موسوعة التفسير

سورةُ التَّغابُنِ
الآيات (14-18)

ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ

غريب الكلمات:

وَتَصْفَحُوا: أي: تُعرِضوا، وتَترُكوا التَّثريبَ، يُقالُ: صَفحتُ عنه: إذا أعرضْتَ عنه، وأصلُ (صفح): يدُلُّ على الإعراضِ؛ لأنَّ مَن أعرَضَ عن صاحِبِه ولَّاه صَفحةَ عُنُقِه، وصرَفَ عنه وجْهَه [242] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/293)، ((المفردات)) للراغب (ص: 486)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (3/421). .
فِتْنَةٌ: أي: بلاءٌ واختِبارٌ وامتحانٌ، وأصلُ (فتن): يدُلُّ على اختِبارٍ وابتِلاءٍ [243] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 469)، ((تفسير ابن جرير)) (23/18)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/472، 473)، ((المفردات)) للراغب (ص: 624). .
شُحَّ: الشُّحُّ: بُخلٌ مع حِرصٍ، وأصلُ (شحح): يدُلُّ على مَنعٍ [244] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 469)، ((تفسير ابن جرير)) (22/529)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/178)، ((المفردات)) للراغب (ص: 446). .
شَكُورٌ: أي: يَرضى بيَسيرِ الطَّاعةِ، ويَقْبَلُ القليلَ مِن العملِ، ويُثيبُ عليه الكثيرَ مِنَ الثَّوابِ، ويُقالُ: إنَّ حَقيقةَ الشُّكْرِ الرِّضا باليَسيرِ، والشَّكورُ مِن الدَّوابِّ ما يَكفيه العلَفُ القليلُ لِسِمَنِه، فيُظهِرُ مِنَ السمَنِ فوقَ ما يُعطَى مِن العلَفِ، وأصلُ الشُّكْرِ في الكلامِ: الظُّهورُ، يُقالُ: شكَرَ الضَّرعُ: إذا امْتَلأ، وامتِلاؤُه ظُهورُه، وأصلُ (شكر) هنا: الامْتِلاءُ والغُزْرُ في الشَّيءِ [245] يُنظر: ((تفسير أسماء الله الحسنى)) للزجاج (ص: 47)، ((اشتقاق أسماء الله)) للزجاجي (ص: 87)، ((شأن الدعاء)) للخطابي (ص: 65)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/207، 208)، ((المفردات)) للراغب (ص: 462)، ((تفسير ابن جزي)) (1/36)، ((عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين)) لابن القيم (ص: 148). قال ابن القيِّمِ بعدَ أن ذكَرَ اشتِقاقَ كلمةِ الشُّكرِ وحقيقتَها في اللُّغةِ: (تأمَّلْ هذا الاشتِقاقَ وطابِقْ بيْنَه وبيْنَ الشُّكرِ المأمورِ به، وبيْنَ الشُّكرِ الَّذي هو جزاءُ الرَّبِّ الشَّكورِ، كيف تجدُ في الجميعِ معنَى الزِّيادةِ والنَّماءِ). ((عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين)) (ص: 148). .
حَلِيمٌ : أي: لا يُعاجِلُ بالعُقوبةِ، فهو ذو الصَّفحِ والأنَاةِ، الَّذي لا يَستَفِزُّه غضَبٌ، ولا يَستَخِفُّه جَهْلُ جاهِلٍ، ولا عِصيانُ عَاصٍ، يُقالُ: حَلُمَ فُلانٌ عن فُلانٍ: إذا لم يُقابِلْه على إساءتِه ولم يُجازِه عليها، والحِلمُ: الأناةُ والسُّكونُ مع القُدرةِ والقُوَّةِ، وأصلُ (حلم) هنا: يدُلُّ على تَرْكِ العَجَلةِ [246] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 18)، ((تفسير أسماء الله الحسنى)) للزجاج (ص: 45)، ((اشتقاق أسماء الله)) للزجاجي (ص: 96)، ((شأن الدعاء)) للخطابي (ص: 63)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/93)، ((المفردات)) للراغب (ص: 253)، ((تفسير القرطبي)) (8/ 276)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 404). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ
في نَصبِ خَيْرًا وُجوهٌ مِنَ الإعرابِ:
أحَدُها: أنَّه مَنصوبٌ على المفعوليَّةِ بفِعلٍ مَحذوفٍ، تَقديرُه: وأْتُوا خيرًا لأنفُسِكم.
الثَّاني: أنَّه مَنصوبٌ على المفعوليَّةِ بـ (أنفِقُوا)، على أن يكونَ المرادُ بالخَيرِ المالَ، كقَولِه تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا [البقرة: 180] .
الثَّالِثُ: أنَّه خَبَرُ (يكن) محذوفًا مع اسمِه، أي: أنفِقوا يَكُنِ الإنفاقُ خَيرًا لأنفُسِكم.
الرَّابعُ: أنَّه مَفعولٌ مُطلَقٌ نائِبٌ عن المَصدَرِ لأنَّه صِفتُه، أي: وأنفِقوا إنفاقًا خَيرًا.
الخامِسُ: أنَّه مَنصوبٌ على الحالِ مِن ضَميرِ مَصدَرِ الفِعلِ. أي: أنفِقوا الإنفاقَ خيرًا [247] يُنظر: ((إعراب القرآن)) للنحاس (4/294)، ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي بن أبي طالب (2/738)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/350)، ((مغني اللبيب)) لابن هشام (ص: 827). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى محذِّرًا مِن فِتنةِ الأزواجِ والأولادِ والأموالِ: يا أيُّها الَّذين آمَنوا إنَّ بَعضَ أزواجِكم وأولادِكم أعداءٌ لكم؛ إذ يُثبِّطونَكم عن طاعةِ اللهِ، أو يَحْمِلونَكم على مَعصيتِه؛ فاحذَروا الوُقوعَ في ذلك، وإنْ تَعْفُوا -أيُّها المؤمِنونَ- عنهم، وتَترُكوا عُقوبتَهم وتأنيبَهم، وتَستُروا عليهم ذُنوبَهم، فإنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ.
إنَّما أموالُكم وأولادُكم بِلاءٌ واختِبارٌ لكم، واللهُ عِندَه ثَوابٌ عظيمٌ لِمَن لم تَشغَلْه أموالُه وأولادُه وأزواجُه عن طاعةِ اللهِ تعالى.
ثمَّ يحضُّ الله تعالى عبادَه على تَقْواه، ويحذِّرُهم مِن البخلِ والشُّحِّ، فيقولُ: فاتَّقوا اللهَ -أيُّها المُؤمِنونَ- قَدْرَ استِطاعتِكم، واسمَعوا ما يأمُرُكم به اللهُ ورَسولُه، وأطيعُوا، وابذُلوا مِن أموالِكم في الزَّكَواتِ والنَّفَقاتِ الواجِبةِ والمُستَحَبَّةِ؛ هو خيرٌ لكم في الدُّنيا والآخِرةِ. ومَن يَقِهِ اللهُ شِدَّةَ حِرصِ نفْسِه على جَمعِ المالِ، فأولئك هم الفائِزونَ.
ثمَّ يقولُ تعالى مرغِّبًا في النَّفقةِ: إنْ تُنفِقوا مِن طَيِّبِ أموالِكم بلا مَنٍّ ولا أذًى محتَسبينَ للأجرِ عِندَ رَبِّكم، يُضاعِفِ اللهُ لكم الأجرَ، ويَغفِرْ لكم ذُنوبَكم، واللهُ شَكورٌ يجزي بالجزاءِ الكثيرِ على العملِ القليلِ، حَليمٌ على عبادِه؛ فلا يُعاجِلُهم بالعُقوبةِ على ذُنوبِهم، عالمُ ما يَغيبُ عن عِبادِه وما يُشاهِدونَه؛ فلا يَخفى عليه شَيءٌ، وهو تعالى العَزيزُ الَّذي لا يُغلَبُ، الحَكيمُ الَّذي يضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه اللَّائِقِ به.

تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا قال اللهُ تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، ثمَّ أمرَ بطاعةِ اللهِ وطاعةِ رَسولهِ؛ حَذَّر مِمَّا يَلحَقُ الرَّجُلَ مِنِ امرأتِه ووَلَدِه، بسبَبِ ما يَصدُرُ مِن بَعضِهم مِن العَداوةِ [248] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/191). .
وأيضًا فالمُناسَبةُ بيْنَها وبيْن الآيةِ الَّتي قَبْلَها أنَّ كِلْتَيْهما تسليةٌ على ما أصاب المؤمِنينَ مِن غَمٍّ مِن مُعاملةِ أعدائِهم إيَّاهم، ومِن انحرافِ بعضِ أزواجِهم وأولادِهم عليهم [249] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/283). .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ.
أي: يا أيُّها الَّذين آمَنوا إنَّ بعضَ أزواجِكم وأولادِكم أعداءٌ لكم؛ إذ يُثَبِّطونَكم عن طاعةِ اللهِ، أو يَشغَلونَكم عنها، أو يَحْمِلونَكم على مَعصيتِه؛ فاحذَروا الوُقوعَ في ذلك [250] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/14)، ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص: 64)، ((تفسير ابن كثير)) (8/139)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/128، 129)، ((تفسير السعدي)) (ص: 868). قال ابن تيميَّة: (قَولُه تعالى: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ مِنْ: للتَّبعيضِ بالاتِّفاقِ). ((مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية)) للبعلي (ص: 147). وقال ابن العربي: (العَدُوُّ لم يكُنْ عَدُوًّا لِذَاتِه، وإنَّما كان عدُوًّا لفِعْلِه؛ فإذا فَعَل الزَّوجُ والوَلَدُ فِعلَ العَدُوِّ كان عَدُوًّا، ولا فِعلَ أقبَحُ مِن الحَيلولةِ بيْن العبدِ وبيْن الطَّاعةِ... عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: «إنَّ الشَّيطانَ قَعَد لابنِ آدَمَ في طريقِ الإيمانِ، فقال له: أتؤمِنُ وتَذَرُ دِينَك ودينَ آبائِك؟ فخالَفَه فآمَنَ. ثمَّ قَعَد له على طريقِ الهِجرةِ، فقال له: أتُهاجِرُ وتَترُكُ أهْلَك ومالَك؟ فخالَفَه فهاجَرَ. فقَعَد له في طريقِ الجِهادِ، فقال: أتُجاهِدُ فتُقْتَلَ نفْسُك وتُنكَحَ نِساؤُك ويُقسَمُ مالُك؟ فخالفه فجاهَدَ فقُتِلَ، فحَقٌّ على اللهِ أن يُدخِلَه الجنَّةَ» [النسائي «3134»، وأحمد «15958»]. وقُعودُ الشَّيطانِ يكونُ بوجهَينِ؛ أحَدُهما: يكونُ بالوَسوَسةِ. والثَّاني: بأن يَحمِلَ على ما يُريدُ مِن ذلك الزَّوجَ والوَلَدَ والصَّاحِبَ). ((أحكام القرآن)) (4/264). وقال ابنُ القَيِّم: (ليس المرادُ مِن هذه العَداوةِ ما يَفهَمُه كثيرٌ مِن النَّاسِ أنَّها عداوةُ البَغضاءِ والمُحادَّةِ، بل إنَّما هي عداوةُ المحبَّةِ الصَّادَّةِ للآباءِ عن الهِجرةِ والجِهادِ، وتَعَلُّمِ العِلمِ والصَّدَقةِ، وغَيرِ ذلك مِن أمورِ الدِّينِ وأعمالِ البِرِّ... وما أكثَرَ ما فات العَبدَ مِن الكمالِ والفلاحِ بسَبَبِ زَوجتِه ووَلَدِه!). ((عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين)) (ص: 64). وقال ابن عاشور: (الإخبارُ عن بعضِ الأزواجِ والأولادِ بأنَّهم عدُوٌّ يجوزُ أن يُحمَلَ على الحقيقةِ؛ فإنَّ بعضَهم قد يُضمِرُ عداوةً لِزَوجِه، وبعضَهم لأبوَيه مِن جَرَّاءِ المُعامَلةِ بما لا يَروقُ عِندَه، مع خَباثةٍ في النَّفْسِ، وسوءِ تفكيرٍ، فيصيرُ عدوًّا لِمَن حقُّه أن يكونَ له صديقًا، ويَكثُرُ أن تأتيَ هذه العداوةُ مِن اختلافِ الدِّينِ، ومِن الانتماءِ إلى الأعداءِ). ((تفسير ابن عاشور)) (28/284). وأجاز أيضًا أن يكون المعنى على التشبيه أي: أنهم كالعدو. يُنظر ما يأتي في البلاغةِ (ص: 476، 477). .
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون: 9].
وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان النَّهيُ عن طاعةِ الأزواجِ والأولادِ فيما هو ضَرَرٌ على العَبدِ، والتَّحذيرُ مِن ذلك: قد يُوهِمُ الغِلْظةَ عليهم وعِقابَهم- أمَرَ تعالى بالحَذَرِ منهم، والصَّفحِ عنهم والعَفوِ؛ فإنَّ في ذلك مِن المصالحِ ما لا يُمكِنُ حَصْرُه، فقال [251] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 868). :
وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: وإنْ تَعْفوا -أيُّها المؤمِنونَ- عن أزواجِكم وأولادِكم، وتَترُكوا عُقوبتَهم وتأنيبَهم، وتَستُروا عليهم ذُنوبَهم؛ فإنَّ اللهَ غفورٌ لذُنوبِ عِبادِه، رحيمٌ بهم، ويَغفِرُ للَّذينَ يَغفِرونَ، ويَرحَمُ الَّذين يَرحَمونَ [252] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/18)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/130)، ((تفسير السعدي)) (ص: 868)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/285). قال البقاعي: (لَمَّا كان التَّقديرُ: يَغفِرِ اللهُ لكم؛ سَبَّبَ عنه قَولَه: فَإِنَّ اللَّهَ... غَفُورٌ... جزاءً لكم على غُفرانِكم لهم، وهو جديرٌ بأن يُصلِحَهم لكم بسَبَبِ غُفرانِكم لهم؛ فإنَّه رَحِيمٌ يَزيدُكم بعدَ ذلك السَّترِ الإكرامَ بالإنعامِ إن أكرَمْتُموهم). ((نظم الدرر)) (20/130، 131). .
إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15).
إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ.
أي: إنَّما أموالُكم وأولادُكم بلاءٌ واختِبارٌ لكم؛ فاحذَروا أن تَقَعوا -بسَبَبِ الشُّغلِ بهم- في المَنهيَّاتِ، أو تَترُكوا امتِثالَ المأموراتِ، أو تُقَصِّروا في أداءِ الطَّاعاتِ [253] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/18)، ((الوسيط)) للواحدي (4/308)، ((تفسير ابن عطية)) (5/320)، ((تفسير القرطبي)) (18/142)، ((تفسير ابن كثير)) (8/139)، ((فتح الباري)) لابن رجب (4/202، 203)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/286). .
كما قال تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر: 1، 2].
وعن بُرَيدةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَخطُبُ، فجاء الحَسَنُ والحُسَينُ رَضِيَ اللهُ عنهما، وعليهما قَميصانِ أحمرانِ يَعْثُرانِ [254] يَعثُرانِ: أي: يَسقُطانِ على الأرضِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (9/3981). فيهما، فنَزَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقَطَع كَلامَه، فحَمَلَهما ثمَّ عاد إلى المِنبَرِ، ثمَّ قال: صَدَقَ اللهُ: أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ، رأيْتُ هذَينِ يَعثُرانِ في قَميصَيْهما، فلم أَصبِرْ حتَّى قَطعْتُ كَلامي فحَمَلْتُهما !)) [255] أخرجه أبو داودَ (1109)، والترمذيُّ (3774)، والنسائيُّ (1413) واللَّفظُ له، وابنُ ماجه (3600)، وأحمدُ (22995). صَحَّحه ابنُ حِبَّانَ في ((الصحيح)) (6039)، والحاكمُ في ((المستدرك)) (1/424) -وقال: (على شرطِ مسلمٍ)-، والألبانيُّ في ((صحيح سنن النسائي)) (1413)، وصحَّح إسنادَه على شرطِ مُسلِمٍ: الضِّياءُ المَقدِسيُّ في ((السنن والأحكام)) (2/375)، والنَّوويُّ في ((الخلاصة)) (2/803)، وابنُ عبد الهادي في ((تنقيح تحقيق التعليق)) (2/81). .
وعن كَعبِ بنِ عِياضٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّ لِكُلِّ أمَّةٍ فِتنةً، وفِتنةُ أُمَّتي المالُ )) [256] أخرجه الترمذيُّ (2336) واللَّفظُ له، وأحمدُ (17471). صحَّحه ابنُ حِبَّان في ((الصحيح)) (3223)، وابنُ عبدِ البَرِّ في ((الاستيعاب)) (3/381)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (2336)، وشعيبٌ الأرناؤوطُ في تخريج ((مسند أحمد)) (29/15). .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ الدُّنيا حُلْوةٌ خَضِرَةٌ [257] حُلْوةٌ خَضِرةٌ: أي: غَضَّةٌ ناعِمةٌ طيِّبةٌ، مُزَيَّنةٌ في عُيونِكم وقُلوبِكم، وإنَّما وَصَفها بالخَضِرةِ؛ لأنَّ العربَ تُسَمِّي الشَّيءَ النَّاعِمَ خَضِرًا، أو لتَشَبُّهِها بالخَضْراواتِ في سُرعةِ زَوالِها. يُنظر: ((المعلم بفوائد مسلم)) للمازَري (2/33)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (5/2044). ، وإنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكم فيها، فيَنظُرُ كيف تَعمَلونَ؛ فاتَّقوا الدُّنيا، واتَّقوا النِّساءَ؛ فإنَّ أوَّلَ فِتنةِ بَني إسرائيلَ كانت في النِّساءِ )) [258] رواه مسلم (2742). .
وعن يَعْلَى العامِريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: ((جاء الحَسَنُ والحُسَينُ يَسعَيانِ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فضَمَّهما إليه، وقال: إنَّ الوَلَدَ مَبْخَلةٌ مَجْبَنةٌ [259] مَبخَلةٌ مَجْبنةٌ: أي: يَحمِلُ أبَويهِ على البُخلِ والجُبْنِ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/103)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (7/2970). ) [260] أخرجه ابنُ ماجه (3666) واللَّفظُ له، وأحمدُ (17562) مطوَّلًا. صحَّحه الحاكمُ في ((المستدرك)) (3/179) -وقال: (على شرطِ مسلمٍ)-، والألبانيُّ في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3666)، وقوَّى إسنادَه الذهبيُّ في ((المهذب)) (8/4210)، وصحَّح إسنادَه البوصيريُّ في ((مصباح الزجاجة)) (4/99)، وحسَّنه شعيبٌ الأرناؤوط في الشَّواهد في تخريج ((شرح السُّنَّة)) (13/36). .
وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.
أي: واللهُ عِندَه ثوابٌ عَظيمٌ لِمَن لم تَشغَلْه أموالُه وأولادُه وأزواجُه عن طاعةِ اللهِ تعالى؛ فلا تُؤْثِروهم على ما عِندَه سُبحانَه [261] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/18)، ((الوسيط)) للواحدي (4/309)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/286). قيل: المرادُ بالأجرِ العَظيمِ: الجنَّةُ. وممَّن نصَّ على ذلك: ابنُ جرير، وابنُ العربي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/18)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/266). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/19)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/185). .
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16).
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ.
أي: فاتَّقوا اللهَ -أيُّها المُؤمِنونَ- بامتِثالِ أوامِرِه واجتِنابِ نواهيه، بقَدْرِ طاقتِكم [262] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/19)، ((تفسير ابن كثير)) (8/140)، ((تفسير السعدي)) (ص: 868). .
كما قال تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286].
وقال سُبحانَه: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الأعراف: 42] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((دَعُوني ما ترَكْتُكم، إنَّما هَلَك مَن كان قَبْلَكم بسُؤالِهم واختِلافِهم على أنبيائِهم، فإذا نَهَيْتُكم عن شَيءٍ فاجتَنِبوه، وإذا أمَرْتُكم بأمرٍ فأْتُوا منه ما استَطَعْتُم )) [263] رواه البخاريُّ (7288) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (1337). .
وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا.
أي: واسمَعوا ما يأمُرُكم به اللهُ ورَسولُه، وكونوا مُنقادِينَ له، فلا تَترُكوا ما أُمِرْتُم به، ولا تأتُوا ما نُهيتُم عنه [264] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/20)، ((تفسير ابن كثير)) (8/141)، ((تفسير الشوكاني)) (5/285)، ((تفسير السعدي)) (ص: 868)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/288). قال ابنُ عاشور: (الأمرُ بالسَّمعِ أمرٌ بتلَقِّي الشَّريعةِ، والإقبالِ على سماعِ مَواعِظِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وذلك وسيلةُ التَّقْوى؛ قال تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر: 17، 18]). ((تفسير ابن عاشور)) (28/288). .
وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ.
أي: وابذلُوا مِن أموالِكم بإخراجِ الزَّكَواتِ المفروضةِ، والنَّفَقاتِ الواجِبةِ والمُستَحَبَّةِ؛ فذلك خيرٌ لأنفُسِكم في الدُّنيا والآخِرةِ [265] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/105)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/268)، ((تفسير ابن كثير)) (8/141)، ((تفسير السعدي)) (ص: 868)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/288). قيل: المرادُ بالخَيرِ هنا: المالُ، فالمعنى: أنفِقوا مالًا مِن أموالِكم لأنفُسِكم تَستَنْقِذوها مِن عذابِ اللهِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير، ومكِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/20)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7514). وقيل: الخَيرُ هنا مَنصوبةٌ على الخَبَريَّةِ بـ (كان) المحذوفةِ، فيكونُ المعنى: أنفِقوا فيكونَ ذلك خيرًا لكم، وإن لم تَفعَلوا يكُنِ امتِناعُكم شَرًّا لكم. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الثعلبيُّ، وابن كثير، والسعدي. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/330)، ((تفسير ابن كثير)) (8/141)، ((تفسير السعدي)) (ص: 868). .
وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
أي: ومَن سلَّمه اللهُ مِن شِدَّةِ حِرصِ النَّفْسِ على جَمعِ المالِ، فخالَفَ هواها في إمساكِ المالِ فأنفَقَ؛ فأولئك هم الفائِزونَ الذينَ أدْرَكوا المطلوبَ، ونَجَوا مِن المَرْهوبِ [266] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/20)، ((تفسير ابن كثير)) (8/71)، ((تفسير السعدي)) (ص: 868)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/94، 95). .
عن جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((اتَّقُوا الشُّحَّ؛ فإنَّ الشُّحَّ أهلَكَ مَن كان قَبْلَكم؛ حمَلَهم على أن سَفَكوا دِماءَهم، واستحَلُّوا مَحارِمَهم [267] أي: استباحوا نساءَهم، أو ما حرَّم اللهُ مِن أموالِهم وغيرِها، وهذا على سبيلِ الاستئنافِ؛ فإنَّ استِحلالَ المَحارِمِ جامعٌ لجميعِ أنواعِ الظُّلْمِ، وعَطْفُه على سَفكِ الدِّماءِ عطفُ عامٍّ على خاصٍّ. يُنظر: ((فيض القدير)) للمُناوي (1/134). ) [268] رواه مسلم (2578). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: خَطَب رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: ((إيَّاكم والشُّحَّ؛ فإنَّما هَلَك مَن كان قَبْلَكم بالشُّحِّ؛ أمَرَهم بالبُخلِ فبَخِلوا، وأمَرَهم بالقَطيعةِ فقَطَعوا، وأمَرَهم بالفُجورِ ففَجَر وا)) [269] أخرجه من طُرُقٍ: أبو داودَ (1698) واللَّفظُ له، والنَّسائيُّ في ((السنن الكبرى)) (11583)، وأحمدُ (6487). صحَّحه ابنُ حِبَّانَ في ((الصَّحيح)) (5176)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (1698)، وصحَّح إسنادَه الطَّبَريُّ في ((مسند عمر)) (1/106)، والحاكمُ في ((المستدرك)) (1/576)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (9/201)، وشعيبٌ الأرناؤوطُ في تخريج ((سنن أبي داود)) (1698). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يَجتَمِعُ الشُّحُّ والإيمانُ في قَلبِ عَبدٍ أبَدًا )) [270] أخرجه مُطَوَّلًا النَّسائيُّ (3110) واللَّفظُ له، وأحمدُ (9693). صحَّحه ابنُ حِبَّانَ في ((الصَّحيح)) (3251)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن النَّسائي)) (3110)، وشعيبٌ الأرناؤوطُ بطُرُقِه وشَواهِدِه في تخريج ((مسند أحمد)) (15/433)، وصحَّح إسنادَه الطَّبَريُّ في ((مسند عمر)) (1/102). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أتى رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رجُلٌ، فقال: يا رسولَ اللهِ، أيُّ الصَّدَقةِ أعظَمُ؟ فقال: أن تَصَدَّقَ وأنت صَحيحٌ شَحيحٌ، تَخشى الفَقرَ، وتأمُلُ الغِنى، ولا تُمهِلُ [271] مِن الإمهالِ، وهو بالرَّفعِ على أنَّه خبرٌ، ويجوزُ بالنَّصبِ عطفًا على (تَصَدَّقَ)، أو بالجزمِ على النَّهي، أي: ولا تؤخِّرِ الصَّدقةَ، أي: ولا تُمهِلْ نفْسَك. يُنظر: ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (6/291). حتَّى إذا بلَغَت الحُلْقُومَ قُلتَ: لِفُلانٍ كذا، ولِفُلانٍ كذا [272] لِفُلانٍ: كِنايةٌ عن الموصَى له (كذا) كِنايةٌ عن الموصَى به. يُنظر: ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (6/291). ، ألَا وقد كان لِفُلانٍ [273] وقد كان لِفُلانٍ: أي: الوارِثِ، قيل: جملةٌ حاليَّةٌ، أي: وقد صار المالُ الَّذي تتصرَّفُ فيه في هذه الحالةِ ثُلُثاهُ حقًّا للوارِثِ وأنت تتصَدَّقُ بجميعِه، فكيف يُقْبَلُ منك؟! وقيل: أي: وقد صار ما أَوصى به للوارِثِ، فيُبطِلُه إن شاء إذا زاد على الثُّلثِ، أو أوصى به لوارِثٍ آخَرَ. وقيل: المعنى: أنَّه قد خرَج عن تصَرُّفِه وكمالِ ملكِه واستِقلالِه بما شاء مِن التَّصرُّفِ، فليس له في وصيَّتِه كبيرُ ثَوابٍ وكثيرُ فضلٍ بالنِّسبةِ إلى صدقةِ الصَّحيحِ الشَّحيحِ. يُنظر: ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (6/291). !)) [274] رواه البخاريُّ (1419)، ومسلمٌ (1032) واللَّفظُ له. .
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى بالإنفاقِ، ورهَّبَ مِن ضِدِّه على وَجْهٍ أعَمَّ، رَغَّب فيه؛ تأكيدًا لأمْرِه لِما فيه مِن الصُّعوبةِ، لا سِيَّما في زمانِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّ المالَ فيه كان في غايةِ العِزَّةِ [275] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/135). .
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ.
أي: إنْ تُنفِقوا مِن طَيِّبِ أموالِكم احتِسابًا للأجرِ عِندَ رَبِّكم بلا مَنٍّ ولا أذًى، فاللهُ يُثيبُكم على إنفاقِكم هذا بأُجورٍ كَثيرةٍ، قد تَبلُغُ سَبْعَمِئَةِ ضِعفٍ أو أكثَرَ [276] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/21)، ((تفسير ابن كثير)) (8/141)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/135، 136)، ((تفسير السعدي)) (ص: 869). .
كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة: 245].
وقال سُبحانَه: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 261] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما تَصَدَّقَ أحَدٌ بصَدَقةٍ مِن طَيِّبٍ -ولا يَقْبَلُ اللهُ إلَّا الطَّيِّبَ- إلَّا أخَذَها الرَّحمنُ بيَمينِه، وإن كانت تَمْرةً، فتَربُو في كَفِّ الرَّحمنِ حتَّى تَكونَ أعظَمَ مِن الجَبَلِ، كما يُرَبِّي أحَدُكم فَلُوَّه أو فَصِيلَه [277] الفَلُوُّ: المُهْرُ الصَّغيرُ، وهو ولَدُ الفَرَسِ؛ سُمِّيَ بذلك لأنَّه فُلِيَ عن أمِّه، أي: فُصِلَ وعُزِلَ. والفَصيلُ: ولَدُ النَّاقةِ إذا فُصِل مِن إرضاعِ أُمِّه. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (7/99). ) [278] رواه البخاريُّ (1410)، ومسلمٌ (1014) واللَّفظُ له. .
وعن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّك لن تُنفِقَ نَفَقةً تَبتَغي بها وَجْهَ اللهِ إلَّا أُجِرْتَ عليها، حتَّى ما تَجعَلُ في فَمِ امْرأتِك )) [279] رواه البخاريُّ (56) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (1628). .
وَيَغْفِرْ لَكُمْ.
أي: ويَغفِرِ اللهُ لكم ذُنوبَكم، بسَترِها عليكم، ووقايتِكم مِن شرِّها؛ جزاءً لكم على إنفاقِكم [280] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/21)، ((تفسير ابن كثير)) (8/141)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/136)، ((تفسير السعدي)) (ص: 869). .
وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ.
أي: واللهُ ذو شُكرٍ بالِغٍ وكثيرٍ للمُنفِقينَ في سَبيلِه، ويَجزيهم على القَليلِ بالكثيرِ، حَليمٌ على عبادِه؛ فلا يُعاجِلُهم بالعُقوبةِ على ذُنوبِهم، بل يُمهِلُهم [281] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/21)، ((تفسير ابن كثير)) (8/141)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/136)، ((تفسير السعدي)) (ص: 869)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/290). .
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18).
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ.
أي: عالمُ كُلِّ ما يَغيبُ عن عِبادِه، وجَميعِ ما يُشاهِدونَه؛ فلا يَخفى عليه شَيءٌ [282] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/21)، ((تفسير القرطبي)) (18/147)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/137)، ((تفسير السعدي)) (ص: 869). .
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
أي: العَزيزُ الَّذي يَغلِبُ ولا يُغلَبُ، الحَكيمُ الَّذي يَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه اللَّائِقِ به [283] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/21)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/137، 138)، ((تفسير السعدي)) (ص: 869). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ هذا تحذيرٌ مِنَ اللهِ تعالى للمُؤمِنينَ مِن الاغترارِ بالأزواجِ والأولادِ؛ فإنَّ بَعضَهم عدُوٌّ لكم، والعَدُوُّ هو الَّذي يُريدُ لك الشَّرَّ، ووظيفتُك الحَذَرُ مِمَّن هذا وَصْفُه، والنَّفسُ مَجبولةٌ على محبَّةِ الأزواجِ والأولادِ؛ فنَصَح اللهُ تعالى عِبادَه أن تُوجِبَ لهم هذه المحبَّةُ الانقيادَ لمطالِبِ الأزواجِ والأولادِ ولو كان فيها ما فيها مِن المحذورِ الشَّرعيِّ، ورَغَّبَهم في امتِثالِ أوامِرِه، وتقديمِ مَرضاتِه بما عِندَه مِن الأجرِ العَظيمِ المُشتَمِلِ على المطالِبِ العاليةِ، والمَحابِّ الغاليةِ، وأن يُؤثِروا الآخِرةَ على الدُّنيا الفانيةِ المُنقَضِيةِ [284] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 868). .
2- علَّم اللهُ تعالى الإنسانَ كيف يُعاشِرُ أقرَبَ النَّاسِ إليه؛ زوجتَه وأبناءَه وأُسرتَه الأدنَيْنَ، أمَرَه أن يَتحفَّظَ منهم غايةَ التَّحفُّظِ لدينِه ودُنياه؛ لأنَّهم رُبَّما أوقعوه فيما لا يَنبغي، ثمَّ أمَرَه إذا وجَد منهم ما لا يُحِبُّ أن يُعامِلَهم باللِّينِ والصَّفحِ والمَغفرةِ، كما قال الله تعالى: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ، فمِن شدَّةِ حِكمتِه يُعَلِّمُ الإنسانَ كيف يُعاشِرُ أُسرتَه الأدنَينَ، وأن يَحذَرَ مِن شرِّ امرأتِه وأولادِه؛ لئلَّا يُضَيِّعوا عليه دينَه أو دُنياه، ثمَّ إذا عثَر منهم على ما لا يَنبغي أمَرَه ألَّا يُعامِلَهم بالشِّدَّةِ والمكروهِ؛ ولذا قال في هذه الآيةِ: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ثمَّ قال -إذا رأى منهم ما يَكرَهُ-: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [285] يُنظر: ((العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير)) (2/175). .
3- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ دليلٌ على تثبيتِ الاحتِرازاتِ [286] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/318). .
4- في قَولِه تعالى: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ عزاءٌ لِمَن بُلِيَ بزَوجةٍ مُؤذيَةٍ، أو وَلَدٍ عاقٍّ، فَصَبَرَ على أذاهما، وعفا وصَفَحَ عن زلَّاتِهما، ومكروهٍ يكونُ منهما، وفيما وَعَدَ اللهُ جلَّ جلالُه مِن الغُفرانِ مَن فَعَل ذلك: ما يُهَوِّنُ عليه، ويُعَظِّمُ بِشارتَه إذا احتملَ مَضَضَ غوائلِهما؛ طمَعًا في إنجازِ ما وَعَدَه اللهُ عليه [287] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/319). .
5- قال الله تعالى: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، لأنَّ الجَزاءَ مِن جِنسِ العَمَلِ؛ فمَن عفا عفا اللهُ عنه، ومَن صَفَح صَفَح اللهُ عنه، ومَن غَفَر غَفَر اللهُ له، ومَن عامَلَ اللهَ فيما يحِبُّ، وعامَلَ عِبادَه كما يُحِبُّونَ ويَنفَعُهم؛ نال محبَّةَ اللهِ ومحبَّةَ عِبادِه، واستَوثَقَ له أمْرُه [288] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 868). .
6- قال تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ، قولُه: وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ تزهيدٌ في الدُّنيا، وترغيبٌ في الآخِرةِ [289] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/192). .
7- النَّاسُ مِنهم مَن يكونُ العِلمُ أيسَرَ عليه مِنَ الزُّهدِ، ومِنهم مَن يكونُ الزُّهدُ أيسَرَ عليه، ومِنهم مَن تكونُ العِبادةُ أيسَرَ عليه منهما؛ فالمشروعُ لكُلِّ إنسانٍ أن يَفعَلَ ما يَقدِرُ عليه مِنَ الخَيرِ، كما قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وإذا ازدحمَت شُعَبُ الإيمانِ قَدَّمَ ما كان أرضى لله، وهو عليه أقدَرُ؛ فقد يكونُ على المفضولِ أقدَرَ منه على الفاضِلِ، ويَحصُلُ له أفضَلُ مِمَّا يَحصُلُ مِن الفاضِلِ؛ فالأفضَلُ لهذا أن يَطلُبَ ما هو أنفَعُ له، وهو في حَقِّه أفضَلُ، ولا يَطلُبَ ما هو أفضَلُ مُطلَقًا إذا كان مُتعَذِّرًا في حَقِّه، أو مُتعَسِّرًا يَفوتُه ما هو أفضَلُ له وأنفَعُ [290] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/651). .
8- قَولُ الله تعالى: وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ فيه التَّحريضُ على الإنفاقِ بمَرتبَتَيه: الواجِبِ والمندوبِ، وهذا مِن الاهتِمامِ بالنَّزاهةِ عن فِتنةِ المالِ الَّتي ذُكِرَت في قَولِه تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [291] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/288). .
9- قال الله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هذا الوَصفُ داعٍ إلى الإحسانِ؛ مِن حيثُ إنَّه يُوجِبُ للمُؤمِنِ تَرْكَ ظاهِرِ الإثمِ وباطِنِه، وكُلِّ قُصورٍ وفُتورٍ وغَفلةٍ وتَهاوُنٍ، فيَعبُدُ اللهَ كأنَّه يَراه [292] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/137). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال تعالى: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ والمعنى: أنَّ مِن الأزواجِ والأولادِ عدوًّا، وليس المرادُ أنَّ كلَّ زوجٍ وولدٍ عدوٌّ؛ فإنَّ هذا ليس هو مدلولَ اللَّفظِ، وهو باطلٌ في نفْسِه؛ فإنَّه سُبحانَه قد قال عن عِبادِ الرَّحمنِ: إنَّهم يقولونَ: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان: 74] ، فسَأَلوا اللهَ أنْ يَهَبَ لهم مِن أزواجِهم وأولادِهم قُرَّةَ أعيُنٍ، فلو كان كلُّ زوجٍ وولدٍ عدوًّا، لم يكُنْ فيهم قُرَّةُ أعيُنٍ؛ فإنَّ العدوَّ لا يكونُ قُرَّةَ عَينٍ، بل سُخْنَةُ عَينٍ، وأيضًا فإنَّه مِن المعلومِ أنَّ مِثلَ إسماعيلَ وإسحاقَ ابنَيْ إبراهيمَ، ومِثلَ يحيى بنِ زكريَّا، وأمثالَهم: ليسوا أعداءً [293] يُنظر: ((جامع المسائل)) لابن تيمية (4/76). !
2- قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ كما أنَّ الرَّجُلَ يَكونُ له وَلَدُه وزَوجُه عَدُوًّا، كذلك المرأةُ يكونُ لها وَلَدُها وزَوجُها عَدُوًّا بهذا المعنى بعَينِه، وعُمومُ قَولِه: مِنْ أَزْوَاجِكُمْ يَدخُلُ فيه الذَّكَرُ والأُنثى كدُخولِهما في كُلِّ آيةٍ [294] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/264، 265). .
3- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ، لَمَّا أخبَر عن العداوةِ، عبَّر بما قد يُفهِمُ الواحدَ فقط تخفيفًا، ولَمَّا أمَر بالحذرِ جمَع؛ إشارةً إلى زيادةِ التَّحذيرِ والخَوفِ في كلِّ أحدٍ، ولو كان أقربَ الأقرباءِ [295] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/129). .
4- قولُه تعالى: فَاحْذَرُوهُمْ معناه: على أنفُسِكم. والحذَرُ على النَّفْسِ يكونُ بوجهَينِ: إمَّا لضرَرٍ في البدنِ، وإمَّا لضررٍ في الدِّينِ، وضررُ البدنِ يَتعلَّقُ بالدُّنيا، وضررُ الدِّينِ يتعلَّقُ بالآخرةِ، فحذَّر اللهُ سُبحانَه العبدَ مِن ذلك وأنْذَرَه به [296] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/142). .
5- في قَولِه تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ أنَّه سُبحانَه لم يَجعَلْ على أُمَّةِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم في دينِهم مِن حَرَجٍ، بل أراد بهمُ اليُسْرَ، ولم يُرِدْ بهم العُسْرَ؛ ولهذا فإنَّ ما أوجَبَه على عبادِه شَرَطَه بالاستِطاعةِ [297] يُنظر: ((العقود)) لابن تيمية (1/37). .
6- قال اللهُ تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ كُلَّ واجِبٍ عَجَز عنه العَبدُ: أنَّه يَسقُطُ عنه، وأنَّه إذا قَدَر على بَعضِ المأمورِ، وعَجَز عن بَعضِه؛ فإنَّه يأتي بما يَقدِرُ عليه، ويَسقُطُ عنه ما يَعجِزُ عنه، كما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا أمَرْتُكم بأمرٍ فأْتُوا منه ما استَطَعتُم)) [298] أخرجه مطوَّلًا البخاريُّ (7288) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (1337) مِن حديثِ أبي هُرَيرةَ رضيَ الله عنه. . ويَدخُلُ تحتَ هذه القاعِدةِ الشَّرعيَّةِ مِن الفُروعِ ما لا يَدخُلُ تحتَ الحَصرِ [299] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 868). ، فالإنسانُ إذا لم يَستَطِعِ القيامَ بأمرِ اللهِ على وجهِ الكَمالِ، فإنَّه يأتي منه بما قَدَرَ عليه، ومِن ذلك قولُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لعِمْرانَ ابنِ حُصَينٍ رضيَ الله عنه: ((صَلِّ قائمًا، فإنْ لم تَستَطِعْ فقاعِدًا، فإنْ لم تَستطِعْ فعلى جَنْبٍ )) [300] أخرجه البخاري (1117). ؛ فرَتَّبَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الصَّلاةَ بحسَبِ الاستِطاعةِ بأنْ يُصلِّيَ قائمًا، فإنْ لم يَستطِعْ فقاعدًا، فإنْ لم يَستطعْ فعلى جَنْبٍ، وهكذا أيضًا بقيَّةُ الأوامرِ [301] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (1/514). .
7- قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فأمَر بتقواه بقَدرِ الاستطاعةِ، فالمجتَهِدُ المُستَدِلُّ؛ مِن إمامٍ وحاكِمٍ، وعالِمٍ وناظِرٍ، ومُفْتٍ وغَيرِ ذلك: إذا اجتَهَد واستَدَلَّ فاتَّقى اللهَ ما استطاعَ؛ كان هذا هو الَّذي كَلَّفَه اللهُ إيَّاه، وهو مُطيعٌ لله مُستَحِقٌّ للثَّوابِ إذا اتَّقاه ما استطاعَ، ولا يُعاقِبُه اللهُ البتَّةَ -خِلافًا للجَهميَّةِ المُجْبِرةِ-، وهو مُصيبٌ، بمعنى: أنَّه مُطيعٌ للهِ، لكِنْ قد يَعلَمُ الحَقَّ في نفْسِ الأمرِ، وقد لا يَعلَمُه، خِلافًا للقَدَريَّةِ والمُعتَزِلةِ في قَولِهم: كُلُّ مَنِ استَفرَغَ وُسْعَه عَلِمَ الحَقَّ؛ فإنَّ هذا باطِلٌ، بل كُلُّ مَنِ استَفرَغَ وُسْعَه استَحَقَّ الثَّوابَ، وكذلك الكُفَّارُ؛ مَن بَلَغَه دَعوةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في دارِ الكُفرِ، وعَلِمَ أنَّه رَسولُ اللهِ، فآمَنَ به وآمَنَ بما أُنزِلَ عليه، واتَّقى اللهَ ما استطاع، كما فَعَل النَّجاشيُّ وغَيرُه، ولم تُمكِنْه الهِجرةُ إلى دارِ الإسلامِ، ولا التِزامُ جَميعِ شَرائِعِ الإسلامِ؛ لِكَونِه مَمنوعًا مِنَ الهِجرةِ ومَمنوعًا مِن إظهارِ دينِه، وليس عِندَه مَن يُعَلِّمُه جميعَ شَرائِعِ الإسلامِ- فهذا مُؤمِنٌ مِن أهلِ الجنَّةِ، كما كان مُؤمِنُ آلِ فِرعَونَ مع قَومِ فِرعَونَ، وكما كانت امرأةُ فِرعَونَ، بل وكما كان يوسُفُ الصِّدِّيقُ عليه السَّلامُ مع أهلِ مِصرَ؛ فإنَّهم كانوا كُفَّارًا، ولم يُمكِنْه أن يَفعَلَ معهم كلَّ ما يَعرِفُه مِن دينِ الإسلامِ، وكذلك النَّجاشيُّ هو وإن كان مَلِكَ النَّصارى، فلم يُطِعْه قَومُه في الدُّخولِ في الإسلامِ، بل إنَّما دَخَل معه نَفَرٌ منهم. وكثيرًا ما يَتولَّى الرَّجُلُ بيْن المُسلِمينَ والتَّتارِ قاضِيًا، بل وإمامًا، وفي نفْسِه أمورٌ مِن العَدلِ يُريدُ أن يَعمَلَ بها فلا يُمكِنُه ذلك، بل هناك مَن يَمنَعُه ذلك، ولا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَها. وعُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ عُودِيَ وأُوذِيَ على بعضِ ما أقامَه مِنَ العَدلِ، وقيل: إنَّه سُمَّ على ذلك؛ فالنَّجاشيُّ وأمثالُه سُعَداءُ في الجنَّةِ وإن كانوا لم يَلتَزِموا مِن شرائِعِ الإسلامِ ما لا يَقدِرونَ على التِزامِه، بل كانوا يَحكُمونَ بالأحكامِ الَّتي يُمكِنُهم الحُكمُ بها [302] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (19/216-219). .
8- في قَولِه تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وقَولِه: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة: 223] أنَّه سُبحانَه أثْبَت للعَبدِ مَشيئةً واستِطاعةً -وهي القُدرةُ-؛ إلَّا أنَّهما تابِعتانِ لِمَشيئةِ اللهِ تعالى [303] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (4/301). .
9- قَولُه تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ مُفَسِّرٌ لِقَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران: 102] ، ورافِعٌ لظَنِّ مَن يظُنُّ أنَّ اللهَ أمرَ النَّاسَ بحَقِّ تُقاتِه الَّذي لا يَستطيعونَه، وهذا هو الَّذي أراده مَن قال مِن المتقَدِّمينَ: إنَّ هذه ناسِخةٌ لتلك، أرادوا أنَّها ناسِخةٌ للظَّنِّ الفاسِدِ مِن معناها، ولم يُريدوا أنَّ اللهَ أمَرَ النَّاسَ بما لا يَستطيعونَه مِن تَقْواه، ثمَّ نَسَخ ذلك [304] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيميَّة (8/457). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن جرير)) (23/20). !
10- قال الله تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إضافةُ الشُّحِّ إلى النَّفْسِ؛ للإشارةِ إلى أنَّ الشُّحَّ مِن طِباعِ النفْسِ؛ فإنَّ النُّفوسَ شَحيحةٌ بالأشياءِ المُحبَّبةِ إليها [305] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/289). ، وأنَّه شَديدُ التَّمكُّنِ منها.
11- قال اللهُ تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. (مَنْ) اسمُ شَرطٍ، وهي مِن صِيَغِ العُمومِ، أي: كُلُّ مَن يُوقَ شُحَّ نفْسِه، والعُمومُ يدُلُّ على أنَّ (مَن) مُرادٌ بها جِنسٌ لا شَخصٌ مُعَيَّنٌ ولا طائِفةٌ، وهذا حُبٌّ اقتضاه حِرصُ أكثَرِ النَّاسِ على حِفظِ المالِ وادِّخارِه، والإقلالِ مِن نَفعِ الغَيرِ به، وذلك الحِرصُ يُسَمَّى الشُّحَّ. والمعنى: أنَّ الإنفاقَ يَقِي صاحِبَه مِن الشُّحِّ المنهيِّ عنه، فإذا يُسِّرَ على المرءِ الإنفاقُ فيما أَمَر اللهُ به، فقد وُقِيَ شُحَّ نَفْسِه، وذلك مِن الفلاحِ [306] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/289). .
12- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا تنبيهٌ للمُعتَزلةِ والقَدَرِيَّةِ -المُنْكِرِين أنَّ الهدايةَ والإضلالَ بيَدِ اللهِ-؛ فالفَلاحُ شَيءٌ مفعولٌ بهم، وتعقيبُه ذلك بفِعلٍ مُضافٍ إليهم مِن إقراضِ القَرْضِ الحَسَنِ، وجَعْلُه كِلَيْهِما في مَدْحِ الموصوفينَ بفِعلينِ مُختَلِفَيِ اللَّفظِ مُتَّفِقَيِ المعنى، وهذا نظيرُ الإضلالِ الَّذي يُخْبِرُ به مَرَّةً عن نفْسِه أنَّه فاعِلٌ بهم، ومَرَّةً عنهم أنَّهم يَفعَلونَه بأنفُسِهم [307] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/319، 320). .
13- قَولُ الله تعالى: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ فيه أنَّ الذُّنوبَ يُكَفِّرُها اللهُ بالصَّدَقاتِ والحَسَناتِ [308] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 868). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إقبالٌ على خِطابِ المُؤمِنينَ بما يُفيدُهم كمالًا، ويُجنِّبُهُم ما يَفتِنُهم؛ فهذه الآيةُ مُستأنَفةٌ استِئنافًا ابتِدائيًّا [309] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/283). .
- وإذا كانَتِ السُّورةُ كلُّها مكِّيَّةً كانت الآيةُ ابتِداءَ إقبالٍ على تخصيصِ المُؤمِنينَ بالخِطابِ بعْدَ قَضاءِ حقِّ الغرضِ الَّذي ابتُدِئَتْ به السُّورةُ على عادةِ القُرآنِ في تعقيبِ الأغراضِ بأضْدادِها مِن ترغيبٍ أو ترهيبٍ، وثناءٍ أو مَلامٍ، أو نحوِ ذلك؛ لِيُوفَّى الطَّرَفانِ حَقَّيْهما [310] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/283، 284). .
- قولُه: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ فيه تَقديمُ خبرِ (إنَّ) على اسمِها؛ للاهتِمامِ بهذا الخبرِ، ولِمَا فيه مِن تَشويقٍ إلى الاسمِ؛ لِيَتمكَّنَ مَضمونُ هذا الخبَرِ في الذِّهنِ أتمَّ تمكُّنٍ؛ لِما فيه مِنَ الغرابةِ والأهمِّيَّةِ [311] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/284). .
- ولَمَّا كان الأزواجُ أقرَبَ عَداوةً مِنَ الأولادِ، قَدَّمَهنَّ [312] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/129). . وقيل: قدَّمَهنَّ لِكَونِ العداوةِ تأتي مِن الأزواجِ قبْلَ الأولادِ غالبًا، ثمَّ يتأثَّرُ بهِنَّ الأولادُ [313] يُنظر: ((تفسير الشعراوي)) (8/4672). .
- والإخبارُ عن بعضِ الأزواجِ والأولادِ بأنَّهم عدُوٌّ يجوزُ أن يُحمَلَ على الحقيقةِ، ويجوزُ أنْ يكونَ على معنى التَّشبيهِ البليغِ، أي: كالعدُوِّ في المُعامَلةِ بما هو مِن شأنِ مُعامَلةِ الأعداءِ، كما قيلَ في المثَلِ: يفعَلُ الجاهلُ بنفْسِه ما يفعَلُ العدُوُّ بعدُوِّهِ [314] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/284). .
- وعُطِفَ على قولِه: فَاحْذَرُوهُمْ جُملةُ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا إلى آخِرِها عَطْفَ الاحتِراسِ؛ لأنَّه إذا كان العفوُ مطلوبًا محبوبًا إلى اللهِ تعالَى -وهو لا يكونُ إلَّا بعْدَ حصولِ الذَّنْبِ-، فإنَّ عدمَ المؤاخَذةِ على مُجرَّدِ ظنِّ العداوةِ أجدَرُ بالطَّلَبِ، ففُهِمَ النَّهيُ عن مُعامَلةِ الأزواجِ والأبناءِ مُعامَلةَ الأعداءِ مِن أجْلِ إيجاسِ العداوةِ، بلِ المقصودُ مِنَ التَّحذيرِ التَّوقِّي، وأخْذُ الحَيْطةِ، لا ابتِداءُ المؤاخَذةِ [315] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/284). .
- قولُه: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا العفوُ: ترْكُ المُعاقَبةِ على الذَّنْبِ بعْدَ الاستِعدادِ لها، ولو مع توبيخٍ، والصَّفحُ: الإعراضُ عن المذنِبِ، أي: ترْكُ عِقابِه على ذنْبِه دونَ التَّوبيخِ، والغَفْرُ: سترُ الذَّنْبِ، وعدَمُ إشاعتِه، والجمعُ بَيْنَها هنا إيماءٌ إلى تراتُبِ آثارِ هذِه العداوةِ، وما تَقتضيهِ آثارُها مِن هذِه المعامَلاتِ الثَّلاثِ [316] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/285). ويُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/219). قال البِقاعي: (وَإِنْ تَعْفُوا أي: تُوقِعوا المُجاوَزةَ عن ذُنوبِهم بعدمِ العِقابِ عليها؛ فإنَّه لا فائدةَ في ذلك؛ لأنَّ مَن طُبِع على شيءٍ لا يَرجِعُ، وإنَّما النَّافعُ الحذَرُ الَّذي أرشد إليه سُبحانَه لئلَّا يكونَ سببًا لـ «لو» المَنهيِّ عنه. ولَمَّا كان الرُّجوعُ عن الحُظوظِ صعبًا جدًّا، أكَّد سُبحانَه فقال: وَتَصْفَحُوا أي: بالإعراضِ عن المُقابَلةِ بالتَّثريبِ باللِّسانِ وَتَغْفِرُوا أي: بأن تَستُروا ذُنوبَهم سترًا تامًّا شاملًا للعَينِ والأثَرِ، بالتَّجاوُزِ بعْدَ تركِ العِقابِ عن العِتابِ). ((نظم الدرر)) (20/130). قال الفيروزابادي: (وصَفَحْتُ عنه: أعرَضْتُ عن ذنْبِه وعن تثريبِه، وهو أبلَغُ مِن العفوِ، وقد يعفوُ الإنسانُ ولا يَصفَحُ). ((بصائر ذوي التمييز)) (3/421). ويُنظر: ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 486). وقال القرطبي: (العفوُ: ترْكُ المؤاخَذةِ بالذَّنْبِ. والصَّفحُ: إزالةُ أثَرِه مِن النَّفْسِ). ((تفسير القرطبي)) (2/71). . وقيل: يريدُ بالعفوِ عن الظَّالمِ، وبالصَّفحِ عن الجاهلِ، وبالغُفرانِ للمُسيءِ [317] يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/25). .
- وحُذِفَ مُتعلَّقُ الأفعالِ الثَّلاثةِ (تعفوا- تصفحوا- تغفروا)؛ لِظُهورِ أنَّ المرادَ مِن أولادِكُم وأزواجِكُم فيما يَصْدُرُ منهم ممَّا يُؤذيكُم. ويجوزُ أنْ يكونَ حذْفُ المتعلَّقِ لإرادةِ عُمومِ التَّرغيبِ في العَفوِ [318] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/285). .
- وجُملةُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ دليلُ جَوابِ الشَّرطِ المحذوفِ المُؤذِنُ بالتَّرغيبِ في العفوِ والصَّفحِ والغَفْرِ؛ فالتَّقديرُ: وإنْ تَعْفوا وتَصْفَحوا وتَغْفِروا يُحِبَّ اللهُ ذلك منكم؛ لأنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ، أي: للَّذينَ يَغفِرونَ ويَرحمونَ، وجمَعَ وَصْفُ رَحِيمٌ الخِصالَ الثَّلاثَ [319] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/285). .
2- قولُه تعالَى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ تَذييلٌ؛ لأنَّ فيه تَعميمَ أحوالِ الأولادِ بعْدَ أنْ ذُكِرَ حالٌ خاصٌّ ببعضِهم. وأُدْمِجَ في هذا التَّذييلِ الأموالُ؛ لأنَّها لم يَشمَلْها طلَبُ الحذَرِ، ولا وصْفُ العداوةِ. ووَجْهُ إدماجِ الأموالِ هنا أنَّ المُسلِمينَ كانوا قد أُصِيبوا في أموالِهِم مِن المُشرِكينَ، فغلَبوهُم على أموالِهم، ولم تُذْكَرِ الأموالُ في الآيةِ السَّابقةِ؛ لأنَّ الغرَضَ هو التَّحذيرُ مِن أشدِّ الأشياءِ اتِّصالًا بهم، وهي أزواجُهم وأولادُهم، ولأنَّ فِتنةَ هؤلاءِ مُضاعَفةٌ؛ لأنَّ الدَّاعيَ إليها يكونُ مِن أنفُسِهم، ومِن مَساعي الآخَرينَ وتسويلِهِم [320] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/192)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/285، 286). .
- وجُرِّدَ التَّذييلُ عن ذِكْرِ الأزواجِ هنا اكتِفاءً [321] الاكتفاءُ: هو أنْ يَقتضيَ المقامُ ذِكْرَ شيئَينِ بَيْنَهما تَلازُمٌ وارتباطٌ، فيُكتفَى بأحدِهما عن الآخَرِ؛ لنُكتةٍ بلاغيَّةٍ؛ ومثالُ ذلك قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل: 81] ؛ ففي قولِه تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ إيجازٌ بالحذفِ على سبيلِ الاكتِفاءِ، إذِ التَّقْديرُ: تَقيكُمُ الحَرَّ والبَرْدَ. يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/118)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 335)، ((البلاغة العربية)) للميداني (2/48). ؛ لدَلالةِ فِتنةِ الأولادِ عليهِنَّ بدَلالةِ فَحْوى الخِطابِ [322] فحْوَى الخطابِ: ويسمَّى تنبيهَ الخطابِ، ومفهومَ الموافقةِ، وهو إثباتُ حكمِ المنطوقِ به للمَسكوتِ عنه بطريقِ الأَولى؛ كقولِه تعالَى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء: 23] ، فيه تنبيهٌ على النَّهيِ عن ضربِهما وسَبِّهما؛ لأنَّ الضَّربَ والسَّبَّ أعظمُ مِن التَّأْفيفِ، وكذلك قولُه تعالَى: إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران: 75] ، فيه تنبيهٌ على أنَّه يُؤدِّي ما كان دونَ القنطارِ، ففي هذه الآيةِ نَبَّه بالأعلَى على الأدنَى، وفي الآيةِ الأولى نَبَّه بالأدنَى على الأعلَى. يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (1/233)، ((تقريب الوصول إلي علم الأصول)) لابن جزي (ص: 163). ؛ فإنَّ فِتنتَهنَّ أشدُّ مِن فتنةِ الأولادِ؛ لأنَّ جُرأتَهنَّ على التَّسويلِ لأزواجِهنَّ ما يُحاوِلْنَه منهم أشدُّ مِن جرأةِ الأولادِ [323] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/285، 286). . وقيل: كأنَّه سُبحانَه تَرَكَ ذِكْرَ الأزواجِ في الفِتنةِ؛ لأنَّ مِنهم مَن يكونُ صَلاحًا وعَونًا على الآخِرةِ [324] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/132). .
- والقصرُ المُستفادُ مِن (إنَّما) قصْرُ مَوصوفٍ على صفةٍ، أي: ليستْ أموالُكم وأولادُكم إلَّا فِتنةً، وهو قصرٌ ادِّعائيٌّ [325] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زَيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ؛ للمُبالَغةِ في كثرةِ مُلازَمةِ هذه الصِّفةِ للموصوفِ؛ إذْ يَنْدُرُ أنْ تخلُوَ أفرادُ هذَيْنِ النَّوعَينِ -وهُما أموالُ المُسلِمينَ وأولادُهم- عن الاتِّصافِ بالفِتنةِ لِمَن يتلبَّسُ بهما [326] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/286). .
- وقُدِّمَ ذِكْرُ الأموالِ على الأولادِ؛ لأنَّ الأموالَ لم يتقدَّمْ ذِكْرُها، بخِلافِ الأولادِ. أو قُدِّمَت الأموالُ على الأولادِ لأنَّها أعظمُ فِتنةً [327] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/192)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/285). . أو: لأنَّ الأموالَ لا تكادُ تُفارِقُها الفِتنةُ، وليسَتِ الأولادُ في اسْتِلزامِ الفِتنةِ مِثْلَها؛ فكانَ تقديمُها أولى [328] يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/261). .
- والإخبارُ بـ فِتْنَةٌ للمُبالَغةِ، والمرادُ: أنَّهم سبَبُ فتنةٍ، سواءً أسَعَوْا في فِعلِ الفَتْنِ أم لم يَسْعَوْا؛ فإنَّ الشُّغلَ بالمالِ والعنايةِ بالأولادِ فيه فِتنةٌ [329] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/286). .
- وجاءَ في بابِ العَداوةِ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ بحَرْفِ (مِنْ) الَّتي تَقْتَضي التَّبعيضَ، وفي الفِتنةِ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ حكَمَ بها على الأموالِ والأولادِ؛ وذلكَ لِغَلَبةِ الفِتنةِ بهِما [330] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/192). . فلمَّا ذكَرَ اللهُ العداوةَ أدخَلَ فيه (مِن) للتَّبعيضِ؛ لأنَّ كلَّهم ليسوا بأعداءٍ، ولم يَذكُرْ (مِن) في قولِه: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ؛ لأنَّها لا تخلو عن الفِتنةِ واشتِغالِ القلبِ [331] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/105). .
- وفي هذِه الآيةِ مِن خُصوصيَّاتِ عِلمِ المعاني التَّذييلُ والإدماجُ [332] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه تعالى بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). ، وكِلاهُما مِنَ الإطنابِ [333] الإطنابُ: هو زيادةُ اللَّفظِ على المعنى لفائدةٍ، أو هو تأديةُ المعنى بعبارةٍ زائدةٍ عن مُتعارَفِ أوساطِ البُلغاءِ؛ لفائدةِ تقويتِه وتوكيدِه. ويَنقسِمُ إلى: إطنابٍ بالبَسطِ، وإطنابٍ بالزِّيادةِ. يُنظر: ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 201)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/62). . والاكتفاءُ، وهو مِنَ الإيجازِ. وفيها الإخبارُ بالمصدرِ، وهو فِتنةٌ، والإخبارُ به مِنَ المبالَغةِ؛ فهذِه أربعةٌ مِنَ المُحسِّناتِ البديعيَّةِ. وفيها القَصرُ [334] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زَيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ، وفيها التَّعليلُ، وهو مِن خُصوصيَّاتِ الفصلِ، وقد يُعَدُّ مِن مُحسِّناتِ البَديعِ أيضًا؛ فتلكَ سِتُّ خصوصيَّاتٍ [335] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/286). ، على ما سبَق بيانُه.
- وقولُه: وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ عطفٌ على جُملةِ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ؛ لأنَّ قولَهُ: عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ كِنايةٌ عن الجزاءِ عن تلكَ الفِتنةِ لِمَن يُصابِرُ نفْسَه على مُراجَعةِ ما تُسوِّلُه مِن الانحِرافِ عن مَرضاةِ اللهِ إنْ كانَ في ذلك تسويلٌ [336] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/287). .
3- قولُه تعالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
- قولُه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ الفاءُ فصيحةٌ وتفريعٌ على ما تقدَّمَ، أي: إذا علِمْتُم هذا فاتَّقُوا اللهَ فيما يجِبُ مِنَ التَّقْوى في مُعامَلةِ الأولادِ والأزواجِ، ومصارِفِ الأموالِ، فلا يصُدَّكُم حُبُّ ذلكَ والشغلُ به عن الواجباتِ، ولا يُخرِجْكُم الغضبُ ونَحْوُه عن حدِّ العدلِ المأمورِ به، ولا حُبُّ المالِ عن أداءِ حُقوقِ الأموالِ، وعن طلَبِها مِن وُجوهِ الحلالِ؛ فالأمرُ بالتَّقْوى شامِلٌ للتَّحذيرِ، وللتَّرغيبِ في العفْوِ، ولِما عَدا ذلك [337] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/287). .
- وحذْفُ مُتعلَّقِ (اتَّقُوا)؛ لقَصدِ تَعميمِ ما يتعلَّقُ بالتَّقوى مِن جميعِ الأحوالِ، وبذلكَ يكونُ هذا الكلامُ كالتَّذييلِ؛ لأنَّ مضمونَه أعمُّ مِن مضمونِ ما قَبْلَه [338] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/287). .
- و(مَا) في قولِه: مَا اسْتَطَعْتُمْ مَصدريَّةٌ ظرفيَّةٌ، أي: مُدَّةَ استِطاعتِكُم؛ لِيَعُمَّ الأزمانَ كلَّها، ويعُمَّ الأحوالَ تبعًا لعُمومِ الأزمانِ، ويعُمَّ الاستِطاعاتِ، فلا يَتخَلَّوْا عن التَّقوى في شيءٍ مِنَ الأزمانِ، وجُعِلَتِ الأزمانُ ظرفًا للاستِطاعةِ؛ لئَلَّا يُقصِّروا بالتَّفريطِ في شَيءٍ يَستطيعونَه فيما أُمِروا بالتَّقوى في شأنِه ما لم يَخرُجْ عن حدِّ الاستطاعةِ إلى حدِّ المشَقَّةِ، فليس في قولِه: مَا اسْتَطَعْتُمْ تَخفيفٌ ولا تشديدٌ، ولكنَّهُ عدلٌ وإنصافٌ، ففيه ما عليهم، وفيه ما لَهم [339] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/287، 288). .
- وعطْفُ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا على قولِه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مِن عطْفِ الخاصِّ على العامِّ؛ للاهتِمامِ به، ولأنَّ التَّقْوى تَتبادرُ في ترْكِ المنهيَّاتِ؛ فإنَّها مُشتقَّةٌ مِن (وَقَى)، فتَقْوى اللهِ أنْ يَقيَ المرءُ نفْسَه ممَّا نهاهُ اللهُ عنه، ولَمَّا كان ترْكُ المأموراتِ يَؤُولُ إلى إتيانِ المَنهيَّاتِ -لأنَّ ترْكَ الأمرِ منهيٌّ عنه-؛ كان التَّصريحُ به بخُصوصِه اهتمامًا بكِلا الأمْرَينِ لِتَحصُلَ حقيقةُ التَّقوى الشَّرعيَّةِ، وهي اجتِنابُ المنهيَّاتِ، وامتثالُ المأموراتِ [340] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/288). .
- وعطْفُ وَأَنْفِقُوا تخصيصٌ بَعْدَ تخصيصٍ؛ فإنَّ الإنفاقَ ممَّا أمَرَ اللهُ به، فهو مِنَ المأموراتِ، وصيغةُ الأمرِ تشمَلُ واجبَ الإنفاقِ والمندوبَ، فلَمَّا كان الإنفاقُ شَديدًا، أكَّدَ أمْرَه بتَخصيصِه بالذِّكرِ [341] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/133). .
- وخَيْرًا مَنصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: وأْتُوا خيرًا لأنفُسِكُم، أو على إضمارِ (يَكُنْ) فيكونُ خبرًا، أو على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ دلَّ عليه (أَنْفِقُوا)، والتَّقديرُ: إنفاقًا خيرًا لأنفُسِكُم، وافعَلوا ما هو خيرٌ لها وأنفَعُ، وهذا تأكيدٌ للحثِّ على امتِثالِ هذِه الأوامِرِ، وبيانٌ لأنَّ هذِه الأمورَ خيرٌ لأنفُسِكُم مِن الأموالِ والأولادِ، وما أنتُم عاكِفونَ عليه مِن حُبِّ الشَّهواتِ وزخارِفِ الدُّنيا؛ فيكونُ كالخاتمةِ لسائرِ الأوامرِ السَّابقةِ، وكالبيانِ للتَّرجيحِ على ما اعتقَدوا فيه الخيرَ مِنَ الأموالِ والأولادِ [342] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/551)، ((تفسير البيضاوي)) (5/219)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/461)، ((تفسير أبي حيان)) (10/192، 193)، ((تفسير أبي السعود)) (8/259)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/289). .
- وجُملةُ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ تَذييلٌ [343] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/289). .
- قولُه: فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ لَمَّا كانَ وِقايةُ النَّفْسِ مِن الشُّحِّ فلاحًا عظيمًا، جِيءَ في جانبِه بصيغةِ الحَصرِ بطريقةِ تَعريفِ المسنَدِ، وهو قَصرُ جِنسِ المُفلِحينَ على جِنسِ الَّذينَ وُقُوا شُحَّ أنفُسِهِم، وهو قَصرٌ ادِّعائيٌّ [344] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زَيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ؛ للمُبالَغةِ في تَحقيقِ وَصْفِ المُفلِحينَ الَّذينَ وُقُوا شُحَّ أنفُسِهم، نُزِّلَ فلاحُ غيرِهم بمَنزِلةِ العدمِ [345] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/289). .
4- قولُه تعالَى: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ استِئنافٌ بيانيٌّ ناشئٌ عن قولِه تعالى: وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ [التغابن: 16] ؛ فإنَّ مُضاعَفةَ الجزاءِ على الإنفاقِ مع المغفرةِ خَيرٌ عظيمٌ، وبهذا الموقعِ يعلَمُ السَّامعُ أنَّ القرضِ أُطْلِقَ على الإنفاقِ المأمورِ به، والمقصودُ الاعتناءُ بفَضلِ الإنفاقِ المأمورِ به اهتمامًا مُكرَّرًا، فبَعْدَ أنْ جُعِل خيرًا جُعِل سببَ الفلاحِ، وعُرِّفَ بأنَّه قرْضٌ مِنَ العبدِ لربِّه، وكفَى بهذا ترغيبًا وتلَطُّفًا في الطَّلبِ والاستِدعاءِ إلى القرضِ؛ إذْ جُعِلَ المُنفِقُ كأنَّه يُعطِي اللهَ تعالَى مالًا، وذلك مِن معنى الإحسانِ في مُعامَلةِ العبدِ ربَّه [346] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/551)، ((تفسير أبي حيان)) (10/193)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/290). .
- ولَمَّا أمَرَ بالإنفاقِ أكَّدَه بقولِه: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا، ورتَّبَ عليه تضعيفَ القَرضِ، وغُفرانَ الذُّنوبِ، وفي لفظِ المُضاعَفةِ تأكيدٌ للبَذْلِ لوجهِ اللهِ تعالَى [347] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/193). .
- قولُه: وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ الشَّكورُ: فَعولٌ بمعنى فاعِلٍ مُبالَغةً، أي: كثيرُ الشُّكرِ، وأُطْلِقَ الشُّكرُ فيه على الجزاءِ بالخَيرِ على فِعلِ الصَّالحاتِ؛ تشبيهًا لفِعلِ المتفضِّلِ بالجزاءِ بشُكرِ المُنعَمِ عليه على نِعمةٍ، ولا نِعمةَ على اللهِ فيما يفعَلُه عِبادُه مِن الصَّالحاتِ؛ فإنَّما نَفْعُها لأنفُسِهم، ولكنَّ اللهَ تفضَّلَ بذلكَ حثًّا على صلاحِهِم، فرتَّبَ لهُمُ الثَّوابَ بالنَّعيمِ على تزكيةِ أنفُسِهم، وتلطَّفَ لهم فسمَّى ذلكَ الثَّوابَ شُكرًا، وجعَلَ نفْسَه شاكرًا، وقد أومَأَ إلى هذا المَقصدِ إتْباعُ صِفةِ شَكُورٌ بصِفةِ حَلِيمٌ؛ تنبيهًا على أنَّ ذلك مِن حِلْمِه بعبادِه دونَ حقٍّ لهم عليه سُبحانَه [348] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/290، 291). .
- وأيضًا أتْبَعَ جوابَيِ الشَّرطِ بوصفَينِ: شَكُورٌ حَلِيمٌ، أحَدُهما عائدٌ إلى المُضاعَفةِ؛ إذْ شُكرُه تعالَى  مُقابِلٌ للمُضاعَفةِ، وحِلْمُه مُقابِلٌ للغُفرانِ [349] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/193). .
5- قولُه تعالَى: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
- وَصْفُ اللهِ بأنَّه عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تَتميمٌ للتَّذكيرِ بعَظَمةِ اللهِ تعالَى، مع مُناسَبتِها للتَّرغيبِ والتَّرهيبِ اللَّذَيْنِ اشتمَلَتْ عليهِما الآياتُ السَّابقةُ كلُّها؛ لأنَّ العالِمَ بالأفعالِ ظاهِرِها وخَفِيِّها لا يُفِيتُ شيئًا مِنَ الجزاءِ عليها بما رتَّبَ لها، ولأنَّ العزيزَ لا يُعجِزُه شيءٌ [350] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/291). .
- وقولُه: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صِفَتا مُبالَغةٍ، أي: المُبالِغُ في القُدرةِ والحِكمةِ [351] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/259). ؛ فالحَكيمُ: الموصوفُ بالحِكمةِ، لا يَدَعُ مُعامَلةَ النَّاسِ بما تَقتضيهِ الحِكمةُ مِن وَضْعِ الأشياءِ مَواضِعَها، ونَوْطِ الأمورِ بما يُناسِبُ حَقائقَها، والحكيمُ فَعيلٌ بمعنى المُحكِمِ، أي: المُتقِنِ في صُنْعِه ومُعامَلتِه، وهما معًا مِن صِفاتِه تعالَى؛ فهو وصْفٌ جامِعٌ للمعنيَيْنِ [352] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/291). .