موسوعة التفسير

سورةُ النَّملِ
الآيات (54-58)

ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ

غَريبُ الكَلِماتِ:

الْفَاحِشَةَ: أي: الفَعلةَ القَبيحةَ الشَّنيعةَ، وهي إتيانُ الذُّكورِ، وأصلُ (فحش): يدُلُّ على قُبحٍ في شَيءٍ وشَناعةٍ [775] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 122)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/478)، ((المفردات)) للراغب (ص: 626)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 60). .
الْغَابِرِينَ: أي: الباقينَ في عذابِ اللهِ، والغابرُ مِن الأضْدادِ؛ يُقالُ: غابرٌ للباقي، وغابرٌ للماضي، وأصلُ (غبر) هنا: يدُلُّ على البَقاءِ [776] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 170)، ((الأضداد)) لابن الأنباري (ص: 129)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 350)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/408)، ((المفردات)) للراغب (ص: 601)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 113)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 205)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 673). .

المعنى الإجماليُّ:

يبيِّنُ الله تعالى جانبًا مِن قصَّةِ لوطٍ عليه السلامُ مع قومِه، فيقولُ سبحانَه: واذكُرْ لُوطًا حينَ قال لقَومِه: أتفعَلونَ الفَعلةَ القَبيحةَ الشَّنيعةَ وأنتم تعلَمون أنَّها فاحِشةٌ؟! ثمَّ فسَّر هذه الفاحشةَ، فقال: أتأتونَ الرِّجالَ شَهوةً مِن دونِ النِّساءِ الَّتي أحَلَّها اللهُ لكم؟! بل أنتم قومٌ سُفَهاءُ جاهِلون. فلمْ يكُنْ لِقَومِه جَوابٌ إلَّا أن قال بَعضُهم لبَعضٍ: أخرِجوا لوطًا وأهلَ بيتِه مِن قَريتِكم؛ لأنَّهم يَتنزَّهون عن إتيانِ الرِّجالِ!
ثمَّ يبيِّنُ الله تعالى ما آلَ إليه أمرُ الفريقَينِ، فيقولُ: فأنجَيْنا لوطًا وأهلَ بيتِه إلَّا امرأتَه قَضَيْنا أنَّها مِن الباقينَ في العذابِ، وأمطَرْنا على قَومِ لُوطٍ مَطرًا مِن حِجارةٍ، فبِئسَ هذا المطَرُ الَّذي أمطَرْناه عليهم!

تَفسيرُ الآياتِ:

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54).
أي: واذكُرْ لُوطًا [777] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/381)، ((تفسير السعدي)) (ص: 606)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 314). قال القرطبي: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أي: وأرسَلْنا لوطًا، أو: اذكرْ لوطًا). ((تفسير القرطبي)) (13/219). ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/125)، ((تفسير البيضاوي)) (4/163)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/288). حينَ قال لِقَومِه: أتَفعَلونَ الفَعلةَ المتناهِيةَ في القُبحِ، والخطيئةَ الفَظيعةَ الشَّنيعةَ [778] قال الواحدي: (يعني: اللِّواطَ، في قَولِ ابنِ عباسٍ، والكلبيِّ، ومقاتلٍ، والجميعِ). ((البسيط)) (17/268). -وهي إتيانُ الذُّكورِ في أدبارِهم- والحالُ أنَّكم تُبصِرونَ [779] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/96)، ((تفسير الثعلبي)) (7/218)، ((الوسيط)) للواحدي (3/381)، ((تفسير البغوي)) (3/510)، ((تفسير ابن عطية)) (4/265)، ((تفسير القرطبي)) (13/219)، ((تفسير ابن كثير)) (6/200)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/181)، ((تفسير السعدي)) (ص: 606)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/288). قيل: معنى قولِه تعالى: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ  : تعلمونَ أنَّها فاحشةٌ. وممَّن قال بذلك في الجملةِ: ابنُ جرير، والثعلبي، والواحديُّ، والبغوي، وابن عطية، والقرطبي، والبقاعي، والسعدي. يُنظر: المصادر السابقة. وقيل: المعنى: تفعلون ذلك علَنًا يرى بعضُكم بعضًا. وممَّن قال بذلك في الجملة: ابنُ كثير، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/200)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/288). قال البقاعي: (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أي: لكم عقولٌ تعرفون بها المحاسِنَ والمقابِحَ، ورُبَّما كان بعضُهم يفعلُه بحضرةِ بعضٍ، كما قال: وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [العنكبوت: 29] ، فيكونُ حينَئذٍ مِن البصرِ والبصيرةِ). ((نظم الدرر)) (14/181). وقال ابنُ عثيمين: (لو أنَّنا فسَّرنا الإبصارَ هنا بالإبصارِ الحِسِّيِّ بالعينِ، والإبصارِ المعنويِّ بالقلبِ؛ لكان ذلك جائزًا، وفي الحقيقةِ أنَّ بشاعةَ هذا الشيءِ بالقَلبِ أمرٌ معلومٌ بالفِطرةِ، وكونُهم يفعلونَه وهم يُشاهِدُ بعضُهم بعضًا هذا أشَدُّ وأعظَمُ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 315، 316). ؟!
كما قال تعالى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ [العنكبوت: 28] .
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55).
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ.
أي: قال لُوطٌ لِقَومِه: أئِنَّكم لَتَأتونَ الذُّكورَ في أدبارِهم؛ لأجْلِ الشَّهوةِ، وتَتركُونَ إتيانَ فروجِ النِّساءِ الَّتي أحَلَّها اللهُ لكم [780] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/96)، ((تفسير السمرقندي)) (2/588)، ((تفسير الشوكاني)) (4/167)، ((تفسير السعدي)) (ص: 607). ؟!
بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ.
أي: بل أنتم قومٌ سُفَهاءُ جَهَلةٌ، مُتجاوِزونَ لحُدودِ الله، مُتجرِّئُون على محارِمِه [781] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/96)، ((البسيط)) للواحدي (17/269)، ((تفسير القرطبي)) (13/219)، ((تفسير ابن كثير)) (6/200)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/182)، ((تفسير الألوسي)) (10/210)، ((تفسير السعدي)) (ص: 607)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 319، 320). قال الزمخشري: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ... تفعلونَ فِعلَ الجاهلينَ بأنَّها فاحشةٌ مع عِلمِكم بذلك. أو: تجهلونَ العاقبةَ. أو: أراد بالجهلِ: السَّفاهةَ والمجانةَ الَّتي كانوا عليها). ((تفسير الزمخشري)) (3/374). وقال ابنُ جرير: (ما ذلك منكم إلَّا لأنَّكم قَومٌ سُفَهاءُ جَهَلةٌ بعظيمِ حَقِّ الله عليكم، فخالفْتُم لذلك أمْرَه، وعَصَيْتُم رَسولَه). ((تفسير ابن جرير)) (18/96). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 319، 320). .
كما قال تعالى: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ [الشعراء: 165، 166].
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56).
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ.
أي: فلمْ يكُنْ لِقَومِ لُوطٍ جَوابٌ ولا حُجَّةٌ حينَ أنكَرَ عليهم فِعلَ الفاحِشةِ إلَّا أن قال بعضُهم لبعضٍ: أخرِجوا لوطًا وأهلَ بَيتِه مِن قَريتِكم [782] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/96)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/182)، ((تفسير السعدي)) (ص: 607)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/6)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 321). .
إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ.
أي: أخرِجوهم؛ لأنَّ لوطًا وأهلَ بيتِه أُناسٌ يَتنزَّهون عمَّا نفعلُه مِن إتيانِ الرِّجالِ في أدبارهم؛ فلا ينبغي أن يُقيموا في بلادِكم [783] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/96)، ((تفسير ابن كثير)) (6/200)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/183)، ((تفسير السعدي)) (ص: 607)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 322). قال ابنُ كثير: (أي: يتحَرَّجون مِن فِعلِ ما تفعلونَه، ومِن إقرارِكم على صنيعِكم؛ فأخرِجوهم مِن بينِ أظهُرِكم؛ فإنَّهم لا يَصلُحون لمجاورتِكم في بلادِكم). ((تفسير ابن كثير)) (6/200). وقال ابن عثيمين: (قولُه: إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ هل هم أرادوا الحقيقةَ، وأنَّ هذا الفعلَ خبيثٌ، وهؤلاء يريدون التطَهُّرَ منه؟ أو أرادوا: يَتطهَّرون بزَعمِهم، وأنَّ هذا الفِعلَ ليس نجسًا، لكنَّ هؤلاء يُريدون أن يتطَهَّروا منه؟ الأقربُ الأخيرُ؛ لأنَّه هو مقتضى حالِهم؛ فمقتضى حالِهم أنَّهم رأوا هذا المنكَرَ مَعروفًا، وهذه الفاحِشةَ يَسيرةً؛ فتمَسَّكوا بها!). ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 322). !
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57).
أي: فأنجَينا لوطًا وأهلَ بيتِه مِن أنْ يَصِلوا إليهم بأذًى، أو يَلحَقَهم شَيءٌ مِن عذابِنا، إلَّا امرأتَه الكافِرةَ، قَضَيْنا أنَّها مِنَ الباقينَ في العذابِ؛ لتَهلِكَ مع قَومِها [784] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/97)، ((تفسير ابن عطية)) (4/265)، ((تفسير ابن كثير)) (6/200)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/183)، ((تفسير السعدي)) (ص: 607). قال ابن كثير: (كانت رِدْءًا لهم؛ على دينِهم، وعلى طريقتِهم، في رضاها بأفعالِهم القبيحةِ... لا أنَّها كانت تفعَلُ الفواحِشَ؛ تَكرمةً لنبيِّ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ، لا كرامةً لها). ((تفسير ابن كثير)) (6/200). وقال أيضًا: (... إنَّ اللهَ لا يُقَدِّرُ على نبيِّه أن تَبغيَ امرأتُه، كما قال ابنُ عبَّاسٍ وغيرُه مِن أئمَّةِ السَّلفِ والخلَفِ: «ما بَغَتِ امرأةُ نبيٍّ قَطُّ». ومَن قال خِلافَ هذا فقد أخطأ خطأً كبيرًا). ((البداية والنهاية)) (1/422). ممَّن اختار أنَّ معنَى الْغَابِرِينَ أي: الباقينَ في العَذابِ: ابنُ جرير، والسمرقندي، وابن أبي زمنين، والثعلبي، والواحدي، والسمعاني، والبغوي، وابن الجوزي، والبيضاوي، وجلال الدين المحلي، وأبو السعود، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/97)، ((تفسير السمرقندي)) (2/588)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (3/306)، ((تفسير الثعلبي)) (7/218)، ((الوسيط)) للواحدي (3/381)، ((تفسير السمعاني)) (4/107)، ((تفسير البغوي)) (3/510)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/367)، ((تفسير البيضاوي)) (4/164)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 501)، ((تفسير أبي السعود)) (6/292)، ((تفسير الشوكاني)) (4/167)، ((تفسير الألوسي)) (10/214)، ((تفسير القاسمي)) (7/498). .
كما قال تعالى: فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ [الشعراء: 170 - 172].
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58).
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا.
أي: وأمطَرْنا على قَومِ لوطٍ مَطَرًا مِن حِجارةٍ [785] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/97)، ((تفسير ابن عطية)) (4/265)، ((تفسير ابن كثير)) (6/201)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/567). .
كما قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود: 82، 83].
وقال سُبحانَه: قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات: 32 - 36].
فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ.
أي: فبِئسَ المطَرُ هذا الذي أمطَرْناه على قَومِ لُوطٍ الَّذين أنذَرَهم نبيُّهم عذابَ اللهِ، فعَصَوه وكذَّبوه [786] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/97)، ((تفسير ابن كثير)) (6/201)، ((تفسير السعدي)) (ص: 607)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 327، 328). !

الفَوائِدُ التَّربويَّةُ:

في قَولِه تعالى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ أنَّه لا يُنجي مِن عذابِ اللهِ الاتِّصالُ بأهلِ الصَّلاحِ، فلا يقولُ الإنسانُ مثلًا: أنا أخي صالحٌ أو وليٌّ أو ما أشبَهَ ذلك، فهو يَعصِمُني مِن عذابِ اللهِ؛ فهذه امرأةُ لوطٍ لم ينفَعْها أنَّها امرأةُ نبيٍّ! ولهذا قال اللهُ تعالى: فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [التحريم: 10] ، فمَن أتى بأسبابِ الهلاكِ هَلَكَ، وإنْ كان بيْنَ قومٍ صالحينَ [787] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 325). ؛ ففيه تنبيهٌ على أنَّ العذابَ يُدفَعُ بالطَّاعةِ لا بالوسيلةِ [788] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/202). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أنَّ الرُّسلَ يُرسَلون إلى قومِهم، ولم يُبْعَثْ أحدٌ إلى عُمومِ النَّاسِ إلَّا رسولُ اللهِ محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ [789] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 316). .
2- قَولُه تعالى: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ فيه بيانُ عِظَمِ اللِّواطِ وقُبْحِه، ووجوبِ الإنكارِ على مَن أتَى به [790] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 316). .
3- في قَولِه تعالى: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أنَّ الفواحشَ تَقْبُحُ بحسَبِ ما يَقترِنُ بها؛ فإنَّ هذه الفاحشةَ مُنكَرةٌ، ولكنَّها إذا كانت علنًا وجهرًا يَظهرُ النَّاسُ بعضُهم أمامَ بعضٍ فيها صارت أَقبَحَ وأعظمَ؛ ولهذا أتى بالجملةِ الحاليَّةِ في قَولِه: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [791] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 317). -وذلك على أحدِ الأقوالِ في التَّفسيرِ-؛ فإنَّ التَّجاهُرَ بالمعصيةِ معصيةٌ؛ لأنَّه يدُلُّ على استِحسانِها، وذلك استِخفافٌ بالنَّواهي [792] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/288). .
4- قال الله تعالى: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ لَمَّا كان قولُه: شَهْوَةً رُبَّما أوهَمَ أنَّهم لا غنَى بهم عن إتيانِهم؛ لِلشَّهوةِ الغالبةِ؛ لِكَونِ النِّساءِ لا تكفيهم- لذلك نفَى هذا بقَولِه: بَلْ أي: إنَّكم لا تأتونَهم لِشَهوةٍ مُحوِجةٍ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [793] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/182). !
5- قولُه: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فيه أنَّ هذه الشَّهوةَ إنَّما تَصدُرُ عن جَهلٍ، لا بمقتضى الطَّبيعةِ، وإنَّما هي عن سفَهٍ في الإنسانِ؛  كأنَّه قال: «إتيانُكم إيَّاهم شهوةً ليس له محلٌّ، ولكنَّ الذي أوجبَ ذلك لكم أنَّكم قومٌ ذَوو جَهلٍ، أي: سَفَهٍ [794] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 319). !
6- في قَولِه تعالى: إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ أنَّ قولَ البعضِ إذا رَضِيَه الباقون فهو للجَميعِ، ومِن المعلومِ أنَّ هذا القولَ ليس للجَميعِ؛ لأنَّهم عندَما يقولون: أَخْرِجُوا فبعضُهم يُخاطِبُ بعضًا، ولكنَّ الكَلِمةَ إذا جاءت مِن بعضِ القَومِ ورَضِيَها الآخَرونَ، فإنَّها تُنسَبُ إليهم؛ ولهذا يُخاطِبُ اللهُ اليهودَ في عهدِ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ بما فَعَله أسلافُهم، وفي سورةِ (البقرةِ) كثيرٌ مِن ذلك، كما قال اللهُ تعالى: وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة: 53] ، فموسى الَّذي أُوتيَ الكتابَ والفُرقانَ جاء لأسلافِهم، وليس لهم [795] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 323). .
7- في قَولِه تعالى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ دَليلٌ على أنَّ المرأةَ مِن الأهلِ؛ لأنَّ الإنسانَ يأهَلُها ويأوي إليها، وكذلك هي بالنِّسبةِ إليه؛ فالزَّوجةُ مِن أهلِ الإنسانِ، كما أنَّ أقاربَه مِن أولادِه وآبائِه هم أيضًا مِن الأهلِ [796] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 324). .
8- بيانُ سَبْقِ التَّقديرِ للحوادثِ، وأنَّ تقديرَ اللهِ تعالى سابقٌ على أفعالِه؛ لِقَولِه: قَدَّرْنَاهَا؛ لأنَّ معنى قَدَّرْنَاهَا أي: جعَلْناها بتقديرِنا السَّابقِ [797] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 325). .
9- قال الله تعالى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا في هذا دَليلٌ على أنَّ المطرَ ليس خاصًّا بالماءِ، بل كلُّ ما حُصِبَ به الإنسانُ مَن فوقٍ يُسمَّى مطرًا؛ ولهذا قال: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا، والمطرُ الذي أصابهم هو حجارةُ السِّجِّيلِ، كما قال اللهُ تعالى في آيةٍ أخرى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ [798] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 327). [هود: 82] .
10- في قَولِه تعالى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يُعَذِّبُ كلَّ إنسانٍ بذنْبِه، ووجْهُ مناسَبةِ العقوبةِ للجريمةِ أنَّ هذا المطرَ جَعَل عاليَ بلادِهم سافِلَها، كما أنَّ أولئك سَفُلوا بأخلاقِهم حتَّى كانوا يَستَعمِلونَ هذه الفاحِشةَ، ويَذَرونَ ما خَلَقَ لهم ربُّهم مِن أزواجِهم، وهذا بلا شكٍّ انقلابٌ في فِطَرِهم؛ ولذلك عُوقِبوا بهذه الجريمةِ -والعياذُ باللهِ [799] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 328). ويُنظر أيضًا: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 26). .
11- في قَولِه تعالى: فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ سؤالٌ: وهو أنَّ هذا المطرَ مِن اللهِ سُبحانَه وتعالى، والثَّناءُ عليه بالقُبْحِ وبالشَّرِّ ألَا يُنافي قولَ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: ((والشَّرُّ ليس إليك )) [800] أخرجه مسلم (771) مطولًا من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ؟!
والجوابُ: لا ينافيه، والجمعُ أنَّ هذا السُّوءَ ليس في فِعلِ اللهِ، ولكِنَّه في مَفعولِه، فهذا المطرُ هو الذي أُثْنِيَ عليه بالسُّوءِ فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ، وأمَّا فِعلُ اللهِ فإنَّه ليس بِشَرٍّ، بل هو مِن كمالِ العَدلِ والقوَّةِ والسُّلطانِ؛ حيثُ عاقبَ المجرِمين بما يَستحِقُّون، وعُقوبةُ المجرمِ بما يَستحِقُّ لا شكَّ أنَّها ليست بظُلمٍ، وليست بسَيِّئةٍ، ولا يُثنى على فاعِلِها بالسُّوءِ، فتبيَّن بهذا أنَّه لا ينافي قولَ الرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: ((والشَّرُّ ليس إليك َ)) [801] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 329). .
12- مما يُتَنَبَّهُ له أنَّه لم يَرِدْ في قصَّةِ لوطٍ عليه السَّلامُ أكثرُ مِن نَهْيِه لهم عن هذه الفاحشةِ؛ فلا يخلو حالُهم مِن أمْرَينِ: إمَّا أنَّهم كانوا لا يُشرِكون باللهِ تعالى شيئًا، ولكنَّهم لَمَّا ابتكَروا هذه المعصيةَ، وجاهَروا بها مُصِرِّينَ عليها؛ أُخِذوا بالعذابِ لذلك، ولِكفرِهم بتكذيبِهم رسولَهم -كما صَرَّحَتْ به آيةُ الشُّعراءِ-.
وإمَّا أنَّهم كانوا مشركين، ولكنَّه عليه السلامُ لَمَّا رآهم قد سَفَلوا إلى رتبةِ البَهيميَّةِ رَتَّبَ دعاءَهم منها إلى رتبةِ الإنسانيَّةِ، ثمَّ إلى رتبةِ الوحدانيَّةِ، ويدُلُّ على هذا التَّقديرِ الثَّاني قولُه -مشيرًا إلى أنَّ اللهَ تعالى أهلَكهم وجميعَ مَن كَفَر مِن قبْلِهم، ولم تُغْنِ عنهم معبوداتُهم شيئًا-: آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [802] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/185). ذكَر الرازي أنَّ لوطًا عليه السَّلامُ كان له قومٌ وهو كان مِن قومِ إبراهيمَ وفي زمانِه، وإبراهيمُ سَبَقه بذلك واجتَهَد فيه حتَّى اشتهرَ الأمرُ بالتَّوحيدِ عندَ الخَلقِ مِن إبراهيمَ، فلم يَذكُرْه عن لوطٍ، وإنَّما ذَكَر منه ما اختصَّ به مِن المنعِ عن الفاحشةِ وغيرِها، وإنْ كان هو أيضًا يأمُرُ بالتَّوحيدِ؛ إذْ ما مِنْ رسولٍ إِلَّا ويكونُ أكثرُ كلامِه في التَّوحيدِ. ((تفسير الرازي)) (25/54). وقال ابنُ تيميَّةَ عن قومِ لوطٍ عليه السَّلامُ: (وكانوا كفَّارًا مِن جِهاتٍ: مِن جهةِ استِحلالِ الفاحشةِ، ومِن جهةِ الشِّركِ، ومِن جهةِ تكذيبِ الرُّسلِ، ففعَلوا هذا وهذا، ولكنَّ الشِّركَ والتَّكذيبَ مشتركٌ بيْنَهم وبيْن غَيرِهم، والَّذي اختصُّوا به الفاحشةُ؛ فلهذا عُوقِبوا عقوبةً تَخُصُّهم لم يُعاقَبْ غيرُهم بمِثْلِها). ((تفسير آيات أشكلت على كثير من العلماء)) (1/391). لكنْ ذكَرَ في كتاب ((النبوات)) (1/212) أنَّهم لم يَكونوا مشركين، وإنَّما كان ذنْبُهم استِحلالَ الفاحشةِ وتوابعَ ذلك؛ ولذا لم يُذَكَّروا بالتَّوحيدِ، بخلافِ سائرِ الأمَمِ. .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ
- قولُه: وَلُوطًا أي: واذكُرْ لوطًا، أو: وأرسَلْنا لُوطًا؛ لِدَلالةِ قولِه فيما سبق: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا [النمل: 45] عليه. وعلى الوجهَينِ هو مِن عطفِ قصَّةٍ على قصَّةٍ، وليس معطوفًا على صَالِحًا مع تبادُرِه، ولا على قولِه قبْلَه: الَّذِينَ آَمَنُوا [النمل: 53] مع قُربِه؛ لأنَّه غيرُ مستقيمٍ؛ لأنَّ صالحًا بدَلٌ أو عطفُ بيانٍ لـ أَخَاهُمْ  [النمل: 45] ، وقد قُيِّد بقَيدٍ مُقَدَّمٍ عليه، وهو إِلَى ثَمُودَ [النمل: 45] ، فلو عُطِف عليه تقيَّد به، ولا يصحُّ؛ لأنَّ لوطًا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم يُرسَلْ إلى ثمودَ [803] يُنظر: ((حاشية الشهاب على البيضاوي)) (7/52). .
وقيل: عطَفَ (لُوطًا) على صَالِحًا في قولِه السَّابقِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا [النمل: 45] ، ولم يَذكُرِ المُرسَلَ إليهم هنا كما ذكَرَ في قصَّةِ ثمودَ؛ لعَدمِ تَمامِ المُشابَهةِ بيْن قومِ لوطٍ وبيْن قُريشٍ فيما عدَا التَّكذيبَ والشِّركَ [804] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/287). .
- والاستفهامُ في قولِه: أَتَأْتُونَ استفهامُ إنكارٍ وتوبيخٍ [805] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/254)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/288). .
- قولُه: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ جُملةٌ حاليَّةٌ مِن فاعلِ (تأتُون)، مُفيدةٌ لتأكيدِ الإنكارِ وتَشديدِ التَّوبيخِ؛ فإنَّ تعاطيَ القبيحِ مِن العالِمِ بقُبْحِه أقبحُ وأشنعُ [806] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/374)، ((تفسير البيضاوي)) (4/163)، ((تفسير أبي السعود)) (6/292)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/288). ، وذلك على أحدِ الأقوالِ في التَّفسيرِ.
- وتعقيبُ قصَّةِ ثمودَ بقصَّةِ قومِ لوطٍ جارٍ على مُعتادِ القرآنِ في تَرتيبِ قَصصِ هذه الأُمَمِ؛ فإنَّ قومَ لوطٍ كانوا مُتأخِّرينَ في الزَّمنِ عن ثمودَ. وإنَّما الذي يَسْتثيرُ سؤالًا هنا: هو الاقتصارُ على قصَّةِ قومِ لوطٍ دونَ قصَّةِ عادٍ وقصَّةِ مَدْينَ؛ وذلك لمُناسَبةِ مُجاورةِ دِيارِ قومِ لوطٍ لممْلكةِ سُليمانَ، ووُقوعِها بيْنَ دِيارِ ثمودَ وبيْن فِلَسطينَ، وكانت دِيارُهم ممَـرَّ قُريشٍ إلى بلادِ الشَّامِ، كما قال تعالى: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [الحجر: 76] ، وقال سبحانه: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [807] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/287، 288). [الصافات: 137، 138].
2- قولُه تعالى: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ لمَّا أنكَرَ تعالى عليهم فِعلَهم على الإجمالِ، وسمَّاهُ فاحشةً، وقيَّدَه بالحالِ المُقرِّرةِ لجِهَةِ الإشكالِ تَتْميمًا للإنكارِ بقولِه: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ؛ أراد مَزيدَ ذلك التَّوبيخِ والإنكارِ، فكشَفَ عن حقيقةِ تلك الفاحشةِ مُفَصِّلًا، ففيه تعْيينٌ بعدَ إبهامٍ؛ فقد أبهَمَ أوَّلًا في قولِه: الْفَاحِشَةُ، ثمَّ عيَّنَها. وصرَّحَ بذِكْرِ الرِّجَالَ مُحلًّى بلامِ الجنْسِ، مُشيرًا به إلى أنَّ الرُّجوليَّةَ مُنافِيةٌ لهذه الحالةِ، وقيَّده بالشَّهوةِ التي هي أخَسُّ أحوالِ البَهيميَّةِ، وضَمَّ إليه مِنْ دُونِ النِّسَاءِ، وأذِنَ له بأنَّ ذلك ظُلمٌ فاحشٌ، ووَضْعٌ للشَّيءِ في غيرِ مَوضعِه، ثمَّ أضرَبَ عن الكلِّ بقولِه: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، أي: كيف يُقالُ لمَن يَرتكِبُ هذه الشَّنعاءَ: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ؟! فأَولى حرفَ الإضرابِ ضَميرَ (أَنْتُمْ)، وجعَلَهم قومًا جاهلينَ، والْتفَتَ في تَجْهَلُونَ مُوبِّخًا مُعيِّرًا [808] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/547، 548)، ((تفسير أبي حيان)) (8/255). .
- قولُه: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً الهمزةُ للاستفهامِ الإنكاريِّ التَّوبيخيِّ، وهذا تَثنيةٌ للإنكارِ، وتَكريرٌ للتَّوبيخِ، وبَيانٌ لِمَا يأْتونَه مِن الفاحشةِ بطريقِ التَّصريحِ، وأيضًا كرَّرَ التَّوبيخَ زِيادةً في التَّقبيحِ واستسماجِ هذه الفِعلةِ الشَّنعاءِ المُخالِفةِ لنَواميسِ الطَّبيعةِ [809] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/163)، ((تفسير أبي السعود)) (6/292)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/231). .
- وتَحليةُ جُملةِ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً بحَرفَيِ التَّأكيدِ (إنَّ واللَّامِ)؛ للإيذانِ بأنَّ مَضمونَها ممَّا لا يُصدِّقُ وُقوعَه أحدٌ؛ لكَمالِ بُعْدِه مِن العُقولِ. وإيرادُ المفعولِ بعُنوانِ الرُّجوليَّةِ؛ لتَربيةِ التَّقبيحِ وتحقيقِ المُبايَنةِ بيْنَها وبيْن الشَّهوةِ التي عُلِّلَ بها الإتيانُ [810] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/163)، ((تفسير أبي السعود)) (6/292). .
- قولُه: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيث تقدَّمَ في (الأعرافِ): إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ [الأعراف: 81]؛ فهنا جِيءَ بالاستفهامِ الإنكاريِّ، وما في (الأعرافِ) جاء الخبرُ المُستعمَلُ في الإنكارِ؛ فيجوزُ أنْ يكونَ اختلافُ الحكايةِ لاختلافِ المَحكيِّ؛ بأنْ يكونَ لُوطٌ قد قال لهم المقالتَينِ في مَقامينِ مُختلفينِ. ويجوزُ أنْ يكونَ اختلافُ الحِكايةِ تفنُّنًا مع اتِّحادِ المعنى. وكِلَا الأُسلوبينِ يقَعُ في قَصصِ القرآنِ؛ لأنَّ في تَغييرِ الأسلوبِ تجديدًا لنَشاطِ السَّامعِ. وعلى قِراءةِ ما في سُورةِ (الأعرافِ) بهمْزتينِ؛ فتَستوي الآيتانِ على هذه القِراءةِ [811] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/288)، يُنظر ما تقدم في تفسير سورة الأعراف، الآية 81 (6/ 319). .
- قولُه: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ أَنْتُمْ قَوْمٌ خبرٌ موَطِّئٌ، وإنَّما الخبرُ في الحقيقةِ هو الجملةُ الَّتي وُصِف بها قَوْمٌ، والخبرُ الموَطِّئُ هو الَّذي لا يُفيدُ بانفرادِه ممَّا بَعْدَه، كالحالِ الموَطِّئةِ في نحو: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا [يوسف: 2] . ألا تَرى أنَّك لو اقتَصَرْتَ على قَوْمٌ هنا لم تحصُلْ به فائدةٌ، وإنَّما الفائدةُ مقرونةٌ بصِفَتِه، فالخبرُ الموَطِّئُ كالزِّيادةِ فى الكلامِ. فـ تَجْهَلُونَ فِعلُ خِطابٍ وُصِفَ به اسمُ غَيْبةٍ كما تَرى، ولم يأتِ بالياء وِفاقًا لـ قَوْمٌ، ولكنَّه جاء وَفْقَ المبتَدَأِ الَّذي هو أَنْتُمْ في الخِطابِ، ولو قيل: بل أنتُم قَومٌ، لم يحصُلْ بهذا الخبرِ فائدةٌ [812] يُنظر: ((أمالي ابن الشجري)) (3/223، 224). .
- وفي إقحامِ لَفظِ (قوم) إيماءٌ إلى تَمكُّنِ صِفَةِ الجهْلِ منهم حتَّى كأنَّها مِن مُقوِّماتِ قَوميَّتِهم [813] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/288). .
- قولُه: تَجْهَلُونَ صِفةٌ لـ قَوْمٌ، والموصوفُ لَفظُه لفظُ الغائبِ، ولكنَّها قُرِئَت بالتَّاءِ للمُخاطَبِ دونَ الياءِ الَّتي للغائبِ، وكذلك بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ [النمل: 47] ؛ لأنَّه اجتمَعَت الغَيبةُ والمُخاطَبةُ، فغُلِّبَت المُخاطَبةُ؛ لأنَّها أقْوى وأرسَخُ أصلًا مِن الغَيبةِ [814] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/374)، ((تفسير أبي السعود)) (6/292)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/289). ، فهذا مِن بابِ التَّغليبِ -وهو مِن أنواعِ تخريجِ الكلامِ على خِلافِ مُقتضَى الظَّاهِرِ-؛ حيث رُجِّح أحدُ الأمْرَينِ على الآخَرِ تغليبًا للمُخاطَبينَ على الغائبينَ، أو لِتَغليبِ جانبِ المعنَى على اللَّفظِ. ولعلَّه مِنَ الالتِفاتِ [815] يُنظر: ((التبيان في البيان)) للطيبي (ص: 164)، ((عروس الأفراح)) للبهاء السبكي (2/318، 319)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 155). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ حيث وقَعَ في (الأعرافِ): أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 80] ولم يُذكَرْ هنا؛ لأنَّ ما يجْري في القصَّةِ لا يَلزَمُ ذِكرُ جَميعِه. وكذلك القولُ في عَدمِ ذِكْرِ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ في سُورةِ (الأعرافِ) مع ذِكْرِه هنا، ونظيرُ بقيَّةِ الآيةِ تقدَّمَ في سُورةِ (الأعرافِ)، إلَّا أنَّ الواقعَ هنا بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، فوصَفَهم بالجَهالةِ، وهي اسمٌ جامعٌ لأحوالِ أفَنِ الرَّأيِ وقساوةِ القلْبِ، وفي (الأعرافِ) وصَفَهم بأنَّهم قومٌ مُسرِفون؛ وذلك يُحمَلُ على اختلافِ المقالتينِ في مَقامينِ [816] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/288). .
3- قولُه تعالى: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ تقدَّمَ نظيرُ هذه الآياتِ في سُورةِ (الأعرافِ)، وخالَفَتْها هذه بوُقوعِ العطْفِ بالفاءِ في قولِه: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ دونَ الواوِ، وبقولِه: أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ عِوَضَ أَخْرِجُوهُمْ [الأعراف: 82] ، وبقولِه: قَدَّرْنَاهَا عِوَضَ كَانَتْ [الأعراف: 83] ، وبقولِه: فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ عِوَضَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [الأعراف: 84] ؛ فأمَّا مَوقعُ الفاءِ هنا فهو لتَعقيبِ الجُملةِ المعطوفةِ بالفاءِ على التي قبْلَها تَعقيبَ جُزءِ القصَّةِ على أوَّلِه، فلا تُفِيدُ إلَّا تَعقيبَ الإخبارِ، وهي في ذلك مُساوِيةٌ للواوِ، ولكنْ أُوثِرَ حرفُ التَّعقيبِ في هذه الآيةِ؛ لكَونِها على نَسجِ ما حُكِيَت به قصَّةُ ثمودَ في قولِه تعالى: فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ [النمل: 45] ؛ فالاختلافُ بيْن هذه الآيةِ وآيةِ (الأعرافِ) تفنُّنٌ في الحكايةِ، ومُراعاةٌ للنَّظيرِ في النَّسجِ، وهذا مِن أساليبِ قَصصِ القرآنِ. وكذلك قولُه: أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ دونَ أَخْرِجُوهُمْ [الأعراف: 82] ؛ لأنَّ المَحكيَّ مِن كلامِ القومِ هو تآمُرُهم على إخراجِ آلِ لوطٍ، فما هنا حِكايةٌ بمُرادِفِ كَلامِهم، وما في (الأعرافِ) حِكايةٌ بالمعنى، والغرَضُ هو التَّفنُّنُ أيضًا. وكذلك الاختلافُ بيْنَ قَدَّرْنَاهَا هنا وبيْن كَانَتْ في [الأعراف: 83] . وأمَّا الاختلافُ بيْنَ فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ وبيْن فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [الأعراف: 84] ؛ فهُما عِبرتانِ بحالِهم تفرَّعَتَا على وصْفِ ما حلَّ بهم، فوُزِّعَت العِبرتانِ على الآيتينِ؛ لئلَّا يَخلُوَ تَكريرُ القصَّةِ مِن فائدةٍ [817] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/5، 6). .
- قولُه: أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ قِيل: أَظْهَرَ ما أضْمَرَه في (الأعرافِ): أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ [الأعراف: 82] ؛ لأنَّ الإظهارَ ألْيقُ بسُورةِ العلمِ والحِكمةِ وإظهارِ الخَبْءِ [818] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/183). .
- وقالوا: مِنْ قَرْيَتِكُمْ ولم يقولوا: (مِن القَريةِ)؛ لأنَّ قولَهم: مِنْ قَرْيَتِكُمْ يُوجِبُ الحَمِيَّةَ والعصبيَّةَ حتى يُخرجوهم، كأنَّهم قالوا: هذه القريةُ لكم، أخرجوا هذا الرجُلَ، وكذلك ففي قَولِه: آَلَ لُوطٍ يعني: هؤلاء ليسوا منكم؛ فلا وجْهَ لكونِكم تَسكُتونَ عنهم [819] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 323). !