موسوعة التفسير

سورةُ الغاشِيةِ
الآيات (21-26)

ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ

غريب الكلمات:

بِمُسَيْطِرٍ: أي: بمُسَلَّطٍ قاهِرٍ، والمُصَيْطِرُ: المُجْبِرُ المُكْرِهُ. وقيل: أي: قائمٍ وحافظٍ، والمُسَيْطِرُ هو المُتَعهِّدُ للشَّيءِ المُتَسلِّطُ عليه، يُقالُ: صَيْطَر وسَيْطَر بالصَّادِ والسِّينِ [130] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/258)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 525)، ((تفسير ابن جرير)) (24/341)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/73)، ((البسيط)) للواحدي (23/ 476)، ((المفردات)) للراغب (ص: 410)، ((تفسير ابن عطية)) (5/475)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (3/220). قال القرطبي: (أصْلُه مِنَ السَّطْرِ؛ لأنَّ مِن معنَى السَّطْرِ ألَّا يُتَجاوَزَ، فالكِتابُ مُسَطَّرٌ، والَّذي يَفْعَلُه مُسَطِّرٌ ومُسَيْطِرٌ). ((تفسير القرطبي)) (20/37). .
تَوَلَّى: أي: أعرَضَ، والتَّولِّي إذا وُصِلَ بـ (عن) لفظًا، أو تقديرًا -كما هنا- اقتضَى معنَى الإعراضِ، وتَركِ القُربِ [131] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/342)، ((المفردات)) للراغب (ص: 886)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 28). .
إِيَابَهُمْ: أي: رُجوعَهم بعدَ الموتِ، وأصلُ (أوب): يدُلُّ على رُجوعٍ [132] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 525)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 115)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/152)، ((تفسير القرطبي)) (20/38)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 460)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 225). .

المعنى الإجمالي:

يأمُرُ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم بدَوامِ التَّذكيرِ، فيقولُ: فذَكِّرِ النَّاسَ -يا محمَّدُ- بآياتِ اللهِ تعالى، وعِظْهُم بها؛ فما أرسَلْتُك إليهم إلَّا لتَذكيرِهم، ولَسْتَ مُتسَلِّطًا على النَّاسِ ولا قاهِرًا لهم؛ فتُكرِهَهم على الإيمانِ باللهِ وطاعتِه، لكِنْ مَن أعرَضَ عن الحَقِّ وكَفَر بعدَ تذكيرِه بآياتِ اللهِ تعالى، فيُعَذِّبُه اللهُ في الآخِرةِ عذابَ النَّارِ الأكبَرَ.
ثمَّ يختمُ الله تعالى السُّورةَ الكريمةَ فيقولُ: إنَّ إلينا مَرجِعَهم ومَصيرَهم بعْدَ مَوتِهم، ثمَّ إنَّ علينا حِسابَهم يومَ القيامةِ على أعمالِهم، وسنُجازيهم بها.

تفسير الآيات:

فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّن الدَّلائِلَ على صِحَّةِ التَّوحيدِ والمَعادِ، قال لِرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، وتذكيرُ الرَّسولِ إنَّما يكونُ بذِكرِ هذه الأدِلَّةِ وأمثالِها، والبَعْثِ على النَّظَرِ فيها، والتَّحذيرِ مِن تَرْكِ تلك، وذلك بَعْثٌ منه تعالى للرَّسولِ على التَّذكيرِ والصَّبرِ على كُلِّ عارِضٍ معه؛ وبيانُ أنَّه إنَّما بُعِثَ لذلك دونَ غَيرِه؛ فلهذا قال [133] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/146). :
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21).
أي: فذَكِّرِ النَّاسَ -يا محَمَّدُ- بآياتِ اللهِ تعالى، وعِظْهُم بها؛ فما أرسَلْتُك إليهم إلَّا لتَذكيرِهم [134] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/340)، ((الوسيط)) للواحدي (4/477)، ((تفسير القرطبي)) (20/37)، ((تفسير ابن كثير)) (8/388)، ((تفسير السعدي)) (ص: 923)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 181). قال البِقاعي: (فَذَكِّرْ كُلَّ مَن يُرجَى تذَكُّرُه وانتِفاعُه بالتَّذكيرِ -يا أشرَفَ خَلْقِنا- بما في غرائِزِهم وفِطَرِهم مِن العِلمِ الأوَّليِّ بما في هذه الأشياءِ وأمثالِها ممَّا يدُلُّ على صِحَّةِ ما نزَّلْنا عليك). ((نظم الدرر)) (22/18). .
كما قال تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق: 45] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55].
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22).
النَّاسِخُ والمَنسوخُ:
الآيةُ مُحكَمةٌ غَيرُ مَنسوخةٍ [135] وهذا ظاهِرُ اختيارِ ابنِ جريرٍ، وابنِ كثير، ورجَّحه محمد رشيد رضا، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/340)، ((تفسير ابن كثير)) (8/388)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/418)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/307). وقال ابن الجوزي: (وقد قال بعضُ المفسِّرينَ في معناها: لَسْتَ عليهم بمُسَلَّطٍ فتُكرِهَهم على الإيمانِ. فعلى هذا لا نَسْخَ). ((نواسخ القرآن)) (2/625). .
وقيل: هي مَنسوخةٌ بآيةِ السَّيفِ، وهي قَولُه تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ... [136] ومِمَّن ذهب إلى هذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وهبةُ الله بنُ سلامة، وابنُ حزم، والقرطبيُّ، وقد عزا الواحديُّ القولَ بالنَّسخِ إلى جميعِ المُفَسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/679)، ((الناسخ والمنسوخ)) لهبة الله بن سلامة (ص: 197)، ((الناسخ والمنسوخ)) لابن حزم (ص: 65)، ((البسيط)) للواحدي (23/476)، ((تفسير القرطبي)) (20/37). [التوبة: 5] .
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22).
أي: لم تُبعَثْ -يا محَمَّدُ- مُتسَلِّطًا على النَّاسِ وقاهِرًا لهم؛ فتُكرِهَهم على الإيمانِ باللهِ وطاعتِه [137] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/340)، ((تفسير ابن كثير)) (8/388)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/236)، ((تفسير السعدي)) (ص: 923). قال ابنُ القَيِّم: (قال المفسِّرون: المعنى: أنَّك لم تُرسَلْ مُسَلَّطًا عليهم قاهِرًا لهم جبَّارًا كالملوكِ، بل أنت عبدي ورسولي المبَلِّغُ رِسالاتي؛ فمَن أطاعك فله الجنَّةُ، ومَن عصاك فله النَّارُ). ((بدائع الفوائد)) (3/69). .
كما قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة: 272] .
وقال سُبحانَه: إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الزمر: 41] .
وقال عزَّ وجَلَّ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ [الشورى: 48] .
وقال تبارك وتعالى: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق: 45] .
إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا نفى عنهم تسَلُّطَ الدُّنيا، وكان التَّقديرُ: فمَنْ أقْبَلَ وآمَنَ فإنَّ اللهَ يُنَعِّمُه النَّعيمَ الأكبَرَ؛ قال مُستَدرِكًا قَسيمَهم في صورةِ الاستثناءِ [138] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/19). :
إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23).
أي: إلَّا مَن أعرَضَ عن الحَقِّ وكَفَر بعدَ تذكيرِه بآياتِ اللهِ تعالى [139] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/342)، ((الوسيط)) للواحدي (4/477)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/65)، ((تفسير ابن كثير)) (8/389)، ((تفسير السعدي)) (ص: 923)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 182، 183). قيل: الاستثناءُ هنا متَّصِلٌ. والمعنى: فذكِّرْ قَومَك -يا محمَّدُ- إلَّا مَن تولَّى منهم عنك، وأعرَض عن آياتِ اللهِ؛ فكفَر. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/342). وقيل: المعنى: لَسْتَ بمُسَلَّطٍ إلَّا على مَن تولَّى وكَفَر؛ فأنت مُسَلَّطٌ عليه بالجِهادِ، واللهُ يُعَذِّبُه بعدَ ذلك العذابَ الأكبَرَ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (20/37). قال القرطبي: (فلا نَسْخَ في الآيةِ على هذا التَّقديرِ). ((المصدر السابق)). وقيل: الاستثناءُ هنا مُنقَطِعٌ بمعنى: «لكِنْ». ومِمَّن ذهب إليه: الواحديُّ، والقرطبي، وابن عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/477)، ((تفسير القرطبي)) (20/37)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/308)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 182). ويُنظر أيضًا: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/65). قال القرطبي: (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ استثناءٌ مُنقطِعٌ، أي: لكِنْ مَن تولَّى عن الوَعظِ والتَّذكيرِ). ((تفسير القرطبي)) (20/37). .
فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24).
أي: فيُعَذِّبُه اللهُ في الآخِرةِ على كُفْرِه وإعراضِه عذابَ النَّارِ الَّذي لا عذابَ أعظَمُ منه [140] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/343)، ((الوسيط)) للواحدي (4/477)، ((تفسير القرطبي)) (20/37)، ((تفسير ابن كثير)) (8/389)، ((تفسير السعدي)) (ص: 923). .
كما قال تعالى: وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه: 127] .
وقال سُبحانَه وتعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة: 21] .
إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25).
أي: إنَّ إلينا مَرجِعَهم ومَصيرَهم بعْدَ مَوتِهم [141] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/343)، ((الوسيط)) للواحدي (4/477)، ((تفسير القرطبي)) (20/38)، ((تفسير ابن كثير)) (8/389)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 183). .
كما قال سبحانه وتعالى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة: 105] .
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26).
أي: ثمَّ إنَّ علينا حِسابَهم يومَ القيامةِ على أعمالِهم، وسنُجازيهم بها [142] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/343)، ((الوسيط)) للواحدي (4/477)، ((تفسير ابن كثير)) (8/389). قال ابن عاشور: (أي: لسْتَ مُكَلَّفًا بجَبْرِهم على التَّذَكُّرِ والإيمانِ؛ لأنَّا نُحاسِبُهم حينَ رُجوعِهم إلينا في دارِ البقاءِ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/308). .
قال تعالى: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [الرعد: 40] .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ أنَّ مِنَ الجَهَلةِ مَن يضَعُ قَولَه تعالى هذا في غيرِ مَوضِعِه، ويَحيدُ به عن مَهْيَعِه، فيُريدُ أن يتَّخِذَه حُجَّةً على حُرِّيَّةِ التَّدَيُّنِ بيْن جماعاتِ المسِلمينَ! وشتَّانَ بيْن أحوالِ أهلِ الشِّركِ وأحوالِ جامِعةِ المسلِمينَ؛ فمَن يُلحِدُ في الإسلامِ بعْدَ الدُّخولِ فيه يُستتابُ ثلاثًا، فإنْ لم يَتُبْ قُتِلَ، وإنْ لم يُقْدَرْ عليه فعلى المسلِمينَ أن يَنبِذُوه مِن جامِعَتِهم، ويُعامِلوه مُعاملةَ المحارِبِ، وكذلك مَن جاء بقَولٍ أو عمَلٍ يَقتضي نَبْذَ الإسلامِ، أو إنكارَ ما هو مِن أُصولِ الدِّينِ بالضَّرورةِ، بعدَ أن يُوقَفَ على مآلِ قَولِه أو عَمَلِه، فيَلتَزِمُه ولا يتأوَّلُه بتأويلٍ مقبولٍ، ويأبى الانكِفافَ [143] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/307). .
2- في قَولِه تعالى: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ أنَّ الدَّاعيَ إلى اللهِ لا يَنبغي أنْ يَحزَنَ إذا لم تُقْبَلْ دعوتُه، فإذا أدَّى ما يجبُ عليه فقد بَرِئَتِ الذِّمَّةُ، والحِسابُ على اللهِ تعالى؛ فقَولُه تعالى: إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ يعني: لكِنْ مَن تولَّى وكَفَرَ -على قولٍ- فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ، فلا تحزَنْ أيُّها الدَّاعي إلى اللهِ إذا رُدَّ قولُك، أو إذا لم يُقْبَلْ لأوَّلِ مرَّةٍ؛ لأنَّك أدَّيتَ ما يجِبُ عليك [144] يُنظر: ((شرح الأربعين النووية)) لابن عثيمين (ص: 131). .
3- في قَولِه تعالى: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ أنَّ الرُّجوعَ هو إلى اللهِ تعالى، فمهما فَرَّ الإنسانُ، وطالتْ به حياةٌ فإنَّه راجعٌ إلى اللهِ؛ ولهذا قال تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق: 6] ؛ فاستَعِدَّ يا أخي لهذه المُلاقاةِ، وقد قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم: ((ما مِنكم مِن أحدٍ إلَّا سيُكَلِّمُه ربُّه ليس بيْنَه وبيْنه تَرْجُمانٌ، فيَنظُرُ أيْمَنَ منه فلا يرى إلَّا ما قَدَّمَ مِن عمَلِه، ويَنظُرُ أشْأَمَ منه -يعني: على اليَسارِ- فلا يرى إلَّا ما قَدَّمَ، وينظُرُ بيْنَ يديه فلا يرَى إلَّا النَّارَ تِلْقاءَ وجْهِه؛ فاتَّقوا النَّارَ ولو بشِقِّ تمرةٍ )) [145] أخرجه البخاري (7512) واللَّفظُ له، ومسلم (1016) مختصرًا من حديث عَدِيِّ بنِ حاتمٍ رضي الله عنه. ، والله عزَّ وجَلَّ يومَ القيامةِ يُقَرِّرُ العبدَ بذُنوبِه، يقولُ: فعَلْتَ كذا في يومِ كذا، حتَّى يُقِرَّ ويَعترِفَ، فإذا أَقَرَّ واعترفَ قال اللهُ تعالى: ((ستَرْتُها عليك في الدُّنيا، وأنا أغفِرُها لك اليَومَ )) [146] أخرجه البخاري (2441) واللَّفظُ له، ومسلم (2768) من حديث عبدالله بن عُمَرَ رضيَ الله عنهما. ، وكم مِن ذُنوبٍ سَتَرَها اللهُ عزَّ وجَلَّ! كم مِن ذُنوبٍ اقتَرَفْناها لم يَعلَمْ بها أحدٌ، ولكنَّ اللهَ تعالى عَلِمَ بها! فمَوقِفُنا مِن هذه الذُّنوبِ أنْ نستغفِرَ اللهَ عزَّ وجَلَّ، وأنْ نُكْثِرَ مِن الأعمالِ الصَّالحةِ المكفِّرةِ للسَّيِّئاتِ؛ حتَّى نلقى اللهَ عزَّ وجَلَّ ونحن على ما يُرْضيه سُبحانَه وتعالى [147] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 183). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله عزَّ وجَلَّ: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ في قَولِه تعالى: فَذَكِّرْ لم يَخْصُصِ اللهُ أحدًا بالتَّذكيرِ، أي: لم يَقُلْ: ذَكِّرْ فُلانًا وفُلانًا، فالتَّذكيرُ عامٌّ؛ لأنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم بُعِثَ إلى النَّاسِ كافَّةً، أي: ذَكِّرْ كلَّ أحدٍ في كلِّ حالٍ، وفي كلِّ مكانٍ؛ فذَكَّرَ النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وذَكَّرَ خُلَفاؤُه مِن بَعْدِه؛ الَّذين خَلَفُوه في أُمَّتِه في العِلمِ والعَمَلِ والدَّعوةِ [148] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 181). .
2- في قَولِه تعالى: إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ أنَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليس إلَّا مُذَكِّرًا مُبَلِّغًا، وأمَّا الهدايةُ فبِيَدِ اللهِ تعالى؛ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [149] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (اللقاء رقْم: 61). [البقرة: 272] .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ
- الفاءُ في فَذَكِّرْ تفريعٌ على مُحصَّلِ ما سبَقَ مِن أوَّلِ السُّورةِ الَّذي هو التَّذكيرُ بالغاشيةِ وما اتَّصَلَ به مِن ذِكرِ إعراضِهِم وإنذارِهم، رُتِّبَ على ذلك أمْرُ اللهِ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالدَّوامِ على تَذكيرِهم، وأنَّه لا يُؤيسُه إصرارُهم على الإعراضِ وعدَمُ ادِّكارِهم بما ألْقى إليهم مِن المواعظِ، وتَثبيتُه بأنَّه لا تَبِعةَ عليه مِن عدَمِ إصغائِهم؛ إذْ لم يُبعَثْ مُلجِئًا لهم على الإيمانِ، فالأمرُ مُستعمَلٌ في طلَبِ الاستمرارِ والدَّوامِ [150] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/308)، ((تفسير أبي السعود)) (9/151)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/306)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/460). .
- ومَفعولُ (ذكِّرْ) مَحذوفٌ، هو ضَميرٌ يدُلُّ عليه قولُه بعْدَه: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ [151] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/306). .
- وجُملةُ إِنَّمَا أَنْتَ تَعليليَّةٌ للأمْرِ بالدَّوامِ على التَّذكيرِ مع عدَمِ إصغائِهِم [152] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/151)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/306)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/460). .
- والقصْرُ المُستفادُ بـ إِنَّمَا قصْرٌ إضافيٌّ [153] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144]. والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْر الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكة الميداني (1/525). ، أي: أنت مُذكِّرٌ لستَ وَكيلًا على تَحصيلِ تَذَكُّرِهم، فلا تَتحرَّجْ مِن عدَمِ تَذكُّرِهم؛ فأنت غيرُ مُقصِّرٍ في تَذكيرِهم، وهذا تَطمينٌ لنفْسِه الزَّكيَّةِ صلَّى الله عليه وسلَّم [154] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/306، 307). .
- قولُه: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ تَقريرٌ وتَحقيقٌ لمَعْنى الإنذارِ، أي: لستَ بمُتسَلِّطٍ عليهم تُجبِرُهم على ما تُريدُ [155] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/151). ؛ فهذه الجُملةُ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ بدَلُ اشتِمالٍ [156] بَدلُ الاشتمالِ: هو الَّذي يدُلُّ على مَعنًى في مَتْبوعِه أو صِفةٍ فيه، مِثلُ: أعْجَبَني مُحمَّدٌ خُلُقُه؛ فـ (خُلُقُه) بدَلٌ مِن (مُحمَّدٌ)؛ بدَلُ اشْتِمالٍ. يُنظر: ((توضيح المقاصد)) للمرادي (2/1037)، ((أوضح المسالك)) لابن هشام (3/365)، ((شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك)) (3/249). مِن جُملةِ القصْرِ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ باعتبارِ جانبِ النَّفْيِ الَّذي يُفيدُه القصرُ، فنفْيُ كَونِه مُصَيطِرًا عليهم خبَرٌ مُستعمَلٌ في غيرِ الإخبارِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعلَمُ أنَّه لم يُكلَّفْ بإكراهِهِم على الإيمانِ، فالخبَرُ بهذا النَّفيِ مُستعمَلٌ كِنايةً عن التَّطمينِ برَفْعِ التَّبِعةِ عنه مِن جرَّاءِ استمرارِ أكثَرِهم على الكُفرِ [157] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/307). .
- وتَقديمُ عَلَيْهِمْ على مُتعلَّقِه -وهو (مُصَيْطِرٍ)-؛ للرِّعايةِ على الفاصِلةِ [158] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/307). .
2- قولُه تعالَى: إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ مُعترِضٌ بيْن جُملةِ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ وجُملةِ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ [الغاشية: 25] ، والمقصودُ مِن هذا الاعتراضِ الاحتراسُ مِن تَوهُّمِهم أنَّهم أصْبَحوا آمِنينَ مِن المُؤاخَذةِ على عدَمِ التَّذكُّرِ؛ فحرْفُ (إلَّا) للاستثناءِ المنقطِعِ -على قولٍ-، وهو بمعْنى الاستِدراكِ، والمعْنى: لكنْ مَن تَولَّى عن التَّذكُّرِ ودامَ على كُفْرِه، يُعذِّبُه اللهُ العذابَ الشَّديدَ [159] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/745)، ((تفسير البيضاوي)) (5/308)، ((تفسير أبي السعود)) (9/151)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/307، 308). .
- وعلى القولِ بأنَّ الاستثناءَ في قولِه: إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ استِثناءٌ مُتَّصلٌ؛ فإنَّ جِهادَ الكفَّارِ وقتْلَهم تَسلُّطٌ، كأنَّه قِيل: لستَ عليهم بمُسيطِرٍ -أي: بمُتسلِطٍ- بالقتْلِ والجِهادِ إلَّا مَن تَولَّى وكَفَرَ، كأنَّه أوعَدَهم بالجهادِ في الدُّنيا، وعَذابِ النَّارِ في الآخرةِ. وقيل: هو استِثناءٌ مِن قولِه: فَذَكِّرْ، أي: فذَكِّرْ إلَّا مَن انقَطَعَ طَمَعُك مِن إيمانِه وتَولَّى، فاستحَقَّ العَذابَ الأكبَرَ، وما بيْنَهما إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ اعتراضٌ [160] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/745)، ((تفسير البيضاوي)) (5/308)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/414)، ((تفسير أبي حيان)) (10/465، 466)، ((تفسير أبي السعود)) (9/151). .
- في قولِه: الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ لم يَذْكُرِ المفضَّلَ عليه، يعني: لم يَقُلْ: الأكبرَ مِن كذا؛ فهو قد بَلَغ الغايةَ في الكِبَرِ والمشَقَّةِ والإهانةِ [161] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 183). .
3- قولُه تعالَى: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ
- قولُه: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ تَعليلٌ للعذابِ الأكبَرِ؛ أي: إنَّ إلينا رجوعَهُم بالموتِ والبَعثِ لا إلى أحدٍ سِوانا؛ لا استقلالًا ولا اشتِراكًا [162] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/152)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/460). . وقيل: هو تَعليلٌ لجُملةِ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ [الغاشية: 22] ، أي: لسْتَ مُكلَّفًا بجَبْرِهم على التَّذكُّرِ والإيمانِ؛ لأنَّا نُحاسِبُهم حِينَ رُجوعِهم إلينا في دارِ البَقاءِ [163] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/308). .
- والسِّرُّ في تَقديمِ الجارِّ والمجرورِ في قولِه: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ؛ التَّشديدُ والمُبالَغةُ في الوعيدِ، وأنَّ إيابَهم ليس إلَّا إلى الجَبَّارِ المُقتدِرِ على الانتقامِ، وأنَّ حِسابَهم ليس إلَّا عليه تعالى، وهو الَّذي يُحاسِبُ على النَّقيرِ والقِطْميرِ، وبَيانُ ذلك أنَّه تعالَى علَّل قولَه: فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ بقولِه: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، والْتَفَتَ فيه مِن الغَيبةِ إلى الحِكايةِ، ومِن الاسمِ الجامعِ إلى صِيغةِ الكِبرياءِ والجَبَروتِ، وقدَّمَ الظَّرفينِ على عامِلَيْهما [164] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/745)، ((تفسير البيضاوي)) (5/308)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/415)، ((تفسير أبي حيان)) (10/466)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/462). .
وقيل: يَظهَرُ أنَّ تَقديمَ خبَرِ (إنَّ) على اسْمِها لمُجرَّدِ الاهتمامِ تَحقيقًا لهذا الرُّجوعِ؛ لأنَّهم يُنكِرونه، وتَنبيهًا على إمكانِه بأنَّه رُجوعٌ إلى الَّذي أنشَأَهم أوَّلَ مرَّةٍ [165] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/308). .
- وجاء الخبَرُ مُؤكَّدًا بـ (إنَّ)، كأنَّهم وقد تَردَّدوا بحاجةٍ إلى تَأكيدِ هذا الأمرِ الَّذي أشاحُوا عنه ولم يَتدبَّروه [166] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/462). .
- ونُقِلَ الكلامُ مِن أسلوبِ الغَيبةِ في قولِه: فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ [الغاشية: 24] إلى أُسلوبِ التَّكلُّمِ بقولِه: إِلَيْنَا على طَريقةِ الالْتفاتِ [167] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/308). .
- والعطفُ بحرْفِ (ثُمَّ) في قولِه: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ للدَّلالةِ على التَّراخي في الرُّتبةِ لا في الزَّمانِ؛ فإنَّ حِسابَهم هو الغرَضُ مِن إيابِهِم، وهو أوقَعُ في تَهديدِهم على التَّولِّي، فالحسابُ قدْ يكونُ مُباشَرةً بعدَ الإيابِ، ولكنَّ التَّفاوُتَ بيْن الموقفَينِ أمرٌ لا تُكْتَنَهُ أهوالُه، ولا يَدْري أحدٌ مَداهُ، ولا يَتصَوَّرُه العقلُ على الإطلاقِ [168] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/745)، ((تفسير أبي السعود)) (9/152)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/309)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/462). .
- ومعْنى (على) مِن قولِه: عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ أنَّ حِسابَهم -لتَأكُّدِه في حِكمةِ اللهِ- يُشبِهُ الحقَّ الَّذي فَرَضَه اللهُ على نفْسِه [169] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/309). .
- وأيضًا هذه الجُملةُ: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ هي المقصودُ مِن التَّعليلِ، والَّتي قبْلَها بمعْنَى التَّمهيدِ لها والإدماجِ [170] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ، وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). لإثباتِ البَعثِ، وفي ذلك إيذانٌ بأنَّ تَأخيرَ عِقابِهم إمهالٌ، فلا يَحسَبوه انفلاتًا مِن العِقابِ [171] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/309). .
- وفي تَصديرِ الجُملتَينِ بـ (إنَّ) وتَقديمِ خبَرِها، وعطْفِ الثَّانيةِ على الأُولى بكلمةِ (ثُمَّ) المفيدةِ لبُعدِ مَنزلةِ الحِسابِ في الشِّدَّةِ؛ مِن الإنباءِ عن غايةِ السَّخطِ الموجِبِ لتَشديدِ العَذابِ ما لا يَخفَى [172] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/152). .