، ((تفسير ابن كثير)) (6/96)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/353)، ((تفسير السعدي)) (ص: 579)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/22). .
كما قال تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور: 13، 16].
إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا
أي: إذا رأتْ تلك النَّارُ أهلَها الكُفَّارَ يومَ القيامةِ مِن مكانٍ بَعيدٍ، سَمِعوا صَوتَ غَلَيانِها وتلهُّبِها؛ مِن شِدَّةِ غَيظِها منهم، وسَمِعوا لها صوتَ زَفيرٍ؛ مِن غَضَبِها وحَنَقِها عليهم [192] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/408، 409)، ((تفسير ابن كثير)) (6/96)، ((تفسير السعدي)) (ص: 579)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/24). قال ابنُ جريرٍ: (فإن قال قائِلٌ: وكيف قيل: سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا [الفرقان: 12]، والتغيُّظُ لا يُسمَعُ؟ قيل: معنى ذلك: سمَعِوا لها صوتَ التغَيُّظِ؛ مِن التلَهُّبِ والتوَقُّدِ). ((تفسير ابن جرير)) (17/408، 409). وقال الشنقيطيُّ: (وللعُلماءِ أقوالٌ في معنى الزَّفيرِ والشَّهيقِ، وأقربُها: أنَّهما يمثِّلُهما معًا صوتُ الحِمارِ في نهيقِه؛ فأوَّلُه زَفيرٌ، وآخِرُه الذي يرَدِّدُه في صَدرِه شَهيقٌ. والأظهَرُ أنَّ معنى قولِه تعالى: سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا أي: سَمِعوا غلَيانَها مِن شِدَّةِ غَيظِها، ولَمَّا كان سبَبُ الغَلَيانِ التغيُّظَ، أطلَقَه عليه، وذلك أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ). ((أضواء البيان)) (6/24). .
كما قال تعالى: إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [الملك: 7، 8].
وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا وَصَفَ سُبحانَه مُلاقاتَها لهم؛ وَصَفَ إلقاءَهم فيها، فقال تعالى [193] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/354). :
وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا
أي: وإذا طُرِح الكُفَّارُ في مكانٍ ضَيِّقٍ في النَّارِ، وقد قُرِنوا في الأغلالِ والسَّلاسِلِ [194] قيل: المرادُ قُرِنَت أيديهم إلى أعناقِهم في الأغلالِ. ومِمَّن قال ذلك: ابنُ جرير، والبغوي، والزمخشري، والبيضاوي، والشوكاني، والقاسمي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/410)، ((تفسير البغوي)) (3/438)، ((تفسير الزمخشري)) (3/267)، ((تفسير البيضاوي)) (4/119)، ((تفسير الشوكاني)) (4/75)، ((تفسير القاسمي)) (7/421)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 66). وقيل: مُقَرَّنًا بعضُهم إلى بَعضٍ في الأصفادِ والسلاسلِ، كحالِ الأسرى والمساجينِ: أن يُقرَنَ عدَدٌ منهم في وِثاقٍ واحدٍ، أو يُقرنوا مع الشياطين. وممَّن قال بذلك في الجملة: مقاتلُ بن سليمان، والسمرقنديُّ، وابن أبي زمنين، وابن عطية، وابن عاشور، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/228)، ((تفسير السمرقندي)) (2/531)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (3/255)، ((تفسير ابن عطية)) (4/202)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/334)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/27). ومِمَّن جمَع بيْن المعنيَينِ السابقَينِ: مكِّيٌّ، والسمعاني. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (8/5185)، ((تفسير السمعاني)) (4/10). - رفعوا أصواتَهم بطَلَبِ الهلاكِ؛ ندَمًا على تَركِهم الإيمانَ، وانصرافِهم عن طاعةِ الرَّحمنِ، وتمنِّيًا للمَوتِ لِيَستريحوا مِن العذابِ [195] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/410، 411)، ((تفسير ابن كثير)) (6/97، 98)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/354)، ((تفسير السعدي)) (ص: 579)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/334)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/26، 27). .
قال تعالى: وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ [إبراهيم: 49].
لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا
أي: يقولُ خَزَنةُ النَّارِ للكُفَّارِ: لا تَطلُبوا هلاكًا واحِدًا في النَّارِ، بل اطلُبوا كثيرًا مِن ذلك، فعَذابُكم مستَمِرٌّ ومتجَدِّدٌ، ولن ينفَعَكم الدُّعاءُ أبدًا [196] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/228)، ((تفسير ابن جرير)) (17/412)، ((تفسير السمرقندي)) (2/531)، ((تفسير البيضاوي)) (4/119)، ((تفسير السعدي)) (ص: 579). .
كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ [غافر: 49، 50].
قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا وصَفَ الله تعالى حالَ العِقابِ المعَدِّ للمُكَذِّبين بالسَّاعةِ؛ أتبَعَه بما يؤكِّدُ الحَسرةَ والنَّدامةَ [197] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/439). .
وأيضًا لَمَّا بَيَّنَ سُبحانَه جزاءَ الظَّالمين؛ ناسَبَ أن يَذكرَ جزاءَ المتَّقين، فقال تعالى [198] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 579). :
قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- للكُفَّارِ: أذلك العذابُ المستَمِرُّ في النَّارِ خَيرٌ، أم جنَّةُ الخُلدِ الدَّائمُ نعيمُها، التي وعَد اللهُ بها الذين يتَّقونَ سَخَطَه وعذابَه؛ بامتِثالِ ما يأمُرُهم، واجتِنابِ ما يَنهاهم [199] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/413)، ((تفسير ابن كثير)) (6/98)، ((تفسير السعدي)) (ص: 579)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 73). ؟!
كما قال تعالى: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ * أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [القصص: 60، 61].
كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا.
أي: كانت الجنَّةُ ثَوابًا للمتَّقينَ على تَقواهم وأعمالِهم الصَّالحةِ، ومَرجِعًا يَصيرون إليها في الآخرةِ [200] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/413)، ((الوسيط)) للواحدي (3/336)، ((تفسير الشوكاني)) (4/76)، ((تفسير السعدي)) (ص: 579). .
لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا.
لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ.
أي: للمتَّقينَ في الجنَّةِ ما يَشاؤون ممَّا تَشتهيه أنفُسُهم، لابثينَ فيها أبدًا بلا زَوالٍ عنها، ولا انقِطاعٍ لنَعيمِها [201] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/413)، ((تفسير ابن كثير)) (6/98)، ((تفسير السعدي)) (ص: 579). .
كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا.
أي: كان دُخولُ المتَّقينَ الجنَّةَ وَعدًا واجِبًا لا بدَّ أن يقَعَ في الآخرةِ؛ جزاءً لهم على طاعتِهم ربَّهم، وسؤالِهم ذلك في الدُّنيا [202] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/413)، ((تفسير ابن كثير)) (6/98)، ((تفسير السعدي)) (ص: 579)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/32). قال ابنُ القيم: ( كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا يَسألُه إيَّاه عبادُه المؤمنون، ويَسألُه إيَّاه ملائكتُه لهم؛ فالجنَّةُ تَسألُ رَبَّها أهلَها، وأهلُها يسألونَه إيَّاها، والملائكةُ تسألُها لهم، والرسُلُ يسألونَه إيَّاها لهم ولأتْباعِهم). ((حادي الأرواح)) (ص: 90). .
كما قال تعالى حاكيًا عنهم قَولَهم: رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [آل عمران: 194، 195].

الفوائد العلمية واللطائف:

1- احتُجَّ بقَولِه تعالى: وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا على أنَّ النارَ -التي هي دارُ العِقابِ- مَخلوقةٌ؛ لأنَّ وَأَعْتَدْنَا إخبارٌ عن فِعلٍ وَقَعَ في الماضي؛ فدلَّتِ الآيةُ على أنَّ دارَ العِقابِ مَخلوقةٌ [203] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/437). .
2- قال الله تعالى: وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا * إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا التَّحقيقُ أنَّ النَّارَ تُبصِرُ الكُفَّارَ يَومَ القيامةِ، كما صَرَّح اللهُ بذلك في قَولِه هنا: إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ، ورؤيتُها إيَّاهم مِن مكانٍ بَعيدٍ تدُلُّ على حِدَّةِ بَصَرِها، كما لا يخفى، كما أنَّ النَّارَ تتكَلَّمُ، كما صرَّح اللهُ به في قَولِه تعالى: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق: 30] ، والأحاديثُ الدَّالَّةُ على ذلك كثيرةٌ؛ كحَديثِ مُحاجَّةِ النَّارِ مع الجنَّةِ [204] أخرجه البخاري (4850)، ومسلم (2846) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ، وكحديثِ اشتكائِها إلى رَبِّها، فأذِنَ لها في نفَسَينِ [205] أخرجه البخاري (537)، ومسلم (617) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ، ونحوِ ذلك، ويكفي في ذلك أنَّ اللهَ جَلَّ وعلا صَرَّحَ في هذه الآيةِ أنَّها تَراهم، وأنَّ لها تغيُّظًا على الكُفَّارِ، وأنَّها تقولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق: 30] . واعلَمْ أنَّ ما يزعُمُه كَثيرٌ مِن المفَسِّرينَ، وغيرُهم مِن المنتسبينَ للعِلمِ مِن أنَّ النَّارَ لا تُبصِرُ ولا تتكَلَّمُ ولا تغتاظُ، وأنَّ ذلك كُلَّه مِن قَبيلِ المجازِ، أو أنَّ الذي يفعَلُ ذلك خزَنتُها: كُلُّه باطِلٌ، ولا مُعَوَّلَ عليه؛ لمخالفتِه نُصوصَ الوَحيِ الصَّحيحةَ بلا مُستَندٍ، والحَقُّ هو ما ذكَرْنا [206] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/25). .
3- قَولُ الله تعالى: إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا جُعِلَ إزجاؤُهم إلى النَّارِ مِن مكانٍ بعيدٍ زِيادةً في النِّكاية بهم؛ لأنَّ بُعدَ المكانِ يَقتضي زِيادةَ المَشقَّةِ إلى الوُصولِ، ويَقتضي طُولَ الرُّعبِ ممَّا سمِعوا [207] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/333). .
4- قال تعالى: مَكَانًا ضَيِّقًا، وكذلك في (الأنعام) في قولِه تعالى: يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [الأنعام: 125] ، وقال في (هود) وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [هود: 12] ، فما وجهُ التعبيرِ في سورة (هود) بقولِه: (ضائق) على وزنِ (فاعلٍ)، وفي (الفرقان) و(الأنعام) بقولِه: ضَيِّقًا على وزنِ (فَيْعِل)، مع أنَّه في المواضعِ الثلاثةِ هو الوصفُ مِن ضاق يَضيقُ، فهو ضيِّقٌ؟
والجوابُ عن هذا: أنَّ قولَه تعالى في سورةِ (هود): فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [هود: 12] أُريدَ به أنَّه يحدثُ له ضِيقُ الصدرِ، ويتجدَّدُ له بسببِ عنادِهم وتعنتِهم في قولِهم: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ [هود: 12] ، ولَمَّا كان كذلك، قيل فيه: (ضائق) بصيغةِ اسمِ الفاعلِ؛ لأنَّه قُصِد بها الحدوثُ والتجدُّدُ. أمَّا قولُه: ضَيِّقًا في (الفرقان) و(الأنعام) فلمْ يُرَدْ به حدوثٌ؛ ولذلك بقيَ على أصلِه، فقد تقرَّر في فنِّ الصرفِ أنَّ جميعَ أوزانِ الصفةِ المشبَّهةِ باسمِ الفاعلِ إنْ قُصِد بها الحدوثُ والتجدُّدُ جاءت على وزنِ (فاعل) مطلَقًا، وإن لم يُقصَدْ به الحدوثُ والتجدُّدُ بقيَ على أصلِه [208] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/28). .
5- في قَولِه تعالى: جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا سؤالٌ؛ وهو أنَّ الجنةَ ستصيرُ للمتقين جزاءً ومصيرًا؛ لكنها بعْدُ ما صارتْ كذلك، فلِمَ قال تعالى: كَانَتْ؟!
أجيبَ مِن أوجُهٍ:
الأول: أنَّها أحيانًا تدُلُّ على مجرَّدِ الحدثِ، لا على الزمنِ؛ لأنَّ الفعلَ كما هو معروفٌ يدُلُّ على زمنٍ ومعنًى، فـ (كان) دائمًا تأتي للدَّلالةِ على مجرَّدِ المعنى فقط، يعني التي وُعِد المتقون وهي لهم جزاءٌ ومصيرٌ [209] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 73). .
الثاني: أنَّ ما وعدَه اللهُ تعالى فهو في تحقُّقِه كالواقعِ، كأنَّه قد كان.
الثالثُ: أنَّه كان مكتوبًا في اللوحِ المحفوظِ قبْلَ أنْ يَخْلُقَهم اللهُ تعالى بأزمنةٍ متطاولةٍ أنَّ الجنةَ جزاؤُهم ومصيرُهم [210] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/267)، ((تفسير البيضاوي)) (4/119)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 404)، ((تفسير أبي السعود)) (6/207)، ((تفسير الشربيني)) (2/652). .
6- قال تعالى: لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ هذه الآيةُ الكريمةُ تدُلُّ على أنَّ أهلَ الجنةِ يجِدونَ كلَّ ما يَشاؤُونه مِن أنواعِ النعيمِ [211] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/31). ، وهي كالتَّنبيهِ على أنَّ حصولَ المراداتِ بأسْرِها لا يكونُ إلَّا في الجنَّةِ، فأمَّا في غَيرِها فلا يحصُلُ ذلك، بل لا بُدَّ في الدُّنيا مِن أن تكونَ راحاتُها مَشوبةً بالجِراحاتِ [212] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/440)، ((تفسير أبي حيان)) (8/88). .
7- قَولُه تعالى: كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا يدُلُّ على أنَّ الجنةَ جُعِلَتْ لهم بحُكمِ الوَعدِ والتفَضُّلِ، لا بحُكمِ الاستِحقاقِ [213] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (2/652). .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا
- قَولُه: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ إضرابٌ عن تَوبيخِهم بحِكايةِ جِناياتِهم السَّابقةِ، وانتِقالٌ منه إلى تَوبيخِهم بحِكايةِ جِناياتِهم الأُخرى؛ للتَّخلُّصِ إلى بَيانِ ما لهم في الآخرةِ بسَببِها مِن فُنونِ العذابِ [214] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/87)، ((تفسير أبي السعود)) (6/205). . وقيل: يَجوزُ أنْ يكونَ إضرابَ انتقالٍ مِن ذِكْرِ ضَلالِهم في صِفَةِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى ذِكْرِ ضَلالِهم في إنكارِ البَعثِ، على تأويلِ أنَّ قولَه: إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ [الفرقان: 10] بمعنى: أنَّه لم يَشَأْ، ولو شاءَه لَفعلَه. ويجوزُ أنْ يكونَ إضرابَ إبطالٍ لِمَا تَضمَّنَه قولُه: إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ، على تأويلِ أنَّه وعْدٌ بإيتائِه ذلك في الآخرةِ [215] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/331، 332). .
- قَولُه: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ فيه قَصْرُ تَكذيبِهم على السَّاعةِ؛ لأنَّهم كذَّبوا بالبعثِ، فَهُم بما وراءَهُ أحْرى تَكذيبًا [216] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/332). .
- وجُملةُ: وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا مُعترِضةٌ بالوَعيدِ لهم، وهو -لعُمومِه- يَشمَلُ المُشرِكين المُتحدَّثَ عنهم؛ فهو تَذييلٌ. ومِن غرَضِه مُقابَلةُ ما أعدَّ اللهُ للمُؤمِنينَ في العاقبةِ بما أعدَّهُ للمُشرِكين [217] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/332). .
- قَولُه: وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا وضْعُ (السَّاعة) مَوضِعَ ضَميرِها حيثُ لم يقُلْ: (لِمَن كذَّبَ بها)؛ للمُبالَغةِ في التَّشنيعِ [218] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/205). . وهذا الاعتدادُ وإن كان ليس بسبَبِ تكذيبِهم بها خاصَّةً، بل يُشارِكُه في السببيَّةِ له ارتكابُهم الأباطيلَ في أمرِ التَّوحيدِ وأمرِ النبُوَّةِ؛ إلَّا أنَّه لَمَّا كانت السَّاعةُ نَفسُها هي العِلَّةَ القَريبةَ لدخولِهم السعيرَ؛ أُشيرَ بما ذُكِرَ إلى سببيَّةِ التَّكذيبِ بها لدُخولِها، ولم يتعَرَّضْ للإشارةِ إلى سببيَّةِ شَيءٍ آخَرَ. وقيل: إنَّ مَن كذَّب بالساعةِ صار كالاسمِ لأولئك المشرِكين، والمكذِّبين برَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، والمكَذِّبين بالسَّاعةِ، أي: الجامعين للأوصافِ الثلاثةِ؛ لأنَّ التكذيبَ بها أخَصُّ صِفاتِهم القبيحةِ، وأكثَرُ دَوَرانًا على ألسنتِهم [219] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (9/430). .
2- قَولُه تعالى: إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا
- قَولُه: إِذَا رَأَتْهُمْ ... فيه نِسبةُ الرُّؤيةِ إليها لا إليهم؛ للإيذانِ بأنَّ التَّغيُّظَ والزَّفيرَ منها لِهَيجانِ غضَبِها عليهم عندَ رُؤيتِها إيَّاهم [220] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/206). .
- وفي التَّعبيرِ بـ (مِن) في قولِه: مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ: إشعارٌ بأنَّ بُعدَ ما بيْنَها وبيْنَهم مِن المسافةِ -حينَ رأتْهم- خارجٌ عن حُدودِ البُعدِ المُعتادِ في المسافاتِ المعهودةِ، وفيه مَزيدُ تَهويلٍ لأمْرِها [221] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/206). .
3- قَولُه تعالى: وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا هذا وَصْفٌ لوُصولِهم إلى جَهنَّمَ مِن مَكانٍ بعيدٍ، ووَضْعِهم فيها؛ صِيغَ نظْمُه في صُورةِ تَوصيفِ ضَجيجِ أهْلِ النَّارِ مِن قولِه:   دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا، وأدْمَجَ في خلالِ ذلك وصْفَ داخلِ جَهنَّمَ، ووَصْفَ وَضْعِ المُشركين فيها بقولِه: مَكَانًا ضَيِّقًا، وقولِه: مُقَرَّنِينَ؛ تفنُّنًا في أُسلوبِ الكلامِ [222] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/333، 334). .
- قَولُه: أُلْقُوا الإلقاءُ: الرَّمْيُ، وهو كِنايةٌ عن الإهانةِ [223] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/334). .
- قَولُه: ضَيِّقًا صِفَةٌ لـ مَكَانًا مُفِيدةٌ لزِيادةِ شِدَّةٍ؛ فإنَّ الكَرْبَ مع الضِّيقِ، كما أنَّ الرَّوحَ مع السَّعةِ، وهو السِّرُّ في وصْفِ الجنَّةِ بأنَّ عرْضَها السَّمواتُ والأرضُ [224] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/267)، ((تفسير البيضاوي)) (4/119)، ((تفسير أبي السعود)) (6/206). ؛ فقولُه: ضَيِّقًا على القراءةِ بتَشديدِ الياءِ، والقِراءةِ بسُكونِها ضَيِّقًا [225] قرأها ابنُ كثيرٍ بإسكانِ الياءِ مخفَّفةً، والباقونَ بكسرِها مشددةً. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/262). ؛ كلاهما للمُبالَغةِ في الوصْفِ، مثْلُ مَيْتٍ ومَيِّتٍ؛ لأنَّ (الضَّيِّقَ) بالتَّشديدِ صِيغَةُ تمكُّنِ الوصْفِ مِن الموصوفِ، و(الضِّيقَ) بالسُّكونِ وصْفٌ بالمصدرِ [226] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/334). .
- قَولُه: مُقَرَّنِينَ المُقرَّنُ: المقرونُ؛ صِيغَتْ له مادَّةُ التَّفعيلِ للإشارةِ إلى شِدَّةِ القرْنِ [227] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/334). .
- قَولُه: دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا النِّداءُ كِنايةٌ عن التَّمنِّي، أي: تمنَّوُا الهلاكَ؛ للاستراحةِ مِن فظيعِ العذابِ [228] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/334). .
4- قَولُه تعالى: لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا
- قَولُه: لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا على تَقديرِ (قولٍ) مَحذوفٍ؛ فهو منصوبٌ على أنَّه حالٌ مِن فاعلِ دَعَوْا، أي: دَعَوهُ مقُولًا لهم ذلك حقيقةً بأنْ يُخاطِبَهم الملائكةُ به؛ لِتَنبيهِهم على خُلودِ عَذابِهم، وأنَّهم لا يُجابونَ إلى ما يَدْعُونه، ولا يَنالون ما يَتمنَّوْنَه مِن الهلاكِ المُنجِّي. أو يكونُ تَمثيلًا وتَصويرًا لحالِهم بحالِ مَن يُقالُ له ذلك مِن غيرِ أنْ يكونَ هناك قولٌ ولا خِطابٌ، أي: دَعَوهُ حالَ كونِهم أحقَّاءَ بأنْ يُقالَ لهم ذلك. وإمَّا مُستأنَفٌ وقَعَ جَوابًا عن سُؤالٍ يَنسحِبُ عليه الكلامُ؛ كأنَّه قيلَ: فماذَا يكونُ عندَ دُعائِهم المذكورِ؟ فقيل: يُقالُ لهم ذلك؛ إقناطًا ممَّا علَّقوا به أطماعَهم مِن الهلاكِ، وتَنبيهًا على أنَّ عذابَهم المُلْجِئَ لهم إلى استدعاءِ الهلاكِ بالمَّرةِ أبَدِيٌّ لا خَلاصَ لهم منْه [229] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/206). .
- قَولُه: لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا فيه تَقييدُ النَّهيِ والأمْرِ بـ (اليوم)؛ لمَزيدِ التَّهويلِ والتَّفظيعِ، والتَّنبيهِ على أنَّه ليس كسائرِ الأيَّامِ المعهودةِ [230] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/207). .
- وفي قولِه: ثُبُورًا كَثِيرًا وُصِفَ الثُّبورُ بالكثيرِ؛ إمَّا لكثرةِ نِدائِه بالتَّكريرِ، وهو كِنايةٌ عن عدَمِ حُصولِ الثُّبورِ؛ لأنَّ انتهاءَ النِّداءِ يكونُ بحُضورِ المُنادَى، أو هو يأْسٌ يَقْتضي تَكريرَ التَّمنِّي أو التَّحسُّرِ [231] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/334). .
5- قَولُه تعالى: قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا
- قَولُه: أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ هذا الاستِفهامُ على سَبيلِ التَّوقيفِ والتَّوبيخِ [232] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/88). . وقيل: الاستفهامُ والتَّفضيلُ والتَّرديدُ للتَّقريعِ، مع التَّهكُّمِ والتَّحسيرِ على ما فاتَهم [233] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/119)، ((تفسير أبي السعود)) (6/207). ؛ فإنَّه لمَّا ذكَرَ حالَ العِقابِ المُعَدِّ لِمَن كَذَّبَ بالسَّاعةِ؛ أتْبَعه بما يُؤكِّدُ حَسرتَه ونَدامتَه؛ تَقريعًا وتهكُّمًا [234] يُنظر: ((حاشية شيخ زاده على تفسير البيضاوي)) (6/272). .
- وقيل: يَجوزُ أنْ يُقصَدَ بقولِه: أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ: قُلْ لهم، أي: للمُشرِكين الَّذين يَسمَعون الوعيدَ والتَّهديدَ السَّابقَ؛ فالجُمَلُ مُتَّصلةُ السِّياقِ، والاستِفهامُ حينَئذٍ للتَّهكُّمِ؛ إذ لا شُبهةَ في كونِ الجنَّةِ الموصوفةِ خيرًا. ويجوزُ أنْ يُقصَدَ: قُلْ للمُؤمنينَ؛ فالجُملةُ مُعترِضةٌ بيْنَ آياتِ الوَعيدِ؛ لمُناسَبةِ إبداءِ البَونِ بيْنَ حالِ المُشرِكين وحالِ المُؤمِنين، والاستِفهامُ حينَئذٍ مُستعمَلٌ في التَّلميحِ والتَّلطُّفِ. والتَّفضيلُ على المَحملِ الأوَّلِ في مَوقعِ الآيةِ مُستعمَلٌ للتَّهكُّمِ بالمُشرِكينَ، وعلى المَحملِ الثَّاني مُستعمَلٌ للتَّمليحِ في خِطابِ المُؤمِنين، وإظهارِ المِنَّةِ عليهم. ووَصْفُ الموعودينَ بأنَّهم مُتَّقونَ على المَحمَلِ الأوَّلٍ جارٍ على مُقْتضى الظَّاهرِ، وعلى المَحملِ الثَّاني جارٍ على خلافِ مُقْتضى الظَّاهرِ؛ لأنَّ مُقْتضى الظَّاهرِ أنْ يُؤتَى بضميرِ الخِطابِ؛ فوَجْهُ العُدولِ إلى الإظهارِ ما يُفِيدُه الْمُتَّقُونَ مِن العُمومِ للمُخاطَبينَ ومَن يَجِيءُ بعْدَهم [235] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/335). .
- وقولُه: أَذَلِكَ إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ مِن السَّعيرِ باعتبارِ اتِّصافِها بما فُصِّلَ مِن الأحوالِ الهائلةِ، وما فيه مِن معنى البُعدِ؛ للإشعارِ بكونِها في الغايةِ القاصيةِ مِن الهَولِ والفَظاعةِ [236] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/207). . وقيل: المُشارُ إليه في قولِه: أَذَلِكَ خَيْرٌ ... العِقابُ والمكانُ الضَّيِّقُ، وتَسميتُه بالخيرِ للتَّهكُّمِ والسُّخريةِ؛ لِيَزِيدَ في غَيظِهم، أو أنَّ ثوابَ العدُوِّ وتَنعُّمَه سبَبٌ لتَغيُّظِ العدُوِّ وتَحسُّرِه [237] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/189). .
- وإضافةُ الـ جَنَّةُ إلى الْخُلْدِ للمدْحِ، أو للدَّلالةِ على خُلودِها، أو التَّمييزِ عن جنَّاتِ الدُّنيا [238] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/119)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/189)، ((تفسير أبي السعود)) (6/207). .
- قَولُه: كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا، قد عُلِمَ مِن قولِه: جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَوْنُ الجنَّةِ جزاءَهم ومَصيرَهم، وإنَّما كرَّرها؛ لأنَّها كالتَّذييلِ لها؛ إرادةً لمَزيدِ مَدحِ المكانِ لتَبجُّحِ ساكنِيه، كما أنَّ قولَه: نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف: 31] تَذييلٌ لقولِه: أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ ... [الكهف: 31] ، وأنَّ قولَه: بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف: 29] تَذييلٌ لقولِه: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ [الكهف: 29] . ودَلالتُه على المدْحِ مِن جِهةِ تَنكيرِه، أي: جزاءً مُوفَّرًا لا يدخُلُ تحتَ الوصْفِ، وإردافُه بقولِه: وَمَصِيرًا، أي: مَصيرًا لا يُقادَرُ قَدْرُه؛ فالجزاءُ هنا كالثَّوابِ في تلك الآيةِ، والمصيرُ كالمُرتفَقِ، واجتماعُهما كالتَّتميمِ لِمَا يتِمُّ به ما يُطلَبُ مِن المكانِ مِن التَّرفُّهِ والتَّنعُّمِ؛ فقدَّمَ هنا قولَه تعالى: إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ إلى قولِه تعالى: وَإِذَا أُلْقُوا الآيةَ، على قولِه: قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ ... الآيةَ؛ لِيُؤذِنَ بأنَّ النَّعيمَ لا يتِمُّ إلَّا بطِيبِ المكانِ وسَعتِه، ومُوافقَتِه للمُرادِ والشَّهوةِ، وإلَّا تَنغَّصَ؛ فلذلك ذكَرَ المصيرَ مع الجزاءِ، وأنَّ العِقابَ يتضاعَفُ بضِيقِ الموضعِ وظُلْمِته، وجمْعِه لأسبابِ الاجتواءِ [239] الاجتِواءُ: كَراهةُ المَكانِ وعدَمُ مُوافَقتِه. يُنظر: ((العين)) للخليل (1/125)، ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (37/384). ؛ ولذلك ذكَرَ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا، وذكَرَ مَكَانًا ضَيِّقًا [240] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/268)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/188، 189)، ((تفسير أبي حيان)) (8/89)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/335). .
6- قَولُه تعالى: لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا
- قَولُه: كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا مَسوقٌ مَساقَ المُبالَغةِ في تَحقيقِ الوعْدِ والكرَمِ؛ إذ لا مَعنى للوُجوبِ على اللهِ تعالى سِوى أنَّه تَفضَّلَ وتعهَّدَ به [241] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/336). .
- وقولُه: كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا في التَّعرُّضِ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ، مع الإضافةِ إلى ضَميرِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ مِن تَشريفِه، والإشعارِ بأنَّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو الفائزُ آثِرَ ذي أثيرٍ [242] آثِرَ ذي أَثيرٍ، أي: أوَّلَ كلِّ شَيءٍ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (2/575). بمَغانمِ الوعْدِ الكريمِ: ما لا يَخْفى [243] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/207). .