موسوعة التفسير

سورةُ الحِجْرِ
الآيات (45-50)

ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ

غريب الكلمات :

غِلٍّ: أي: عداوةٍ وشحناءَ، وأصلُ (غلل) يدلُّ على تَخَلُّلِ شيءٍ، وثباتِ شيءٍ، كالشَّيءِ يُغْرَزُ [303]  يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 355)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/375)، ((المفردات)) للراغب (ص: 610)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 206). .
نَصَبٌ: أي: إعياءٌ وتعَبٌ [304] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 466)، ((البسيط)) للواحدي (12/614)، ((المفردات)) للراغب (ص: 807). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: إنَّ المتقينَ في بساتينَ وعُيونٍ مِثْل عُيونِ الماءِ والخَمرِ وغير ذلك، يُقالُ لهم: ادخُلوا هذه الجنَّاتِ مُسَلَّمًا عليكم، سالِمينَ مِن كُلِّ سُوءٍ، آمنينَ مِن الموتِ والعذابِ، ونزَعْنا ما في قُلوبِهم مِن عَداوةٍ وحِقدٍ مما كان في الدنيا، إخوانًا في الجنَّةِ مُتحابِّينَ، يجلِسونَ على الأسِرَّة بعضُهم في مقابِلِ بَعضٍ، لا يُصيبُهم فيها تعَبٌ ولا مَشقَّةٌ، وهم فيها خالدون أبدًا، لا يخرجونَ منها.
ثم يأمر الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يخبرَ العبادَ أنَّه سبحانه هو الغفورُ للتَّائبينَ، الرَّحيمُ بهم، وأنَّ عذابَه هو العذابُ المُوجِعُ المُؤلِمُ للمُصِرِّينَ على الكفرِ والمعاصي.

تفسير الآيات:

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ ما أعَدَّ لأهلِ النَّارِ؛ ذكَرَ ما أعدَّ لأهلِ الجنَّةِ؛ لِيَظهرَ تبايُنُ ما بينَ الفَريقينِ [305] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/482). .
وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذكَرَ الكافرينَ، وما جرَّهم إلى الضَّلالِ، وجرَّأهم على قبائِحِ الأعمالِ؛ ذكَرَ المُخلَصينَ [306] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/62). ، فقال:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45).
أي: إنَّ الذين اتَّقَوا اللهَ تعالى بامتثالِ ما أمَرَ، واجتنابِ ما نهَى، في بساتينَ- قد احتَوَت على جميعِ الأشجارِ، وأينَعَت فيها جميعُ الثِّمارِ- وعُيونٍ مِثْل عُيونِ الماءِ والخَمرِ، والسَّلسبيلِ والتَّسنيمِ، وغير ذلك [307] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/75)، ((تفسير القرطبي)) (10/32)، ((تفسير السعدي)) (ص: 432)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/278). قال الشوكاني: (قَولُه: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أي: المتَّقينَ للشِّركِ بالله، كما قاله جمهورُ الصَّحابةِ والتابعينَ، وقيل: هم الذين اتَّقَوا جميعَ المعاصي، فِي جَنَّاتٍ وهي: البساتينُ، وَعُيُونٍ وهي الأنهارُ. والتركيبُ يحتملُ أن يكونَ: لجميعِ المتقينَ جناتٌ وعيونٌ، أو: لكلِّ واحدٍ منهم جناتٌ وعيونٌ، أو: لكلِّ واحدٍ منهم جنةٌ وعينٌ). ((تفسير الشوكاني)) (3/160). .
كما قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الدخان: 51-52] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ [الذاريات: 15-16].
وقال سُبحانه: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 54-55].
وقال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [المرسلات: 41-44] .
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ (46).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كان المَنزِلُ لا يَحسُنُ إلَّا بالسَّلامةِ والأُنسِ والأمنِ؛ قال تعالى [308] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/63). :
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ (46).
أي: يُقالُ [309] قال الخازنُ: (القائلُ هو اللهُ تعالى، أو بعضُ ملائكتِه). ((تفسير الخازن)) (3/57). للمُتَّقينَ يومَ القيامةِ: ادخُلوا الجنَّةَ مُسَلَّمًا عليكم، سالِمينَ من كلِّ داءٍ وآفةٍ، آمِنينَ مِنَ الموتِ والعذابِ، والهُمومِ والغُمومِ والأمراضِ، وانقطاعِ النَّعيمِ أو نُقصانِه، ومِن سائِرِ المُكَدِّراتِ [310] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/75)، ((تفسير ابن عطية)) (3/363)، ((تفسير القرطبي)) (10/32)، ((تفسير ابن كثير)) (4/537)، ((تفسير السعدي)) (ص: 432). قال ابنُ عطيةَ: (و«السلامُ» هاهنا يحتملُ أن يكونَ السلامةَ، ويحتملُ أن يكونَ التحيةَ). ((تفسير ابن عطية)) (3/363). وقال الشوكاني: (معنى بِسَلَامٍ آمِنِينَ بسلامةٍ من الآفات، وأمْنٍ من المخافاتِ، أو مُسلِّمينَ على بعضِهم بعضًا، أو مُسلَّمًا عليهم من الملائكةِ، أو مِن الله عزَّ وجلَّ). ((تفسير الشوكاني)) (3/161). وقال ابنُ عاشور: (قولُه: ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ... السلامُ ظاهرٌ في التحيَّة؛ لتقييدِه بـ آمِنِينَ، ولو كان السلامُ مُرادًا به السلامةُ، لكان التقييدُ بـآمِنِينَ تَوكيدًا، وهو خلافُ الأصلِ). ((تفسير ابن عاشور)) (12/89)، ويُنظر: (14/55). وقال الرازي: (وقولُه: ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ المرادُ: ادخُلوا الجنَّةَ معَ السَّلامةِ مِنْ كلِّ الآفاتِ في الحالِ، ومعَ القطعِ ببقاءِ هذه السَّلامةِ، والأمنِ مِنْ زوالِها). ((تفسير الرازي)) (19/148). وممن جمَع بينَ المعنيينِ: أي: سالمينَ، مسلَّمًا عليكم: ابنُ كثيرٍ، والبقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/537)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/63). .
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا كان الأُنسُ لا يَكمُلُ إلَّا بمَن هو مِن جنسِهم مع كمالِ المودَّةِ، وصَفاءِ القُلوبِ عن الكَدَرِ؛ قال [311] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/63). :
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ.
أي: واقتَلَعْنا وأخرَجْنا ما في صُدورِ هؤلاء المتَّقينَ مِن الحِقدِ والبُغضِ والحَسَدِ، الذي كان بينَهم في الدُّنيا [312] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/75)، ((تفسير البغوي)) (3/60)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/121)، ((تفسير القرطبي)) (10/32)، ((تفسير السعدي)) (ص: 432)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/55). .
عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: ((يَخلُصُ المُؤمِنونَ مِن النَّارِ، فيُحبَسونَ على قَنطرةٍ [313] القَنطرةُ: الجسرُ، وهي عبارةٌ عن الصراطِ الممدودِ بينَ الجنةِ والنارِ. يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (5/527)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/3562). بين الجنَّةِ والنَّارِ، فيُقَصُّ [314] فيُقَصُّ: أي: يمكَّنُ صاحِبُ الحَقِّ مِن أخذِ القِصاصِ، وهو أن يفعلَ به مثلَ فِعلِه، من قتلٍ، أو قَطعٍ، أو ضربٍ أو جرحٍ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (4/72). لِبَعضِهم من بعضٍ مَظالِمُ كانت بينهم في الدُّنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذِنَ لهم في دُخولِ الجنَّة، فوالذي نَفسُ مُحمَّدٍ بِيَدِه، لَأحَدُهم أهدى بمَنزِلِه في الجنَّةِ منه بمَنزِلِه كان في الدُّنيا )) [315] رواه البخاري (6535).
إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ.
أي: حالَ كونِهم إخوانًا [316] قال القرطبي: (وإِخْوَانًا نُصِب على الحالِ مِن الْـمُتَّقِينَ،  أو مِن المضمَرِ فِي ادْخُلُوهَا، أو مِن المضمَرِ فِي آمِنِينَ، أو يكونُ حالًا مُقَدَّرَةً مِنَ الهاءِ والميمِ فِي صُدُورِهِمْ). ((تفسير القرطبي)) (10/33). ، يكونونَ على الأسِرَّةِ بعضُهم في مقابِلِ بَعضٍ، ينظُرونَ إلى وُجوهِ جُلَسائِهم، ولا يَنظُرُ بعضُهم إلى قَفا بعضٍ [317] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/80)، ((تفسير الثعلبي)) (5/343)، ((تفسير القرطبي)) (10/33)، ((تفسير السعدي)) (ص: 432)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/15، 279). .
لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48).
لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ.
أي: لا ينالُ المتَّقينَ في الجنَّةِ أيُّ تَعَبٍ أو مَشَقَّةٍ [318] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/81)، ((البسيط)) للواحدي (12/614)، ((تفسير القرطبي)) (10/34)، ((تفسير السعدي)) (ص: 432)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/279). .
كما قال تعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [فاطر: 34-35] .
وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ.
أي: وليس المتَّقونَ مِن الجنَّةِ بمُخرَجينَ، بل هم فيها دائِمونَ [319] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/81)، ((الهداية)) لمكي (6/3907)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/279). .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا [النساء: 57] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف: 107- 108] .
نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا تقَدَّمَ ذِكرُ ما في النَّارِ، وذِكرُ ما في الجنَّةِ؛ أكَّدَ تعالى تنبيهَ النَّاسِ، وتقريرَ ذلك، وتمكينَه في النَّفسِ [320] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/483). .
وأيضًا لَمَّا ذُكِرَ ما يُوجِبُ الرَّغبةَ والرَّهبةَ مِن مَفعولاتِ اللهِ مِن الجنَّةِ والنَّارِ؛ ذُكِرَ ما يُوجِبُ ذلك مِن أوصافِه [321] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:431). .
نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49).
أي: أخبِرْ- يا مُحمَّدُ- عبادي خبَرًا جازِمًا مُؤكَّدًا أنِّي أنا كثيرُ المَغفِرةِ لذُنوبِهم إذا تابُوا، فأستُرُ ذُنوبَهم وأتجاوَزُ عن مُؤاخَذتِهم، كثيرُ الرَّحمةِ بهم إذا استقاموا، ومِن رحمتي أنِّي لا أعذِّبهم على الذنوب بعد تَوبتِهم منها [322] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/81)، ((تفسير السمرقندي)) (2/257)، ((تفسير الشوكاني)) (3/161)، ((تفسير السعدي)) (ص: 432). .
وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا أمَرَ اللهُ- سُبحانَه وتعالى- رَسولَه بأنْ يُخبِرَ عِبادَه بتلك البِشارةِ العظيمةِ في الآيةِ السَّابقةِ؛ أمَرَه بأن يَذكُرَ لهم شيئًا ممَّا يتضَمَّنُ التَّخويفَ والتَّحذيرَ؛ حتى يجتَمِعَ الرَّجاءُ والخَوفُ، ويتقابلَ التَّبشيرُ والتَّحذيرُ، ليَكونوا راجينَ خائِفينَ، فقال [323] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/161). :
وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50).
أي: وأخبِرْ عبادي أيضًا أنَّ عذابي لِمَن أصرَّ على الكُفرِ والمعاصي، فلم يتُبْ منها، هو العذابُ المُوجِعُ الكثيرُ الإيلامِ؛ فلْيَحذَروا أسبابَ عَذابي، ولْيُقبِلوا على التَّوبةِ والإنابةِ إليَّ [324] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/81)، ((تفسير الشوكاني)) (3/161)، ((تفسير القاسمي)) (6/337)، ((تفسير السعدي)) (ص: 432). .
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لو يعلَمُ المؤمِنُ ما عند اللهِ مِن العُقوبةِ، ما طَمِعَ بجَنَّتِه أحَدٌ، ولو يعلَمُ الكافِرُ ما عندَ اللهِ مِن الرَّحمةِ، ما قَنَطَ مِن جَنَّتِه أحَدٌ )) [325] رواه البخاري (6469)، ومسلم (2755)، واللفظ له. .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ فيه أنَّ العبدَ ينبغي أن يكونَ قَلبُه دائِمًا بينَ الخَوفِ والرَّجاءِ، والرَّغبةِ والرَّهبةِ، فإذا نظَرَ إلى رحمةِ رَبِّه ومَغفِرتِه وجُودِه وإحسانِه؛ أحدَثَ له ذلك الرَّجاءَ والرَّغبةَ، وإذا نظَرَ إلى ذُنوبِه وتَقصيرِه في حقوقِ رَبِّه؛ أحدَثَ له الخَوفَ والرَّهبةَ والإقلاعَ عنها [326] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:431). .
2- قال الله تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ قال ابنُ عَطاءٍ: (هذه الآيةُ إرشادٌ له صلَّى الله عليه وسلَّم إلى كيفيَّةِ الإرشادِ، كأنَّه قيل: أقِمْ عبادي بينَ الخَوفِ والرَّجاءِ؛ ليصِحَّ لهم سبيلُ الاستقامةِ في الطَّاعةِ، فإنَّ مَن غلَبَ عليه رَجاؤه عطَّلَه، ومن غلَبَ عليه خَوفُه أقنَطَه) [327] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (7/330). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ فيه سُؤالٌ: أنَّه تعالى حكَمَ قبلَ هذه الآيةِ بأنَّهم في جنَّاتٍ وعُيونٍ في قولِه: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وإذا كانوا فيها فكيف يُمكِنُ أن يُقالَ لهم: ادخُلوها؟
والجوابُ فيه من أوجهٍ:
الوجه الأول: لعلَّ المرادَ به: قيلَ لهم قبل دُخولِهم فيها: ادخُلوها بسَلامٍ.
الوجه الثاني: لعلَّ المرادَ: لَمَّا مَلَكوا جنَّاتٍ كثيرةً، فكُلَّما أرادوا أن ينتَقِلوا من جنَّةٍ إلى أخرى، قيل لهم: ادخُلوها [328] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (19/147-148). .
الوجه الثالث: أنَّه جعَلَ ما يستقِرُّونَ فيه في الآخرةِ كأنَّهم مستقِرُّونَ فيه في الدُّنيا، ولذلك جاء: ادْخُلُوهَا على الأمرِ؛ لأنَّ مَن استقَرَّ في الشَّيءِ لا يُقالُ له: ادخُلْ فيه [329] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/482). .
2- قَولُ الله تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ أوَّلُ مَن يدخُلُ في هذا العُمومِ أصحابُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما شجَرَ بينهم من الحوادِثِ الدَّافعِ إليها اختلافُ الاجتهادِ في إقامةِ مَصالحِ المُسلِمينَ، والشِّدَّةُ في إقامةِ الحَقِّ على حسَبِ اجتهادِهم [330] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/55-56). .
3- قال الله تعالى: عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ دلَّ ذلك على تزاوُرِ أهلِ الجنَّةِ، واجتماعِهم، وحُسنِ أدَبِهم فيما بينهم؛ في كَونِ كُلٍّ منهم مُقابِلًا للآخَرِ، لا مُستدبِرًا له، متَّكِئينَ على تلك السُّرُرِ المُزَيَّنةِ بالفُرُشِ واللُّؤلؤِ وأنواعِ الجواهِرِ [331] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:431). .
4- قال الله تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ فأخبَرَ عن تلاقي قُلوبِهم، وتلاقي وُجوهِهم [332] يُنظر: ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 153). .
5- قَولُ الله تعالى: لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ هذه الآيةُ أنَصُّ آيةٍ في القُرآنِ على الخُلودِ [333] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/60)، ((تفسير ابن عادل)) (11/465). .
6- في قَولِه تعالى: وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ أنَّ الجنَّةَ مَن دخلَها لا يَخرُجُ منها [334] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - جزء عم)) (ص: 30). .
7- قيل: للثوابِ أربعُ شرائطَ:
- أن يكون منافعَ، وإليه الإشارةُ بقوله: فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ.
- مقرونةً بالتعظيمِ، وإليه الإشارةُ بقوله: ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ
- خالصةً عن مظانِّ الشوائبِ الرُّوحانيةِ، كالحقدِ، والحسدِ، والغلِّ، والجسمانيةِ، كالإعياءِ، والنَّصَبِ، وإليه الإشارةُ بقولِه: وَنَزَعْنَا... إلى لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ.
- دائمةً، وإليه الإشارةُ بقوله: وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [335] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/483). .
8- قال الله تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ قارِنْ بين هذه الآيةِ وبينَ قَولِه تعالى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 98] ، تَجِدْ بينَهما فرقًا؛ لأنَّ قَولَه في هذه الآيةِ: نَبِّئْ أمرٌ مِن اللهِ إلى الرَّسولِ بأن يُنَبِّئَ الخلقَ، وقُدِّمَ الوَصفُ بالمغفرةِ والرَّحمةِ على العذابِ الأليمِ؛ لأنَّ المقصودَ الإخبارُ عن صِفةِ الله عزَّ وجَلَّ، فقَدَّمَ الجانِبَ الذي فيه اللُّطفُ والإحسانُ، وآيةُ المائدةِ ذُكِرَت عَقيبَ أحكامٍ عَظيمةٍ، قد يُخِلُّ بها المرءُ، فقَدَّمَ فيها جانِبَ التَّهديدِ [336] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة المائدة)) (2/426). .
9- في قَولِه تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ دَلالةٌ على أنَّ المغفرةَ والرَّحمةَ هي مِن صِفاتِه المذكورةِ بأسمائِه، فهي مِن مُوجِبِ نفسِه المقدَّسَةِ ومُقتضاها ولوازِمها، وأمَّا العذابُ: فمِن مَخلوقاتِه، الذي خَلَقَه بحكمةٍ [337] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/272). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ... استئنافٌ ابتدائيٌّ، انتقالٌ مِن وعيدِ المُجرمينَ إلى بِشارةِ المُتَّقينَ على عادةِ القُرآنِ في التَّفنُّنِ [338] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/54). .
2- قوله تعالى: لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ
- قولُه: لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ المَسُّ كِنايةٌ عنِ الإصابةِ [339] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/56). .
- قولُه: وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ فيه تأكيدُ انتفاءِ الإخراجِ بدُخولِ الباءِ في بِمُخْرَجِينَ [340] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/483). .
3- قوله تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ فَذْلَكةُ [341]  الفَذْلكةُ: كلمةٌ منحوتةٌ كالبَسملةِ والحوقلةِ مِن قولِهم: (فذلك كذا)، أي: ذكرُ مُجمَلِ ما فُصِّل أولًا وخلاصتِه. وقد يُرادُ بالفذلكةِ النتيجةُ لِمَا سبَق مِن الكلامِ، والتفريعُ عليه، ومنها فذلكةُ الحساب، أي: مُجمَل تفاصيله، وإنهاؤه، والفراغُ منه، كقولِه تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بعدَ قوله: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقؤة: 196]. يُنظر: ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638 - 639). ما سبَقَ مِن الوعدِ والوعيدِ، وتقريرٌ له [342] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/213). .
- وهذا أيضًا تَصديرٌ لذِكْرِ القِصصِ الَّتي أُرِيدَ مِن التَّذكيرِ بها المَوعظةُ بما حَلَّ بأهلِها، وابتداءُ الكلامِ بفعْلِ الإنباءِ؛ لتشويقِ السَّامعينَ إلى ما بعدَه، والمقصودُ هو قولُه تعالى الآتي: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ، وإنَّما قُدِّمَ الأمْرُ بإعلامِ النَّاسِ بمغفرةِ اللهِ وعَذابِه؛ ابتداءً بالموعظةِ الأصليَّةِ قبْلَ الموعظةِ بجُزئيَّاتِ حوادِثِ الانتقامِ مِن المُعاندينَ، وإنجاءِ مَن بينهم مِن المُؤمنينَ؛ لأنَّ ذلك دائرٌ بينَ أثَرِ الغُفرانِ وبين أثَرِ العذابِ، وقُدِّمَت المَغفرةُ على العَذابِ؛ لسَبْقِ رحمتِه غضَبَه [343] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/57). .
- وفي قوله تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ترجيحُ جهةِ الخيرِ مِن جهةِ أمرِه تعالَى رسولَه بهذا التَّبليغِ، فكأنَّه إشهادٌ على نفسِه بالتزامِ المغفرةِ والرَّحمةِ، وكونُه أضافَ العبادَ إليه فهو تشريفٌ لهم، وتأكيدُ اسمِ (أنَّ) بقولِه: (أنا)، وإدخالُ (ال) على هاتينِ الصِّفتينِ، وكونُهما جاءَتا بصيغةِ المبالغةِ، والبداءةِ بالصِّفةِ السَّارَّةِ أوَّلًا وهي الغُفرانُ، وإتْباعُها بالصِّفةِ الَّتي نَشَأ عنها الغفرانُ وهي الرَّحمةُ [344]  يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/483). ، ولَمَّا ذكَرَ العذابَ لم يَقُلْ: (أنِّي أنا المعَذِّب)، وما وصَفَ نفسَه بذلك، بل قال: وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [345] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (19/149). ، وفي توصيفِ ذاتِه بالغُفرانِ والرَّحمةِ دونَ التَّعذيبِ تَرجيحُ الوَعدِ وتأكيدُه [346] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/213). .
- وضَميرُ (هو) في قولِه: وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ضَميرُ فصْلٍ يُفيدُ تأكيدَ الخبرِ [347] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/57). .