موسوعة التفسير

سورةُ الأعلَى
الآيات (9-15)

ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ

غريب الكلمات:

يَصْلَى: أي: يَرِدُ ويدخلُ، يقالُ: صَلِيَ النَّارَ وصَلِيَ بها صُلِيًّا، وصِلِيًّا، وصلًى: قاسَى حَرَّها وشِدَّتَها، وأصلُ الصَّلَى: الإيقادُ بالنَّار [83] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/318)، ((البسيط)) للواحدي (14/292) و(22/177)، ((تفسير السمعاني)) (6/210)، ((المفردات)) للراغب (ص: 490). .
أَفْلَحَ: أي: فاز بالمطلوبِ، ونجا مِن المرهوبِ، وأصلُ الفلاحِ: البقاءُ والفوزُ والظَّفَرُ، وإدراكُ البُغيةِ، ثمَّ قيل لكلِّ مَن عقَل وحزُمَ وتكاملتْ فيه خِلالُ الخَيرِ، والعربُ تقولُ لكلِّ مَن أصاب خيرًا: مُفلِحٌ، وأصلُ (فلح) هنا: يدُلُّ على فَوزٍ وبَقاء [84] يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عُبَيدة (1/29)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 39)، ((غريب القرآن)) للسِّجِسْتاني (ص: 432)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/450)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهَرَوي (5/1471)، ((المفردات)) للراغب (ص: 644)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 697)، ((تفسير السعدي)) (ص: 294). .
تَزَكَّى: أي: تَطَهَّر مِن الكُفرِ ومَعاصي اللهِ، وعَمِل بما أمَره اللهُ به، وأصلُ (زكي): يدُلُّ على طهارةٍ ونَماءٍ وزِيادةٍ [85] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/318)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 159)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/17)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 310)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/307)، ((تفسير القرطبي)) (11/227)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 317). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى آمِرًا نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم بالتَّذكيرِ: فذَكِّرْ -يا محمَّدُ- بالقُرآنِ إذا رَجَوتَ نَفعًا في التَّذكيرِ، سيَتذَكَّرُ بالقُرآنِ ويَعتَبِرُ بمَوعِظَتِه مَن يَخْشى اللهَ تعالى، ويَبتَعِدُ الكافِرُ عن الذِّكرى، ولا ينتَفِعُ بها؛ الَّذي يَدخُلُ نارَ الآخِرةِ العُظمى، ويُقاسي شِدَّةَ حَرِّها، ثمَّ لا يَموتُ في النَّارِ ولا يَحْيا.
ثمَّ يُبيِّنُ سُبحانَه حُسنَ عاقِبةِ المؤمنينَ، وأسبابَ ذلك، فيقولُ: قد نَجَح وفازَ مَن تطَهَّرَ مِن الكُفرِ والمعاصي، وذَكَر اللهَ سُبحانَه وتعالى؛ فأقبَلَ على الصَّلاةِ للهِ تعالى.

تفسير الآيات:

فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا تكَفَّل سُبحانَه بتيسيرِ جَميعِ مَصالحِ الدُّنيا والآخرةِ، أمَرَ بدَعوةِ الخَلْقِ إلى الحَقِّ [86] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/132). .
وأيضًا لَمَّا أخبَرَ أنَّه يُقرِئُه ويُيسِّرُه، أمَرَه بالتَّذكيرِ؛ إذ ثَمرةُ الإقراءِ هي انتفاعُه في ذاتِه، وانتفاعُ مَن أُرسِلَ إليهم [87] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/457). .
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9).
أي: فذَكِّرْ -يا محمَّدُ- بالقُرآنِ إذا رَجَوتَ نَفعًا في التَّذكيرِ [88] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/380)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/398)، ((تفسير السعدي)) (ص: 921)، ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 257-259). ومِمَّن ذهب في الجملةِ إلى هذا المعنى المذكورِ: ابنُ كثير، والبِقاعي، والسعدي، والشنقيطي. يُنظر: المصادر السابقة. قال ابنُ تيميَّةَ: (قَولُه: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى أمرٌ بتذكيرِ كُلِّ أحدٍ، فإن انتفَعَ كان تذَكُّرُه تامًّا نافِعًا، وإلَّا حَصَل أصلُ التَّذكيرِ الَّذي قامت به الحُجَّةُ، ودَلَّ ذلك على ذَمِّه واستِحقاقِه التَّوبيخَ، مع أنَّه سُبحانَه إنَّما قال: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى، ولم يقُلْ: ذكِّرْ مَن تَنفَعُه الذِّكْرى فقط... ولم يقُلْ: سيَنتَفِعُ مَن يَخشى؛ فإنَّ النَّفعَ الحاصِلَ بالتَّذكيرِ أعَمُّ مِن تذَكُّرِ مَن يَخشى؛ فإنَّه إذا ذَكَّر قامت الحُجَّةُ على الجميعِ، والأشقى الَّذي تجَنَّبَها حصَلَ بتذكيرِه قيامُ الحُجَّةِ عليه، واستِحقاقُه لعذابِ الدُّنيا والآخِرةِ). ((مجموع الفتاوى)) (16/169). وقال الشنقيطي: (الَّذي يظهَرُ لمقَيِّدِ هذه الحروفِ -عفا الله عنه- هو بقاءُ الآيةِ الكريمةِ على ظاهِرِها، وأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعدَ أن يكَرِّرَ الذِّكرى تكريرًا تقومُ به حُجَّةُ اللهِ على خَلْقِه: مأمورٌ بالتَّذكيرِ عندَ ظَنِّ الفائدةِ... وبيانُ ذلك أنَّه تارةً يَعلمُه بإعلامِ اللهِ به، كما وقَعَ في أبي لهبٍ... وتارةً يَعلَمُ ذلك بقرينةِ الحالِ، بحيث يُبلِّغُ على أكمَلِ وَجهٍ، ويأتي بالمعجزاتِ الواضِحةِ، فيَعلَمُ أنَّ بَعضَ الأشخاصِ عالمٌ بصِحَّةِ نبُوَّتِه، وأنَّه مُصِرٌّ على الكُفرِ؛ عِنادًا ولَجاجًا، فمِثلُ هذا لا يجِبُ تكريرُ الذِّكرى له دائمًا، بعدَ أن تكَرَّرَ عليه تكريرًا تلزَمُه به الحُجَّةُ). ((دفع إيهام الاضطراب)) (ص: 257-259). ثمَّ قال الشنقيطي: (إنَّما اختَرْنا بقاءَ الآيةِ على ظاهِرِها مع أنَّ أكثرَ المفسِّرينَ على صَرفِها عن ظاهِرِها المُتبادرِ منها، وأنَّ معناها: فذكِّرْ مُطلقًا إن نفعَتِ الذِّكْرى وإن لم تنفَعْ؛ لأنَّنا نرى أنَّه لا يجوزُ صَرفُ كتابِ الله عن ظَواهِرِه المُتبادرةِ منه إلَّا لدليلٍ يجبُ الرُّجوعُ له). ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) (ص: 260). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/284، 285). وقيل: الكلامُ على الاكتفاءِ، والمعنى: إن نفعَتِ الذِّكْرى وإن لم تنفَعْ. وممَّن اختاره: الواحديُّ، ومكِّي، والبغوي، والعُلَيمي، والشوكاني. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/470)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8211)، ((تفسير البغوي)) (5/242)، ((تفسير العليمي)) (7/342)، ((تفسير الشوكاني)) (5/516). ونسَبَ أبو حيَّانَ وأبو السُّعودِ هذا القولَ إلى: الفرَّاءِ، والنَّحَّاسِ، والجُرْجانيِّ، والزهراويِّ. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/457)، ((تفسير أبي السعود)) (9/146). ويُنظر أيضًا: ((إعراب القرآن)) للنحاس (5/127). وقيل غيرُ ذلك. يُنظر ما يأتي في الفوائد (ص: 157-159). .
كما قال تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق: 45] .
وقال سُبحانَه: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55].
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَه بالتَّذكيرِ لكُلِّ أحدٍ قَسَّم النَّاسَ له إلى قِسمَينِ: قِسمٌ يَقبَلُ العلاجَ، وقِسمٌ لا يَقبَلُه؛ إعلامًا بأنَّه سُبحانَه وتعالى عالِمٌ بكُلٍّ مِنَ القِسمَينِ جملةً وأفرادًا على التَّعيينِ، ولم يَزَلْ عالِمًا بذلك، ولكِنَّه لم يُعَيِّنْ؛ ابتِلاءً منه لعبادِه؛ لتقومَ له الحُجَّةُ عليهم بما يتعارَفونَه بيْنَهم، وله الحُجَّةُ البالغةُ [89] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/398، 399). .
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10).
أي: سيَتذَكَّرُ بالقُرآنِ ويَعتَبِرُ بمَوعِظَتِه مَن يَخْشى اللهَ، ويَخْشى عَذابَه [90] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/317)، ((الوسيط)) للواحدي (4/471)، ((تفسير القرطبي)) (20/20)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/174)، ((تفسير ابن كثير)) (8/380)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 165). قال ابنُ عطيَّة: (أخبَرَ تعالى أنَّه سيَذَّكَّرُ مَن يَخشى اللهَ والدَّارَ الآخرةَ، وهم العُلَماءُ والمؤمِنونَ؛ كلٌّ بقَدْرِ ما وُفِّقَ). ((تفسير ابن عطية)) (5/470). وقال البِقاعي: (مَنْ يَخْشَى أي: في جِبِلَّتِه نَوعَ خَشيةٍ، وهو السَّعيدُ لِما قُدِّرَ له في نَفْسِه مِن السَّعادةِ العُظمى لقَبولِ الحَنيفيَّةِ السَّمْحةِ، فيَذَّكَّرُ ما يَعلَمُ منها في نَفْسِه فيَتَّعِظُ؛ فإنَّ الخَشيةَ حامِلةٌ على كُلِّ خَيرٍ). ((نظم الدرر)) (21/399). .
كما قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ [هود: 103] .
وقال سُبحانَه: وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ [غافر: 13] .
وقال اللهُ -عزَّ وجَلَّ- عن فِرعَونَ: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى [النازعات: 25-26] .
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّن تعالى مَن ينتَفِعُ بالذِّكرى؛ بَيَّن مَن لا ينتَفِعُ بها [91] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/522). .
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11).
أي: ويَبتَعِدُ الكافِرُ عن الذِّكْرى، ولا يَنتَفِعُ بها [92] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/317)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/399)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/285)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 165). قيل: المرادُ بالأشقى: الكافرُ المُصِرُّ على إنكارِ المَعادِ ونحوِه، الجازمُ بنَفيِ ذلك، وهو أشقى أنواعِ الكفَرةِ. وقيل: المرادُ به: الكافرُ المُتَوغِّلُ في عداوةِ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ كالوليدِ ابنِ المُغيرةِ، وعُتبةَ بنِ ربيعةَ. وقيل: المرادُ به: الكافرُ مُطلقًا؛ فإنَّه أشقى مِن الفاسِقِ. وقيل: المُفَضَّلُ عليه كفَرةُ سائرِ الأُمَمِ؛ فإنَّه حيث كان المؤمنُ مِن هذه الأُمَّةِ أسْعَدَ مِن مُؤْمِنيهم، كان الكافرُ منها أشقى مِن كافِرِيهم. يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (15/320). .
الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ وَصْفَه الَّذي أوجَبَ له العَمَلَ السَّيِّئَ؛ ذكَرَ جَزاءَه [93] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/400). .
الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12).
أي: الَّذي يَدخُلُ نارَ الآخِرةِ العُظمى، فيُقاسي شِدَّةَ حَرِّها وآلامِها [94] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/318)، ((الوسيط)) للواحدي (4/471)، ((تفسير القرطبي)) (20/21)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/400)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/ 286)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 165). مِمَّن قال بأنَّ الكُبْرى هي نارُ الآخرةِ؛ لأنَّها أكبَرُ مِن نارِ الدُّنيا: السمرقنديُّ، وابنُ أبي زَمَنِين، والواحديُّ، والبغوي، وابن الجوزي، والنسفي، وجلال الدين المحلي، والعُلَيمي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/571)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/121)، ((الوسيط)) للواحدي (4/471)، ((تفسير البغوي)) (5/242)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/432)، ((تفسير النسفي)) (3/632)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 804)، ((تفسير العليمي)) (7/342)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 165). وقيل: المرادُ بالنَّارِ الكُبرى: الطَّبَقةُ السُّفْلى مِن أطباقِ النَّارِ. ومِمَّن ذهب إليه: الفَرَّاءُ، وأبو السعودِ، وهو ظاهرُ اختيارِ الألوسيِّ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/256)، ((تفسير أبي السعود)) (9/146)، ((تفسير الألوسي)) (15/320). ويُنظر أيضًا: ((تفسير القرطبي)) (20/21). .
كما قال تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى [الليل: 14-15] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((نارُكم هذه الَّتي يُوقِدُ ابنُ آدَمَ: جُزءٌ مِن سَبعينَ جُزءًا مِن حَرِّ جَهنَّمَ! قالوا: واللهِ إن كانت لَكافيةً يا رسولَ اللهِ! قال: فإنَّها فُضِّلَت عليها بتِسعةٍ وسِتِّينَ جُزءًا، كُلُّها مِثْلُ حَرِّها )) [95] رواه البخاريُّ (3265)، ومسلمٌ (2843) واللَّفظُ له. .
ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا (13).
أي: ثمَّ لا يَموتُ الكافِرُ في النَّارِ الكُبْرى؛ فيَستريحَ مِن عَذابِها، ولا يَحْيا حياةً نافِعةً وخالِصةً مِنَ الآلامِ [96] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/471)، ((تفسير القرطبي)) (20/21)، ((تفسير ابن كثير)) (8/380)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/402)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/286)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 166). ومِمَّن ذهب في الجُملةِ إلى هذا المعنى المذكور: الواحديُّ، والقرطبي، وابن كثير، والبِقاعي، وابن عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: المصادر السابقة. وقيل: المعنى: أنَّ نَفْسَ أحَدِهم تصيرُ في حَلْقِه، فلا تخرُجُ؛ فيَموتَ، ولا ترجِعُ إلى مَوضِعِها مِن الجِسْمِ؛ فيَحْيا. ومِمَّن ذهب إليه: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/318). !
كما قال الله تبارك وتعالى: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا [طه: 74] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ [إبراهيم: 17] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [فاطر: 36] .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أمَّا أهلُ النَّارِ الَّذين هم أهلُها فإنَّهم لا يَموتونَ فيها ولا يَحْيَونَ)) [97] رواه مسلم (185). .
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر تعالى وَعيدَ مَن أعرَضَ عن النَّظَرِ في دلائِلِ اللهِ تعالى؛ أتْبَعَه بالوَعدِ لضِدِّه [98] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/523). .
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14).
أي: قد نَجَح وفازَ مَن تطَهَّرَ مِن الكُفرِ والمعاصي وسَيِّئِ الأخلاقِ، فآمَنَ وعَمِلَ الأعمالَ الصَّالحةَ الَّتي منها ذِكرُ اللهِ، والصَّلاةُ، والصَّدَقةُ [99] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/318)، ((تفسير السمرقندي)) (3/572)، ((تفسير القرطبي)) (20/21، 22)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/632) و(16/184، 198)، ((تفسير ابن كثير)) (8/381)، ((تفسير السعدي)) (ص: 921)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/287، 288)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 166، 167). قال محمد رشيد رضا: (الفَلاحُ في ذلك الوَعدِ يَشملُ الفَوزَ بخَيرَيِ الدُّنيا والآخرةِ). ((تفسير المنار)) (4/41). وقال ابن جزي: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى يحتمِلُ أنْ يكونَ بمعنى الطَّهارةِ مِن الشِّركِ والمعاصي، أو بمعنى الطَّهارةِ للصلاةِ أو بمعنى أداءِ الزَّكاةِ وعلى هذا قال جماعةٌ: إنَّها في يومِ الفطرِ والمعنى أدَّى زكاةَ الفِطرِ وذَكَر اسْمَ رَبِّهِ في طريقِ المصلَّى إلى أنْ يَخرُجَ الإمامُ، وصلَّى صلاةَ العيدِ، ... وقيل: المرادُ أدَّى زكاةَ مالِه وصلَّى الصلواتِ الخمسَ). ((تفسير ابن جزي)) (2/475). .
كما قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ [آل عمران: 164] .
وقال سُبحانَه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ [المؤمنون: 1 - 4] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس: 7 - 9] .
وعن زَيدِ بنِ أرقَمَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((اللَّهُمَّ آتِ نَفْسي تَقْواها، وزَكِّها أنت خَيرُ مَن زكَّاها، أنت وَلِيُّها ومَولاها )) [100] رواه مسلم (2722). .
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15).
أي: وذَكَر اللهَ سُبحانَه وتعالى بقلبِه ولسانِه؛ فأورَثَ له ذلك إقبالًا على الصَّلاةِ للهِ تعالى [101] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/321، 322)، ((تفسير الماوردي)) (6/255)، ((تفسير القرطبي)) (20/22)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/19)، ((تفسير ابن كثير)) (8/381)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/403)، ((تفسير السعدي)) (ص: 921)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/288). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى أنَّ خشيةَ اللهِ تعالى تَستَلزِمُ طاعتَه؛ فالخائفُ مِن اللهِ ممتثِلٌ لأوامرِه، مُجتنِبٌ لنَواهيه؛ فقد أَخْبَرَ سُبحانَه أنَّ مَن يخشاه يَتَذَكَّرُ، والتَّذكُّرُ هنا مُستَلزِمٌ لعبادتِه [102] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/24). .
2- في قَولِه تعالى: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى، وقولِه: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [الشورى: 13] ، وقولِه: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ [يونس: 9] أنَّ العَبدَ كُلَّما اتَّقى زاد هُداه، وكُلَّما اهتَدى زادتْ تَقواه [103] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 130). .
3- في قَولِه تعالى: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى أنَّ مَنْ آمَنَ بالآخرةِ وأَشْفَقَ منها فهو الَّذي يَنْتَفِعُ بالآياتِ والمواعِظِ [104] يُنظر: ((الرسالة التبوكية)) لابن القيم (ص: 72). .
4- في قَولِه تعالى: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى أنَّ تَذَكُّرَ الوَعدِ والوعيدِ يُوجِبُ خَشيةَ اللهِ والحَذَرَ منه، ولا تنفَعُ الموعظةُ إلَّا لِمَنْ آمَنَ به، وخافه ورَجاه [105] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/446). .
5- قَولُه تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى يعني: تَطَهَّرَ، ويَشملُ ذلك ظاهِرَه وباطِنَه، يَتَزَكَّى أوَّلًا: مِن الشِّركِ بالنِّسبةِ لمعامَلةِ اللهِ، فيَعبُدُ اللهَ مُخلِصًا له الدِّينَ، لا يُرائي، ولا يُسَمِّعُ، ولا يَطلُبُ جاهًا، ولا رِئاسةً فيما يَتَعَبَّدُ به للهِ عزَّ وجَلَّ، وإنَّما يريدُ بهذا وَجْهَ اللهِ تعالى، والدَّارَ الآخرةَ.
ثانيًا: تَزَكَّى في اتِّباعِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، بحيثُ لا يَبْتَدِعُ في شريعتِه لا بقليلٍ ولا كثيرٍ، لا في الاعتقادِ ولا في الأقوالِ ولا في الأفعالِ، وهذا التَّزكِّي بالنِّسبةِ للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ -وهو اتِّباعُه مِن غيرِ ابتِداعٍ- لا ينطبقُ تمامًا إلَّا على طريقةِ السَّلَفِ الصَّالحِ؛ طريقةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ الَّذين يؤمِنونَ بكُلِّ ما وَصَفَ اللهُ به نفْسَه في كتابِه، أو على لسانِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم؛ على طريقةِ السَّلَفِ الصَّالحِ، الَّذين لا يَبتَدِعونَ في العباداتِ القَوليَّةِ ولا في العباداتِ الفِعْليَّةِ شيئًا في دِينِ اللهِ، تَجِدُهم يَتَّبِعونَ ما جاء به الشَّرعُ، خِلافًا لِمَا يَصْنَعُه بعضُ المبتَدِعةِ في الأذكارِ المبتدَعةِ؛ إمَّا في نَوعِها، وإمَّا في كَيفيَّتِها وصِفَتِها، وإمَّا في أدائِها، كما يفعَلُه بعضُ أصحابِ الطُّرُقِ مِن الصُّوفيَّةِ وغيرِهم.
ثالثًا: تَزَكَّى بالنِّسبةِ لمُعامَلةِ الخَلْقِ، بحيثُ يُطَهِّرُ قلْبَه مِن الغِلِّ والحِقدِ على إخوانِه المسلِمينَ، فتجدُه دائمًا طاهِرَ القَلبِ، يُحِبُّ لإخوانِه ما يُحِبُّ لنَفْسِه، لا يَرضى لأحَدٍ أنْ يَمَسَّه سُوءٌ، بل يَوَدُّ أنَّ جميعَ النَّاسِ سالِمونَ مِن كلِّ شَرٍّ، مُوَفَّقونَ لكُلِّ خَيرٍ [106] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 167). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُه تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى استُدِلَّ بظاهرِ الآيةِ على أنَّه يُشتَرَطُ في وُجوبِ الأمرِ بالمعروفِ مَظِنَّةُ النَّفعِ به، فإنْ جَزَم بعدَمِ الفائدةِ فيه لم يجِبْ عليه [107] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/465). .
2- قال تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى مفهومُ الآيةِ أنَّه إنْ لم تنفَعِ الذِّكْرى؛ بأنْ كان التَّذكيرُ يَزيدُ في الشَّرِّ، أو يَنقُصُ مِنَ الخَيرِ: لم تكُنِ الذِّكرى مأمورًا بها، بل مَنهِيًّا عنها؛ فالذِّكرى ينقَسِمُ النَّاسُ فيها قِسمَينِ: مُنتَفِعونَ وغيرُ مُنتفِعينَ؛ فأمَّا المُنتفعونَ فقد ذكَرَهم بقَولِه: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى اللهَ تعالى؛ فإنَّ خَشيةَ اللهِ تعالى وعِلْمَه بأنْ سيُجازيه على أعمالِه توجِبُ للعَبدِ الانكفافَ عن المعاصِي، والسَّعْيَ في الخَيراتِ. وأمَّا غيرُ المنتَفِعينَ فذَكَرَهم بقَولِه: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى، وهي النَّارُ الموقَدةُ، الَّتي تطَّلِعُ على الأفئِدةِ [108] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 921). .
3- في قَولِه تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سؤالٌ: أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان مَبعوثًا إلى الكُلِّ، فيَجِبُ عليه أن يُذَكِّرَهم سواءٌ نفَعَتْهم الذِّكْرى أو لم تنفَعْهم [109] وقد جاءت آياتٌ كثيرةٌ تدُلُّ على الأمرِ بالتَّذكيرِ مُطلقًا؛ كقولِه: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الغاشية: 21] ، وقولِه: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 17]. يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 257). وقال الشنقيطي أيضًا: (تنبيهٌ: هذا الإشكالُ الَّذي في هذه الآيةِ إنَّما هو على قولِ مَن يقولُ باعتبارِ دليلِ الخِطابِ الَّذي هو مفهومُ المُخالَفةِ، وأمَّا على قولِ مَن لا يَعتبِرُ مفهومَ المُخالَفةِ شرطًا كان أو غيرَه -كأبي حنيفةَ- فلا إشكالَ في الآيةِ، وكذلك لا إشكالَ فيها على قولِ مَن لا يَعتبِرُ مفهومَ الشَّرطِ -كالباقِلَّانيِّ-، فتكونُ الآيةُ نصَّتْ على الأمرِ بالتَّذكيرِ عندَ مَظِنَّةِ النَّفعِ، وسكتَتْ عن حُكمِه عندَ عدمِ مَظنَّةِ النَّفعِ، فيُطلَبُ مِن دليلٍ آخَرَ، فلا تُعارِضُ الآيةُ الآياتِ الدَّالَّةَ على التَّذكيرِ مُطلقًا). ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) (ص: 260). ؛ فما المرادُ مِن تعليقِه على الشَّرطِ في قَولِه: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى؟
الجوابُ: أنَّ المعَلَّقَ على الشَّيءِ لا يَلزَمُ أن يكونَ عَدَمًا عندَ عَدَمِ ذلك الشَّيءِ، كقَولِه: وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [النور: 33] ، ومنها قَولُه: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: 172] ، وإذا عرَفْتَ هذا فإنَّهم ذكَروا لذِكْرِ هذا الشَّرطِ فوائِدَ:
إحداها: أنَّ مَن باشَرَ فِعلًا لغَرَضٍ فلا شَكَّ أنَّ الصُّورةَ الَّتي عُلِمَ فيها إفضاءُ تلك الوَسيلةِ إلى ذلك الغَرَضِ كان إلى ذلك الفِعلِ أوجَبَ مِن الصُّورةِ الَّتي عُلِمَ فيها عدمُ ذلك الإفضاءِ؛ فلذلك قال: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى.
ثانيها: أنَّه تعالى ذكَرَ أشرَفَ الحالتَينِ، ونَبَّه على الأُخرى، كقَولِه: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] ، والتَّقديرُ: «فذَكِّرْ إنْ نفَعَتِ الذِّكْرى أو لم تنفَعْ» [110] قال ابن عثيمين: (إذا قُلْنا بالقَولِ الآخَرِ: أنَّ المعنى: سَواءٌ نَفَعَتْ أمْ لَمْ تَنْفَعْ، مِثلَما يُقالُ للإنسانِ: عَلِّمْ هذا إنْ كان يَنفَعُه العِلمُ، فالمعنى: كَرِّرْ عليه التَّعليمَ، وهذا أسلوبٌ معروفٌ في اللُّغةِ العربيَّةِ؛ أنَّه يُقْصَدُ بالشَّرطِ الاستِمرارُ). ((لقاء الباب المفتوح)) (اللقاء رقْم: 156). .
ثالثُها: أنَّ المرادَ منه: البَعثُ على الانتِفاعِ بالذِّكرى، كما يقولُ المرءُ لِغَيرِه إذا بَيَّنَ له الحَقَّ: قد أوضَحْتُ لك إنْ كُنتَ تَعقِلُ، فيكونُ مُرادُه البَعْثَ على القَبولِ والانتِفاعِ به.
رابعُها: أنَّ هذا يَجري مَجْرى تنبيهِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه لا تنفَعُهم الذِّكْرى، كما يُقالُ للرَّجُلِ: ادْعُ فُلانًا إنْ أجابَك، والمعنى: وما أراه يُجيبُك [111] وقال ابن جُزَي: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى المرادُ بهذا الشَّرطِ توبيخُ الكفَّارِ الَّذين لا تَنفَعُهم الذِّكْرى، واستِبْعادُ تأثيرِ الذِّكْرى في قُلوبِهم، كقَولِك: قد أوصَيْتُك لو سَمِعتَ). ((تفسير ابن جزي)) (2/ 474). .
خامِسُها: أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ دعاهم إلى اللهِ كثيرًا، وكُلَّما كانت دعوتُه أكثَرَ كان عُتُوُّهم أكثَرَ، وكان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يحتَرِقُ حَسرةً على ذلك، فقيل له: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق: 45] ؛ إذِ التَّذكيرُ العامُّ واجِبٌ في أوَّلِ الأمرِ، فأمَّا التَّكريرُ فلعَلَّه إنَّما يجِبُ عندَ رجاءِ حُصولِ المقصودِ؛ فلهذا المعنى قَيَّدَه بهذا الشَّرطِ [112] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/132). وقيل: معنى قَوْله: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى إذْ نَفَعَتِ الذِّكْرى، مثل قَولِه تعالى: وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 175] ومَعْناه: إِذْ كُنْتُم مُؤمنين. وقيل: المعنى: ذكِّرْ بِكُلِّ حالٍ؛ فقد نَفَعَتِ الذِّكْرى، فهو تعليقٌ بمُتحقِّقٍ، والمعنى: إن نَفَعَتْ، وقد نَفَعتْ. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (6/209). ونحو القولِ السَّابقِ قولُ مَن قال: إنَّ (إنْ) بمعنى «مَا»، أيْ: فذَكِّرْ ما نَفَعَتِ الذِّكْرى؛ لأنَّ الذِّكْرى نافِعةٌ بكُلِّ حالٍ. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/516). قال ابنُ عثيمين بعدَ أن ذكَرَ الخِلافَ في معنى الآيةِ: (على كلِّ حالٍ نقولُ: لا بُدَّ مِن التَّذكيرِ، حتَّى وإن ظنَنْتَ أنَّها لا تَنفَعُ؛ فإنَّها سوف تَنفَعُك أنت، وسوف يَعلَمُ النَّاسُ أنَّ هذا الشَّيءَ الَّذي ذكَّرْتَ عنه إمَّا واجبٌ وإمَّا حرامٌ، وإذا سكَتَّ والنَّاسُ يَفعَلونَ المُحَرَّمَ، قال النَّاسُ: لو كان هذا مُحَرَّمًا لذَكَّر به العلماءُ، أو لو كان هذا واجبًا لذكَّر به العلماءُ، فلا بُدَّ مِن التَّذكيرِ، ولا بدَّ مِن نشرِ الشَّريعةِ، سواءٌ نفعت أم لم تنفَعْ). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 164). وقال الشنقيطيُّ بعدَ أن اختار بقاءَ الآيةِ الكريمةِ على ظاهِرِها، وأنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم بعدَ أن يُكرِّرَ الذِّكْري تكريرًا تقومُ به حُجَّةُ الله على خَلقِه مأمورٌ بالتَّذكيرِ عندَ ظنِّ الفائدةِ، أمَّا إذا عَلِم عدمَ الفائدةِ فلا يُؤْمَرُ بشيءٍ هو عالمٌ أنَّه لا فائدةَ فيه؛ قال: (حاصلُ إيضاحِ هذا الجوابِ أنَّ الذِّكْرى تَشتَمِلُ على ثلاثِ حِكَمٍ: الأولى: خروجُ فاعِلِها مِن عُهدةِ الأمرِ بها. الثَّانيةُ: رجاء النَّفعِ لِمَن يُوعَظُ بها. وبيَّن اللهُ تعالى هاتَينِ الحِكمتَينِ بقولِه تعالى: قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف: 164] ، وبيَّن الأُولى منهما بقولِه تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ [الذاريات: 54]، وقولِه تعالى: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ [الشورى: 48] ، ونحوِها مِن الآياتِ. وبيَّن الثَّانيةَ بقولِه: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55]. الثَّالثةُ: إقامةُ الحُجَّةِ على الخَلقِ، وبيَّنها تعالى بقولِه: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] ، وبقولِه: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا الآيةَ [طه: 134] . فالنَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إذا كرَّر الذِّكْرى حصلَتِ الحِكمةُ الأُولى والثَّالثةُ، فإنْ كان في الثَّانيةِ طمَعٌ استمَرَّ على التَّذكيرِ، وإلَّا لم يُكلَّفْ بالدَّوامِ، والعِلمُ عندَ اللهِ تعالى). ((دفع إيهام الاضطراب)) (ص: 260). .
4- في قَولِه تعالى: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى سُؤالٌ: أنَّ العِلمَ إنَّما يُسَمَّى «تذَكُّرًا» إذا كان قد حَصَل العِلمُ أوَّلًا ثمَّ نَسِيَه، وهذه الحالةُ غيرُ حاصلةٍ للكُفَّارِ، فكيف سَمَّى اللهُ تعالى ذلك بالتَّذَكُّرِ؟!
وجوابُه: أنَّ لقُوَّةِ الدَّلائِلِ وظُهورِها كأنَّ ذلك العِلمَ كان حاصِلًا، ثمَّ إنَّه زال بسَبَبِ التَّقليدِ والعِنادِ؛ فلهذا أسماه اللهُ تعالى بـ «التَّذَكُّرِ» [113] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/134). . أو لِما تقرَّر في الفِطَرِ [114] يُنظر ((تفسير ابن عاشور)) (16/185). .
5- في قَولِه تعالى: ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا سُؤالٌ: كيف قال ذلك، مع أنَّ الحيوانَ لا يخلو عن الاتِّصافِ بأحَدِهما؟!
الجوابُ: أنَّ مَعناه: لا يموتُ مَوتًا يَستريحُ به، ولا يَحْيا حياةً ينتَفِعُ بها، كقَولِه تعالى: لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [فاطر: 36] .
وقيل: معناه: تَصعَدُ نَفْسُه إلى الحُلقومِ، ثمَّ لا تُفارِقُه؛ فيَموتَ، ولا ترجِعُ إلى مَوضِعِها مِن الجِسمِ؛ فيَحيا [115] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 607). .
6- في قَولِه تعالى: ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا أنَّ الجزاءَ مِن جِنسِ العَمَلِ؛ فإنَّه لَمَّا كان الأشقَى في الدُّنيا ليس بحَيٍّ الحياةَ النَّافِعةَ، ولا مَيِّتًا عديمَ الإحساسِ؛ كان في الآخِرةِ كذلك [116] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/206). .
7- في سُورةِ (النُّورِ) جاء قولُه: وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ [النور: 21] ، أي: أنَّ اللهَ يُطهِّرُه مِن أدناسِ الكفْرِ والمعاصي بتَوفيقِه وهِدايتِه إلى الإيمانِ والتَّوبةِ النَّصوحِ والأعمالِ الصَّالحةِ، وهذا الَّذي دلَّت عليه هذه الآيةُ المذكورةُ لا يُعارِضُ قولَه تعالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس: 9] ، ولا قولَه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، على القولِ بأنَّ معْنى تَزَكَّى: تَطهَّرَ مِن أدناسِ الكفْرِ والمعاصي، ووَجْهُ ذلك في قولِه: مَنْ زَكَّاهَا أنَّه لا يُزكِّيها إلَّا بتَوفيقِ اللهِ وهِدايتِه إيَّاهُ للعمَلِ الصَّالحِ، وقَبولِه منه، وكذلك الأمرُ في قولِه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [117] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/485). .
8- قد جُمِعَت أنواعُ الخَيرِ في قولِه تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى؛ فإنَّ الفلاحَ نَجاحُ المرْءِ فيما يَطمَحُ إليه، فهو يَجمَعُ مَعنيَيِ الفوزِ والنَّفْعِ، وذلك هو الظَّفَرُ بالمُبْتغى مِن الخَيرِ [118] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/287). .
9- قَولُه تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى استُدِلَّ به على مَشروعيَّةِ صلاةِ العيدِ، وزكاةِ الفِطرِ وتقديمِها على الصَّلاةِ، والتَّكبيرِ في العِيدِ [119] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 286). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالَى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى
- قولُه: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى بعْدَ أنْ ثَبَّتَ اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتَكفَّلَ له ما أزال فَرَقَه مِن أعباءِ الرِّسالةِ، وما اطمَأَنَّت به نفْسُه مِن دفْعِ ما خافَه مِن ضَعفٍ عن أدائِه الرِّسالةَ على وَجْهِها، وتَكفَّلَ له دفْعَ نِسيانِ ما يُوحَى إليه، إلَّا ما كان إنساؤُه مُرادًا للهِ تعالَى، ووعَدَه بأنَّه وفَّقه وهَيَّأَه لذلك، ويسَّرَه عليه؛ أعقَبَ ذلك بأنْ أمَرَه بالتَّذكيرِ، أي: التَّبليغِ، أي: بالاستِمرارِ عليه؛ إرهافًا لعَزْمِه، وشَحْذًا لنَشاطِه؛ ليكونَ إقبالُه على التَّذكيرِ معَ حرصٍ ومحبَّةٍ؛ فإنَّ امتِثالَ الأمرِ إذا عاضَدَه إقبالُ النَّفْسِ على فِعلِ المأمورِ به، كان فيه مَسرَّةٌ للْمأمورِ، فجمَعَ بيْن أداءِ الواجبِ وإرضاءِ الخاطِرِ؛ فالفاءُ للتَّفريعِ على ما تَقدَّمَ تَفريعَ النَّتيجةِ على المقدِّماتِ [120] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/283، 284). .
وقيل: الفاءُ في قولِه: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى هي الفصيحةُ؛ أفْصَحَتْ عن شَرطٍ مُقدَّرٍ، أي: إنْ عَلِمْتَ أنَّك مِن أربابِ الفُيوضاتِ الكَماليَّةِ بهِدايتِنا وتَوفيقِنا؛ فذكِّرْ [121] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/451). .
- ومَفعولُ فَذَكِّرْ مَحذوفٌ؛ لقصْدِ التَّعميمِ، أي: فذكِّرِ النَّاسَ، ودلَّ عليه قولُه: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى الآيتَينِ [122] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/284). .
- وجُملةُ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى مُعترِضةٌ بيْن الجُملتَينِ المُعلَّلةِ وعِلَّتِها، وهذا الاعتراضُ مَنظورٌ فيه إلى العُمومِ الَّذي اقتضاهُ حذْفُ مَفعولِ فَذَكِّرْ، أي: فدُمْ على تَذكيرِ النَّاسِ كلِّهم إنْ نَفَعَت الذِّكرى جَميعَهم، أي: وهي لا تَنفَعُ إلَّا البعضَ، وهو الَّذي يُؤخَذُ مِن قولِه: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى الآيةَ [123] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/284). .
أوِ الشَّرطُ في قولِه: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى جُملةٌ مُعترِضةٌ، وليس مُتعلِّقًا بالجُملةِ، ولا تَقييدًا لمَضمونِها؛ إذْ ليس المعْنى: فذَكِّرْ إذا كان للذِّكرى نفْعٌ، حتَّى يُفهَمَ منه بطَريقِ مَفهومِ المخالفةِ ألَّا تُذكِّرَ إذا لم تَنفَعِ الذِّكرى؛ إذْ لا وَجْهَ لتَقييدِ التَّذكيرِ بما إذا كانت الذِّكرى نافعةً؛ إذْ لا سَبيلَ إلى تَعرُّفِ مَواقعِ نفْعِ الذِّكرى؛ ولذلك كان قولُه تعالَى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق: 45] مُؤَوَّلًا بأنَّ المعْنى: فذَكِّرْ بالقُرآنِ، فيَتذكَّرُ مَن يَخافُ وَعيدِي، بلِ المرادُ: فذَكِّرِ الناسَ كافَّةً إنْ كانت الذِّكرى تَنفَعُ جَميعَهم، فالشَّرطُ مُستعمَلٌ في التَّشكيكِ؛ لأنَّ أصْلَ الشَّرطِ بـ (إنْ) أنْ يكونَ غيرَ مَقطوعٍ بوُقوعِه، فالدَّعوةُ عامَّةٌ، وما يَعلَمُه اللهُ مِن أحوالِ النَّاسِ في قَبولِ الهُدى وعدَمِه أمرٌ اسْتأثَرَ اللهُ بعِلمِه، فأبو جَهلٍ مَدعوٌّ للإيمانِ، واللهُ يَعلَمُ أنَّه لا يُؤمِنُ، لكنَّ اللهَ لم يَخُصَّ بالدَّعوةِ مَن يُرْجى منهم الإيمانُ دُونَ غيرِهم، والواقعُ يَكشِفُ المقدورَ، وهذا تَعريضٌ بأنَّ في القَومِ مَن لا تَنفَعُه الذِّكرى، وذلك يُفهَمُ مِن اجتِلابِ حرْفِ (إنْ) المُقتضِي عدَمَ احتِمالِ وُقوعِ الشَّرطِ أو نُدرةَ وُقوعِه؛ ولذلك جاء بعْدَه بقولِه: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى؛ فهو استئنافٌ بَيانيٌّ ناشئٌ عن قولِه: فَذَكِّرْ وما لَحِقَه مِن الاعتراضِ بقولِه: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى المُشعرِ بأنَّ التَّذكيرَ لا يَنتفِعُ به جَميعُ المُذَكَّرينَ [124] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/284، 285). .
- قولُه: مَنْ يَخْشَى جِنسٌ لا فرْدٌ مُعيَّنٌ، أي: سيَتذكَّرُ الَّذين يَخشَون، والضَّميرُ المُستترُ في يَخْشَى مُراعًى فيه لَفظُ (مَن)؛ فإنَّه لَفظٌ مُفرَدٌ، وقد نُزِّلَ فِعلُ يَخْشَى مَنزلةَ اللَّازِمِ فلمْ يُقدَّرْ له مَفعولٌ، أي: يَتذكَّرُ مَنِ الخشيةُ فِكرَتُه وجِبِلَّتُه، أي: مَن يَتوقَّعُ حُصولَ الضُّرِّ والنَّفعِ فيَنظُرُ في مَظانِّ كلٍّ ويَتدبَّرُ في الدَّلائلِ؛ لأنَّه يَخْشى أنْ يَحِقَّ عليه ما أُنذِرَ به [125] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/285). .
2- قولُه تعالَى: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا
- قولُه: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى التَّجنُّبُ: التَّباعُدُ، وأصْلُه (تَفعَّلَ) لتَكلُّفِ الكَينونةِ بجانبٍ مِن شَيءٍ، والجانِبُ: المكانُ الَّذي هو طرَفٌ لغَيرِه، وتَكلُّفُ الكَينونةِ به كِنايةٌ عن طلَبِ البُعدِ، أي: بمَكانٍ بَعيدٍ منه، أي: يَتباعَدُ عن الذِّكرى الأشْقى [126] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/285). .
- وتَعريفُ الْأَشْقَى تَعريفُ الجِنسِ؛ فيَشملُ جَميعَ المشركينَ، أي: الأشقَونَ، أو اللَّامُ للعهْدِ، والمرادُ شَخصٌ بعَينِه، أو الأشْقَى مِن الكَفَرةِ؛ لتَوغُّلِه في الكُفْرِ وعَداوةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [127] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/740)، ((تفسير البيضاوي)) (5/306)، ((تفسير أبي حيان)) (10/458)، ((تفسير أبي السعود)) (9/146)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/286). .
- ووُصِفَ الْأَشْقَى بأنَّه الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى؛ لأنَّ إطلاقَ الْأَشْقَى في هذه الآيةِ في صَدْرِ مُدَّةِ البَعثةِ المُحمديَّةِ، فكان فيه مِن الإبهامِ ما يَحتاجُ إلى البَيانِ، فأُتبِعَ بوَصْفٍ يُبيِّنُه في الجُملةِ ما نزَلَ مِن القُرآنِ مِن قبْلِ هذه الآيةِ [128] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/286). .
- ومُقابَلةُ مَنْ يَخْشَى بـ الْأَشْقَى تُؤذِنُ بأنَّ الأشْقى مِن شَأنِه ألَّا يَخْشى، فهو سادِرٌ في غُرورِه، مُنغَمِسٌ في لَهْوِه، فلا يَتطلَّبُ لنفْسِه تَخلُّصًا مِن شَقائِه [129] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/286). .
- في قَولِه تعالى: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى احتِباكٌ [130] الاحْتِباك: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لِدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخِرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القُرآنِ وعناصِرِ إعجازِه، وهو مِن ألْطَفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ؛ ذَكَر الثَّمَرةَ في الأوَّلِ -وهي الخَشيةُ- دليلًا على حَذْفِ ضِدِّها مِنَ الثَّاني -وهي القَسوةُ النَّاشِئةُ على الحُكمِ بالشَّقاوةِ-، وذَكَر الأصلَ والسَّبَبَ في الثَّاني -وهو الشَّقاوةُ- دليلًا على حَذفِ ضِدِّه في الأوَّلِ -وهو السَّعادةُ-؛ فالإسعادُ سَبَبٌ، والخَشيةُ ثَمَرةٌ، والإشقاءُ سَبَبٌ، والقَساوةُ ثَمَرةٌ ومُسَبَّبٌ، وسِرُّ ذلك أنَّه ذَكَر مَبدأَ السَّعادةِ أوَّلًا؛ حَثًّا عليه، ومآلَ الشَّقاوةِ ثانيًا تحذيرًا منه [131] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/400). .
- قولُه: الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى وَصْفُ النَّارِ بالكُبرى؛ للتَّهويلِ والإنذارِ [132] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/286). .
- قولُه: ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا (ثمَّ) للتَّراخي الرُّتبيِّ تدُلُّ على أنَّ مَعطوفَها مُتراخي الرُّتبةِ في الغرَضِ المَسوقِ له الكلامُ، وهو شِدُّةُ العذابِ؛ فإنَّ تَردُّدَ حالِه بيْن الحياةِ والموتِ وهو في عَذابِ الاحتراقِ، عَذابٌ أشدُّ ممَّا أفادَهُ أنَّه في عَذابِ الاحتراقِ؛ ضَرورةَ أنَّ الاحتراقَ واقعٌ وقد زِيدَ فيه دَرجةٌ: أنَّه لا راحةَ منه بمَوتٍ ولا مَخلَصَ منه بحياةٍ، فمعْنى لَا يَمُوتُ: لا يَزولُ عنه الإحساسُ؛ فإنَّ الموتَ فِقدانُ الإحساسِ، مع ما في هذه الحالةِ مِن الأُعجوبةِ، وهي ممَّا يُؤكِّدُ اعتبارَ تَراخي الرُّتبةِ في هذا التَّنكيلِ [133] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/740)، ((تفسير أبي حيان)) (10/458)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 607)، ((تفسير أبي السعود)) (9/146)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/286)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/452، 453). .
- وتَعقيبُ قولِه: لَا يَمُوتُ فِيهَا بقولِه: وَلَا يَحْيَا احتراسٌ [134] الاحتراس: هو التحرُّز مِن الشيءِ، والتحفُّظُ منه، وهو نوعٌ مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو أن يكونَ الكلامُ محتملًا لشيءٍ بعيدٍ، فيُؤتَى بكلامٍ يَدفعُ ذلك الاحتمالَ. أو: الإتيانُ في كلامٍ يُوهِمُ خلافَ المقصودِ بما يَدْفَعُ ذلك الوهمَ، ويُسمِّيه البعضُ التَّكميلَ. يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/64)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/251)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 49). ؛ لدفْعِ تَوهُّمِ أنْ يُرادَ بنفْيِ المَوتِ عنهم أنَّهم اسْتَراحوا مِن العذابِ، لِما هو مُتعارَفٌ مِن أنَّ الاحتراقَ يُهلِكُ المُحرَقَ، فإذا قيل: لَا يَمُوتُ تَوهَّمَ المُنذَرون أنَّ ذلك الاحتراقَ لا يَبلُغُ مَبلَغَ الإهلاكِ، فيَبقى المُحرَقُ حيًّا، فيُظَنُّ أنَّه إحراقٌ هيِّنٌ، فيَكونُ مَسلاةً للمُهدَّدينَ، فلِدَفْعِ ذلك عُطِفَ عليه وَلَا يَحْيَا، أي: حياةً خالصةً مِن الآلامِ، والقَرينةُ على الوَصْفِ المذكورِ مُقابَلةُ وَلَا يَحْيَا بقولِه: يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا، وليس هذا مِن قَبيلِ نفْيِ وصْفَينِ لإثباتِ حالةٍ وسَطٍ بيْن حالَتَيْهما مِثل: لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ [النور: 35] ؛ لأنَّ ذلك لا طائلَ تَحتَه [135] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/286، 287). .
3- قولُه تعالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى
- قولُه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ ذِكرَ مَنْ يَخْشَى [الأعلى: 10] وذِكرَ الْأَشْقَى [الأعلى: 11] ، يُثيرُ استِشْرافَ السَّامعِ لمَعرفةِ أثَرِ ذلك، فابتُدِئَ بوَصْفِ أثَرِ الشَّقاوةِ، فوُصِفَ الْأَشْقَى بأنَّه يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى [الأعلى: 12] ، وأُخِّرَ ذِكرُ ثَوابِ الأتْقى؛ تَقديمًا للأهمِّ في الغرَضِ -وهو بَيانُ جَزاءِ الأشقى الَّذي يَتجنَّبُ الذِّكرى- وبقِيَ السَّامعُ يَنتظِرُ أنْ يَعلَمَ جَزاءَ مَن يَخْشى ويَتذكَّرُ، فلمَّا وُفِّيَ حقُّ المَوعظةِ والتَّرهيبةِ استُؤنِفَ الكلامُ لبَيانِ المَثوبةِ والتَّرغيبِ؛ فالمرادُ بـ مَنْ تَزَكَّى هنا عَيْنُ المرادِ بمَن يَخْشى ويَذَّكَّرُ؛ فقد عُرِّفَ هنا بأنَّه الَّذي ذَكَرَ اسمَ ربِّه، فلا جَرَمَ أنَّ ذِكرَ اسمِ ربِّه هو التَّذكُّرُ بالذِّكرى، فالتَّذكُّرُ هو غايةُ الذِّكرى المأمورِ بها الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قولِه تعالَى: فَذَكِّرْ [136] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/287). [الأعلى: 9] .
- وأُتِيَ بكَلمةِ (قَدْ)؛ لِما أنَّ عندَ الإخبارِ بسُوءِ حالِ المُتجنِّبِ عن الذِّكرَى في الآخرةِ، يَتوقَّعُ السَّامعُ الإخبارَ بحُسنِ حالِ المُتذكِّرِ فيها ويَنتظِرُه [137] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/146). .
- والإتيانُ بفِعلِ المُضِيِّ في قولِه: أَفْلَحَ؛ للتَّنبيهِ على المُحقَّقِ وُقوعُه مِن الآخرةِ، واقتِرانُه بحرْفِ (قدْ) لتَحقيقِه وتَثبيتِه، كما في قولِه تعالَى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون: 1] ، وقولِه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس: 9] ؛ لأنَّ الكلامَ مُوجَّهٌ إلى الأشقَيْنَ الَّذين تَجنَّبوا الذِّكرى؛ إثارةً لهِمَّتِهم في الالْتِحاقِ بالَّذين خَشُوا فأفْلَحوا [138] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/287). .
- ومعْنى تَزَكَّى عالَجَ أنْ يكونَ زكيًّا، أي: بذَلَ استطاعتَه في تَطهيرِ نفْسِه وتَزكيتِها، فمادَّةُ التَّفعُّلِ للتَّكلُّفِ وبَذْلِ الجُهدِ [139] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/287، 288). .
- وفي قولِه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى قُدِّم التَّزكِّي على ذِكرِ اللهِ والصَّلاةِ؛ لأنَّه أصلُ العمَلِ بذلك كلِّه؛ فإنَّه إذا تَطهَّرتِ النَّفْسُ أشرَقَتْ فيها أنوارُ الهِدايةِ فعَلِمَت مَنافعَها، وأكثَرَت مِن الإقبالِ عليها، فالتَّزكيةُ: الارتياضُ على قَبولِ الخَيرِ، والمرادُ: تَزكَّى بالإيمانِ [140] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/288). .
- في قَولِه: الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى احتباكٌ [141] الاحْتِبَاك: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لِدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخِرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القُرآنِ وعناصِرِ إعجازِه، وهو مِن ألْطفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ؛ ذكَر أوَّلًا الصَّلَى دليلًا على حذفِ ضدِّه ثانيًا، وثانيًا: التَّزكيةَ دليلًا على حذفِ ضدِّها أوَّلًا [142] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/403). .
- وتَفريعُ فَصَلَّى على (ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ)؛ لأنَّ الذِّكرَ بمَعنيَيْه -اللِّسانيِّ والتَّذكُّرِ- يَبعَثُ الذَّاكرَ على تَعظيمِ اللهِ تعالَى، والتَّقرُّبِ إليه بالصَّلاةِ الَّتي هي خُضوعٌ وثَناءٌ [143] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/288). .
- وفيه تَرتيبٌ حسَنٌ، حيثُ رُتِّبَتْ هذه الخِصالُ الثَّلاثُ في الآيةِ على تَرتيبِ تَوَلُّدِها؛ فأصْلُها: إزالةُ الخَباثةِ النَّفسيَّةِ مِن عَقائدَ باطلةٍ وحَديثِ النَّفْسِ بالمُضمَراتِ الفاسِدةِ، وهو المُشارُ إليه بقَولِه: تَزَكَّى، ثمَّ استِحضارُ مَعرفةِ اللهِ بصِفاتِ كَمالِه وحِكمتِه ليَخافَه ويَرجوَه، وهو المشارُ بقولِه: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ، ثمَّ الإقبالُ على طاعتِه وعِبادتِه، وهو المشارُ إليه بقولِه: فَصَلَّى، والصَّلاةُ تُشيرُ إلى العِبادةِ، وهي في ذاتِها طاعةٌ وامتِثالٌ يَأتي بعْدَه ما يُشرَعُ مِن الأعمالِ؛ قال تعالَى: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [144] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/288). [العنكبوت: 45] .