موسوعة التفسير

سورةُ الواقِعةِ
الآيات (1-9)

ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ

غَريبُ الكَلِماتِ:

الْوَاقِعَةُ: أي: القيامةُ، والواقِعَةُ لا تُقالُ إلَّا في الشِّدَّةِ والمَكروهِ [5] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 445)، ((المفردات)) للراغب (ص: 880)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 387). .
لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ: أي: ليس لمجيئِها رَدٌّ ولا رُجوعٌ ولا تكذيبٌ، والكاذِبةُ هنا: مَصدَرٌ بمعنى الكَذِبِ، كالخائِنةِ، واللَّاغيةِ، والخاطِئةِ، والعافيةِ، والعاقِبةِ [6] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 445)، ((تفسير ابن جرير)) (22/279)، ((البسيط)) للواحدي (21/210)، ((المفردات)) للراغب (ص: 880)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 387)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 138). .
رُجَّتِ: أي: زُلْزِلَتْ واضطَرَبت، وأصلُ (رجج): يدُلُّ على الاضطِرابِ [7] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 445)، ((تفسير ابن جرير)) (22/282)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 245)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/384)، ((المفردات)) للراغب (ص: 341)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 387)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 310)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 484). .
وَبُسَّتِ: أي: فُتِّتَتْ، وقيل: خُلِطَتْ فصارَتْ كالدَّقيقِ المبْسوسِ، وهو الملتوتُ بشيءٍ مِن الماءِ، وقيل: معناه: سِيقَت سَوقًا سَريعًا؛ مِن قَولِهم: انْبَسَّتِ الحيَّاتُ: أي: انسابت انسيابًا سريعًا، وأصلُ (بسس) هنا: فَتُّ الشَّيءِ وخَلْطُه [8] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 445)، ((تفسير ابن جرير)) (22/282)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/181)، ((البسيط)) للواحدي (21/213- 214)، ((المفردات)) للراغب (ص: 122)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 387). .
هَبَاءً مُنْبَثًّا: أي: غُبارًا مُنتشِرًا مُتَفَرِّقًا كالَّذي يُرى في شُعاعِ الشَّمسِ إذا دَخَل مِنَ الكَوَّةِ، وأصلُ (هبو): يدُلُّ على غَبرةٍ ورِقَّةٍ فيها، وأصلُ (بثث): تفريقُ الشَّيءِ وإظهارُه [9] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 445)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 493)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/172) و (6/31)، ((البسيط)) للواحدي (21/215)، ((المفردات)) للراغب (ص: 832)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 962). .
أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً: أي: أصنافًا وأنواعًا ثلاثةً، وأصلُ (زوج): يدُلُّ على مُقارَنةِ شَيءٍ لشَيءٍ [10] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 445)، ((تفسير ابن جرير)) (22/286)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/35)، ((المفردات)) للراغب (ص: 385)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 492). .
فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ: أي أصحابُ اليمينِ، والمَيمنةُ: ناحيةُ اليمينِ [11] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 426)، ((البسيط)) للواحدي (21/216)، ((المفردات)) للراغب (ص: 894). .
وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ: أي: وأصحابُ الشِّمالِ، وأصلُ (شأم): يدُلُّ على الجانبِ اليَسارِ [12] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 446)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 426)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/239). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ الله تعالى مقرِّرًا الحقيقةَ الَّتي لا بدَّ مِن وُقوعِها: إذا قامت القيامةُ وتحقَّقَ وُقوعُها، ليس وُقوعُها بكَذِبٍ؛ فهو أمرٌ حَقٌّ واقِعٌ لا محالةَ، فتَخفِضُ أقوامًا فيَدخُلونَ النَّارَ، وتَرفَعُ آخَرينَ فيَدخُلونَ الجنَّةَ.
ثمَّ يبيِّنُ الله تعالى ما يَحدُثُ في هذا اليَومِ، فيقولُ: إذا زُلْزِلَت الأرضُ زِلزالًا شَديدًا، وفُتِّتَت الجِبالُ تَفتيتًا، فصارت غُبارًا مُتفَرِّقًا، وصِرْتُم -أيُّها النَّاسُ- أصنافًا ثلاثةً.
ثمَّ يقولُ الله تعالى مفصِّلًا أحوالَ الأزواجِ الثَّلاثةِ: فالصِّنفُ الأوَّلُ: أصحابُ اليَمينِ، ما أعظَمَ شَأنَهم! والصِّنفُ الثَّاني: أصحابُ الشِّمالِ، ما أفظَعَ شأنَهم!

تَفسيرُ الآياتِ:

إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1).
أي: إذا قامت القيامةُ، وتحقَّقَ وُقوعُها [13] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/279)، ((تفسير القرطبي)) (17/194)، ((تفسير ابن كثير)) (7/513)، ((تفسير السعدي)) (ص: 832)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/281)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/508). قال ابنُ كثير: (الواقِعةُ: مِن أسماءِ يومِ القيامةِ؛ سُمِّيَت بذلك لتحَقُّقِ كَونِها ووُجودِها). ((تفسير ابن كثير)) (7/513). .
كما قال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ [الحاقة: 13 - 15] .
لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2).
أي: ليس وُقوعُها بكَذِبٍ؛ فهو أمرٌ حَقٌّ واقِعٌ يَقينًا لا محالةَ [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/279)، ((تفسير القرطبي)) (17/195)، ((تفسير ابن كثير)) (7/513)، ((تفسير السعدي)) (ص: 832)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/508، 509)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 327). قال ابن جُزَي: (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ يحتمِلُ ثلاثةَ أوجُهٍ: الأوَّلُ: أن تكونَ الكاذبةُ مصدرًا كالعافيةِ، والمعنى: ليس لها كذِبٌ ولا ردٌّ. الثَّاني: أن تكونَ كَاذِبَةٌ صفةَ مَحذوفٍ، كأنَّه قال: ليس لها حالةٌ كاذبةٌ، أي: هي صادِقةُ الوُقوعِ، ولا بُدَّ، وهذا المعنى قريبٌ مِن الأوَّلِ. الثَّالثُ: أن يكونَ التَّقديرُ: ليس لها نفْسٌ كاذبةٌ أيَّ تكذيبٍ في إنكارِ البعثِ؛ لأنَّ كلَّ نفْسٍ تؤمنُ حينَئذٍ). ((تفسير ابن جزي)) (2/333). !
كما قال تعالى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء: 87] .
خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3).
أي: تَخفِضُ أقوامًا إلى النَّارِ فيَدخُلونَ الجَحيمَ، وإن كانوا في الدُّنيا أعِزَّاءَ، وتَرفَعُ أقوامًا إلى الجنَّةِ فيَنالونَ النَّعيمَ، وإن كانوا في الدُّنيا أذِلَّاءَ [15] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/280)، ((تفسير ابن كثير)) (7/514). وممَّن اختار القولَ المذكورَ وأنَّ المرادَ: تَخفِضُ قَومًا إلى النَّارِ، وتَرفَعُ آخَرينَ إلى الجنَّةِ: ابن جرير، والسمرقنديُّ، وابنُ أبي زَمَنين، والثعلبي، والبغوي، وابن جُزَي، والخازن، وابن كثير، وجلال الدين المحلي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/280)، ((تفسير السمرقندي)) (3/390)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/336)، ((تفسير الثعلبي)) (9/200)، ((تفسير البغوي)) (5/5)، ((تفسير ابن جزي)) (2/333)، ((تفسير الخازن)) (4/234)، ((تفسير ابن كثير)) (7/514)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 713). قال ابن الجوزي: (قال المفسِّرون: تَخفِضُ أقوامًا إلى أسفَلِ السَّافِلينَ في النَّارِ، وتَرفَعُ أقوامًا إلى عِلِّيِّينَ في الجنَّةِ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/218). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: عمرُ بنُ الخطَّابِ، وابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وقَتادةُ في روايةٍ، وعثمانُ بنُ عبدِ الله بنِ سُراقةَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/280)، ))تفسير الماوردي)) (5/446)، ((البسيط)) للواحدي (21/212)، ))تفسير ابن الجوزي)) (4/218)، ((تفسير ابن كثير)) (7/514(، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/4، 5). وقيل: المعنى: خَفَضَت صَوتَها فأسمَعَت القَريبَ، ورَفَعَت صَوتَها فأسمَعَتِ البعيدَ. ومِمَّن ذهب إلى هذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/215). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وعِكْرِمةُ، والضَّحَّاكُ، وقَتادةُ في روايةٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/281)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/218)، ((تفسير ابن كثير)) (7/514)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/4). وقيل: يجوزُ أن يكونَ المعنى: خافِضةٌ الأشياءَ المُرتَفِعةَ كالنُّجومِ، رافِعةٌ الأشياءَ الَّتي كانت مُنخَفِضةً. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/456)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/283)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/509، 510). !
كما قال تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [البقرة: 212] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الإسراء: 21] .
إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4).
أي: إذا زُلْزِلَت الأرضُ على سَعَتِها وثِقْلِها، فحُرِّكت تَحريكًا شَديدًا، فاهتَزَّت واضطَرَبتْ [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/281)، ((تفسير القرطبي)) (17/196)، ((تفسير ابن كثير)) (7/514)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/197)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/284)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 328). !
كما قال تعالى: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا [الزلزلة: 1] .
وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5).
أي: وفُتِّتَت الجِبالُ على عَظَمتِها وصَلابتِها تَفتيتًا [17] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/282)، ((تفسير ابن كثير)) (7/514)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/197)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/511، 512). قال الشنقيطي: (وقولُه تعالى: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا في معناه لأهلِ العلمِ أوجهٌ متقارِبةٌ، لا يُكذِّبُ بعضُها بعضًا، وكلُّها حقٌّ، وكلُّها يشهدُ له قرآنٌ). ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/511) وذكَر الواحديُّ في معنى (بُسَّت) ثلاثةَ أقوالٍ: الأوَّلُ: خُلِطت، فصارَتْ كالدَّقيقِ المبسوسِ، وهو الملتوتُ بشيءٍ مِن الماءِ. الثَّاني: أنَّ معنَى البسِّ الفتُّ. الثَّالثُ: أنَّ البسَّ هو السَّوقُ والطَّردُ، فمعنى (بُسَّت) سِيقَتْ. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (21/ 214). ونسَب الشِّنقيطي إلى أكثرِ المفسِّرينَ أنَّ معنَى وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا أي: فُتِّتتْ تَفتيتًا حتَّى صارَتْ كالبسيسةِ، وهي دقيقٌ ملتوتٌ بسمنٍ. يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/511). !
كما قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا [طه: 105 - 107] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا [المزمل: 14] .
فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6).
أي: فصارت ذَرَّاتِ غُبارٍ صَغيرةً مُتطايرةً مُتفَرِّقةً، كالَّتي تُرَى لدى انعِكاسِ أشِعَّةِ الشَّمسِ في مَوضِعٍ مُظلِمٍ [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/284-286)، ((تفسير القرطبي)) (17/197)، ((تفسير ابن كثير)) (7/515)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/197)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/284)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/512)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 328). !
وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7).
أي: وصِرْتُم -أيُّها النَّاسُ- أصنافًا ثلاثةً بحَسَبِ أعمالِكم في الدُّنيا [19] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/286)، ((تفسير ابن كثير)) (7/515)، ((تفسير السعدي)) (ص: 832)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/284، 285)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/513). .
فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا قَسَّمَهم إلى ثلاثةِ أقسامٍ، وفَرَّع تَقسيمَهم؛ ذكَرَ أحوالَهم، فقال [20] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/198). :
فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8).
أي: فالصِّنفُ الأوَّلُ: أصحابُ اليَمينِ الَّذين يَدخُلونَ الجنَّةَ، وما أعظَمَ شَأنَ أصحابِ اليَمينِ [21] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/286)، ((تفسير القرطبي)) (17/198، 199)، ((تفسير السعدي)) (ص: 832)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/514). قال الشنقيطي: (قال بَعضُ العُلَماءِ: قيل لهم أصحابُ اليَمينِ؛ لأنَّهم يُؤتَونَ كُتُبَهم بأيْمانِهم. وقيل: لأنَّهم يُذهَبُ بهم ذاتَ اليَمينِ إلى الجنَّةِ. وقيل: لأنَّهم عن يمينِ أبيهم آدَمَ، كما رآهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كذلك لَيلةَ الإسراءِ. وقيل: سُمُّوا أصحابَ اليَمينِ وأصحابَ المَيمَنةِ؛ لأنَّهم مَيامينُ، أي: مُبارَكونَ على أنفُسِهم؛ لأنَّهم أطاعوا ربَّهم فدَخَلوا الجنَّةَ، واليُمْنُ: البَرَكةُ). ((أضواء البيان)) (7/513). !
وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9).
أي: والصِّنفُ الثَّاني: أصحابُ الشِّمالِ الَّذين يَدخُلونَ النَّارَ، وما أفظَعَ شأنَ أصحابِ الشِّمالِ [22] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/287)، ((تفسير القرطبي)) (17/198، 199)، ((تفسير السعدي)) (ص: 832)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/514). !
قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ [البلد: 19] .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- هذه السُّورةُ لو لم يَنزِلْ في القُرآنِ إلَّا هي، لَكانت كافيةً في الحَثِّ على فِعلِ الخَيرِ وتَرْكِ الشَّرِّ؛ فقد ذَكَرَ اللهُ تعالى في أوَّلِها يومَ القيامةِ: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ، ثمَّ قَسَّمَ النَّاسَ فيها إلى ثلاثةِ أقسامٍ: السَّابقِينَ، وأصحابِ اليمينِ، وأصحابِ الشِّمالِ، ثمَّ ذَكَر اللهُ في آخرِها حالَ الإنسانِ عندَ الموتِ، وقَسَّمَ كلَّ النَّاسِ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: مُقَرَّبِينَ، وأصحابِ يَمينٍ، ومُكذِّبينَ ضالِّينَ، وكذلك ذَكَر اللهُ فيها ابتِداءَ الخلْقِ في قَولِه: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [الواقعة: 58، 59]، والرِّزْقَ مِن طَعامٍ وشَرابٍ وما يُصلِحُهما؛ فهي سورةٌ مُتكامِلةٌ؛ ولهذا ينبغي للإنسانِ أنْ يَتدبَّرَها إذا قَرَأها، كما يَتدبَّرُ سائِرَ القُرآنِ، لكنْ هي اشتَمَلتْ على مَعانٍ عظيمةٍ. واللهُ الموفِّقُ [23] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 355). .
2- في قَولِه تعالى: خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ترغيبٌ وترهيبٌ؛ ليَخافَ النَّاسُ في الدُّنيا مِن أسبابِ الخَفضِ في الآخِرةِ، فيُطيعوا اللهَ، ويَرغَبوا في أسبابِ الرَّفعِ فيُطيعوه أيضًا [24] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/510). .
3- عَن زَيدِ بنِ أسلَمَ في قَولِه تعالى: خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ قال: (مَنِ انخفَضَ يَومَئِذٍ لم يَرتَفِعْ أبدًا، ومَن ارتَفَع يَومَئذٍ لم يَنخَفِضْ أبدًا) [25] أخرجه ابن أبي شيبة في ((المصنَّف)) (7/219). !

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا إشارةٌ إلى أنَّها تَقَع دَفْعةً واحِدةً؛ فالواقِعةُ: للمَرَّةِ الواحِدةِ [26] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/385). .
2- في قَولِه تعالى: وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً إلى قَولِه: أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ [الواقعة: 48] بِشارةٌ للمُؤمِنينَ كَبيرةٌ، ورَدٌّ على المُعتَزِلةِ واضِحٌ؛ لأنَّ اللهَ -جلَّ جَلالُه- زَمَرَ جميعَ خلْقِه ثلاثَ زُمَرٍ، وأخبَرَ عن كلِّ زُمرةٍ بما هو فاعِلٌ بها ومُصَيِّرُهم إليه، فأخبَرَ عن المقرَّبينَ بما أخبَرَ، فعُلِمَ أنَّه مَيَّزَهم عنِ المؤمِنينَ بفَضلِ الطَّاعةِ، وزيادةِ ما أُوتوا؛ إذ فيهم الأنبياءُ والصِّدِّيقونَ والشُّهَداءُ، وأخبَرَ عن أصحابِ اليَمينِ بما أخبَرَ، فعُلِمَ أنَّهم دونَهم في المَنزِلةِ، مُساوونَ لهم في التَّوحيدِ، فمَن كان مُذنِبًا مُوَحِّدًا فهو داخِلٌ معهم، وأخبَرَ عن أصحابِ الشِّمالِ بما أخبَرَ، وجَعَل في صِفَتِهم أنَّهم كانوا: يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الواقعة: 47] ؛ فعُلِمَ أنَّهم الكُفَّارُ كلُّهم عَبَدةُ الأوثانِ، والمنافِقونَ، وأهلُ الكِتابِ الَّذين لا يُؤمِنونَ باللهِ ولا باليَومِ الآخِرِ، وكذا قال في آخرِ السُّورةِ: فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ [الواقعة: 88 - 94] ، فلم يَذْكُرْ لهم ثالِثًا، وذَكَرَ أصحابَ الأعرافِ -في موضعٍ آخَرَ- وذَكَرَ نجاتَهم؛ فهُم زُمَرٌ ثلاثٌ لا رابعَ لهم، أو أَربَعٌ لا خامِسَ لهم، فمَنِ الزُّمرةُ الخامِسةُ -ليتَ شِعْري!- الَّتي يُخَلِّدُها المُعتَزِلةُ مع الكُفَّارِ في النَّارِ؟! إذ غيرُ مُمكِنٍ أنْ تُجعَلَ واحِدةً مِن هؤلاء، ولا خارجَ في قَولِهم بَتَّةً!
فقد وَضَحَ -بنِعمةِ اللهِ- دَحْضُ حُجَّتِهم في الوَعيدِ، بالدَّليلِ العَتيدِ في هذا الفَصلِ، وحَقَّتْ بِشارةُ المؤمِنينَ المُذنِبينَ بالنَّجاةِ، بنِعمةِ ربِّهم ورَأفَتِه [27] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/211). .
3- في قَولِه تعالى: فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ذَكَرَهم اللهُ تعالى غيرَ مُرَتَّبينَ في الفَضلِ؛ فبَدَأَ اللهُ بأصحابِ المَيمَنةِ، ثمَّ ثَنَّى بأصحابِ الشِّمالِ، ثمَّ ثَلَّثَ بالسَّابِقينَ، لكِنْ عندَ التَّفصيلِ بَدَأَ بهم مُرَتَّبِينَ على حَسَبِ الفَضلِ؛ فبَدَأَ بالسَّابِقينَ، ثمَّ بأصحابِ اليَمينِ، ثمَّ بأصحابِ الشِّمالِ، وهذا التَّفصيلُ المُرَتَّبُ خِلافُ التَّرتيبِ المُجمَلِ، وهو مِن أساليبِ البلاغةِ [28] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 329). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ
- افتِتاحُ هذِه السُّورةِ بالظَّرفِ المُتضمِّنِ الشَّرطَ -وهو قولُه: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ- افتتاحٌ بَديعٌ؛ لأنَّه يَسْترعي الألْبابَ لتَرقُّبِ ما بعْدَ هذا الشَّرْطِ الزَّمانيِّ، معَ ما في الاسمِ المُسنَدِ إليه -الْوَاقِعَةُ- مِن التَّهويلِ بتَوقُّعِ حدَثٍ عَظيمٍ يَحدُثُ [29] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/281). .
- و(إذَا) في قولِه: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ قيل: إنَّها هي الظَّرفيَّةُ المضَمَّنةُ معنَى الشَّرطِ، وإنَّ قولَه الآتيَ: إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا بدَلٌ مِن قولِه: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ، وجوابَ (إذا) هو قولُه: فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ؛ فالمعْنى: إذا قامتِ القِيامةُ، وحَصَلَتْ هذه الأحوالُ العَظيمةُ؛ ظَهَرَت مَنزِلةُ أصحابِ الميمنةِ وأصحابِ المشْأمةِ [30] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/508). . وقيل: إنَّ انتصابَ (إذَا) بمُضمَرٍ يُنبِئُ عن الهَولِ والفَظاعةِ، ولتذهبَ النَّفْسُ فيه كلَّ مَذهبٍ؛ فيَكونَ أهْوَلَ، أي: إذا وقعتْ كانتْ أمورًا يَضيقُ عنها نِطاقُ الحَصرِ، أو كأنَّه قيلَ: إذَا وقَعَتِ الواقعةُ يَكونُ مِن الأهوالِ ما لا يَفي به المَقالُ [31] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/455)، ((تفسير البيضاوي)) (5/177)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/196)، ((تفسير أبي السعود)) (8/188). .
- والتَّعبيرُ عن القِيامةِ بالواقِعةِ؛ للإيذانِ بتَحقُّقِ وُقوعِها لا مَحالةَ، فكأنَّه قِيل: إذا وقَعَت الَّتي لا بُدَّ مِن وُقوعِها [32] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/455)، ((تفسير أبي حيان)) (10/75)، ((تفسير أبي السعود)) (8/188)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/422). .
- وأيضًا حُذِفَ جوابُ الشَّرطِ في هذِه الآياتِ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ...؛ مِن أجْلِ أنْ يَذهبَ الذِّهنُ في تَقديرِه كلَّ مذهبٍ، يعني: إذا وقعتِ الواقعةُ صارتِ الأهوالُ العظيمةُ، وصارَ انقسامُ النَّاسِ، وحصَل ما حصَل ممَّا أخبَرَ به اللهُ سُبحانَه، ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ممَّا يكونُ في يومِ القيامةِ [33] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 327). .
2- قولُه تعالَى: لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ استِئنافٌ بَيانيٌّ ناشِئٌ عن قولِه: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ... إلخ، وهو اعتِراضٌ بيْنَ جُملةِ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وبيْنَ جُملةِ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ... [الواقعة: 8] إلخ، والجوابُ قولُه: فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ [الواقعة: 8، 9]، فيُفيدُ جوابًا للشَّرطِ، ويُفيدُ تَفصيلَ جُملةِ وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً [الواقعة: 7] ، وتكونُ الفاءُ مُستعمَلةً في مَعنيَينِ: ربْطِ الجوابِ، والتَّفريعِ، وتكونُ جُملةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ وما بعْدَه اعتِراضًا [34] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/281). .
- وقيل: انتصابُ (إذَا) بمُضمَرٍ يُنبِئُ عن الهَولِ والفظاعةِ كأنَّه قيلَ: إذَا وقعتِ الواقعةُ يكونُ من الأهوالِ ما لا يفي به المقالُ، وعليه فقولُه لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ اعتِراضٌ مُقرِّرٌ لمَضمونِ الشَّرطِ، على أنَّ الكاذبةَ مَصدَرٌ كالعافيةِ، أي: ليسَ لأجْلِ وَقْعَتِها وفي حقِّها كذِبٌ أصْلًا، بلْ كلُّ ما ورَدَ في شأْنِها مِن الأخبارِ حقٌّ صادقٌ لا رَيبَ فيهِ [35] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/188). .
- وهذا وَعيدٌ بتَحذيرِ المُنكِرينَ للقِيامةِ مِن خِزْيِ الخَيبةِ، وسَفاهةِ الرَّأيِ بيْنَ أهلِ الحشْرِ [36] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/282). .
3- قولُه تعالَى: خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ خَبرانِ لمُبتدأٍ مَحذوفٍ ضَميرِ الْوَاقِعَةُ [الواقعة: 1] ، أي: هي خافضةٌ رافعةٌ [37] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/456)، ((تفسير أبي حيان)) (10/77)، ((تفسير أبي السعود)) (8/188)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/283). .
- وهذا تَقريرٌ لعَظَمةِ القِيامةِ، وتَهويلٌ لأمْرِها؛ فإنَّ الوقائعَ العِظامَ شأْنُها كذلك، أو بَيانٌ لِما يكونُ حِينَئذٍ مِن حَطِّ الأشقياءِ إلى الدَّرَكاتِ، ورفْعِ السُّعداءِ إلى الدَّرجاتِ، ومِن زَلزلةِ الأشياءِ، وإزالةِ الأجرامِ عن مَقارِّها، بنَثْرِ الكواكبِ، وإسقاطِ السَّماءِ كِسَفًا، وتَسييرِ الجبالِ في الجوِّ كالسَّحابِ [38] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/456)، ((تفسير البيضاوي)) (5/177)، ((تفسير أبي حيان)) (10/77، 78)، ((تفسير أبي السعود)) (8/188). .
- وتَقديمُ الخفْضِ على الرَّفعِ؛ للتَّشديدِ في التَّهويلِ [39] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/188). .
- وفي قولِه: خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ مُحسِّنُ الطِّباقِ [40] الطِّباق: هو الجمعُ بيْنَ مُتضادَّينِ مع مراعاةِ التَّقابُلِ؛ كالبياضِ والسَّوادِ، واللَّيلِ والنَّهارِ، وهو قِسْمانِ: لفظيٌّ، ومعنويٌّ؛ فمِنَ الطِّباقِ اللَّفظيِّ: قولُه تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا [التوبة: 82] ، طابَقَ بيْن الضَّحِكِ والبكاءِ، والقليلِ والكثيرِ. ومِن الطِّباقِ المعنويِّ: قولُه تعالى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ [يس: 15، 16]؛ معناه: ربُّنا يَعلَمُ إنَّا لَصادِقونَ. ومنه: طِباقٌ ظاهرٌ، وهو ما كان وجهُ الضِّدِّيَّةِ فيه واضحًا. وطباقٌ خفيٌّ: وهو أن تكونَ الضِّدِّيَّةُ في الصُّورةِ متوهَّمةً، فتَبدو المطابَقةُ خفيَّةً لِتَعلُّقِ أحدِ الرُّكنَينِ بما يُقابِلُ الآخَرَ تعلُّقَ السَّببيَّةِ أو اللُّزومِ؛ كقوله تعالى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح: 25]؛ فإن إدخال النَّارِ يَستلزِمُ الإحراقَ المُضادَّ للإغراقِ. ومنه: قولُه تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة: 179] ؛ لأنَّ معنى القِصاصِ القتلُ، فصار القتلُ سببَ الحياةِ. وهذا مِن أمْلَحِ الطِّباقِ وأخفاهُ. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 111)، ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) للبهاء السبكي (2/225)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/455 - 457)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 566). ، مع الإغرابِ بثُبوتِ الضِّدَّينِ لشَيءٍ واحدٍ [41] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/283). .
4- قولُه تعالَى: إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا الرَّجُّ: الاضطرابُ والتَّحرُّكُ الشَّديدُ، وهو ما يَطرَأُ فيها مِن الزَّلازلِ والخسْفِ ونحْوِ ذلك، والتَّأكيدُ بالمَصدرِ رَجًّا؛ للدَّلالةِ على تَحقُّقِه، وليَتأتَّى التَّنوينُ المُشعِرُ بالتَّعظيمِ والتَّهويلِ [42] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/284). .
5- قولُه تعالَى: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا فيه تأْكيدُ الفِعلِ وَبُسَّتِ بقولِه: بَسًّا؛ لإفادةِ التَّعظيمِ بالتَّنوينِ [43] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/284). .
- وتَفريعُ فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا على (بُسَّتِ الْجِبَالُ) لائقٌ بمَعْنيَيِ البَسِّ -وهما التَّفتُّتُ وتَفريقُ الأجزاءِ، والسَّوقُ-؛ لأنَّ الجِبالَ إذا سُيِّرَت فإنَّما تُسيَّرُ تَسييرًا يُفتِّتُها ويُفرِّقُها، أي: تَسْييرَ بَعثرةٍ وارتِطامٍ [44] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/284). .
- والمُنبَثُّ: مُطاوِعُ بثَّه، إذا فرَّقَه، واختِيرَ هذا المُطاوِعُ لمُناسَبتِه مع قولِه: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ في أنَّ المَبنيَّ للنَّائبِ معْناه كالمُطاوَعةِ [45] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/284). .
- قولُه: فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا تَشبيهٌ بَليغٌ، أي: فكانت كالهَباءِ المُنبَثِّ [46] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/284). .
6- قولُه تعالَى: وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً الخِطابُ في وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً للنَّاسِ كلِّهم، وهذا تَخلُّصٌ للمَقصودِ مِن السُّورةِ، وهو المَوعِظةُ [47] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/284). .
7- قولُه تعالَى: فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ لَمَّا وقَعَ قولُه: وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً [الواقعة: 7] عطْفًا على الجُمَلِ الَّتي أُضِيفَ إليها (إذا) مِن قولِه: إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا [الواقعة: 4] ، كان هو مَحَطَّ القصْدِ مِن التَّوقيتِ بـ (إذا) الثَّانيةِ الواقعةِ بَدَلًا مِن (إذا) الأُولى، وكِلْتاهما مُضمَّنةٌ معْنى الشَّرطِ، فكان هذا في معْنى الجَزاءِ؛ فيجوزُ جعْلُ الفاءِ في قولِه: فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ لربْطِ الجَزاءِ، مع التَّفصيلِ للإجمالِ، وتكونُ جُملةُ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ جَوابًا لـ (إذا) الثَّانيةِ، يَؤُولُ إلى كَونِه جَوابًا لـ (إذا) الأُولى؛ لأنَّ الثَّانيةَ مُبدَلةٌ منها؛ ولذلك جاز أنْ يكونَ هذا هو جوابَ (إذا) الأُولى، فتَكونَ الفاءُ مُستعمَلةً في مَعْنَيَيها: ربْطِ الجَوابِ بالشَّرطِ، والتَّفريعِ -كما تقدَّمَ عِندَ قولِه تعالَى: لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ [48] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/78)، ((تفسير أبي السعود)) (8/189)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/285)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/426). [الواقعة: 2] .
- وقد أفاد التَّفصيلُ أنَّ الأصنافَ ثلاثةٌ: صِنفٌ منهم أصحابُ المَيمنةِ، واليمينُ جِهةُ عِنايةٍ وكَرامةٍ في العُرفِ، قيل: اشتُقَّتْ مِن اليُمْنِ، أي: البَرَكةِ، وصِنفٌ أصحابُ المَشأمةِ، وهي اسمُ جِهةٍ، قيل: هي مُشتقَّةٌ مِن الشُّؤمِ، وهو ضِدُّ اليُمْنِ، فهو الضُّرُّ وعدَمُ النَّفعِ، وقد سُمِّيَا في الآيةِ الآتيةِ أَصْحَابُ الْيَمِينِ [الواقعة: 27] ، ووَأَصْحَابُ الشِّمَالِ [الواقعة: 41] ؛ فجُعِلَ الشِّمالُ ضِدَّ اليَمينِ، كما جُعِلَ المَشأمةُ هنا ضِدَّ المَيمنةِ؛ إشعارًا بأنَّ حالَهم حالُ شُؤمٍ وسُوءٍ، وكلُّ ذلك مُعبَّرٌ به عمَّا عُرِفَ في كَلامِ العَربِ مِن إطلاقِ هذَينِ اللَّفظَينِ على هذا المعْنى الكِنائيِّ الَّذي شاعَ حتَّى ساوَى الصَّريحَ؛ ولذلك استُغنِيَ هنا عن الإخبارِ عن كِلَا الفَريقينِ بخبَرٍ فيه وصْفُ بَعضِ حالَيْهما بذِكرِ ما هو إجمالٌ لحالَيْهما، ممَّا يُشعِرُ به ما أُضِيفَ إليه أصحابُه مِن لَفظَيِ المَيمنةِ والمَشأمةِ بطَريقةِ الاستِفهامِ المُستعمَلِ في التَّعجيبِ مِن حالِ الفريقَينِ في السَّعادةِ والشَّقاوةِ، وهو تَعجيبٌ تُرِكَ على إبْهامِه هنا؛ لتَذهَبَ نفْسُ السَّامعِ كلَّ مَذهبٍ مُمكِنٍ مِن الخَيرِ والشَّرِّ، فـ (ما) في المَوضعينِ اسمُ استِفهامٍ [49] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/457، 458)، ((تفسير البيضاوي)) (5/177)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/185، 186)، ((تفسير أبي حيان)) (10/78)، ((تفسير أبي السعود)) (8/189)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/285، 286). .
- وإظهارُ لَفظَيْ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وتَكريرُهما بعْدَ الاستِفهامَينِ دونَ الإتيانِ بضَميرَيْهِما؛ لأنَّ مَقامَ التَّعجيبِ والتَّفخيمِ والتَّشهيرِ يَقْتضي الإظهارَ، كما في قولِه: الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة: 1 - 3] ، وكما يُقالُ: زيدٌ ما زيدٌ! والمقصودُ تكثيرُ ما لأصحابِ الميمنةِ مِن الثَّوابِ، وما لأصحابِ المشأمةِ مِن العِقابِ [50] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/199)، ((تفسير أبي السعود)) (8/189)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/286). .
- قيل: والَّذي تَقتضيهِ جَزالةُ التَّنزيلِ أنَّ قولَه تعالَى: فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ خبَرُ مُبتدأٍ مَحذوفٍ، وكذا قولُه تعالى: وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وقولُه تعالَى: وَالسَّابِقُونَ؛ فإنَّ المُترقَّبَ عندَ بَيانِ انقسامِ النَّاسِ إلى الأقسامِ الثَّلاثةِ بَيانُ أنفَسِ الأقسامِ الثَّلاثةِ، وأمَّا أَوصافُها وأحوالُها فحَقُّها أنْ تُبيَّنَ بعْدَ ذلكَ بإسنادِها إليها، والتَّقديرُ: فأحدُها أصحابُ المَيمنةِ، والآخَرُ أصحابُ المشْأَمةِ، والثَّالثُ السَّابِقونَ، خَلا أنَّه لَمَّا أُخِّرَ بيانُ أحوالِ القِسمَينِ الأوَّلَينِ، عُقِّبَ كلٌّ منهُما بجُملةٍ مُعترِضةٍ بيْنَ القِسمَينِ مُنبئةٍ عن تَرامي أحوالِهما في الخَيرِ والشَّرِّ إنباءً إجماليًّا، مُشعِرًا بأنَّ لأحوالِ كلٍّ منهُما تفصيلًا مُترقَّبًا، لكنْ لا على أنَّ (مَا) الاستِفهاميَّةَ مُبتدَأٌ وما بعْدَها خَبرٌ، بلْ على أنَّها خبَرٌ لِما بعْدَها؛ فإنَّ مَناطَ الإفادةِ بَيانُ أنَّ أصحابَ المَيمنةِ أمْرٌ بَديعٌ، كما يُفيدُه كونُ (ما) خبَرًا، لا بَيانُ أنَّ أمْرًا بَديعًا أصحابُ المَيمنةِ، كما يُفيدُه كونُها مُبتدأً، وكذا الحالُ في أصحابِ المشْأمةِ، وأمَّا القِسمُ الأخيرُ فحيثُ قُرِنَ بَيانُ مَحاسِنِ أحوالِه بذِكْرِه لم يُحتَجْ فيهِ إلى تَقديمِ الأُنْمُوذَجِ؛ فقولُه تعالى: وَالسَّابِقُونَ مبتدأٌ، والإظهارُ في مقامِ الإضمارِ للتَّفخيمِ [51] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/190). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الألوسي)) (14/133، 134). .