موسوعة التفسير

سورةُ الرَّعدِ
الآيتان (31-32)

ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ

غريب الكلمات:

يَيْئَسِ: أي: يَعلَمْ ويتبيَّنْ، على إحدَى لغاتِ العربِ، وقِيل: هو مِن اليأسِ المعروفِ، أي: انتفاءِ الطمعِ، وقطعِ الرَّجاءِ [470] يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (1/332)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 227)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/153)، ((البسيط)) للواحدي (12/353)، ((غريب القرآن)) لقاسم الحنفي (ص: 101)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/145). .
قَارِعَةٌ: أي: داهيةٌ تَفجَؤُهم، وسُمِّيَت بذلك لأنَّها تَقرَعُ النَّاسَ، أي: تَضرِبُهم بشِدَّتِها، وأصلُ (قرع): يدلُّ على ضَربِ شَيءٍ [471] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 228)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 375)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/72)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 251)، ((تفسير القرطبي)) (9/321). .
فَأَمْلَيْتُ: أي: أمهلْتُ وأطلْتُ المُدَّةَ، والإملاءُ: الإمهالُ على جِهةِ الاستدراجِ، وهو مِن المُلاوةِ مِن الزَّمَنِ، وأصلُ (ملو): يدلُّ على امتدادٍ في شَيءٍ؛ زَمانٍ أو غيرِه [472] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 228)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 472)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/352)، ((المفردات)) للراغب (ص: 777)، ((تفسير ابن عطية)) (3/314). .

المعنى الإجمالي :

يردُّ اللهُ- تعالى- على الكافرينَ الذين طَلَبوا إنزالَ الآياتِ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيقولُ لهم: ولو أنَّ ثَمَّةَ كتابًا يُقرأُ، فتزولُ به الجِبالُ عن أماكِنِها، أو تتشَقَّقُ به الأرضُ أنهارًا، أو يحيا به الموتى ويُكَلَّمونَ- كما طَلَبوا منك- لكان هذا القُرآنُ المُوحَى إلى هذا النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم هو المتَّصِفَ بذلك دونَ غَيرِه، بل لله وَحدَه الأمرُ كُلُّه، أفلَمْ يَعلَمِ المُؤمِنونَ أنَّ اللهَ لو يشاءُ لهدى النَّاسَ كُلَّهم إلى الإيمانِ به؟ ولا يزالُ الكُفَّارُ تنزِلُ بهم داهيةٌ تَفجَؤُهم وبلاءٌ وعذابٌ، أو يقَعُ ذلك قريبًا مِن ديارِهم، حتى يأتيَ وَعدُ اللهِ وهو موتُهم، أوْ قيامُ السَّاعةِ عليهم، إنَّ اللهَ لا يُخلِفُ الميعادَ.
 ولقد استهزأَ الكُفَّارُ برُسُلِي الذين أرسَلْتُهم مِن قَبلِك؛ فأمهلْتُ الذين كَفَروا، مُدَّةً، ثمَّ أحللْتُ عليهم عذابي، فلسْتَ أوَّلَ رَسولٍ كُذِّبَ وعُوديَ، فاصبِرْ على أذاهم.

تفسير الآيتين:

وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لمَّا ذكَرَ تعالى عِلَّةَ إرسالِه صلَّى الله عليه وسلَّم، وهي تلاوةُ ما أوحاه إليه؛ ذكَرَ تعظيمَ هذا المُوحَى، وأنَّه لو كان قُرآنًا تُسَيَّرُ به الجبالُ عن مقارِّها، أو تُقَطَّعُ به الأرضُ حتَّى تتزايَلَ قِطَعًا قِطَعًا، أو تُكُلِّمَ به الموتى فتسمَعُ وتُجِيبُ، لكان هذا القُرآنُ؛ لِكونِه غايةً في التَّذكيرِ، ونهايةً في الإنذارِ والتَّخويفِ [473] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/388). .
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى.
أي: ولو أنَّ كِتابًا مِن الكُتُبِ السَّابِقةِ- التي أنزَلَها اللهُ على رُسُلِه [474] قال ابن كثير: (قد يُطلق اسمُ القرآنِ على كلٍّ مِن الكتبِ المتقدمةِ؛ لأنَّه مشتقٌّ مِن الجمعِ... قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «خفِّفت على داودَ القراءةُ، فكان يأمرُ بدابتِه أن تسرجَ، فكان يقرأ القرآنَ مِن قبلَ أن تسرجَ دابتُه، وكان لا يأكلُ إلا مِن عملِ يديه». انفَرد بإخراجِه البخاريُّ. والمرادُ بالقرآنِ هنا الزبورُ). ((تفسير ابن كثير)) (4/461). - اشتمَلَ على ما هو أكثَرُ مِن الهدايةِ، فكان مصدرًا لإيجادِ العَجائِبِ المَحسوسةِ، بحيث يُقرأُ على الجِبالِ فتَتَزحزَحُ عن أماكِنِها، أو على الأرضِ فتتصَدَّعُ وتنشَقُّ [475] وممن اختار هذا المعنى المذكور لقولِه تعالى: قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ : الزمخشري، وابنُ كثيرٍ، والشوكاني، والقاسمي، وابنُ عاشورٍ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/529)، ((تفسير ابن كثير)) (4/460)، ((تفسير الشوكاني)) (3/100)، ((تفسير القاسمي)) (6/284)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/143). وقيل: المرادُ مِن قَولِه تعالى: قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ: أي شُقِّقَت إلى أنهارٍ وعُيونٍ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الواحدي، والبغوي، وابن الجوزي، والعليمي، والسعدي. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/16)، ((تفسير البغوي)) (3/23)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/496)، ((تفسير العليمي)) (3/494)، ((تفسير السعدي)) (ص: 418). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: عبدُ الله بنُ كثيرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/532). وقيل: المرادُ قَطعُها بالسَّيرِ ومُجاوزتُها، فتُصبِحُ المسافةُ البعيدةُ قريبةً. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابن جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/539)، ويُنظر أيضًا: ((تفسير الزمخشري)) (2/530)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/143). وممن قال به مِن السَّلفِ: مجاهدٌ، والضحاكُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/532). ، أو على الموتَى في قُبورِهم فيَسمعونَ الكلامَ ويُجيبونَه- لكان هذا القُرآنُ المُوحَى إلى مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو المتَّصفَ بذلك دونَ غَيرِه مِن الكتُبِ، أو هو أَولى منها بذلك، فكيفَ تَقتَرِحونَ آيةً غَيرَه؟ ثمَّ إنَّه لم يكُنْ ثمَّ كتابٌ إلهيٌّ كذلك [476] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/538، 539)، ((تفسير الزمخشري)) (2/529)، ((تفسير القرطبي)) (9/319)، ((تفسير ابن كثير)) (4/460)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/340)، ((تفسير السعدي)) (ص: 418)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/143). قال الرسعني: (واختُلف في جوابِ «لو» فقال الأكثرونَ: هو مضمرٌ، تقديرُه: لكان هذا القرآنَ؛ لعظمتِه وكرامتِه... وقيل: التقديرُ: لو أنَّ قرآنًا كان بهذه المثابةِ لما آمنوا به؛ كقولِه تعالى: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا [الأنعام:111] ). ((تفسير الرسعني)) (3/486). وممن اختار القول الثاني: الزجاج، والواحدي. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (3/148)، ((الوجيز)) للواحدي ((ص: 572). قال الشنقيطي: (وقال بعضُهم: تقديرُه: لكفرتُم بالرحمنِ، ويدلُّ لهذا الأخيرِ قولُه قبلَه: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ [13/30]). ((أضواء البيان)) (2/240). .
كما قال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر: 21].
وقال سُبحانه: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 89 - 93] .
بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا.
أي: ليس ذلك من شأنِ الكُتُبِ الإلهيَّةِ؛ فذلك كُلُّه إلى اللهِ، وبِيَدِه وَحدَه، فمَرجِعُ الأمورِ كلِّها إليه، ما شاء كان، وما لم يشأْ لم يكُنْ، يهدي من يشاءُ، ويُضِلُّ من يشاءُ، ويأتي بالآياتِ التي تَقتَضيها حِكمتُه؛ فهو الذي أنزل الكِتابَ، وهو الذي يخلقُ العجائِبَ إن شاء، وليس ذلك إلى غيرِه [477] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/539)، ((تفسير ابن كثير)) (4/461)، ((تفسير السعدي)) (ص: 418)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/144). .
أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا.
أي: أفلَم يعلَمِ المؤمنونَ أنْ لو يشاءُ اللهُ لهدَى النَّاسَ كُلَّهم إلى الإيمانِ به مِن غيرِ إيجادِ آيةٍ؟ فاللهُ تعالى قادرٌ على هدايتِهم جميعًا، ولكنَّه لا يشاءُ ذلك، فالهدايةُ والإضلالُ بِيَدِه وَحدَه؛ يهدي مَن يشاءُ بغيرِ إنزالِ آيةٍ، ويُضِلُّ مَن يشاءُ معَ إنزالِها [478] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/537 - 539)، ((تفسير القرطبي)) (9/319)، ((تفسير ابن كثير)) (4/461)، ((تفسير الشوكاني)) (30/100)، ((تفسير السعدي)) (ص: 418). قال ابنُ جريرٍ: (والصوابُ مِن القولِ في ذلك ما قاله أهلُ التأويلِ: إنَّ تأويلَ ذلك: أفلمْ يتبيَّنْ ويعلَمْ؛ لإجماعِ أهلِ التأويلِ على ذلك). ((تفسير ابن جرير)) (13/538). قال الرازي: (يَيْئَسِ يَعلَمْ، في لغةِ النَّخَعِ، وهذا قولُ أكثرِ المفَسِّرين، مثلَ مجاهدٍ، والحسنِ وقتادةَ). ((تفسير الرازي)) (19/42). وقال البقاعي: (والعلمُ بالشَّيءِ يوجِبُ اليأسَ مِن خلافه... فقد وضح أنَّ يَيْئَسِ على بابِها). ((نظم الدرر)) (10/343-344). قال ابن عطية: (ويحتملُ أن يكونَ اليَأسُ في هذه الآيةِ على بابِه؛ وذلك أنَّه لَمَّا أبعَدَ إيمانَهم في قَولِه تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا... الآية- على التأويلَينِ في المحذوفِ المقَدَّرِ- قال في هذه الآيةِ: أفلم يَيئَسِ المؤمِنونَ مِن إيمانِ هؤلاء الكَفَرةِ، علمًا منهم أنْ لو يشاءُ اللهُ لهدى النَّاسَ جميعًا). ((تفسير ابن عطية)) (3/313). .
وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا قال الله تعالى: أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وعلِمَ المؤمنون أنَّ بَعضَ هؤلاء الكفار لا يؤمِنُ، ضاقت صدورُهم لذلك؛ لِما يُعاينونَه مِن أذى هؤلاء الكُفَّار، فأتبَعَه ما يُسَلِّيهم، فقال تعالى [479] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/344-345). :
وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ.
أي: ولا يزالُ الكفارُ تصيبُهم بسبَبِ ما صنعوا مِن الكُفرِ والتَّكذيبِ؛ داهيةٌ تَفجَؤُهم، ونازلةٌ شديدةٌ تنزِلُ بهم، وبلاءٌ وعذابٌ [480] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/539)، ((تفسير الرسعني)) (3/488)،  ((تفسير القرطبي)) (9/321)، ((تفسير ابن كثير)) (4/462). وقيل: قَارِعَة أي: سَرايا رسولِ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (3/113)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/458). وممن اختار هذا المعنى: ابنُ أبي زمنين، والعليمي. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (2/356)، ((تفسير العليمي)) (3/495). .
أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ .
أي: أو تقَعُ هذه القارعةُ قريبًا مِن ديارِهم؛ فيَفْزَعونَ منها، ويُصيبُهم الخوفُ مِن تَجاوُزِها إليهم، وهم مُصِرُّون على كفرِهم [481] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/101)، ((تفسير السعدي)) (ص: 418)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/146). وممن اختار أنَّ المرادَ بقولِه تعالى: أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ أي: القارعةُ: أبو حيان، وابنُ كثيرٍ، والبقاعي، والشوكانيُّ، والقاسمي، والسعدي، وابنُ عاشورٍ، لكنه جوَّز القول الثاني، وستأتي الإشارةُ إليه. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/391)، ((تفسير ابن كثير)) (4/462)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/345)، ((تفسير الشوكاني)) (3/101)، ((تفسير القاسمي)) (6/285)، ((تفسير السعدي)) (ص: 418)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/146-147). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: الحسنُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/543)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/497). وقيل: المعنى: أو تحلُّ أنت- يا محمَّدُ- مع جُندِك قريبًا مِن بلادِهم، وممَّن اختار هذا المعنى: ابنُ جريرٍ، والواحدي، والعليمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/539)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 572)، ((تفسير العليمي)) (3/495). وممن قال بهذا القول من السلف: ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وعبد الله بن أبي نجيح، وسعيد ابن جبير، وقتادة. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/540)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/497). .
حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ.
أي: حتى يأتيَ وعدُ اللهِ وهو موتُهم، أوْ قيامُ السَّاعةِ عليهم، فإذا جاءَ وعدُ اللَّهِ المحتومُ حَلَّ بهم مِنْ عذابِه ما هو الغايةُ في الشِّدَّةِ [482] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/531)، ((تفسير الشوكاني)) (3/101)، ((تفسير القنوجي)) (7/60). وممَّن اختار أنَّ المرادَ بـ وَعْدُ اللَّهِ هو موتُهم أو يوم القيامةِ: الزمخشري، وأبو حيَّان، والشوكاني، والقنوجي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/531)، ((تفسير أبي حيان)) (6/391)، ((تفسير الشوكاني)) (3/101)، ((تفسير القنوجي)) (7/60). وقيل: المرادُ به: يومُ القيامةِ. وممن قال بذلك: الواحديُّ. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 572). وممن قال به مِن السلفِ: الحسنُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/544). وقيل: إنَّ المرادَ بـ وَعْدُ اللَّهِ هنا: فتحُ مكة. وممن اختاره: ابنُ جرير، وابنُ أبي زمنين، والرسعني، والقرطبي، والعليمي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/539)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (2/356)، ((تفسير الرسعني)) (3/489)، ((تفسير القرطبي)) (9/321)، ((تفسير العليمي)) (3/495)، ((تفسير القاسمي)) (6/285). وممن قال به مِن السلفِ: ابنُ عباسٍ، ومجاهدٌ، وقتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/540)، فما بعدها. قال ابنُ عاشور: (و وَعْدُ اللَّهِ مِن إطلاقِ المصدَرِ على المفعولِ، أي: موعودُ اللهِ، وهو ما توعَّدَهم به منَ العذابِ، كما في قَولِه تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران: 12]، فأشارت الآيةُ إلى استِئصالِهم؛ لأنَّها ذَكَرَت الغَلَبَ ودُخولَ جَهنَّمَ، فكان المعنى أنَّه غَلَبُ القَتلِ بسُيوفِ المُسلِمينَ، وهو البَطشةُ الكبرى. ومِن ذلك يومُ بَدرٍ، ويَومُ حُنَينٍ، ويَومُ الفتحِ). ((تفسير ابن عاشور)) (13/147). قال البقاعي: (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ أي الملكُ الأعظمُ بفتحِ مكةَ، أو بالنصرِ على جميعِ الكفرةِ في زمنِ عيسَى عليه السلامُ، فينقطعُ ذلك؛ لأنَّه لا يُبقي على الأرضِ كافرًا، وفي غيرِ ذلك مِن الأزمانِ كزمنِ فتحِ مكةَ المشرفةِ، فيكونُ المعنى خاصًّا بالبعضِ). ((نظم الدرر)) (10/345). .
إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ.
أي: إنَّ اللهَ لا يَنقُضُ وعدَه، وكلُّ ما وعَدَ اللهُ به فهو كائِنٌ لا محالةَ [483] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/539)، ((تفسير ابن كثير)) (4/462)، ((تفسير الشوكاني)) (3/101). .
كما قال تعالى: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الروم: 6].
وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا طلَبَ المُشرِكونَ سائرَ المُعجِزاتِ مِن الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على سبيلِ الاستِهزاءِ والسُّخريةِ، وكان ذلك يشُقُّ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان يتأذَّى مِن تلك الكَلِماتِ؛ فاللهُ تعالى أنزل هذه الآيةَ تَسليةً له وتَصبيرًا له على سفاهةِ قَومِه، فقال له [484]  يُنظر: ((تفسير الرازي)) (19/44). :
وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ.
أي: إنْ يَستهزِئْ بك هؤلاءِ المُشرِكونَ مِن قَومِك- يا مُحمَّدُ-، فاصبِرْ على أذاهم، فلسْتَ أوَّلَ رَسولٍ كُذِّبَ وعُوديَ؛ فقد استهزأَ الكُفَّارُ برُسُلِي الذين أرسَلْتُهم مِن قَبلِك، فأمهلتُ أولئك الكُفَّارَ مُدَّةً، ثمَّ أحللْتُ عليهم عذابي حين أصَرُّوا على كُفرِهم وتَكذيبِهم [485] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/544)، ((تفسير ابن كثير)) (4/462)، ((تفسير السعدي)) (ص: 418). قال ابنُ عاشور: (قد استهزأ قومُ نوحٍ به عليه السَّلامُ: وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ [هود: 38] ، واستهزأت عادٌ بهودٍ عليه السلام: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الشعراء: 187] ، واستهزأت ثمودُ بصالحٍ عليه السَّلامُ: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ [الأعراف: 66] ، واستهزؤوا بشُعَيبٍ عليه السَّلامُ: قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود: 87] ، واستهزأ فرعونُ بموسى عليه السَّلامُ: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف: 52] ). ((تفسير ابن عاشور)) (13/148). .
فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ.
أي: فانظُرْ- يا مُحمَّدُ- كيف كان عقابي الشَّديدُ لأولئك الكافرينَ، ألمْ أُذِقْهم أليمَ العَذابِ، وأَجعَلْهم عِبرةً وعِظةً؟ فلْيعتَبِرْ كُفَّارُ قَومِك بذلك، ولْيَحذَروا مِن نِقمَتي وعذابي، ولا يغتَرُّوا بإمهالي لهم [486] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/544)، ((تفسير القرطبي)) (9/322)، ((تفسير السعدي)) (ص: 418). .
كما قال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ [غافر: 5] .
وقال سُبحانه: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ [غافر: 21-22] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- حُذِفت التاءُ في قولِ الله تعالى: أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى، وثبتَتْ في الفعلينِ قبلَه؛ لأنَّه مِن بابِ التغليبِ؛ لأنَّ الموتَى تشملُ المذكَّر والمؤنَّثَ [487] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (11/306). .
2- في قوله تعالى: أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا دَلالةٌ على أنَّ اللهَ سُبحانه إذا أضلَّ عبدًا، لم يكُنْ لأحدٍ سبيلٌ إلى هدايتِه [488] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 81). .

بلاغة الآيتين:

1- قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذين آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذين كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ
- قولُه: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ... جوابُ (لو) محذوفٌ، وتقديرُه: لكان هذا القرآنَ. وقيل: تقديرُه: لكفرتُم بالرحمنِ، وحُذِف لدَلالةِ المَقام عليه، والمُرادُ منه تعظيمُ شأْنِ القُرآنِ، أو المُبالَغَةُ في عِنادِ الكفَرَةِ وتَصميمِهم، كما يقولُ الرَّجلُ لِغُلامِه: لو أنِّي قُمْتُ إليك! ويترُكُ الجوابَ، ويُفيدُ ذلك أيضًا معنًى تعْريضيًّا بالنِّداءِ عليهم بنِهايةِ ضلالتِهم؛ إذ لم يهتَدوا بهَدْيِ القُرآنِ ودَلائلِه [489] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/529)، ((تفسير البيضاوي)) (3/188)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (3/95)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/141). ، فحُذِفَ جَوابُ (لو)؛ ليكونَ أبلَغَ في العبارةِ، وأعَمَّ في الفائدةِ [490] يُنظر: ((باهر البرهان)) لبيان الحق الغزنوي (2/750). . وحذْفُ جوابِ (لو) شائِعٌ في كلامِ العرَبِ، وهو هنا في هذه الآيةِ إيجازٌ عجيبٌ، حيثُ اشتَمَل هذا اللَّفظُ القليلُ على المعاني الكثيرةِ [491] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (5/124- 125). .
- قولُه: سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى فيه تقديمُ المجْرورِ بِهِ في المواضِعِ الثَّلاثةِ على المرفوعِ (الْجِبالُ- الْأَرْضُ- الْمَوْتَى)؛ لِقصْدِ الإبهامِ ثمَّ التَّفسيرِ؛ لزِيادةِ التَّقريرِ؛ لأنَّ بتقديمِ ما حَقُّه التَّأخيرُ تبْقَى النَّفْسُ مُستشرِفَةً ومُترقِّبَةً إلى المُؤَخَّرِ أنَّه ماذا؛ فيتمكَّنُ عند وُرودِه عليها فَضلَ تمكُّنٍ [492] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/22). .
- قولُه: بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا إضرابٌ عمَّا تَضمَّنَتْه (لَوْ) مِن معنى النَّفيِ؛ فجُملةُ بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا عطْفٌ على وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا بحرْفِ الإضرابِ، أي: ليس ذلك مِن شأْنِ الكُتُبِ، بل للهِ الأمْرُ جميعًا؛ فهو الَّذي أنزَلَ الكِتابَ، وهو الَّذي يخلُقُ العَجائبَ إنْ شاء، وليس ذلك إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا عند سُؤالِكم، فأمَرَ اللهُ نَبِيَّه بأنْ يقولَ هذا الكلامَ إجراءً لكلامِهم على خِلافِ مُرادِهم على طريقةِ الأسلوبِ الحَكيمِ؛ لأنَّهم ما أرادوا بما قالوه إلَّا التَّهكُّمَ، فحُمِلَ كلامُهم على خِلافِ مُرادِهم؛ تنبيهًا على أنَّ الأَولى بهم أنْ ينْظروا: هل كان في الكُتُبِ السَّابقةِ قُرآنٌ يتأَتَّى به مثْلُ ما سأَلوه، وقد أفادَتِ الجُملتانِ- المعطوفةُ والمعطوفةُ عليها- معنى القصْرِ؛ لأنَّ العطْفَ بـ (بَلْ) مِن طُرُقِ القصْرِ؛ فاللَّامُ في قولِه: الْأَمْرُ للاستغراقِ، وجَمِيعًا تأْكيدٌ له، وتقديمُ المجْرورِ على المبتدأِ؛ لِمُجرَّدِ الاهتمامِ؛ لأنَّ القصْرَ أُفِيدَ بـ (بَلْ) العاطفةِ [493] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/188)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/144). .
- قولُه: أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذين آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا استفهامٌ إنكاريٌّ؛ إنكارًا لانتِفاءِ يأْسِ الَّذين آمنوا، أي: فهم حَقيقونَ بزَوالِ يأْسِهم، وأنْ يعلَموا أنْ لو يشاء اللهُ لَهَدى النَّاسَ جميعًا- وذلك على أحدِ القولينِ في التفسيرِ-، وفي هذا الكلامِ زِيادةُ تَقريرٍ لِمضمونِ جُملةِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ [494] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/144). .
- قولُه: أَفَلَمْ يَيْئَسِ، أي: أفلم يُوقِنْ ويعلَمْ؛ قيل: إنَّما اسْتُعْمِلَ اليأْسُ بمعنى العِلْمِ؛ لِتضمُّنِه معناه؛ لأنَّ اليائسَ عنِ الشَّيءِ عالِمٌ بأنَّه لا يكونُ، كما اسْتُعْمِلَ الرَّجاءُ في معنى الخوفِ، والنِّسيانُ في معنى التَّرْكِ؛ لِتضمُّنِ ذلك [495] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/530)، ((تفسير أبي حيان)) (6/389)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/144). .
- قولُه: تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا، أي: بسبَبِ ما صَنَعوه مِن الكُفرِ والتَّمادي فيه، وأبْهَمَ ما صنَعوا ولم يُبَيِّنْه؛ للقصْدِ إلى تَهْويلِه أو استهجانِه، وهو تَصريحٌ بما أشعَرَ به بِناءُ الحُكمِ على الموصولِ مِن عِلِّيَّةِ الصِّلةِ له، مع ما في صِيغَةِ الصُّنْعِ مِن الإيذانِ برُسوخِهم في ذلك [496] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/23). .
- قولُه: تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ شُبِّهَتِ القارعةُ بالعَدُوِّ المُتوجِّهِ إليهم، فأُسْنِدَ إليها الإصابةُ تارةً، والحُلولُ أُخْرى [497] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/23). .
- قولُه: تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ فيه تقديمُ المجرورِ بِمَا صَنَعُوا على الفاعلِ قَارِعَةٌ، وهو مِن إرادةِ التَّفسيرِ إثرَ الإبهامِ؛ لِزيادةِ التَّقريرِ والإحكامِ، مع ما فيه مِن بيانِ أنَّ مَدارَ الإصابةِ مِن جِهَتِهم آثِرَ ذي أَثِيرٍ [498] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/23). آثِرَ ذي أثيرٍ: أي: أوَّلَ كُلِّ شَيءٍ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (2/575). .
- وجُملةُ: وَلَا يَزَالُ الَّذين كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ مَعطوفةٌ على جُملةِ: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ، وهي تَهديدٌ بالوَعيدِ على تعنُّتِهم، وإصرارِهم على عدَمِ الاعترافِ بِمُعجزةِ القُرآنِ، وتهكُّمِهم باستِعجالِ العذابِ الَّذي تُوُعِّدُوا به؛ فهُدِّدُوا بما سيحُلُّ بهم مِن الخوفِ بحُلولِ الكتائبِ والسَّرايا بهم تنالُ الَّذين حلَّتْ فيهم، وتَخويفِ مَن حولَهم، حتَّى يأتِيَ وعْدُ اللهِ بيومِ بَدرٍ أو فتْحِ مكَّةَ [499] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/145). ، وذلك على أحدِ أوجهِ التأويلِ.
- واستعمالُ وَلَا يَزَالُ في أصلِها تدلُّ على الإخبارِ باستِمرارِ شيءٍ واقِعٍ؛ فإذا كانت هذه الآيةُ مكِّيَّةً، تَعيَّنَ أنْ تكونَ نزَلَت عند وُقوعِ بعضِ الحَوادِثِ المُؤلِمةِ بقُريشٍ مِن جُوعٍ أو مرَضٍ؛ فتكونُ هذه الآيةُ تَنبيهًا لهم بأنَّ ذلك عِقابٌ مِن اللهِ تعالى، ووعيدٌ بأنَّ ذلك دائمٌ فيهم حتَّى يأتِيَ وعْدُ اللهِ [500] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/146). .
- وجُملةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ تَذييلٌ لجُملةِ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ؛ إيذانًا بأنَّ إتيانَ الوعْدِ المُغَيَّا به مُحَقَّقٌ، وأنَّ الغايةَ به غايةٌ بأَمْرٍ قَريبِ الوُقوعِ، والتَّأكيدُ بـ (إنَّ)؛ مُراعاةً لإنكارِ المُشركينَ [501] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/147). .
2- قوله تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ فيه وعيدٌ لهم، وجوابٌ عنِ اقتِراحِهم الآياتِ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على سبيلِ الاستهزاءِ، وتَسليةً له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [502] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/531)، ((تفسير البيضاوي)) (3/188)، ((تفسير أبي حيان)) (6/391)، ((تفسير أبي السعود)) (5/24). .
- والاستهزاءُ: مُبالَغَةٌ في الهزْءِ، مثلَ الاستسخارِ في السُّخريةِ [503] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/148). .
- قولُه: فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ استفهامٌ معناه التَّعجُّبُ بما حلَّ، وفي ضمْنِه وعيدُ مُعاصِري الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن الكُفَّارِ؛ فالكلامُ تَسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمُؤمنينَ، ووعيدٌ للمُشركينَ [504] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/392)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/148). . وفي التَّعبيرِ عنِ العِقابِ بقولِه: فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ دَلالةٌ ظاهرةٌ على تناهي كيفيَّةِ هذا العِقابِ في الشِّدَّةِ والفَظاعةِ [505] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/24). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال تعالى هنا: فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ، وفي سُورةِ الحجِّ: فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [الحج: 44] ؛ فعقَّبَ الأُولى بقولِه: فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ، والثَّانيةَ بقولِه: فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ، مع تَساوي الآيتَينِ في مَقصودِ الوعيدِ لِمُكذِّبي الرُّسلِ عليهم السَّلامُ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ العِقابَ أشدُّ موقِعًا مِن النَّكيرِ؛ لأنَّ الإنكارَ يقَعُ على ما لا عِقابَ فيه بالفعْلِ، وعلى ما فيه العِقابُ بالفعْلِ، وأمَّا مُسمَّى العِقابِ فإنَّما يُرادُ به في الغالِبِ أخْذٌ بعَذابٍ مُناسِبٍ لِحالِ المُجْرمِ، إثْرَ مَعصيَتِه، وعَقِيبَ جريمتِه، وقد تقدَّمَ في آيةِ الرَّعدِ قولُه تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ [الرعد: 32] ، والاستهزاءُ أمْرٌ مُرْتَكبٌ زائدٌ على التَّكذيبِ مِن التَّهاوُنِ، والاستِخفافُ بِجريمةٍ مُرْتَكبةٍ أشنَعُ جريمةً، فناسَبَها الإفصاحُ بالعِقابِ. أمَّا آيةُ الحجِّ فإنَّ الوعيدَ بها للمَذْكورينَ بالتَّكذيبِ ولم يذْكُرْ منهم استهزاءً، قال تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى [الحج: 42- 44] ؛ فلم يُخبِرْ عن هؤلاءِ بغيرِ التَّكذيبِ، وليس كالاستهزاءِ؛ فقد يُؤْمِنُ المُكذِّبُ ويَصلُحُ حالُه، أمَّا المُستهزِئُ فلا يَصلُحُ، وقد كفَى اللهُ نَبِيَّه إيَّاهم؛ قال تعالى: إِنَا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر: 95] ؛ فناسَبَ النَّظمَ تَعْقيبُ كلِّ آيةٍ بما يُناسِبُ مُرْتكِبَ مَن قُدِّمَ، ولم يكُنْ عكْسُ الوارِدِ لِيُناسِبَ [506] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/281-282). .