موسوعة التفسير

سورةُ المُدَّثِّرِ
الآيات (11-30)

ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ

غَريبُ الكَلِماتِ:

مَمْدُودًا: أي: كثيرًا مَبْسوطًا، وأصلُ (مدد): يدُلُّ على جَرِّ شيءٍ في طولٍ، واتِّصالِ شَيءٍ بشَيءٍ في اسْتِطالةٍ [74] يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/275)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/269)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 425)، ((تفسير الرسعني)) (8/358)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 881). .
شُهُودًا: أي: حُضورًا، لا يَغيبونَ عنه، وأصلُ (شهد): يدُلُّ على حُضورٍ وعِلْمٍ وإعلامٍ [75] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 496)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/221)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (3/1047)، ((تفسير السمعاني)) (6/91)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 425). .
وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا: أي: بَسَطْتُ له في العيشِ بَسْطًا، يُقالُ: مَهَّدْتُ لك كذا: هيَّأْتُه وسوَّيْتُه، وأصلُ (مهد): يدُلُّ على تَوْطِئَةٍ وتَسْهيلٍ للشَّيءِ [76] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/424)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/280)، ((المفردات)) للراغب (ص: 780)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 425). .
سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا: أي: سأُحَمِّلُه مَشَقَّةً شديدةً مِنَ العَذابِ، والإرهاقُ: أن يُحمَلَ الإنسانُ على الشَّيءِ لا يُطيقُه، يُقالُ: فلانٌ رَهِقَه الأمرُ يَرهَقُه: إذا حَلَّ به بقَهرٍ ومَشَقَّةٍ لا قُدرةَ له على دَفْعِه، والصَّعودُ: العَقَبةُ الشَّاقَّةُ، مِن قَولِهم: عَقَبةٌ صَعودٌ وكَؤُودٌ، أي: شاقَّةُ المَصعَدِ، وأصلُ (رهق): يدُلُّ على غِشْيانِ الشَّيءِ الشَّيءَ، وأصلُ (صعد): يدُلُّ على ارتفاعٍ ومَشقَّةٍ [77] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 491، 496)، ((تفسير ابن جرير)) (23/426)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/451) و(3/287)، ((البسيط)) للواحدي (22/425)، ((تفسير ابن عطية)) (5/394)، ((تفسير القرطبي)) (19/73). .
فَقُتِلَ: أي: لُعِنَ وأُهلِكَ، وأصلُ (قتل): يدُلُّ على إذلالٍ وإماتةٍ [78] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 496)، ((تفسير ابن جرير)) (23/428)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/56)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1149). قال الواحدي: (قال ابن الأنباري: والقَتلُ إذا أُخبِرَ عن اللهِ به كان بمعنى اللَّعنةِ؛ لأنَّ مَن لعَنَه الله كان بمنزلةِ المقتولِ الهالكِ). ((الوسيط)) (4/174). ويُنظر: ((الزاهر الزاهر في معاني كلمات الناس)) لابن الأنباري (1/293). ويُنظر ما تقدَّم في تفسيرِ قولِه تعالى: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ من سورةِ الذَّاريات. .
عَبَسَ وَبَسَرَ: أي: قَطَّبَ وَجْهَه، وقَبَضَ ما بيْنَ عينَيه، واسوَدَّ وَجْهُه، ونَظَر بكراهيةٍ شَديدةٍ كالمُهْتَمِّ المتفَكِّرِ في شَيءٍ، والعُبُوسُ: تَقطُّبُ الوَجهِ عندَ كراهيةِ أمرٍ، وأصلُ (عبس): يدُلُّ عَلَى تَكَرُّهٍ، والبُسُورُ: أشَدُّ العُبوسِ، وهو هَيئةٌ في الوَجهِ تدُلُّ على تحَزُّنٍ في القَلبِ، يُقالُ: وَجْهٌ باسِرٌ: إذا تَغَيَّرَ [79] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 496)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/210)، ((المفردات)) للراغب (ص: 122)، ((تفسير البغوي)) (8/269)، ((تفسير ابن عطية)) (5/ 405، 436)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/54). .
يُؤْثَرُ: أي: يأثُرُه عن غيرِه، ويَرويه عنه، وأصلُه مِن قولِهم: أَثَرْتُ الحديثَ أثرًا، إذا حدَّثْتَ به عن قَومٍ في آثارِهم، أي: بعدَ ما ماتوا. ثمَّ صار بمعنَى الرِّوايةِ عمَّن كان، والإخبارِ، وأصلُ (أثر) هنا: ذِكْرُ الشَّيءِ [80] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/432)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/53)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (1/45)، ((البسيط)) للواحدي (22/431)، ((تفسير السمعاني)) (6/94)، ((تفسير الشوكاني)) (5/392). .
سَأُصْلِيهِ: أي: سَأُورِدُه، وأُدخِلُه، يُقالُ: صَلِيَ النَّارَ وصَلِيَ بها صُلِيًّا، وصِلِيًّا، وصلًى: دخَلها وقاسَى حَرَّها وشِدَّتَها، وأصلُ الصَّلَى: الإيقادُ بالنَّارِ [81] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/432)، ((البسيط)) للواحدي (14/292) و(22/177، 432)، ((تفسير السمعاني)) (6/94)، ((المفردات)) للراغب (ص: 490). .
سَقَرَ: أي: جَهنَّمَ، وهي عَلَمٌ مُشتَقٌّ مِنَ السَّقْرِ: وهو التِهابُ النَّارِ، وأصلُ (سقر): يدُلُّ على إحراقٍ [82] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 498)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/86)، ((المفردات)) للراغب (ص: 414)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/216). .
لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ: أي: مُغَيِّرةٌ للبَشَراتِ، مُحرِقةٌ للجُلودِ مُسَوِّدةٌ لها، و«البَشَرُ» جَمعُ بَشَرةٍ، تقولُ العَرَبُ: لاحتِ النَّارُ الشَّيءَ: إذا أحرَقَتْه وسوَّدَتْه. وقيل: لِلْبَشَرِ أي: للنَّاسِ. وقيل: لَوَّاحَةٌ بِناءُ مُبالغةٍ مِن: لاحَ يَلُوحُ: إذا ظَهَرَ، والمعنى أنَّها تَظهَرُ للنَّاسِ حتَّى يَرَوها عِيانًا؛ لعِظَمِها وهَولِها [83] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 496)، ((تفسير ابن عطية)) (5/395)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/60)، ((تفسير الألوسي)) (15/139). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى متوعِّدًا أحدَ زعماءِ المشرِكين، معَدِّدًا ما أنعَمَ به عليه مِن نِعَمِ الدُّنيا: دَعْني -يا محمَّدُ- وهذا الكافِرَ الَّذي خلَقْتُه مُنفَرِدًا دونَ مالٍ أو وَلَدٍ، وجعَلْتُ له مالًا كثيرًا وأبناءً حاضِرينَ معه في كُلِّ مَشهَدٍ، وبَسَطْتُ له في العَيشِ بَسْطًا، ثمَّ يَرْجو مِن شِدَّةِ حِرْصِه وطَمَعِه أن أَزيدَه مِنَ المالِ والوَلَدِ مع كُفْرِه بي! كلَّا، لن أَزيدَ هذا الكافِرَ كما يأمُلُ، بل سأُكَلِّفُه في جَهنَّمَ عذابًا شاقًّا.
ثمَّ يُعلِّلُ اللهُ تعالى هذا الوعيدَ مقَرِّرًا استِحقاقَه له، فيقولُ: إنَّه أعمَلَ فِكْرَه في شأنِ القُرآنِ، وأوقَعَ في نَفْسِه تقديرًا للصِّفاتِ الباطِلةِ الَّتي يَطعَنُ بها فيه، فهَلَك ولُعِنَ هذا الكافِرُ! كيفَ أوقَعَ هذا التَّقديرَ في نَفْسِه لإلصاقِ الأوصافِ الباطِلةِ بالقُرآنِ؟! ثمَّ هَلَك ولُعِنَ! كَيفُ قدَّر في نَفْسِه ذلك؟! ثمَّ نَظَر هذا الكافِرُ في أمرِ القُرآنِ بحثًا عن وَصْفٍ باطلٍ يَطعَنُ به فيه، ثمَّ قطَّب وجْهَه، وقبَض ما بيْنَ عينَيْه، وتغيَّر لَونُه، ثمَّ تولَّى وتكبَّرَ عن قَبولِ الحَقِّ، فقال: ما هذا القرآنُ إلَّا سِحرٌ يَرْويه محمَّدٌ عن غَيرِه مِنَ السَّحَرةِ! ما هذا القُرآنُ إلَّا حَديثٌ مِن أحاديثِ البَشَرِ، وليس بكَلامٍ للهِ تعالى!
ثمَّ يبيِّنُ اللهُ تعالى ما أعدَّه له مِن عذابٍ أليمٍ، فيقولُ: سأُدخِلُه النَّارَ المُلتَهِبةَ، وما أعلَمَك -يا محمَّدُ- أيُّ شَيءٍ سَقَرُ؟!
لا تُبقِي مَن دَخَل فيها حَيًّا، ولا تَترُكُه مَيِّتًا؛ فيَستريحَ مِن عَذابِها، وهي نارٌ مُحْرِقةٌ لبَشَرةِ أهْلِها، فتُحَوِّلُ لَونَ جُلودِهم إلى السَّوادِ، وعلى تلك النَّارِ تِسعَةَ عَشَرَ مَلَكًا.

تَفسيرُ الآياتِ:

ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا جَرى ذِكرُ الكافِرينَ في قولِه: فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر: 9، 10]، وأُشِيرَ إلى ما يَلقاهُ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن الكافِرين بقولِه: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر: 7]؛ انتَقَلَ الكلامُ إلى ذِكرِ زَعيمٍ مِن زُعماءِ الكافرينَ ومُدبِّرِ مَطاعنِهم في القرآنِ ودَعوةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [84] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/302). .
وأيضًا لَمَّا آذَنَ ما سبق بأنَّ أكثَرَ الخَلْقِ يُوافى يومَ القيامةِ على كُفْرِه، وخُبثِ طَويَّتِه، وسوءِ أمْرِه، وكان ذلك ممَّا يُهِمُّ؛ لشَفَقتِه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- على الخَلْقِ، ولِما يَعلَمُ مِن نَصْبِهم للعداوةِ- هوَّن أمْرَهم عليه، وحقَّر شَأْنَهم لديه، بوَعْدِه بالكفايةِ، بقولِه [85] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/47، 48). :
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11).
أي: دَعْني -يا محمَّدُ- وهذا الكافِرَ الَّذي خلَقْتُه مُنفَرِدًا دونَ مالٍ أو وَلَدٍ، وكِلْ أمْرَه إلَيَّ [86] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/421)، ((الوسيط)) للواحدي (4/381)، ((تفسير القرطبي)) (19/70)، ((تفسير ابن كثير)) (8/265)، ((تفسير السعدي)) (ص: 896). قال الزَّجَّاجُ: (وَحِيدًا ... هو على وجهَينِ: أحدُهما: أن يكون وحيدًا مِن صفةِ الله عزَّ وجلَّ، المعنى: ذَرْنِي ومَن خلَقْتُه وَحْدي، لم يَشرَكْني في خَلقِه أحدٌ. [أو] يكونَ وَحِيدًا مِن صفةِ المخلوقِ، ويكونُ المعنى: ذَرْني ومَن خلَقْتُه وحْدَه؛ لا مالَ له ولا ولَدَ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/246). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/201)، ((البسيط)) للواحدي (22/417). ممَّن اختار القولَ الثَّانيَ: ابنُ جرير، والسمرقنديُّ، ومكِّي، والواحدي، والبغوي، والقرطبي، والخازن، وأبو حيان، وابن كثير، والعُلَيمي، والشوكاني، والقاسمي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/421)، ((تفسير السمرقندي)) (3/515)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7824)، ((الوسيط)) للواحدي (4/381)، ((تفسير البغوي)) (5/175)، ((تفسير القرطبي)) (19/70)، ((تفسير الخازن)) (4/363)، ((تفسير أبي حيان)) (10/328)، ((تفسير ابن كثير)) (8/265)، ((تفسير العليمي)) (7/204)، ((تفسير الشوكاني)) (5/391)، ((تفسير القاسمي)) (9/353)، ((تفسير السعدي)) (ص: 896). ونسَبَه الواحديُّ إلى أكثرِ المفسِّرينَ. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (22/417). واختار القُشَيْريُّ القولَ الأوَّلَ، فقال في معنى الآية: (أي: لا تَهتَمَّ بشأنِهم ولا تَحتفِلْ؛ فإنِّي أَكفيك أمْرَهم، إنِّي خَلَقْتُه وحْدي لم يُشارِكْني في خَلْقي إيَّاه أحدٌ). ((تفسير القشيري)) (3/649). وقال البِقاعي جامعًا بيْن المعنيَينِ السَّابقَينِ: (خَلَقْتُ أي: أَوجَدْتُ مِنَ العَدَمِ، وأنشأْتُ في أطوارِ الخِلْقةِ، حالَ كَونِه وَحِيدًا لا مالَ له ولا ولَدَ ولا شَيءَ، وحالَ كَوْني أنا واحِدًا شديدَ الثَّباتِ في صِفةِ الوَحدانيَّةِ، لم يُشارِكْني في صُنعِه أحدٌ، فلم يَشكُرْ هذه النِّعمةَ، بل كفَرَها بالشِّركِ باللهِ سُبحانَه القادِرِ على إعدامِه بعدَ إيجادِه!). ((نظم الدرر)) (21/48). ويحتملُ على القولِ الأوَّلِ أن يكونَ المعنى: ذَرْني وحْدي معه، فأنا أَجزيك في الانتقامِ منه عن كلِّ مُنتقِمٍ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/647). قال ابن عطيَّة: (لا خِلافَ بيْن المفسِّرينَ أنَّ هذه الآيةَ نَزَلت في الوليدِ بنِ المُغِيرةِ المَخْزُوميِّ). ((تفسير ابن عطية)) (5/394). ويُنظر: ((تفسير الكوراني)) (ص: 271)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/303). وممَّن نقل أيضًا اتِّفاقَ المفسِّرينَ وإجماعَهم على أنَّ هذه الآياتِ نزلت في الوليدِ بنِ المُغيرةِ: الواحديُّ، والرازي، والقاسمي. يُنظر: ((البسيط) للواحدي (22/416)، ((تفسير الرازي)) (30/704)، ((تفسير القاسمي)) (9/355). ونسَبَه السَّمعانيُّ إلى أكثَرِ المفسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (6/91). وقال القرطبيُّ: (المفَسِّرون على أنَّه الوليدُ بنُ المُغيرةِ المَخْزُوميُّ، وإن كان النَّاسُ خُلِقوا مِثلَ خَلْقِه، وإنَّما خُصَّ بالذِّكرِ؛ لاختِصاصِه بكُفرِ النِّعمةِ، وإيذاءِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وكان يُسَمَّى الوَحيدَ في قَومِه!). ((تفسير القرطبي)) (19/71). ويُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/139). وقال ابنُ عاشور: (كان الوَليدُ بنُ المغيرةِ يُلقَّبُ في قُريشٍ بالوَحيدِ؛ لتَوَحُّدِه وتفَرُّدِه باجتماعِ مزايا له لم تجتَمِعْ لِغَيرِه مِن طَبَقتِه؛ وهي: كثرةُ الوَلَدِ، وسَعةُ المالِ، ومَجْدُه ومجدُ أبيه مِن قَبْلِه، وكان مَرجِعَ قُرَيشٍ في أُمورِهم؛ لأنَّه كان أسَنَّ مِن أبي جهلٍ وأبي سُفْيانَ، فلَمَّا اشتَهَر بلقَبِ الوحيدِ كان هذا الكلامُ إيماءً إلى الوليدِ بنِ المغيرةِ المُشتَهِرِ به). ((تفسير ابن عاشور)) (29/304). !
وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12).
أي: وجعَلْتُ له مالًا واسِعًا كثيرًا يَزدادُ ويَنمو فلا يَنقَطِعُ عنه خَيرُه [87] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/424)، ((الوسيط)) للواحدي (4 382)، ((تفسير القرطبي)) (19/71)، ((تفسير ابن كثير)) (8/265)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/48). .
وَبَنِينَ شُهُودًا (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان أوَّلَ ما تمتَدُّ إليه النَّفْسُ بعدَ كثرةِ المالِ الوَلَدُ، وكان أحَبَّ الوَلَدِ الذَّكَرُ؛ قال [88] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/49). :
وَبَنِينَ شُهُودًا (13).
أي: وجعَلْتُ له أبناءً حاضِرينَ معه، لا يَغِيبونَ عنه ولا يُفارِقونَه، فهو يَستأنِسُ بهم ويَفتَخِرُ، ويَستعينُ بهم على قَضاءِ حوائِجِه [89] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/424)، ((الوسيط)) للواحدي (4/382)، ((تفسير القرطبي)) (19/72)، ((تفسير ابن كثير)) (8/265)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/49)، ((تفسير السعدي)) (ص: 896)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/304). قال مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ: (يعني: حُضورًا لا يَغِيبونَ أبدًا عنه في تجارةٍ ولا غَيرِها؛ لكثرةِ أموالِهم بمكَّةَ، وكُلُّهم رجالٌ؛ منهم: الوليدُ بنُ الوليدِ، وخالدُ بنُ الوليدِ، وهو سَيفُ اللهِ، أسلَمَ بعدَ ذلك، وعُمارةُ بنُ الوليدِ، وهِشامُ بنُ الوليدِ، والعاصِ بنُ الوليدِ، وقَيسُ بنُ الوليدِ، وعبدُ شمسِ بنُ الوليدِ). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/494). .
وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14).
أي: وبَسَطْتُ له في العَيشِ بَسْطًا، فأقام ببَلدتِه مُطْمَئِنًّا مُتَرَفِّهًا، له الرِّياسةُ والتَّقَدُّمُ، والجاهُ العَريضُ، فلا يَعْسُرُ عليه أمرٌ، ولا يَستعْصي عليه شأنٌ [90] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/424)، ((الوسيط)) للواحدي (4/382)، ((تفسير القرطبي)) (19/72)، ((تفسير البيضاوي)) (5/260)، ((تفسير ابن كثير)) (8/265)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/49)، ((تفسير السعدي)) (ص: 896)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/304). !
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15).
أي: ثمَّ يَرْجو مِن شِدَّةِ حِرْصِه وطَمَعِه أن أَزيدَه مِنَ المالِ والوَلَدِ مع كُفرانِه للنِّعَمِ، وإشراكِه باللهِ تعالى [91] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/425)، ((الوسيط)) للواحدي (4/382)، ((تفسير القرطبي)) (19/72)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/50)، ((تفسير الشوكاني)) (5/391)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/305). قال الماوَرْدي: (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ فيه وَجهانِ: أحدُهما: ثمَّ يَطمَعُ أن أُدخِلَه الجنَّةَ... الثَّاني: أن أَزيدَه مِن المالِ والولَدِ... ويحتَمِلُ وَجهًا ثالثًا: ثمَّ يَطمَعُ أن أنصُرَه، على كُفرِه). ((تفسير الماوردي)) (6/140). ومِمَّن ذهب إلى الوجهِ الأوَّلِ وأنَّ المرادَ النَّعيمُ الأخرويُّ: القاسميُّ، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (9/353)، ((تفسير السعدي)) (ص: 896). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: الحسَنُ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/56)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/362). ومِمَّن ذهب إلى الوجهِ الثَّاني: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والواحديُّ، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/494)، ((تفسير ابن جرير)) (23/425)، ((الوسيط)) للواحدي (4/382)، ((تفسير القرطبي)) (19/72). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهدٌ، وأبو مالكٍ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/140)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/329). !
كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16).
أي: لن أَزيدَ هذا الكافِرَ كما يأمُلُ؛ فلا يكونُ له ما يَطمَعُ فيه مِن زيادةِ النِّعَمِ، مع مُعانَدتِه البالِغةِ لآياتِ اللهِ تعالى الَّذي أنعَمَ عليه بما أنعَمَ، ثمَّ لا يَنقادُ للحَقِّ ويَتَّبِعُه مع عِلْمِه به [92] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/425)، ((الوسيط)) للواحدي (4/382)، ((تفسير الزمخشري)) (4/648)، ((تفسير القرطبي)) (19/72، 73)، ((تفسير ابن كثير)) (8/265)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/51)، ((تفسير السعدي)) (ص: 896). .
سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17).
أي: سأُكَلِّفُ هذا الكافِرَ في جَهنَّمَ عذابًا شاقًّا لا راحةَ له منه [93] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/426)، ((الوسيط)) للواحدي (4/382)، ((تفسير ابن كثير)) (8/266)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/52). قال الرَّسْعَني: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا أي: سأحملُه على مشَقَّةٍ مِن العذابِ، أو سأُغَشِّيه عَقَبةً شاقَّةَ المَصعدِ). ((تفسير الرسعني)) (8/360). وقال البيضاوي: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا سأُغشيهِ عَقَبةً شاقَّةَ المَصعدِ، وهو مَثَلٌ لِما يَلقى مِن الشَّدائدِ). ((تفسير البيضاوي)) (5/260). وقال البِقاعي: (سَأُرْهِقُهُ أي: أُلحِقُه بعُنفٍ وغِلظةٍ وقَهرٍ إلحاقًا يَغْشاه ويُحيطُ به، بوعيدٍ لا خُلْفَ فيه صَعُودًا أي: شيئًا مِن الدَّواهي والأنكادِ كأنَّه عَقَبةٌ؛ فإنَّ الصَّعودَ لُغةً: العَقَبةُ شاقةُ المَصعدِ جدًّا). ((نظم الدرر)) (21/52). .
كما قال تعالى: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا [الجن: 17].
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18).
أي: إنَّ هذا الكافِرَ قد أعمَلَ فِكْرَه، وأدارَ رأيَه في شأنِ القُرآنِ، وأوقَعَ في نَفْسِه تقديرًا للصِّفاتِ الباطِلةِ الَّتي يَطعَنُ بها في القُرآنِ؛ لِيَعلَمَ أيُّها أقرَبُ إلى قَبوِل النَّاسِ له [94] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/428)، ((الوسيط)) للواحدي (4/382)، ((تفسير القرطبي)) (19/74، 75)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/52، 53)، ((تفسير السعدي)) (ص: 896)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/307، 308). قال ابنُ كثير: (أي: إنَّما أرهَقْناه صَعُودًا، أي: قرَّبْناه مِن العذابِ الشَّاقِّ؛ لبُعْدِه عن الإيمانِ؛ لأنَّه فَكَّرَ وَقَدَّرَ أي: ترَوَّى ماذا يقولُ في القرآنِ حينَ سُئِلَ عن القرآنِ، ففكَّرَ ماذا يَختَلِقُ مِن المقالِ، وَقَدَّرَ أي: ترَوَّى). ((تفسير ابن كثير)) (8/266). .
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19).
أي: فهَلَك ولُعِنَ هذا الكافِرُ! وعَجَبًا له؛ إذ كيفَ أوقَعَ هذا التَّقديرَ في نَفْسِه لإلصاقِ الأوصافِ الباطِلةِ بالقُرآنِ [95] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/493)، ((تفسير ابن جرير)) (23/428)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1149)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/53)، ((تفسير العليمي)) (7/206)، ((تفسير القاسمي)) (9/354). قال الواحدي: (قال صاحِبُ النَّظمِ [أبو عليٍّ الجُرْجاني]: معناه: لُعِنَ على أيِّ حالٍ قَدَّر ما قَدَّر مِن الكلامِ، كما يُقالُ في الكلامِ: لَأضْرِبَنَّه كيف صنَع، أي: على أيِّ حالٍ كانت منه). ((الوسيط)) (4/383). وقال القاسمي: (كيف قَدَّر ذلك الافتراءَ الباطِلَ، واختَلَق ما يُكَذِّبُه وِجدانُه فيه؟!). ((تفسير القاسمي)) (9/354). ؟!
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20).
أي: ثمَّ هَلَك ولُعِنَ مرَّةً أُخرى! وعَجَبًا له ثانيةً؛ إذ كَيفَ قدَّرَ في نَفْسِه ذلك [96] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/496)، ((تفسير ابن جرير)) (23/428)، ((تفسير القرطبي)) (19/75). قال السعدي: (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ؛ لأنَّه قَدَّر أمرًا ليس في طَورِه، وتسوَّرَ على ما لا يَنالُه هو ولا أمثالُه). ((تفسير السعدي)) (ص: 896). ؟!
ثُمَّ نَظَرَ (21).
أي: ثمَّ نَظَر هذا الكافِرُ في أمرِ القُرآنِ بحثًا عن وَصْفٍ باطلٍ يَطعَنُ به فيه؛ لِيَصُدَّ النَّاسَ عنه [97] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/428)، ((الوسيط)) للواحدي (4/383)، ((تفسير القرطبي)) (19/75)، ((تفسير البيضاوي)) (5/261)، ((تفسير ابن كثير)) (8/266). وممَّن قال في الجملةِ بالمعنى المذكورِ: الواحديُّ، والقرطبيُّ، وابنُ كثير. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/383)، ((تفسير القرطبي)) (19/75)، ((تفسير ابن كثير)) (8/266). قال الرازي: (المعنى: أنَّه أوَّلًا: فكَّر، وثانيًا: قدَّرَ، وثالثًا: نَظَر في ذلك المُقدَّرِ؛ فالنَّظَرُ السَّابِقُ للاستخراجِ، والنَّظَرُ اللَّاحِقُ للتَّقديرِ، وهذا هو الاحتياطُ؛ فهذه المراتِبُ الثَّلاثةُ متعلِّقةٌ بأحوالِ قَلْبِه). ((تفسير الرازي)) (30/706). وقال ابنُ عاشور: (النَّظَرُ هنا: نَظَرُ العَينِ؛ لِيَكونَ زائدًا على ما أفاده فكَّر وقَدَّر. والمعنى: نَظَر في وجوهِ الحاضِرينَ يَستخرِجُ آراءَهم في انتحالِ ما يَصِفونَ به القُرآنَ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/309). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/649)، ((تفسير الكوراني)) (ص: 273). !
ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22).
أي: ثمَّ قطَّب وجْهَه، وقبَض ما بيْنَ عينَيْه، وتغيَّر لَونُه حينَ لم يَجِدْ وَصْفًا صَحيحًا يَطعَنُ به في القُرآنِ [98] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/428)، ((الدر المصون)) للسمين (10/543)، ((تفسير ابن كثير)) (8/266)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/54)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/309). قال الشوكاني: (والعَبْسُ: مَصْدَرُ عَبَسَ مُخَفَّفًا يَعْبِسُ عَبْسًا وعُبوسًا إذا قَطَّبَ. وقيل: عَبَسَ في وُجُوهِ المؤمِنينَ. وقيل: عَبَسَ في وَجْهِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَبَسَرَ أي: كَلَحَ وَجْهُه وَتَغَيَّرَ). ((تفسير الشوكاني)) (5/392). وقيل: البُسُورُ: هو تقطيبُ الوَجهِ، وهو أشدُّ مِن العُبوسِ. وممَّن اختاره: ابنُ جُزَي. ((تفسير ابن جزي)) (2/429). وقيل: هما بمعنًى واحدٍ. واختاره: السمعانيُّ. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (6/93). قال القرطبي: (والعَبْسُ -مُخَفَّفًا-: مصدَرُ عَبَس يَعبِسُ عَبْسًا وعُبوسًا: إذا قَطَّب... وَبَسَرَ أي: كَلَح وَجْهُه وتغيَّرَ لَونُه. قاله قَتادةُ والسُّدِّيُّ،... وقيل: إنَّ ظُهورَ العُبوسِ في الوَجهِ بعدَ المحاورةِ، وظُهورَ البُسورِ في الوجهِ قبْلَ المحاورةِ. وقال قومٌ: بَسَرَ: وقَفَ لا يَتقدَّمُ ولا يتأخَّرُ... والعرَبُ تقولُ: وَجهٌ باسِرٌ بَيِّنُ البُسورِ: إذا تغيَّرَ واسْوَدَّ). ((تفسير القرطبي)) (19/75). قال ابنُ جُزَي: (فَعَل ذلك مِن حَسَدِه للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أي: عبَسَ في وَجْهِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، أو عَبَس لَمَّا ضاقت عليه الحِيَلُ ولم يَدْرِ ما يقولُ). ((تفسير ابن جزي)) (2/429). .
ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23).
أي: ثمَّ توَلَّى وتكبَّرَ عن قَبولِ الحَقِّ مع تبيُّنِه كمالَ القُرآنِ في ألفاظِه ومَعانيه، وخُلُوَّه مِن أيِّ باطِلٍ [99] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/431)، ((الوسيط)) للواحدي (4/383)، ((تفسير ابن كثير)) (8/266)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/55)، ((تفسير السعدي)) (ص: 896)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/309، 310). !
فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24).
أي: فقال: ما هذا القرآنُ إلَّا سِحرٌ يَرْويه محمَّدٌ عن غَيرِه مِنَ السَّحَرةِ [100] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/431)، ((الوسيط)) للواحدي (4/383)، ((تفسير القرطبي)) (19/76)، ((تفسير ابن كثير)) (8/266)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/55، 56). قال ابن عاشور: (وصَفَ هذا السِّحرَ بأنَّه مَأثورٌ -أي: مَرويٌّ عن الأقدَمينَ- يقولُ هذا ليَدفَعَ به اعتراضًا يَرِدُ عليه: أنَّ أقوالَ السَّحرةِ وأعمالَهم لَيست مُماثِلةً للقرآنِ ولا لأحوالِ الرَّسولِ، فزَعَمَ أنَّه أقوالٌ سِحريَّةٌ غيرُ مَألوفةٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/310). !
إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25).
أي: قال: ما هذا القُرآنُ إلَّا حَديثٌ بَشَريٌّ، وليس بكلامٍ للهِ تعالى، فلا ينبغي لأحدٍ أن يَغتَرَّ به أو يُعَوِّلَ عليه [101] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/432)، ((الوسيط)) للواحدي (4/383)، ((تفسير ابن كثير)) (8/266)، ((تفسير السعدي)) (ص: 896). !
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26).
أي: قال اللهُ تعالى: سأُدخِلُه النَّارَ وأغْمُرُه فيها، فتُحيطُ به مِن جميعِ جوانِبِه، لِيُقاسيَ شدَّتَها وحرَّها [102] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/432)، ((تفسير القرطبي)) (19/77)، ((تفسير ابن كثير)) (8/267). قال الواحديُّ: (سَقَرُ: اسمٌ مِن أسماءِ جَهنَّمَ). ((الوسيط)) (4/384). ويُنظر: ((الزاهر)) لابن الأنباري (2/147). .
وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27).
أي: وما أعلَمَك -يا محمَّدُ- أيُّ شَيءٍ سَقَرُ [103] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/433)، ((تفسير ابن عطية)) (5/395)، ((تفسير القرطبي)) (19/77)، ((تفسير ابن كثير)) (8/268). قال البِقاعي: (لَمَّا أثبَتَ له هذا العذابَ عظَّمه وهوَّله بقَولِه: وَمَا أَدْرَاكَ أي: أعلَمَك وإنِ اجتَهَدْتَ في البَحثِ مَا سَقَرُ يعني: أنَّ عِلْمَ هذا خارِجٌ عن طَوقِ البشَرِ، لا يُمكِنُ أن يَصِلَ إليه أحدٌ منهم إلَّا بإعلامِ اللهِ له؛ لأنَّه أعظَمُ مِن أن يَطَّلِعَ عليه بَشَرٌ!). ((نظم الدرر)) (21/59). وقال الشوكاني: (العَرَبُ تقولُ: وما أدراك ما كذا؟ إذا أرادوا المبالَغةَ في أمْرِه، وتعظيمَ شَأنِه، وتهويلَ خَطْبِه). ((تفسير الشوكاني)) (5/393). ؟!
لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28).
أي: لا تُبقِي مَن دَخَل فيها حَيًّا، ولا تَتْرُكُه مَيِّتًا؛ فيَستريحَ مِن عَذابِها، بل تُبدَّلُ أجسادُ أهلِها كلَّما احتَرَقَت، فيَستَمِرُّ عَذابُها [104] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/433)، ((تفسير ابن جزي)) (2/429)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/59، 60)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/312). قال السمرقندي: (قال: لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ يعني: لا تُبقي لحمًا إلَّا أكلَتْه، ولا تذَرُهم إذا أُعيدوا فيها خَلقًا جديدًا. ويُقالُ: لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ يعني: لا تُميتُ ولا تُحْيي. ويُقالُ: لا تُبقي اللَّحمَ ولا العَظمَ ولا الجِلْدَ إلَّا أحرَقَتْه، ولا تذَرُ لَحمًا ولا عَظمًا ولا جِلدًا، أي: تدَعُه مُحرقًا، بل تجِدُه خَلقًا جديدًا!). ((تفسير السمرقندي)) (3/517). وقال الشَّوكاني: (قال السُّدِّيُّ: لا تُبقي لهم لحمًا، ولا تذَرُ لهم عَظْمًا. وقال عطاءٌ: لا تُبقي مَن فيها حيًّا، ولا تذَرُه مَيِّتًا. وقيل: هما لفظانِ بمعنًى واحدٍ، كُرِّرا للتَّأكيدِ، كقولِك: صَدَّ عنِّي، وأعرَضَ عنِّي). ((تفسير الشوكاني)) (5/393). وقال ابنُ كثير: (لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ أي: تأكُلُ لُحومَهم وعُروقَهم وعَصَبَهم وجُلودَهم، ثمَّ تُبَدَّلُ غَيرَ ذلك، وهم في ذلك لا يَموتونَ ولا يَحيَونَ. قاله ابنُ بُرَيدةَ، وأبو سِنانٍ، وغيرُهما). ((تفسير ابن كثير)) (8/268). !
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء: 56].
لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29).
أي: تلك النَّارُ مُحْرِقةٌ لبَشَرةِ أهْلِها، فتُحَوِّلُ لَونَ جُلودِهم إلى السَّوادِ [105] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/496)، ((معاني القرآن)) للفراء (3/203)، ((تفسير ابن جرير)) (23/433)، ((الوسيط)) للواحدي (4/384)، ((تفسير القرطبي)) (19/77، 78)، ((تفسير ابن كثير)) (8/268). قال ابن الجوزي: (في «البَشَرِ» قولانِ؛ أحَدُهما: أنَّه جَمعُ بَشَرةٍ، وهي جِلدةُ الإنسانِ الظَّاهِرةُ. وهذا قول مُجاهِدٍ، والفرَّاءِ، والزَّجَّاجِ. والثَّاني: أنَّهم الإنسُ مِن أهلِ النَّارِ. قاله الأخفَشُ، وابنُ قُتَيْبةَ في آخَرِينَ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/364). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ: الفَرَّاءُ، وابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، وابنُ أبي زَمَنِين، والثعلبيُّ، ومكِّي، والواحدي، والرَّسْعَني، والنسفي، وابن جُزَي، والخازن، وجلال الدين المحلي، والعُلَيمي، وأبو السعود. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/203)، ((تفسير ابن جرير)) (23/433)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/247)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/57)، ((تفسير الثعلبي)) (10/73)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7834)، ((الوسيط)) للواحدي (4/384)، ((تفسير الرسعني)) (8/362)، ((تفسير النسفي)) (3/565)، ((تفسير ابن جزي)) (2/429)، ((تفسير الخازن)) (4/365)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 777)، ((تفسير العليمي)) (7/208)، ((تفسير أبي السعود)) (9/58). ونسَبَ ابنُ عطيَّةَ هذا القولَ إلى الجمهورِ، ونسَبَه الشَّوكانيُّ للأكثَرِ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/395)، ((تفسير الشوكاني)) (5/394). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، ومجاهدٌ، وأبو رَزِينٍ، وزَيدُ بنُ أسْلَمَ، وقَتادةُ، والضَّحَّاكُ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/434)، ((تفسير الثعلبي)) (10/74)، ((تفسير ابن كثير)) (8/268). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ: الأخفشُ -كما نسَبَه إليه الماوَرْديُّ وغيرُه-، وابنُ قُتَيْبةَ، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/143)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 496)، ((تفسير السعدي)) (ص: 897). وقال الثعلبيُّ: (وقال الحسَنُ وابنُ كَيْسانَ: يعني: تَلوحُ لهم جهنَّمُ حتَّى يَرَوْها عِيانًا. نظيرُه: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ [الشعراء: 91] ). ((تفسير الثعلبي)) (10/74). وقال الواحديُّ: (وقال عَطاءٌ عن ابنِ عبَّاسٍ: تَلوحُ لأهلِها مِن مسيرةِ خَمسِمئةِ عامٍ). ((البسيط)) (22/435). !
كما قال تعالى: كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس: 27] .
عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30).
أي: على تلك النَّارِ تِسعةَ عَشَرَ مَلَكًا [106] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/435)، ((تفسير البغوي)) (5/177)، ((تفسير الزمخشري)) (4/650)، ((تفسير السعدي)) (ص: 897)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/312). قال الثعلبي: (يحتَمِلُ أن يَكونوا تِسعةَ عَشَرَ مَلَكًا بأعيانِهم، وعلى هذا أكثَرُ المفَسِّرينَ). ((تفسير الثعلبي)) (10/74). قال الواحدي: (قال المفسِّرونَ: يقولُ: على النَّارِ تِسعةَ عَشَرَ مِنَ الملائكةِ، هم خَزَنتُها: مالِكٌ ومعه ثمانيةَ عَشَرَ). ((الوسيط)) (4/384). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/496)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/364). وقال ابنُ عطيَّة: (لا خِلافَ بيْن العُلَماءِ أنَّهم خَزَنةُ جَهنَّمَ المحيطونَ بأمْرِها، الَّذين إليهم جِماعُ أمرِ زبانِيَتِها). ((تفسير ابن عطية)) (5/396). وقال القرطبي: (الصَّحيحُ -إن شاء اللهُ- أنَّ هؤلاء التِّسعةَ عَشَرَ هم الرُّؤساءُ والنُّقَباءُ، وأمَّا جُملتُهم فالعِبارةُ تَعجِزُ عنها، كما قال اللهُ تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31] ). ((تفسير القرطبي)) (19/80). ويُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/517)، ((تفسير ابن كثير)) (8/268). .
كما قال تعالى: عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6] .

الفَوائِدُ التَّربويَّةُ:

 قال تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا في هذا الإبطالِ والرَّدعِ إيذانٌ بأنَّ كُفرانَ النِّعمةِ سَببٌ لقَطْعِها؛ قال تعالَى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7] ، ولهذا قيل: (مَن لمْ يَشكُرِ النِّعَمِ فقدْ تَعرَّضَ لِزَوالِها، ومَن شَكَرَها فقدْ قيَّدَها بعِقالِها) [107] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/305). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- إنَّ اللهَ تعالى لَمْ يَزَلْ بأسمائِه وصِفاتِه، أمَّا زَعْمُ الجَهميَّةِ أنَّ مَن قال بهذا فقد قال بقولِ النَّصارى؛ حيثُ جَعَلوا معه غيرَه!
فالجوابُ عنه: أنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ يقولونَ: إنَّه واحدٌ بأسمائِه وصِفاتِه؛ فلا يَصِفونَ إلَّا واحدًا بصِفاتِه، كما قال تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَصَفَه بالوحدةِ؛ مع أنَّه كان له لِسانٌ وعَيْنانِ وأُذُنانِ وسمعٌ وبصَرٌ؛ ولم يَخْرُجْ بهذه الصِّفاتِ عن كَونِه واحدًا! وللهِ المَثَلُ الأعلى [108] يُنظر: ((الرد على الجهمية والزنادقة)) لأحمد بن حنبل (ص: 141)، ((فتح الباري)) لابن حجر (13/381). ويُنظر أيضًا: ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص: 79). والمقصودُ مِن ضَربِ الوحيدِ مثلًا؛ أنَّ الذَّاتَ المُتَّصِفةَ بصِفاتٍ تَتَّصِفُ بالوَحدانيَّةِ؛ لأنَّ الصِّفاتِ لا تَستَقِلُّ بنفْسِها، ولا يُمكِنُ انفِكاكُها عن الذَّاتِ إلَّا في الذِّهنِ، واعتراضُ الجَهميَّةِ الَّذين يَنفون الصِّفاتِ لا يَرِدُ على أهلِ السُّنَّةِ، ومذهبُ النَّصارى لا يَصلُحُ نقضًا؛ فإنَّهم أثبتوا الأقانيمَ الثَّلاثةَ وكلٌّ منها مُستَقِلٌّ، فالتَّعدُّدُ مُتحَقِّقٌ، وأمَّا المُثبِتونَ للصِّفاتِ فعندَهم أنَّ الذَّاتَ لا تَنفَكُّ عنها أصلًا، والتَّعدُّدَ مُنتَفٍ. يُنظر: ((غاية الأماني في الرد على النبهاني)) للألوسي (2/22). وقال ابنُ تيميَّةَ: (والَّذين قالوا مِن نُفاةِ الصِّفاتِ المعتزلةِ والجَهميَّةِ: إنَّ مَن أثبَت الصِّفاتِ فقد قال بقولِ النَّصارى، هو مُتَوَجِّهٌ على مَن جعَل الصِّفاتِ جَواهرَ، وهؤلاء هم النَّصارى يَزعُمون أنَّ الصِّفاتِ جواهرُ آلهةٍ... وأمَّا الرُّسلُ وأتْباعُهم فنَطَقوا أنَّ لله عِلمًا وقُدرةً وغيرَ ذلك مِن الصِّفاتِ، وثبتوا أنَّ الإلهَ إلهٌ واحدٌ. فإذا قال القائلُ: عبَدْتُ اللهَ ودَعَوْتُ اللهَ؛ فإنَّما دعا وعبَدَ إلهًا واحدًا، وهو ذاتٌ مُتَّصِفةٌ بصِفاتِ الكمالِ، لم يَعبُدْ ذاتًا لا حياةَ لها ولا عِلمَ ولا قُدرةَ، ولا عبَدَ ثلاثةَ آلهةٍ ولا ثلاثةَ جواهرَ، بل نفْسُ اسمِ الله يَتضَمَّنُ ذاتَه المُقَدَّسةَ المُتَّصِفةَ بصِفاتِه سُبحانَه، وليست صِفاتُه خارجةً عن مُسمَّى اسمِه، ولا زائدةً على مُسمَّى اسمِه). ((الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)) (5/15، 16). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا هذا جزاءُ كُلِّ مَن عانَدَ الحَقَّ ونابَذَه: أنَّ له الخِزْيَ في الدُّنيا، ولَعَذابُ الآخرةِ أخْزى [109] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 896). .
3- أنَّ كثرةَ الأموالِ والأولادِ لا تَستلزِمُ القُربَ إلى اللهِ تعالى؛ فإنَّ مِنَ النَّاسِ مَن يكونُ كثيرَ المالِ والولَدِ، وهو مِن أبعَدِ النَّاسِ عن اللهِ سُبحانَه وتعالى، ومِنَ النَّاسِ مَن يكونُ قليلَ المالِ والولَدِ، وهو مِن أقربِ النَّاسِ إلى اللهِ تعالى؛ فهذا النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ليس هو مِن أكثَرِ النَّاسِ أموالًا وأولادًا، ومع ذلك فهو أقرَبُ النَّاسِ إلى اللهِ سُبحانَه وتعالى، والرَّجُلُ الَّذي افتخَرَ بمالِه ووَلَدِه، قال اللهُ -تعالى- في شَأنِه: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [مريم: 77] ، إذا آتاه اللهُ المالَ والولَدَ فإنَّه لا ينفَعُه؛ قال اللهُ تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ، فالأموالُ والأولادُ لا تُقَرِّبُ إلى اللهِ تعالى [110] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 233). .
4- قَولُه تعالى: ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ أزال كلَّ لَبْسٍ عن أنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ؛ لتوَعُّدِه مَن نسَب هذا القرآنَ إلى قَولِ البشَرِ، وإذا لم يكُنْ قَولَ البشَرِ فلا يكونُ إلَّا قولَ الخالِقِ، وإن تلاه البَشَرُ أيضًا فلا يكونُ قَولَه، بل يكونُ قَولَ مَن بدأ به، وهو اللهُ جَلَّ جلالُه، فلم يَصِرْ بتلاوةِ جِبريلَ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مخلوقًا، وجِبريلُ مخلوقٌ، ولا بتلاوةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أصحابِه مخلوقًا، ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مخلوقٌ، ولا بتلاوةِ التَّالِينَ إلى يومِ القيامةِ مخلوقًا، وإن كان التَّالونُ له مخلوقينَ [111] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/437، 438). .
5- قد تَوَعَّدَ اللهُ تعالى مَن قال: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ، فمَن قال: إنَّ هذا القرآنَ قولُ البَشَرِ، فقد كَفَرَ، وقال بقَولِ الوَحيدِ الَّذي أوعَدَه اللهُ سَقَرَ، ومَن قال: إنَّ شيئًا منه قولُ البَشَرِ، فقد قال ببعضِ قولِه، ومَن قال: إنَّه ليس بقَولِ رَسولٍ كريمٍ، وإنَّما هو قولُ شاعرٍ أو مجنونٍ أو مُفْتَرٍ، أو قال: هو قولُ شيطانٍ نَزَلَ به عليه، ونحوَ ذلك- فهو أيضًا كافرٌ ملعونٌ، وقد عَلِمَ المسلمون الفرقَ بيْنَ أنْ يُسْمَعَ كلامُ المتكلِّمِ، منه، أو مِن المُبَلِّغِ عنه، وأنَّ موسى عليه السَّلامُ سَمِع كلامَ اللهِ مِن اللهِ بلا واسِطةٍ، وأنَّا نحن إنَّما نسمعُ كلامَ اللهِ مِن المُبَلِّغينَ عنه، وإذا كان الفَرقُ ثابتًا بيْنَ مَن سَمِع كلامَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم منه، وبيْن مَن سَمِعَه مِن الصَّاحبِ المُبَلِّغِ عنه، فالفَرْقُ هنا أَولى؛ لأنَّ أفعالَ المخلوقِ وصِفاتِه أشْبَهُ بأفعالِ المخلوقِ وصفاتِه، مِن أفعالِه وصفاتِه بأفعالِ اللهِ وصِفاتِه [112] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (1/258، 259). .
6- في قَولِه تعالى: فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ أنْكَر اللهُ تعالى قولَ المُشرِكينَ هذا، ولا يُعترَضُ بقَولِه تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [التكوير: 19] ؛ لأنَّ معناه: قولٌ تَلَقَّاه عن رَسولٍ كريمٍ، كقَولِه تعالى: فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة: 6] ، ولا يُعترَضُ أيضًا بقولِه: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا [الزخرف: 3] ؛ لأنَّ معناه: سمَّيْناه قُرآنًا، وهو كقَولِه: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة: 82] ، وقَولِه: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [النحل: 62] ، ولا يُعترَضُ أيضًا بقَولِه: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ [الأنبياء: 2] . فالمرادُ: أنَّ تنزيلَه إلينا هو المُحْدَثُ، لا الذِّكْرُ نَفْسُه، وبهذا احْتَجَّ الإمامُ أحمدُ [113] يُنظر: ((الاعتقاد)) للبيهقي (ص: 98)، ((فتح الباري)) لابن حجر (13/454). .
7- في قَولِه تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ آيةٌ مِن آياتِ نُبُوَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الَّتي في القرآنِ؛ فإنَّ الكُفَّارَ -مع حِرْصِهم على تكذيبِه- لم تَنْبَعِثْ دواعيهم لإظهارِ تَكذيبِه، وكان كما أخبَرَ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ مات الوليدُ كافِرًا، وكذا مات أبو لَهَبٍ كافرًا، مع قَولِه تعالى عنه: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [114] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (6/76). [المسد: 3] !
8- قد وُزِّعَ وَعيدُ هذا الكافرِ على ما تَقتضيهِ أعمالُه؛ فإنَّه لَمَّا ذُكِرَ عِنادُه -وهو مِن مَقاصِدِه السَّيِّئةِ النَّاشئةِ عن مُحافَظتِه على رِئاستِه وعن حَسَدِه النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وذلك مِن الأغراضِ الدُّنيويَّةِ- عُقِّبَ بوَعيدِه بما يَشملُ عَذابَ الدُّنيا ابتداءً، ولَمَّا ذُكِرَ طَعْنُه في القرآنِ بقولِه: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، وأنْكَر أنَّه وَحْيٌ مِن اللهِ بقولِه: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ، أُرْدِفَ بذِكرِ عَذابِ الآخرةِ بقولِه: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [115] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/648)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/307). .

بلاغةُ الآياتِ :

1- قولُه تعالَى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ
- قولُه: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ... إلخ، استِئنافٌ يُؤذِنُ بأنَّ حدَثًا كان سَببًا لنُزولِ هذه الآيةِ عَقِبَ الآياتِ الَّتي قبْلَها؛ وهو أنَّ الوليدَ بنَ المُغيرةِ نصَحَ قُريشًا أنْ يَقولوا عن النَّبيِّ والقرآنِ: ساحِرٌ جاء بقولٍ هو سِحرٌ، يُفرِّقُ به بيْنَ المَرْءِ وأبِيه، وبيْنَ المَرْءِ وأخيهِ، وبيْنَ المَرْءِ وزَوجتِه، وبيْنَ المَرْءِ وعَشيرتِه، فأنزَلَ اللهُ في الوليدِ بنِ المُغيرةِ قولَه: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا الآياتِ -وذلك على قول جماهيرِ المفسِّرينَ-، فإنْ كان قولُ الوليدِ صدَرَ منه بعْدَ نُزولِ صدْرِ هذه السُّورةِ؛ فجُملةُ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا مُستأنَفةٌ استِئنافًا ابتدائيًّا، والمُناسَبةُ ظاهرةٌ، وإنْ كان قولُ الوليدِ هو سبَبَ نُزولِ السُّورةِ، كان مُتَّصِلًا بقولِه: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر: 7] ، على أنَّه تَعليلٌ للأمْرِ بالصَّبرِ بأنَّ اللهَ يَتولَّى جَزاءَ هذا القائلِ، وما بيْنَهما اعتراضٌ [116] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/302، 303). .
- وتَصديرُ الجُملةِ بفِعلِ ذَرْنِي إيماءٌ إلى أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان مُهتمًّا ومُغتمًّا ممَّا اختَلَقَه الوليدُ بنُ المُغيرةِ؛ فاتِّصالُه بقولِه: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر: 7] يَزدادُ وُضوحًا [117] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/647)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/303). .
- وتَركيبُ (ذَرْني وكذا) يُفيدُ تَهديدًا ووَعيدًا للمَذكورِ بعْدَ واوِ المَعيَّةِ [118] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/647)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/303). .
- وجِيءَ بالموصولِ وصِلَتِه في قولِه: وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا لإدماجِ [119] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرَضًا في غرَضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه تعالى بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواهُ- مُبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 449)، ((خِزانة الأدب)) لابن حِجَّةَ الحَمَوي (2/484)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). تَسجيلِ كُفرانِ الوليدِ بنِ المُغيرةِ المَخزوميِّ النِّعمةَ في الوَعيدِ والتَّهديدِ؛ فقد كان الوليدُ بنُ المُغيرةِ يُلقَّبُ في قُريشٍ بالوحيدِ، فلمَّا اشتَهَرَ بلَقبِ الوحيدِ كان هذا الكلامُ إيماءً إلى الوليدِ بنِ المُغيرةِ المُشتهرِ به، وجِيءَ بَلفظِ وَحِيدًا تَهكُّمًا به وبلَقبِه، وهو تَغييرٌ له عن الغرَضِ الَّذي كانوا يَؤُمُّونه -مِن مَدْحِه، والثَّناءِ عليه بأنَّه وَحيدُ قَومِه لرِياستِه ويَسارِه وتَقدُّمِه في الدُّنيا- إلى وَجْهِ الذَّمِّ والعَيبِ، وهو أنَّه خُلِقَ وَحيدًا لا مالَ له ولا ولَدَ، فآتاهُ اللهُ ذلك، فكَفَرَ بنِعمةِ اللهِ وأشْرَكَ به واستَهْزَأَ بدِينِه [120] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/647)، ((تفسير البيضاوي)) (5/260)، ((تفسير أبي حيان)) (10/328)، ((تفسير أبي السعود)) (9/56)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/303، 304). !
- والمَمدودُ: اسمُ مَفعولٍ مِن (مَدَّ) الَّذي بمعْنى: أطال؛ بأنْ شُبِّهَت كَثرةُ المالِ بسَعةِ مَساحةِ الجِسمِ. أو مِن (مَدَّ) الَّذي بمعْنى: زاد في الشَّيءِ مِن مِثلِه، كما يُقالُ: مَدَّ الوادي النَّهرَ، أي: مالًا مَزيدًا في مِقدارِ ما يَكتسِبُه صاحبُه مِن المكاسبِ [121] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/56)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/304). .
- قولُه: وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا التَّمهيدُ هنا مُعبَّرٌ به عن تَيسيرِ أُمورِه، ونَفاذِ كَلمتِه في قَومِه، بحيث لا يَعسُرُ عليه مطلَبٌ، ولا يَستعصي عليه أمْرٌ [122] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/304). .
- وأُكِّدَ (مَهَّدْتُ) بمَصدرِه تَمْهِيدًا على المَفعوليَّةِ المُطلَقةِ؛ ليُتوسَّلَ بتَنكيرِه لإفادةِ تَعظيمِ ذلك التَّمهيدِ [123] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/305). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ وُصِفَ الوليدُ في هذه الآيةِ بما لَه مِن النِّعمةِ والسَّعةِ؛ لأنَّ الآيةَ في سِياقِ الامتِنانِ عليه تَوطئةً لتَوبيخِه وتَهديدِه بسُوءٍ في الدُّنيا، وبعَذابِ النَّارِ في الآخِرةِ، فأمَّا في آيةِ سُورةِ (القلَمِ) فقدْ وَصَفَه بما فيه مِن النَّقائصِ في قولِه تعالَى: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ... [القلم: 10] إلخ -بِناءً على أنَّ المرادَ به الوليدُ بنُ المُغيرةِ-؛ لأنَّ تلك الآيةَ في مَقامِ التَّحذيرِ مِن شَرِّه وغدْرِه [124] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/305). .
- قولُه: ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ حرْفُ (ثُم) للتَّراخي الرُّتبيِّ، أي: وأعظَمُ مِن ذلك أنَّه يَطمَعُ في الزِّيادةِ مِن تلك النِّعَمِ! وذلك بما يُعرَفُ مِن يُسْرِ أُمورِه، وهذا مُشعِرٌ باستِبعادِ حُصولِ المَطموعِ فيه، واستِنكارِ طَمَعِه وحِرصِه، وقد صُرِّح به في قولِه: كَلَّا [125] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/648)، ((تفسير البيضاوي)) (5/260)، ((تفسير أبي حيان)) (10/329)، ((تفسير أبي السعود)) (9/56)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/305)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/277، 278). [المدثر: 16] .
- وجُعِلَ مُتعلَّقُ طَمَعِه زِيادةً ممَّا جعَلَ اللهُ له؛ لأنَّهم لم يَكونوا يُسنِدونَ الرِّزقَ إلى الأصنامِ، أو لأنَّه طَمِعَ في زِيادةِ النِّعمةِ غيرَ مُتذكِّرٍ أنَّها مِن عندِ اللهِ؛ فيَكونُ إسنادُ الزِّيادةِ إلى ضَميرِ الجَلالةِ إدماجًا [126] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). بتَذكيرِه بأنَّ ما طَمِعَ فيه هو مِن عندِ الَّذي كفَرَ هو بنِعمتِه، فأشْرَكَ به غيرَه في العِبادةِ! ولهذه النُّكتةِ عُدِلَ عن أنْ يُقالَ: (يَطمَعُ في الزِّيادةِ)، أو (يَطمَعُ أنْ يُزادَ) [127] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/305). .
2- قولُه تعالَى: كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا
- قولُه: كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا ردْعٌ وإبطالٌ لطَمَعِه في الزِّيادةِ مِن النِّعمِ، وقطْعٌ لرَجائِه، والمَقصودُ إبلاغُ هذا إليه، مع تَطمينِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ الوليدَ سيُقطَعُ عنه مَدَدُ الرِّزقِ؛ لِئلَّا تكونَ نِعمتُه فِتنةً لغيرِه مِن المُعانِدين، فيُغْريَهم حالُه بأنَّ عِنادَهم لا يَضُرُّهم؛ لأنَّهم لا يَحسِبون حياةً بعْدَ هذه [128] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/648)، ((تفسير البيضاوي)) (5/260)، ((تفسير أبي حيان)) (10/329)، ((تفسير أبي السعود)) (9/57)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/305)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/278). .
- قولُه: إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا تَعليلٌ للرَّدعِ على وجْهِ الاستئنافِ؛ كأنَّ قائلًا قال: لِمَ لا يُزادُ [129] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/648)، ((تفسير البيضاوي)) (5/260)، ((تفسير أبي حيان)) (10/329)، ((تفسير أبي السعود)) (9/57). ؟
- قولُه: سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا قيل: هو مُعترِضٌ بيْن إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا وبيْن إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ [المدثر: 18] ، قُصِدَ بهذا الاعتِراضِ تَعجيلُ الوَعيدِ له مَساءةً له، وتَعجيلُ المَسَرَّةِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [130] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/306). .
- والصَّعودُ: العَقَبةُ الشَّديدةُ التَّصعُّدِ الشَّاقَّةُ على الماشِي، وهي فَعولٌ مُبالَغةٌ مِن (صَعِدَ)؛ فإنَّ العَقَبةَ صَعْدةٌ، فإذا كانتْ عَقَبةٌ أشَدَّ تَصعُّدًا مِن العَقَباتِ المُعتادةِ قِيل لها: صَعودٌ، وكأنَّ أصْلَ هذا الوَصفِ أنَّ العقَبةَ وُصِفَت بأنَّها صاعِدةٌ، ثمَّ جُعِلَ ذلك الوصفُ اسمَ جِنسٍ لها [131] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/307). .
3- قولُه تعالَى: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ
- جُملةُ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ مُبيِّنةٌ لجُملةِ إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا [المدثر: 16] ؛ فهي تَكمِلةٌ وتَبيينٌ لها [132] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/306). . وقيل: قولُه: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ تَعليلٌ للوَعيدِ المَعنيِّ بقولِه: سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا [المدثر: 17] ؛ فجَمَع له عَذابَ الدَّارَينِ [133] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/648، 649)، ((تفسير البيضاوي)) (5/261)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/123)، ((تفسير أبي حيان)) (10/330)، ((تفسير أبي السعود)) (9/57)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/278). .
- وقد وُصِفَ حالُ الوليدِ بنِ المُغيرةِ في تَردُّدِه وتَأمُّلِه بأبلَغِ وصْفٍ؛ فابتُدِئَ بذِكرِ تَفكيرِه في الرَّأيِ الَّذي سيَصدُرُ عنه وتَقديرِه [134] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/307). .
- وقولُه: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ كَلامٌ مُعترِضٌ بيْن فَكَّرَ وَقَدَّرَ وبيْن ثُمَّ نَظَرَ، وهو إنشاءُ شَتْمٍ مُفرَّعٍ على الإخبارِ عنه بأنَّه فَكَّرَ وَقَدَّرَ؛ لأنَّ الَّذي ذُكِرَ يُوجِبُ الغضَبَ عليه، فالفاءُ لتَفريعِ ذمِّه عن سيِّئِ فِعلِه، والدَّاعي إلى الاعتراضِ هو التَّعجيلُ بفائدةِ الكلامِ؛ للاهتمامِ بها [135] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/649)، ((تفسير أبي حيان)) (10/330)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/308). .
- قولُه: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ قيل: هو دُعاءٌ مُقتضاهُ الاستحسانُ والتَّعجُّبُ؛ فقِيل: ذلك لمَنزعِه الأوَّلِ في مَدْحِه القُرآنَ، وفي نَفْيِه الشِّعرَ والكهانةَ والجُنونَ عنه. وقيل: ذلك لإصابتِه ما طَلَبَت قُريشٌ منه. وقيل: ذلك ثَناءٌ عليه على جِهةِ الاستِهزاءِ [136] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/649)، ((تفسير البيضاوي)) (5/261)، ((تفسير أبي حيان)) (10/330)، ((تفسير أبي السعود)) (9/57)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/279). . وقيل: إنَّ (قُتِلَ): دُعاءٌ عليه بأنْ يَقتُلَه قاتلٌ، أي: دُعاءٌ عليه بتَعجيلِ مَوتِه؛ لأنَّ حَياتَه حَياةٌ سيِّئةٌ. وهذا الدُّعاءُ مُستعمَلٌ في التَّعجيبِ مِن حالِه والرِّثاءِ له، كقولِه: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ [التوبة: 30] ، وقولِهِم: عَدِمْتُك، وثَكِلَتْه أُمُّه. وهو كِنايةٌ عن سُوءِ حالِه؛ لأنَّ ما قدَّرَه ليس ممَّا يُغتبَطُ ذَوو الألْبابِ على إصابتِه؛ إذ هو قد ناقَضَ قولَه ابتِداءً؛ إذ قال: ما هو بعَقْدِ السَّحرةِ ولا نفْثِهم، وبعْدَ أنْ فكَّرَ قال: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، فناقَضَ نفْسَه [137] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/308، 309). !
- قولُه: كَيْفَ قَدَّرَ استِفهامٌ على طَريقِ التَّعجُّبِ المَشوبِ بالإنكارِ، وهو مُوجَّهٌ إلى سامِعٍ غيرِ مُعيَّنٍ يَستفهِمُ المتكلِّمُ سامِعَه استِفهامًا عن حالةِ تَقديرِه. وهو في معْنى: ما أعجَبَ تَقديرَه وما أغْرَبَه! كقولِهم: أيُّ رجُلٍ زَيدٌ! أي: ما أعظَمَه [138] يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1149)، ((تفسير الزمخشري)) (4/649)، ((تفسير القرطبي)) (19/75)، ((تفسير البيضاوي)) (5/261)، ((تفسير أبي حيان)) (10/330)، ((تفسير أبي السعود)) (9/57)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/309). !
- وفي قولِه: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ قيل: ذَكَر قَدَّرَ ثَلاثَ مرَّاتٍ، وقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ مرَّتَينِ؛ لأنَّ المعْنى: أنَّ الوليدَ فكَّرَ في شأْنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وما أتى به، وقدَّر ماذا يُمكِنُه أنْ يقولَ فيهما، فقال اللهُ: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، أي: على أيِّ حالٍ كان تَقديرُه، فالتَّقديرُ الأوَّلُ مُغايرٌ للثَّاني والثَّالثِ؛ لاختلافِ المُقدَّرِ [139] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 587، 588). .
وقيل: كرَّرَ قولَه: ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ للمُبالَغةِ، فهو تَأكيدٌ، ولَزِمَ منه أنَّ قَدَّرَ الثَّالثَ تَأكيدٌ للثَّاني، وأنَّ قُتِلَ الثَّانيَ تَأكيدٌ للأوَّلِ [140] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/649)، ((تفسير البيضاوي)) (5/261)، ((تفسير أبي حيان)) (10/330)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 588)، ((تفسير أبي السعود)) (9/57)، ((تفسير الشوكاني)) (5/392). ؛ فقولُه: ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تَأكيدٌ لنَظيرِه المُفرَّعِ بالفاءِ. والعطْفُ بـ (ثُمَّ) يُفيدُ أنَّ جُملتَها أرْقى رُتبةً مِن الَّتي قبْلَها في الغرَضِ المَسوقِ له الكلامُ، فإذا كان المعطوفُ بها عينَ المعطوفِ عليه أفادَتْ أنَّ معْنى المعطوفِ عليه ذُو دَرَجاتٍ مُتفاوتةٍ، مع أنَّ التَّأكيدَ يَكسِبُ الكلامَ قوَّةً [141] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/309). . فجِيءَ بـ(ثُمَّ) للدَّلالةِ على أنَّ مَدخولَها أبلَغُ ممَّا قبْلَها، كأنَّه دُعِيَ عليْه أوَّلًا ورُجِيَ أنْ يُقلِعَ عمَّا كان يَرومُه، فلم يَفعَلْ، فدُعِيَ عليه ثانيًا [142] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 587، 588)، ((تفسير أبي السعود)) (9/57). .
- وأيضًا هو تَعجيبٌ أبلَغُ مِن الأوَّلِ؛ لأنَّه صَدَر عن رَويَّةٍ، بخِلافِ الأوَّلِ؛ فإنَّه نَشَأَ عن النَّظرةِ الأُولى، وهي حَمقاءُ. وفي هذا التَّرقِّي غايةُ تَهكُّمٍ به وبمَن اغترَّ بما تَفوَّهَ به [143] يُنظر: ((تفسير الكوراني)) (ص: 273). .
4- قولُه تعالَى: ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ
- قولُه: ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ عطْفٌ على وَقَدَّرَ، وهي ارتقاءٌ مُتَوالٍ فيما اقْتَضَى التَّعجيبَ مِن حالهِ والإنكارَ عليه، فالتَّراخي تَراخي رُتبةٍ، لا تَراخي زمَنٍ؛ لأنَّ نَظَرَه وعُبوسَه وبَسْرَه وإدبارَه واستكبارَه مُقارِنةٌ لتَفكيرِه وتَقديرِه [144] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/309). .
- وقدْ وصَفَت الآيةُ أشكالَ الوليدِ بنِ المغيرةِ الَّتي تَشكَّلَ بها لَمَّا أجْهَدَ نفْسَه لاستنباطِ ما يَصِفُ به القرآنَ، وذلك تَهكُّمٌ بالوليدِ واستِهزاءٌ به، وبيانُ أنَّ ما يَقولُه كذِبٌ وافتراءٌ؛ إذ لو كان مُمكِنًا لَكان له هَيئاتٌ غيرُ هذه؛ مِن فرَحِ القلْبِ، وظُهورِ السُّرورِ والجَذلِ والبِشرِ في وَجْهِه، ولو كان حقًّا لم يَحتَجْ إلى هذا الفِكرِ؛ لأنَّ الحقَّ أبلَجُ يتَّضِحُ بنفْسِه مِن غيرِ إكدادِ فِكرٍ ولا إبطاءِ تأمُّلٍ [145] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/649)، ((تفسير أبي حيان)) (10/331)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/310). .
- وفي قولِه: ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ كان العطْفُ في وَبَسَرَ وفي وَاسْتَكْبَرَ؛ لأنَّ البُسورَ قَريبٌ مِن العُبوسِ، فهو كأنَّه على سَبيلِ التَّوكيدِ، والاستكبارَ يَظهَرُ أنَّه سَببٌ للإدبارِ؛ إذ الاستكبارُ معنًى في القلْبِ، والإدبارُ حَقيقةٌ مِن فِعلِ الجِسمِ، فهما سَببٌ ومُسبَّبٌ، فلا يُعطَفْ بـ(ثُمَّ)، وقُدِّمَ المسَّببُ على السَّبَبِ؛ لأنَّه الظَّاهرُ للعَينِ، وناسَبَ العطفُ بالواوِ [146] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/331). .
- وقيل: العطْفُ بحرْفِ (ثُمَّ) هنا؛ للدَّلالةِ على أنَّه قدْ تأنَّى في التَّأمُّلِ، وتمهَّلَ، وكان بيْن الأفعالِ المُتناسقةِ تراخٍ وتباعُدٌ [147] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/650)، ((تفسير أبي حيان)) (10/331)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/544). .
- وقولُه: فَقَالَ إِنْ هَذَا قالَه بالفاءِ بعْدَ عطْفِ ما قبْلَه بحرْفِ (ثُم)؛ لأنَّ الكلمةَ لَمَّا خَطَرَت ببالِه بعْدَ التَّطلُّبِ، لم يَتمالَكْ أنْ نَطَقَ بها مِن غيرِ تَلبُّثٍ وتفكُّرٍ، فكان نُطقُه بها حَقيقًا بأنْ يُعطَفَ بحرْفِ التَّعقيبِ [148] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/650)، ((تفسير البيضاوي)) (5/261)، ((تفسير أبي حيان)) (10/331)، ((تفسير أبي السعود)) (9/58)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/310). .
- وصِيغةُ الحصْرِ في قولِه: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ مُشعِرةٌ بأنَّ استِقراءَ أحوالِ القُرآنِ بعْدَ السَّبرِ والتَّقسيمِ [149] السَّبرُ والتَّقسيمُ: يُقصَدُ بالتَّقسيمِ عندَ الأصوليِّين: حصْرُ الأوصافِ الَّتي تَحتمِلُ أنْ يُعَلَّلَ بها حُكمُ الأصلِ في عدَدٍ مُعيَّنٍ، والسَّبرُ: هو الاختبارُ لكلِّ الأوصافِ الَّتي قدْ جُمِعَت، فيُستبْعَدُ منها ما لا يَصلُحُ أنْ يكون عِلَّةً يُعلَّلُ بها الحُكمُ، ويُسْتبقَى ما يَصلُحُ أن يكونَ عِلَّةً، مثالُ ذلك أنْ يقولَ المجتهِدُ: تَحريمُ الرِّبا في «البُرِّ» ثبَتَ لعِلَّةٍ، والعِلَّةُ هذه هي إمَّا لِكَونِه مَكيلًا، وإمَّا لكَونِه مَطْعومًا، وإمَّا لكونِه قوتًا مُدَّخرًا، وإمَّا لكونِه مَوْزونًا، وإمَّا لكونِه مالًا. فهذا يُسمَّى «التَّقسيمَ»، ثمَّ يَختبِرَ هذه العِلَلَ ويَختارَ ما يَراهُ صَحيحًا ويُهمِلَ ما عداهُ، والتَّقسيمُ مُقدَّمٌ على السَّبْرِ في التَّطبيقِ. يُنظَر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/127)، ((الإحكام في أصول الأحكام)) للآمدي (3/264)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/491، 492)، ((التعريفات الفقهية)) للبركتي (ص: 111). أنتَجَ له أنَّه مِن قَبيلِ السِّحرِ، فهو قصْرُ تَعيينٍ لأحدِ الأقوالِ الَّتي جالَتْ في نفْسِه؛ لأنَّه قال: ما هو بكلامِ شاعرٍ، ولا بكَلامِ كاهنٍ، ولا بكَلامِ مَجنونٍ [150] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/310). .
- قولُه: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ بدَلُ اشتِمالٍ [151] بَدلُ الاشتمالِ: هو الَّذي يدُلُّ على مَعنًى في مَتْبوعِه أو صِفةٍ فيه، مِثلُ: أعْجَبَني مُحمَّدٌ خُلُقُه؛ فـ (خُلُقُه) بَدَلٌ مِن (مُحمَّدٌ)؛ بَدَلُ اشْتِمالٍ. يُنظر: ((توضيح المقاصد)) للمرادي (2/1037)، ((أوضح المسالك)) لابن هشام (3/365)، ((شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك)) (3/249). مِن جُملةِ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ بأنَّ السِّحرَ يكونُ أقوالًا وأفعالًا، فهذا مِن السِّحرِ القَوليِّ، وهذه الجُملةُ بمَنزلةِ النَّتيجةِ لِما تَقدَّمَ؛ لأنَّ مَقصودَ الوليدِ مِن ذلك كلِّه أنَّ القرآنَ ليس وَحيًا مِن اللهِ [152] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/310). .
وقيل: لم يُوسَّطْ حرْفُ العطْفِ بيْن الجُملتَينِ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ؛ لأنَّ الأُخرى إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ جَرَت مِن الأُولى إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَر مَجرى التَّوكيدِ مِن المُؤكَّدِ [153] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/650)، ((تفسير البيضاوي)) (5/261)، ((تفسير أبي حيان)) (10/331)، ((تفسير أبي السعود)) (9/58)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/279). .
- وجاء النَّظمُ على السَّننِ المألوفِ مِن التَّنزيلِ؛ وذلك أنَّه تعالَى لَمَّا حسَمَ طمَعَ الوليدِ بقولِه: إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا، وبيَّن عِنادَه بقولِه: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، دَعا عليه بالدُّعاءَينِ بتَقديرِه مرَّتينِ: قدَّرَ أوَّلًا أنَّه شاعرٌ ثمَّ نَفاه حِيلةً، وقدَّرَ ثانيًا أنَّه كاهنٌ كذلك، ثمَّ بعْدَ ذلك نظَرَ في طلَبِ ما يَدفَعُ به ويَرُدُّه، ثمَّ عبَس وبسَرَ كالمُهتَمِّ المُتفكِّرِ في شَيءٍ، ثمَّ أدبَرَ عن الحقِّ، واستكبَرَ عن اتِّباعِه، فقال: ما هذا الَّذي يَقرَؤُه محمَّدٌ إلَّا سِحرٌ يُؤثَرُ. واللهُ أعلَمُ [154] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/130). .
5- سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ
- جُملةُ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ مُستأنَفةٌ استِئنافًا بَيانيًّا ناشِئًا عن قولِه: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ [المدثر: 18] إلى آخِرِ الآياتِ، فذَكَر وَعيدَه بعَذابِ الآخِرةِ [155] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/310). . وقيل: هي بدَلٌ مِن سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا، ويَظهَرُ أنَّهما جُملَتانِ اعتَقَبَت كلُّ واحدةٍ منهما على سَبيلِ التَّوعُّدِ للعِصيانِ الَّذي قبْلَ كلِّ واحدةٍ منهما؛ فتُوُعِّدَ على كَونِه عَنيدًا لآياتِ اللهِ بإرهاقِ صَعودٍ، وعلى قولِه بأنَّ القرآنَ سِحرٌ يُؤثَرُ بإصلائِه سَقَرَ [156] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/331). .
- قولُه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ تَفخيمٌ وتَفظيعٌ وتَهويلٌ لشَأنِها [157] يُنظر: (تفسير البيضاوي)) (5/261)، ((تفسير أبي حيان)) (10/331)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 588)، ((تفسير أبي السعود)) (9/58)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/311)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/279). .
- قولُه: لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ بَيانٌ لوصفِها وحالِها، وإنجازٌ للوعيدِ الضِّمنيِّ الَّذي يَلوحُ به وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ [158] يُنظر: (تفسير البيضاوي)) (5/261)، ((تفسير أبي حيان)) (10/331)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 588)، ((تفسير أبي السعود)) (9/58)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/311)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/279). .
- وقيل: حُذِفَ مَفعولُ تُبْقِي لقَصْدِ العُمومِ، أي: لا تُبقِي منهم أحدًا، أو لا تُبْقي مِن أجْزائِهم شيئًا [159] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/312). .
- وجُملةُ وَلَا تَذَرُ عطْفٌ على لَا تُبْقِي، فهي في معْنى الحالِ، ومعنى (لَا تَذَرُ)، أي: لا تَترُكُ مَن يُلْقى فيها، أي: لا تَترُكُه غيرَ مَصلِيٍّ بعَذابِها، وهذه كِنايةٌ عن إعادةِ حَياتِه بعْدَ إهلاكِه، كما قال تعالَى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء: 56] [160] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/312). . وذلك على قولٍ.
- وقولُه: لَوَّاحَةٌ بِناءُ مُبالَغةٍ [161] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/332)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/275). .
- قولُه: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ معْنى عَلَيْهَا على حِراستِها، فـ (على) للاستعلاءِ بتَشبيهِ التَّصرُّفِ والوِلايةِ بالاستعلاءِ، كما يُقالُ: فلانٌ على الشُّرطةِ، أو على بَيتِ المالِ، أي: يَلي ذلك [162] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/312). .