موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيتان (42-43)

ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ

غريب الكلمات:

غِلٍّ: أيْ: عَداوَةٍ وشَحْناءَ، والغِلُّ: الضِّغْنُ يَنْغَلُّ في الصَّدرِ، والْحَسَدُ أيضًا، وأصلُ (غلل): يَدُلُّ عَلى تخلُّلِ شيءٍ، وثَباتِ شيءٍ [506] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 355)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/376، 377)، ((المفردات)) للراغب (ص: 610). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ تَعالى أنَّ الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالِحاتِ- وَلا يُكلِّفُ سُبحانَه نَفسًا إلَّا ما تَستَطيعُه- هم أهلُ الجنَّةِ، ماكِثونَ فيها أبدًا.
كما يُخبِرُ تَعالى أنَّه نزَعَ مِن صُدورِ أهلِ الجَنَّةِ الأحقادَ والبَغْضاءَ والكَراهيةَ والحسَدَ، تَجْري مِن تَحتِهِمُ الأَنهارُ، وقَالوا: الحَمْدُ للهِ الَّذي وفَّقَنا للإيمانِ والعَملِ الصَّالحِ الَّذي أوصَلَنا لِهذا النَّعيمِ المُقيمِ، وما كُنَّا لِنُوفَّقَ لَولا توفيقُه تَعالى لَنا، ولَقد جاءَت رسُلُ ربِّنا بالحَقِّ، ويُنادَى أهلُ الجنَّةِ: أنَّ هذه الجَنَّةَ أُورِثتُموها بسَببِ إيمانِكُم وعمَلِكُمُ الصَّالحِ.

تفسير الآيتين:

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا استَوْفى اللهُ تعالى الكَلامَ في الإِنْذارِ والوَعيدِ للمُكذِّبينَ؛ أعقَبَه بالبِشارَةِ والوَعدِ لِلمُؤمِنينَ المُصدِّقينَ؛ وذَلك عَلى عادَةِ القُرْآنِ في تَعقيب أحَدِ الغرَضَينِ بالآخَرِ [507] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/401)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/129). ، فقال تعالى:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)
أي: والَّذين صدَّقوا وأقرُّوا وانقادوا لِمَا وجَب عليهِمُ الإيمانُ به، وعَمِلوا ما أمَرَهمُ اللهُ تعالى به، وتَرَكوا ما نَهاهُم عنه- ونَحنُ لَا نُكلِّفُ أحَدًا شَيئًا مِنَ الِاعْتِقاداتِ والأَعْمالِ إلَّا مَا يَقْدِرُ عَليهِ ولا يَعْجِزُ عَنه- هُم أَهلُ الجنَّةِ دُونَ غَيرِهم، وهُم فيها يُنعَّمونَ، ماكِثونَ أبَدًا لا يَخرُجونَ [508] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/197)، ((البسيط)) للواحدي (9/136)، ((تفسير ابن كثير)) (3/415)، ((تفسير السعدي)) (ص: 289)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/258). قال الواحديُّ: (وُسعُ الإنسانِ: ما يقدِرُ عليه، وليس معنى الوُسعِ بذلُ المجهودِ وأقصى الطَّاقة، واللهُ تعالى لم يكَلِّفِ العبادَ ما يشُقُّ ويتعَذَّرُ عليهم، ولكِنَّه كلَّفَهم ما يُطيقونَ، ولا يعجِزونَ عنه). ((الوسيط)) (2/368). وقال الرازي: (معنى الوُسعِ ما يَقدِرُ الإنسانُ عليه في حالِ السَّعةِ والسُّهولة، لا في حالِ الضِّيقِ والشِّدَّة.. وأما أقصى الطَّاقة يُسمَّى جُهدًا لا وُسعًا). ((تفسير الرازي)) (14/242). .
كَما قال اللهُ تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286] .
وقال تَبارك وتعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق: 7] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] .
وقال سُبحانه: يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] .
وقالَ تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] .
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ
أيْ: قَلَعْنا وأزَلْنا مِن صُدورِ أَهْلِ الجنَّةِ الأَحْقادَ والبَغْضاءَ والكَراهِيةَ والحسَدَ الَّذي كان بَينَهم في الدُّنيا؛ حتَّى يَكونوا في الجنَّةِ إِخْوانًا مُتَحابِّينَ، ومَع أنَّ مَنازِلَهم فيها مُتفاوِتةٌ، إلَّا أنَّه لا يَحْسُدُ أحَدٌ مِنهم أحَدًا عَلى ارتِفاعِ مَنزِلتِه عَليه [509] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/198)، ((الوسيط)) للواحدي (2/368)، ((تفسير الرازي)) (14/242 - 243)، ((تفسير ابن كثير)) (3/415)، ((تفسير السعدي)) (ص: 289)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/261). .
قال تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر: 47] .
وعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِي الله عنه، قال: قالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيه وسلَّم: ((يَخْلُصُ المؤمنونَ مِنَ النَّارِ، فيُحْبَسونَ على قَنطَرةٍ [510] القَنطرةُ: الصِّراطُ المَمدودُ. ينظر: ((مرقاة المفاتيح)) للملا الهروي (8/3562). بينَ الجنَّةِ والنَّارِ، فيُقَصُّ [511] فيُقَصُّ: يُقَالُ: أقَصَّه الحاكمُ يُقِصُّه إذا مَكَّنه مِن أخذِ القِصاص، وهو أنْ يفعلَ به مِثْلَ فِعْله. ينظر: ((النهاية)) لابن الأثير (4/72). لبَعضِهم مِن بَعضٍ مَظالِمُ كانت بينَهم في الدُّنيا، حتَّى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذِن لهم في دُخول الجنَّةِ، فوَالَّذي نَفسُ محمَّدٍ بيَدِه، لأحَدُهم أهدى بمَنزلِه في الجنَّةِ مِنه بمَنزلِه كان في الدُّنيا )) [512] رواه البخاري (6535). .
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ
أيْ: تَجْري أَنهارُ الجنَّةِ بينَ أَيْديهِم، وهُم يرَوْنها مِنْ عُلْوٍ، تَجري مِن تَحتِ بَساتينِهِم وقُصورِهم [513] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/255)، ((البسيط)) للواحدي (11/130)، ((تفسير الشوكاني)) (2/486)، ((تفسير السعدي)) (ص: 289)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/132)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/264). .
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ
أيْ: وقالَ أهلُ الجنَّةِ حينَ أُدخِلوا الجنَّةَ، ورَأَوُا النَّعيمَ، وما صُرِفَ عَنهُم مِنَ العَذابِ المُهينِ: الحَمْدُ للهِ الَّذي وفَّقَنا للإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ الَّذي أكسَبَنا هذا النَّعيمَ، وما كُنَّا لِنُوفَّقَ لذَلِك لَولا أنْ وفَّقَنا اللهُ تَعالى إليه بفَضلِه ورَحمتِه [514] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/200)، ((الوسيط)) للواحدي (2/369)، ((تفسير ابن عطية)) (2/402)، ((تفسير السعدي)) (ص: 289)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/266). قال ابنُ عاشور: (وهذا القَولُ يَحتمِلُ أن يكونوا يقولونَه في خاصَّتِهم ونُفوسِهم، على معنى التقَرُّبِ إلى الله بِحَمدِه، ويحتمِلُ أن يكونوا يقولونَه بينهم في مجامِعِهم). ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/132). .
كَما قال تَعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [فاطر: 34-35] .
وقال سُبحانَه: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر: 74] .
وعن أبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنْه، قال: قالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيه وسلَّم: ((كلُّ أهلِ الجنَّةِ يَرى مَقْعدَه مِنَ النَّارِ فيَقولُ: لَولا أنَّ اللهَ هَدَاني! فيَكُونُ له شُكرًا، وكُلُّ أَهلِ النَّارِ يَرى مَقعَدَه مِنَ الجنَّةِ فيَقولُ: لو أنَّ اللهَ هَداني! فيَكونُ له حَسْرةً )) [515] أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (11390)، وأحمد (10652)، وابن أبي الدنيا في ((صفة النار)) (258)، والحاكم في ((المستدرك)) (3629). قال الحاكم في ((المستدرك)) (3629): صحيح على شرط الشيخين، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (402/10)، رجاله رجال الصحيح‏‏، وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (4514 ). .
وعَن أبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنْه، قال: قالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيه وسلَّم: ((لَن يُنجِّيَ أحَدًا مِنكُم عمَلُه. قالوا: ولا أنتَ يا رَسولَ اللهِ؟ قال: وَلا أنا، إلَّا أن يتَغمَّدَني اللهُ برَحمةٍ )) [516] رواه البخاري (6463) ومسلم (2816). .
لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ
أيْ: يَقولُ أهلُ الجنَّةِ حِينَ يرَوْنَ عِيانًا ما وعَدَهم به الرُّسلُ: لقَد جاءَتْنا في الدُّنيا رُسلُ ربِّنا بالحَقِّ الثَّابتِ الَّذي لا شَكَّ فيه ولا مِرْيةَ [517] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/202)، ((تفسير الرازي)) (14/244)، ((تفسير السعدي)) (ص: 289)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/267). .
وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
أيْ: ويُقالُ لأَهلِ الجنَّةِ [518] قال الرازي: (ذلك النداءُ إمَّا أن يكونَ مِنَ اللهِ تعالى، أو أن يكونَ مِنَ الملائكةِ، والأولى أن يكونَ المُنادي هو الله سبحانه). ((تفسير الرازي)) (14/244). : هذه الجنَّةُ أُوتيتُموها مِيراثًا مِنَ الكُفَّارِ؛ بسَببِ إيمانِكُم وكُفرِهم، وطاعَتِكم وعِصْيانِهم، فنِلْتُم بذلك رَحمةَ اللهِ فأدخَلَكم جنَّتَه، وبوَّأَكم فيها مَنازِلَ الكُفَّارِ الَّتي كانَت مِن نَصيبِهم، لو أنَّهم آمَنوا وعَمِلوا الصَّالِحاتِ [519] وهذا القَولُ اختيارُ ابنِ جريرٍ، والواحدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/202)، ((الوسيط)) للواحدي (2/369). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن كثير)) (3/416)، ((تفسير السعدي)) (ص: 289). قال الرازي: (أُورِثْتُموها فيه قولانِ: القَولُ الأوَّلُ: وهو قولُ أهلِ المعاني: أنَّ معناه: صارَتْ إليكم كما يصيرُ الميراثُ إلى أهْلِه، والإرثُ قد يُستعمَلُ في اللُّغةِ، ولا يُرادُ به زَوالُ المُلكِ عن الميِّتِ إلى الحيِّ، كما يُقالُ: هذا العمَلُ يُورِثُك الشَّرَفَ، ويُورِثُك العارَ؛ أي: يُصَيِّرُك إليه، ومنهم مَن يقولُ: إنَّهم أُعْطُوا تلك المنازِلَ مِن غَيرِ تَعَبٍ في الحالِ، فصار شبيهًا بالميراثِ. والقولُ الثاني: أنَّ أهلَ الجنَّةِ يُوَرَّثونَ منازِلَ أهلِ النَّارِ). ((تفسير الرازي)) (14/244). ، أَعْطاكُمُوها اللهُ عَطِيَّةً هَنيئةً، لا تَعَبَ فيها ولا مُنازعَةَ [520] وهذا اختيارُ ابنِ عاشورٍ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/134). ، ويُبْقيكم فيها في أكمَلِ نَعيمٍ وسُرورٍ خالدين، كما يبقَى على الوارِثِ مالُ المَوروثِ [521] وهذا اختيارُ الشِّنقيطيِّ. يُنظر: ((أضواء البيان)) (3/471-472).  .
كما قال تعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر: 74] .
وقال سُبحانه: أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون: 10 - 11] .
وعَن أبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عنه، قال: قالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيه وسلَّم: ((ما مِنكُم مِن أحَدٍ إلَّا له مَنزِلانِ: مَنزِلٌ في الجنَّةِ، ومنزلٌ في النَّارِ، فإذا ماتَ فدَخَلَ النَّارَ، وَرِثَ أهلُ الجنَّةِ مَنزِلَه، فذَلِك قولُه تَعالى: أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ [المؤمنون: 10] )) [522] أخرجه ابن ماجه (4341)، والبيهقي في ((البعث والنشور)) (241). صحح إسناده القرطبي في ((التذكرة)) (435 )، وابن حجر في ((فتح الباري)) (11/451)، وقال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (4/266): إسناده صحيح على شرط الشيخين، وصحح الحديث الألباني في ((صحيح الجامع)) (5799 ). .

الفوائد التربوية:

الجامِعونَ بينَ الإيمانِ والأَعمالِ الَّتي تَصلُح بها نَفسُ الإنسانِ، وتَزْكُو فتَكونُ أهْلًا لِلنَّعيمِ والرِّضْوانِ، هم أصحابُ الجنَّةِ الَّذين يُخلَّدونَ فيها أبَدًا؛ قال اللهً تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [523] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/374). .
يُنبِّه تعالى على أنَّ الإيمانَ والعملَ به سَهلٌ؛ لأنَّه تعالى قال: لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [524] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/415). ، وأنَّ الجنَّةَ- معَ عِظَمِ مَحلِّها- يُوصَلُ إليها بالعمَلِ السَّهلِ مِن غَيرِ تحمُّلِ الصَّعبِ [525] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/242)، ((تفسير أبي حيان)) (5/52). ، فقولُه تعالى: لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا؛ أيْ: بمِقْدارِ ما تسَعُه طاقَتُها، ولا يَعْسُرُ على قُدرتِها، فَعليها في هذه الحالِ أن تتَّقيَ اللهَ بحسَبِ استِطاعَتِها، وإذا عَجَزَت عن بعضِ الواجِباتِ الَّتي يَقدِرُ عليها غيرُها سقَطَت عَنها [526] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:289). .
لا سبَبَ في الوُصولِ إلى نَعيمِ اللهِ تَعالى غيرُ فَضلِه وكرَمِه في الأُولى والأُخْرى، فالمُهْتدِي مَن هَداه اللهُ تَعالى، وإنْ لَم يَهْدِه اللهُ تَعالى لَم يَهْتَدِ، قال تعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [527] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/243)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/402). .

الفوائد العلمية واللطائف :

قولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا: لَمَّا كان لفْظُ (الصَّالِحاتِ) عامًّا يَشمَلُ جميعَ الصَّالحاتِ الواجِبةِ والمستَحبَّةِ، وقد يَكونُ بعضُها غيرَ مَقدورٍ للعَبدِ؛ قال تعالى: لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، ففي هذه الجملةِ المعترضةِ رَفْعُ تَوَهُّمِ السَّامعِ أنَّ المكَلَّفينَ عَمِلوا جميعَ الصَّالحاتِ؛ المَقدورِ عليها والمَعجوزِ عنها- كما يُجِوِّزهُ أصحابُ تكليفِ ما لا يُطاقُ- فرُفِعَ هذا التوهُّمُ بجملةِ: لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا واعتُرِضَ بها بينَ المبتدأِ وخَبَرِه بما يُزيلُ الإشكالَ، ونظيرُه قَولُه تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [الأنعام152] ومن ذلك قَولُه تعالى: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ [528] يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (1/390)، ((تفسير السعدي)) (ص:289). قال الرازي: (أكثَرُ أصحابِ المعاني على أنَّ قَولَه تعالى: لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا اعتراضٌ وقَعَ بين المبتدأِ والخبَرِ، والتقديرُ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أولئك أصحابُ الجنَّة هم فيها خالِدونَ)، وإنَّما حَسُنَ وقوعُ هذا الكلامِ بين المبتدأِ والخبَرِ؛ لأنَّه مِن جِنسِ هذا الكلامِ؛ لأنه لَمَّا ذكَرَ عَمَلَهم الصَّالحَ، ذكر أنَّ ذلك العمَلَ في وُسعِهم غيرُ خارجٍ عن قُدرَتِهم). ((تفسير الرازي)) (14/242). ويُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (2/368). [النساء: 84].
نَستفيدُ مِن قولِ اللهِ تعالى: لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أنَّه لا واجِبَ معَ العَجْزِ، ولا مُحرَّمَ معَ الضَّرورةِ [529] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:289). .
قولُ الله تعالى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا قال: تِلْكُمْ؛ لأنَّهم وُعِدوا بِها في الدُّنيا، فكأنَّه قِيل لهم: هذه تِلْكمُ الَّتي وُعِدتُّم بها [530] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/244)، ((تفسير أبي حيان)) (5/54). .
قولُ الله تعالى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا، التَّعبيرُ بالإيراثِ يَدُلُّ على أنَّها عَطيَّةٌ بدونِ قَصدِ تَعاوُضٍ ولا تَعاقُدٍ، وأنَّها فَضلٌ محضٌ مِن اللهِ تعالى [531] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/134). .
في قَولِه تعالى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قيل: أُضيفَ العَمَلُ إليهم وشُكِرُوا عليه؛ لَمَّا اعتَرَفوا لله بنِعمَتِه عليهم بالجنَّةِ وبأسبابِها مِن الهِدايةِ، وحَمِدُوا اللهَ على ذلك كُلِّه [532] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (4/398). .
في قَولِه تعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ دلالةٌ على أنَّ الجنَّةَ والعَمَلَ؛ كِلاهما مِن فضْلِ اللهِ ورَحْمَتِه على عبادِه المؤمنينَ [533] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (4/398). .

بلاغة الآيتين:

قولُه: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَبَرٌ عَن وَالَّذِينَ آمَنُوا، وقولُه: لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا جملةٌ مُعترِضةٌ بين المسنَدِ إليه والمسنَدِ على طَريقةِ الإدْماجِ، وفائدَةُ هذا الإدْماجِ الارتِفاقُ بالمؤمنِينَ؛ لِأنَّه لَمَّا بَشَّرَهم بالجَنَّةِ على فِعلِ الصَّالحاتِ طَمْأنَ قُلوبَهم بأنْ لَا يُطْلَبوا مِنَ الأَعْمالِ الصَّالحةِ بِما يَخرُجُ عَنِ الطَّاقةِ، وأيضًا لِلتَّرغيبِ في اكْتِسابِ النَّعيمِ المُقيمِ بِما يَكونُ في وُسْعِهم، ويَسهُلُ عَليهم، وهو الإمكانُ الواسِعُ غيرُ الضَّيِّقِ مِنَ الإيمانِ والعَملِ الصَّالحِ [534] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/104)، ((تفسير البيضاوي)) (3/13)، ((تفسير أبي السعود)) (3/228)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/130). .
قولُه: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ دلَّ على قَصْرِ مُلازَمةِ الجنَّةِ عَليهِم دونَ غَيرِهم؛ ففيه تأييسٌ آخَرُ للمُشرِكينَ بحَيثُ قَوِيَت نصِّيَّةُ حِرمانِهم مِن الجنَّةِ ونَعيمِها [535] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/130). .
قولُه: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ فيه التَّعبيرُ عَنِ المستَقْبَلِ بلَفظِ الماضي وَنَزَعْنَا؛ للتَّنبيهِ على تَحقُّقِ وُقوعِه؛ أيْ: ونَنزِعُ ما في صُدورِهم مِن غلٍّ [536] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/131). .
واتِّساقُ النَّظْمِ يَقتَضي أن تَكونَ جُملةُ: وَنَزَعْنَا مُعتَرِضةً بينَ جُملةِ: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الأعراف: 42] ، وجُملَةِ: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ اعتِراضًا بُيِّنَ به حالُ نُفوسِهم في المُعامَلةِ في الجنَّةِ؛ لِيُقابِلَ الاعتِراضَ الَّذي أُدمِجَ في أَثْناءِ وَصْفِ عذابِ أهلِ النَّارِ، والمبيَّن به حالُ نُفوسِهم في المعامَلةِ بقَولِه: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا اعتراضًا بينَ قولِه: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ وقولِه: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا [537] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/131). .
قولُه: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ: فيه حذف المَفعولِ الثَّاني لكلٍّ من الفِعلينِ نَهْتَدِي وهَدَانَا؛ لِظُهورِ المُرادِ، أو لإِرادَةِ التَّعْميمِ [538] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/228). .
وفي قولِه: وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ تَوكيدُ النَّفيِ باللَّام [539] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/105)، ((تفسير البيضاوي)) (3/13)، ((تفسير أبي السعود)) (3/228). .
قولُه: لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ جملةٌ مُستأنَفةٌ استِئْنافًا ابتدائيًّا؛ لصُدورها عنِ ابتِهاجِ نُفوسِهِم واغتِباطِهم بما جاءَتْهم به الرُّسلُ، فجَعَلوا يتَذكَّرون أسبابَ هِدايتِهم، ويَعتَبِرون بذَلك ويَغْتَبِطون [540] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/133). .
وتأكيدُ الفِعلِ بلَامِ القسَمِ وبـ(قَدْ) في قولِه: لَقَدْ معَ أنَّهم غيرُ مُنكِرينَ لِمَجيءِ الرُّسلِ: إمَّا لأنَّه كِنايةٌ عَنِ الإعجابِ بِمُطابَقةِ ما وعَدَهم به الرُّسلُ مِنَ النَّعيمِ لِمَا وجَدوه، وإمَّا لأنَّهم أَرادوا بقَولهِم هذا الثَّناءَ على الرُّسلِ، والشَّهادةَ بصِدْقِهم جَمْعًا مع الثَّناءِ على اللهِ، فأَتَوْا بالخبَرِ في صورةِ الشَّهادةِ المؤكَّدةِ الَّتي لا تَردُّدَ فيها [541] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/133). .
قولُه: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيه تَشْبيهُ أهلِ الجنَّةِ وأهلِ النَّارِ بالوارِثِ والمَوْروثِ عنه؛ لأنَّ اللهَ خلَقَ في الجنَّةِ مَنازلَ لِلكُفَّارِ، بتَقْديرِ إيمانِهم، فمَنْ لم يُؤمِنْ مِنهم جُعِلَ مَنزلُه لأهلِ الجنَّةِ، أو لأنَّ دُخولَ الجنَّةِ لا يَكونُ إلَّا برَحْمةِ اللهِ تَعالى لا بعَملٍ، فأشبَهَ الميراثَ [542] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (1/192). .
وباءُ السَّبَبيَّةِ في قولِه: بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اقتَضَتِ الَّذي أَعْطاهُم مَنازِلَ الجنَّةِ؛ أَرادَ به شُكرَ أَعْمالِهم وثَوابَها مِن غَيرِ قَصدِ تَعاوُضٍ ولا تَقابُلٍ، فجَعَلها كالشَّيءِ الَّذي استَحقَّه العامِلُ عِوضًا عن عمَلِه [543] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/135). .