موسوعة التفسير

سورةُ الأنْبياءِ
الآيات (30-33)

ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ

غريب الكلمات:

رَتْقًا: أي: مُصْمَتتيْنِ، أو: مُنسَدَّتَينِ مُلتَئِمَتَينِ، والرتقُ: الضَّمُّ والالتِحامُ [328] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 285، 286)، ((تفسير ابن جرير)) (16/254)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (3/712)، ((المفردات)) للراغب (ص: 341)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 484). .
فَفَتَقْنَاهُمَا: أي: صَدَعْناهما، وفَرَجْناهما، والفَتقُ: الفَصلُ بين المتَّصِلَينِ، وهو ضِدُّ الرَّتقِ، وأصلُ (فتق): يدُلُّ على فَتحٍ في شَيءٍ [329] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/255)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/471)، ((المفردات)) للراغب (ص: 623). .
رَوَاسِيَ: أي: جبالًا ثوابِتَ، والرَّواسي: جمعُ راسيةٍ، وهي الثابتةُ، وأصلُ (رسي): يدُلُّ على ثباتٍ [330] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 242)، ((تفسير ابن جرير)) (16/261)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 239)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/394)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 178)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 250). .
تَمِيدَ: أي: تميلَ وتتحَرَّكَ، وأصلُ (ميد): يدُلُّ على حَرَكةٍ في شَيءٍ [331] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/261)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 145)، ((المفردات)) للراغب (ص: 782)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/288)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 294)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 319). .
فِجَاجًا: أي: مَسالِكَ وطُرُقًا، ومفردُه: فَجٌّ، وكلُّ فَتحٍ بينَ جَبَلينِ أو شَيئَينِ فهو فجٌّ، ويُستعمَلُ في الطَّريقِ الواسعِ، وأصلُ (فجج): يدُلُّ على تفتُّحٍ وانفِراجٍ [332] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 370)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/437)، ((المفردات)) للراغب (ص: 625)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 237)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 295)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 699). .
سُبُلًا: أي: طُرُقًا، جمعُ سبيلٍ، وسُمِّي الطَّريقُ بذلك؛ لامتِدادِه، والسَّبيلُ: الطَّريقُ الذي فيه سهولةٌ، وأصلُ (سبل): يدُلُّ على امتِدادِ شيءٍ [333] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/129)، ((الغريبين)) للهروي (3/861)، ((البسيط)) للواحدي (13/35، 62)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 395). قال الواحدي: (وقولُه تعالى: سُبُلًا تفسيرٌ للفِجاجِ، وبيانٌ له. وفائِدتُه أنَّ الفَجَّ في موضوعِ اللُّغةِ يجوزُ أنَّه لا يكونُ طريقًا نافذًا مَسلوكًا، فلمَّا ذَكَر الفِجاجَ بيَّن أنَّه جعَلَها سُبُلًا نافِذةً مَسلوكةً). ((البسيط)) (15/62). .
فَلَكٍ: الفَلَكُ: مَدارُ النُّجومِ الذي يضُمُّها، وأصلُ (فلك): يدُلُّ على استدارةٍ في شَيءٍ [334] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 365)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 362)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/452)، ((المفردات)) للراغب (ص: 645)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 237)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 295). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى: أولَمْ يعلَمْ هؤلاء الذين كَفَروا أنَّ السَّمَواتِ كانت مُصمَتةً لا تُمطِرُ، والأرضَ مُصمَتةً لا تُنبِتُ، فصَدَعْنا السَّماءَ فأمطَرَت، وشقَقَنا الأرضَ فأنبَتَت، وخلَقْنا من الماءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ. أفلا يؤمِنُ هؤلاء الجاحِدونَ فيُصَدِّقوا بما يُشاهِدونَه، ويُقِرُّوا باستِحقاقِ اللهِ وحْدَه للعبادةِ؟
وجعَلْنا في الأرضِ جِبالًا تُثَبِّتُها حتى لا تَضْطَرِبَ، وجعَلْنا فيها طُرُقًا واسِعةً؛ ليهتديَ الخَلقُ إلى السَّيرِ في الأرضِ والتنقُّلِ في البلدانِ؛ لتحصيلِ مَعايِشِهم، وليهتدوا إلى دلائلِ وحدانيَّةِ خالِقِهم وقدرتِه، وجعَلْنا السَّماءَ سَقفًا محفوظًا مِن السقوطِ عليهم، ومحفوظًا من الشَّياطينِ. والكُفَّارُ عن الاعتبارِ بآياتِ السَّماءِ غافِلونَ لاهونَ عن التَّفكُّرِ فيها.
واللهُ تعالى هو الذي خلق اللَّيلَ والنَّهارَ والشَّمسَ والقَمَرَ، ولكلٍّ منها فلَكٌ يجري فيه ويَسبَحُ.

تفسير الآيات:

أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30).
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا.
أي: أولَمْ يَنظُرِ الكُفَّارُ فيَعلَموا أنَّ السَّماءَ كانت مُصْمَتةً لا تُمطِرُ، والأرضَ كانت مُصمَتةً لا تُنبِتُ، فصَدَعْنا السَّماءَ فأمطَرَت، وشقَقْنا الأرضَ فأنبَتَتْ [335] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 286)، ((تفسير ابن جرير)) (16/254، 255، 259)، ((تفسير ابن عطية)) (4/80)، ((تفسير القرطبي)) (11/283، 284)، ((تفسير السعدي)) (ص: 522)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/141). قال الشنقيطي: (اعلمْ أنَّ العُلَماءَ اختلفوا في المرادِ بالرَّتقِ والفَتقِ في هذه الآيةِ على خمسةِ أقوالٍ، بعضُها في غايةِ السُّقوطِ، وواحِدٌ منها تدُلُّ له قرائِنُ مِن القرآنِ العظيمِ... وهو كونُهما كانتا رتقًا بمعنى أنَّ السَّماءَ لا ينزِلُ منها مطَرٌ، والأرضَ لا تُنبِتُ شَيئًا، ففَتَق اللهُ السَّماءَ بالمطَرِ، والأرضَ بالنَّباتِ، وقد دَلَّت عليه قرائِنُ مِن كتابِ الله تعالى: الأولى: أنَّ قَولَه تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا يدُلُّ على أنَّهم رأَوا ذلك؛ لأنَّ الأظهَرَ في «رأى» أنَّها بَصَريَّةٌ، والذي يَرَونه بأبصارِهم هو أنَّ السَّماءَ تكونُ لا ينزِلُ منها مطَرٌ، والأرضَ مَيِّتةٌ هامِدةٌ لا نباتَ فيها، فيُشاهِدونَ بأبصارِهم إنزالَ اللهِ المطَرَ، وإنباتَه به أنواعَ النَّباتِ. القرينةُ الثَّانيةُ: أنَّه أتبَعَ ذلك بقَولِه: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ، والظَّاهِرُ اتِّصالُ هذا الكلامِ بما قَبلَه، أي: وجعَلْنا من الماءِ الذي أنزَلْناه بفَتْقِنا السَّماءَ، وأنبَتْنا به أنواعَ النَّباتِ بفَتْقِنا الأرضَ: كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ. القرينةُ الثَّالثةُ: أنَّ هذا المعنى جاء مُوضَّحًا في آياتٍ أُخَرَ مِن كتابِ اللهِ تعالى؛ كقَولِه تعالى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ [الطارق: 11، 12]؛ لأنَّ المرادَ بالرَّجْعِ نُزولُ المطَرِ منها تارةً بعد أخرى، والمرادَ بالصَّدعِ انشقاقُ الأرضِ عن النَّباتِ، وكقَولِه تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا [عبس: 24 - 26] الآية). ((أضواء البيان)) (4/140). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/258). ونسب الألوسي هذا القول إلى أكثر المفسرين. يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (9/35). قال الألوسي: (والمرادُ بالسَّمَواتِ جِهةُ العُلُوِّ أو سماءُ الدُّنيا، والجَمعُ باعتبارِ الآفاقِ، أو من بابِ: «ثَوبٌ أخلاقٌ». وقيل: هو على ظاهِرِه، ولكُلٍّ مِن السَّمَواتِ مَدخَلٌ في المطَرِ). ((تفسير الألوسي)) (9/35). وقال الرسعني: (إن قيل: متى رأوهما رَتْقًا حتى قرَّرهم بذلك؟ قلتُ: قد رُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّ معناه: كانت السمَّاءُ رَتْقًا لا تُمطِرُ، وكانت الأرضُ رَتْقًا لا تُنبِتُ، فَفَتَقْنا هذه بالمطَرِ، وهذه بالنَّباتِ. وهذا قَولُ عطاءٍ، وعِكرمةَ، والضَّحَّاكِ، ومجاهدٍ في روايةٍ عنه. وهذا ممَّا رأَوه وشاهَدوه. فإنْ قيل: فما نصنَعُ بما رُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ، والحسَنِ، وسَعيدِ بنِ جُبَيرٍ، وقتادةَ: أنَّ المعنى: كانتا رتقًا مُلتصقَتَينِ، ففتَقَهما اللهُ عزَّ وجَلَّ... وهذا شيءٌ لم يَرَوه، فما وجهُ تقريرِهم به؟ قلتُ: الرؤيةُ هاهنا بمعنى: العِلمِ. فإنْ قيل: مِن أين عَلِموا ذلك؟  قلتُ: بما قَصَّ عليهم في القُرآنِ الذي هو مُعجِزٌ في نفْسِه، وجائِزٌ أن يكونَ العِلمُ بذلك ممَّا تناقَلوه وبَقِيَ في أيديهم مِنَ الشَّريعةِ الحنيفيَّةِ، أو مِمَّا سَمِعوه ووَعَوه من أهلِ الكتابِ). ((تفسير الرسعني)) (4/609). قال ابن عاشور: (والرَّتقُ يحتَمِلُ أن يرادَ به معانٍ تَنشأُ على محتَمَلاتِها معانٍ في الفَتْقِ؛ فإن اعتبَرْنا الرُّؤيةَ بصريةً فالرَّتقُ المشاهَدُ هو ما يُشاهِدُه الرَّائي من عدمِ تخَلُّلِ شَيءٍ بين أجزاءِ السَّمَواتِ وبين أجزاءِ الأرضِ، والفَتقُ هو ما يُشاهِدُه الرَّائي من ضِدِّ ذلك حين يرى المطَرَ نازِلًا من السَّماءِ، ويرى البَرْقَ يَلعَجُ منها، والصَّواعِقَ تَسقُطُ منها، فذلك فَتْقُها، وحين يرى انشِقاقَ الأرضِ بماءِ المطَرِ، وانبثاقَ النَّباتِ والشَّجرِ منها بعد جَفافِها، وكُلُّ ذلك مُشاهَدٌ مَرئيٌّ دالٌّ على تصَرُّفِ الخالقِ... وإن اعتبَرْنا الرُّؤيةَ علميَّةً احتَمَل أن يُرادَ بالرَّتقِ مِثلُ ما أُريدَ به على اعتبارِ كونِ الرُّؤيةِ بَصَريَّةً... واحتَمَل أن يرادَ بالرَّتقِ معانٍ غيرُ مُشاهدةٍ، ولكِنَّها ممَّا ينبغي طلَبُ العِلمِ به؛ لِما فيه من الدَّلائِلِ على عِظَمِ القُدرةِ وعلى الوحدانيَّةِ، فيَحتَمِلُ أن يرادَ بالرَّتقِ والفَتقِ حقيقتاهما، أي: الاتِّصالُ والانفِصالُ. ثمَّ هذا الاحتِمالُ يجوزُ أن يكونَ على معنى الجُملةِ، أي: كانت السَّمَواتُ والأرضُ رَتقًا واحِدًا، أي: كانتا كُتلةً واحِدةً، ثمَّ انفَصَلت السَّمَواتُ عن الأرضِ... ويجوزُ على هذا الاحتِمالِ أن يكونَ الرَّتقُ والفَتقُ على التَّوزيعِ، أي: كانت السَّمَواتُ رَتقًا في حَدِّ ذاتِها، وكانت الأرضُ رَتقًا في حَدِّ ذاتِها، ثمَّ فتق اللهُ السَّمَواتِ، وفَتَق اللهُ الأرضَ). إلى أن قال: (والظَّاهِرُ أنَّ الآيةَ تَشمَلُ جميعَ ما يتحقَّقُ فيه معاني الرَّتقِ والفَتقِ؛ إذ لا مانِعَ مِن اعتبارِ معنًى عامٍّ يجمَعُها جميعًا، فتكونُ الآيةُ قد اشتمَلَت على عِبرةٍ تَعُمُّ كُلَّ النَّاسِ، وعلى عِبرةٍ خاصَّةٍ بأهلِ النَّظَرِ والعِلمِ، فتكونُ مِن مُعجِزاتِ القُرآنِ العِلميَّةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (17/53- 56). ؟!
كما قال تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا [عبس: 24 - 27] .
وقال سُبحانَه: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ [الطارق: 11، 12].
وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ.
أي: وخَلَقْنا من الماءِ كُلَّ شَيءٍ فيه حياةٌ [336] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/260)، ((تفسير ابن كثير)) (5/339)، ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 23، 24)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/142). .
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: ((قلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي إذا رأيتُك طابَتْ نَفسي، وقرَّتْ عيني، فأنبِئْني عن كُلِّ شَيءٍ، فقال: كُلُّ شَيءٍ خُلِقَ مِن ماءٍ)) [337] أخرجه أحمد (7932)، وابن حبان (2559)، والحاكم (7278). صَحَّح إسنادَه الحاكِمُ، وقال ابن كثير في ((التفسير)) (5/340): إسنادُه على شرطِ الصَّحيحَينِ، إلَّا أنَّ أبا ميمونةَ مِن رجال السُّنَن. وقال الهيثميُّ في ((مجمع الزوائد)) (5/19): رجالُه رجالُ الصَّحيحِ خلا أبا ميمونةَ، وهو ثقة. ووثَّقَ رواتَه البوصيريُّ في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (5/481)، وصحَّح إسنادَه ابنُ حَجَرٍ في ((فتح الباري)) (5/36)، وأحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (15/72)، والألباني في ((إرواء الغليل)) (1/190). .
أَفَلَا يُؤْمِنُونَ.
أي: أفلا يُؤمِنُ الذين كفَروا بما يُشاهِدونَه، فيَستَدِلُّوا به على وُجودِ الصَّانِعِ الفاعِلِ، المختارِ القادِرِ، ويُقِرُّوا باستحقاقِه وَحْدَه للعبادةِ، ولا يُشرِكوا به شَيئًا [338] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/260)، ((تفسير القرطبي)) (11/285)، ((تفسير السعدي)) (ص: 522). ؟
وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه بعدَ أن ذكَرَ اللهُ تعالى دليلَينِ مِن دلائِلِ التَّوحيدِ، وهي مِنَ الأدِلَّةِ السَّماويَّةِ والأرضيَّةِ؛ ذكَرَ هنا دليلًا آخَرَ مِن الدَّلائِلِ الأرضيَّةِ، فقال [339] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/426). :
وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ.
أي: وجعَلْنا في الأرضِ جِبالًا ثابِتةً؛ لئلَّا تضطَرِبَ الأرضُ بهم [340] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/261)، ((تفسير ابن عطية)) (4/80)، ((تفسير القرطبي)) (11/285)، ((تفسير ابن كثير)) (5/340)، ((تفسير السعدي)) (ص: 522). قال ابنُ جرير: (يقولُ تعالى ذِكرُه: أولَمْ يَرَ هؤلاء الكفَّارُ أيضًا مِن حُجَجِنا عليهم وعلى جميعِ خَلْقِنا: أنَّا جعَلْنا في الأرضِ جِبالًا راسيةً؟). ((تفسير ابن جرير)) (16/261). .
كما قال تعالى: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ [النمل: 61].
وقال سُبحانَه: وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ [المرسلات: 27] .
وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ.
أي: وجعَلْنا فيها [341] قيل: الضَّميرُ في فِيهَا يعودُ على الأرضِ، فيدخُلُ فيها الجِبالُ وغَيرُها. وممن قال بذلك: ابنُ جرير، واختاره ابنُ عطيةَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/262)، ((تفسير ابن عطية)) (4/80). وقيل: الضميرُ يعودُ على الجبالِ. وممَّن قال بذلك: القرطبي، وابنُ كثير، والسعدي. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/285)، ((تفسير ابن كثير)) (5/340)، ((تفسير السعدي)) (ص: 522). طُرُقًا واسِعةً سَهلةً؛ لِيَهتَدوا إلى السَّيرِ في الأرضِ، والوصولِ إلى مطالبِهم مِن البلدانِ، ولِيَهتَدوا إلى ما فيها مِن دلائِلِ وحدانيَّةِ خالِقِها وقُدرَتِه، وتفرُّدِه بأوصافِ الكَمالِ [342] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/261، 262)، ((تفسير ابن عطية)) (4/80)، ((تفسير القرطبي)) (11/285)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/414)، ((تفسير السعدي)) (ص: 522). قال الماوردي: (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ فيه وجهان: أحدُهما: سُبُلُ الاعتبارِ؛ لِيَهتَدوا بالاعتبارِ بها إلى دينِهم. الثاني: مَسالِك لِيَهتَدوا بها إلى طُرُقِ بلادِهم). ((تفسير الماوردي)) (3/445). وممن اختار الوجهَ الثاني: ابنُ جريرٍ، وابنُ عطية، والقرطبي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/261، 262)، ((تفسير ابن عطية)) (4/80)، ((تفسير القرطبي)) (11/285). وقال ابن عاشور: (وَجُمْلَةُ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ مُستأنفةٌ إنشاءً؛ رَجاءَ اهتداءِ المشركينَ إِلى وحدانِيَّةِ اللَّهِ؛ فإنَّ هذه الدَّلائِلَ مُشاهَدةٌ لهم، واضحةُ الدَّلَالةِ. ويجوزُ أن يُرادَ بالاهتداءِ: الاهتداءُ في السَّيْرِ، أي جعَلْنا سُبُلًا واضحةً، غيرَ محجوبَةٍ بالضِّيقِ؛ إرادةَ اهتدائِهم في سَيرِهم، فتكونُ هذه مِنَّةً أُخرَى، وهو تدبيرُ اللَّهِ الأشياءَ على نحوٍ ما يلائِمُ الإنسانَ وَيُصْلِحُ أحوالَه). ((تفسير ابن عاشور)) (17/57). وممن جمَع بينَ القولينِ: البقاعي، والسعدي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/414)، ((تفسير السعدي)) (ص: 522). قال البقاعي: (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ إلى منافعِهم في ديارِهم وغيرِها، وإلى ما فيها مِن دلائِلِ الوَحدانيَّةِ وغيرِها، فيَعلَموا أنَّ وُجودَها لو كان بالطبيعةِ كانت على نَمطٍ واحدٍ مُساويةً للأرضِ، مُتساويةً في الوَصفِ، وأنَّ كَونَها على غيرِ ذلك دالٌّ على أنَّ صانِعَها قادِرٌ مُختارٌ، مُتفَرِّدٌ بأوصافِ الكَمالِ). ((نظم الدرر)) (12/414). .
كما قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الزخرف: 10] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا [نوح: 19، 20].
وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا دَلَّهم اللهُ تعالى بالسَّمَواتِ والأرضِ على عَظَمتِه، ثم فصَّلَ بَعضَ ما في الأرضِ لِمُلابستِهم له، وخَصَّ الجبالَ؛ لِكَثرتِها في بلادِهم- أتبَعَه السَّماءَ [343] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/414، 415). ، فقال:
وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا.
أي: وجعَلْنا السَّماءَ سَقفًا للأرضِ مَحفوظًا من السُّقوطِ عليهم، ومحفوظًا من الشَّياطينِ [344] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/263)، ((تفسير البغوي)) (3/287)، ((تفسير القرطبي)) (11/285)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/415)، ((تفسير السعدي)) (ص: 522). ممن اختار أنَّ معنى مَحْفُوظًا أي: مِن الوقوعِ والسقوطِ على الأرضِ: السمعانيُّ، والبغوي، والرازي، والقرطبي، والخازن، والعُليمي، والشوكاني، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/378)، ((تفسير البغوي)) (3/287)، ((تفسير الرازي)) (22/139)، ((تفسير القرطبي)) (11/285)، ((تفسير الخازن)) (3/224)، ((تفسير العليمي)) (4/353)، ((تفسير الشوكاني)) (3/479)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/144). وممن اختار أنَّ معنى مَحْفُوظًا أي: بالنُّجومِ مِن الشَّياطينِ: الفراءُ، وابنُ جرير، والواحدي. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/201)، ((تفسير ابن جرير)) (16/263)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 715). وممن جمع بين المعنيين السابقين: ابنُ جزي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/21)، ((تفسير السعدي)) (ص: 522). قال ابن عطية: (والحفظُ هنا عامٌّ في الحفظِ مِن الشياطينِ ومِن الرميِ وغيرِ ذلك مِن الآفاتِ). ((تفسير ابن عطية)) (4/80). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [الحجر: 16 - 18].
وقال سُبحانَه: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج: 65] .
وقال عزَّ وجلَّ: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق: 6] .
وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ.
أي: وهم عن آياتِ السَّماءِ الدَّالَّةِ على وحدانيَّةِ اللهِ وكَمالِ قُدرَتِه وحِكمَتِه وصِفاتِه، واستِحقاقِه للعبادةِ وَحْدَه- مُعرِضُون عن التفكُّرِ والتدبُّرِ فيها [345] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/263)، ((تفسير القرطبي)) (11/285)، ((تفسير ابن كثير)) (5/341)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/415، 416)، ((تفسير السعدي)) (ص: 522)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/58، 59). .
كما قال سُبحانَه: وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ [يوسف: 105] .
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا قال اللهُ سُبحانَه: وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ، فصَّل تلك الآياتِ هاهنا [346] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/140). ، فقال:
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ.
أي: واللهُ وَحْدَه هو الذي خلَقَ اللَّيلَ والنَّهارَ والشَّمسَ والقَمَرَ، وفيها دَلالاتٌ على عَظيمِ سُلطانِه، وأنَّ العبادةَ له دونَ كُلِّ ما سواه، ولِينتَفِعَ النَّاسُ بها في شُؤونِ دينِهم ودُنياهم [347] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/264)، ((تفسير القرطبي)) (11/286)، ((تفسير ابن كثير)) (5/341). .
كما قال تعالى: فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الأنعام: 96] .
وقال سُبحانَه: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل: 12] .
كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ.
أي: كلٌّ مِنَ اللَّيلِ والنَّهارِ والشَّمسِ والقَمَرِ في فلَكٍ دائرٍ، يجْرونَ بسُرعةٍ كالسَّابِحِ في الماءِ [348] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/264، 266، 267)، ((تفسير القرطبي)) (11/286)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (6/593)، ((تفسير ابن كثير)) (5/341). قال ابن تيميَّة: (الأفلاكُ مُستديرةٌ، كما أخبَرَ اللهُ ورَسولُه، وكما ذكَرَ ذلك علماءُ المُسلِمينَ وغَيرُهم. فذكر أبو الحُسينِ ابن المنادي، وأبو محمد بن حزم، وأبو الفرج بن الجوزي، وغَيرُهم: إجماعَ المُسلمِينَ على أنَّ الأفلاكَ مُستَديرةٌ. وقال ابنُ عبَّاسٍ في قوله: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ قال: في فَلَكةٍ مِثلِ فَلَكةِ المِغزَلِ، والفَلَكُ في لغةِ العَرَبِ: الشَّيءُ المستديرُ). ((مجموع الفتاوى)) (6/595). .
كما قال تعالى: وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 37 - 40] .

الفوائد العلمية واللطائف :

1- قَولُه تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ وكذلك قَولُه: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ دلَّ على خَلقِ جَميعِ ما فيه حياةٌ وما يَدِبُّ مِن ماءٍ، وأنَّ الماءَ مادَّةُ جَميعِ الحيواناتِ؛ فعُلِمَ بذلك أنَّ أصلَ جَميعِها الماءُ المُطلَقُ، ولا ينافي هذا قَولُه تعالى: وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [الحجر: 27] ، وقَولُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((خُلِقَت الملائِكةُ مِن نورٍ )) [349] أخرجه مسلم (2996) من حديث عائشة رضي الله عنها. ؛ فإنَّ حَديثَ أبي هريرةٍ ((كُلُّ شَيءٍ خُلِقَ مِن ماءٍ)) [350] أخرجه أحمد (7932)، وابن حبان (2559)، والحاكم (7278) ،صححه ابن حبان، وصحح إسناده الحاكم، وابن كثير في ((التفسير)) (5/340)، وابن حجر في ((فتح الباري)) (5/36) دَلَّ على أنَّ أصلَ النُّورِ والنَّارِ الماءُ، كما أنَّ أصلَ التُّرابِ الذي خُلِقَ منه آدَمُ الماءُ؛ فإنَّ آدَمَ خُلِقَ مِن طينٍ، والطينُ تُرابٌ مُختَلِطٌ بماءٍ، أو التُّرابُ خُلِقَ مِن الماءِ، كما جاء عن ابنِ عَبَّاسٍ وغَيرِه [351] يُنظر: ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 23، 24). .
2- قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ فيه عِبرةٌ للنَّاسِ في أكثَرِ أحوالِه، وهو عِبرةٌ للمُتأمِّلينَ في دقائِقِه في تكوينِ الحيوانِ مِن الرُّطوباتِ، وهي تكوينُ التَّناسُلِ، وتكوينُ جَميعِ الحَيوانِ؛ فإنَّه لا يتكَوَّنُ إلَّا مِن الرُّطوبةِ، ولا يعيشُ إلَّا مُلابِسًا لها، فإذا انعَدَمت منه الرُّطوبةُ فقَدَ الحياةَ؛ ولذلك كان استِمرارُ الحُمَّى مُفضِيًا إلى الهُزالِ ثمَّ إلى الموتِ [352] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/56).  .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ
- قولُه: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... استفهامُ تَوبيخٍ لمَن ادَّعَى معَ اللهِ آلِهةً، ودَلالةٌ على تَنزيهِه عنِ الشَّريكِ، وتَوكيدٌ لِما تقدَّمَ مِن أدلَّةِ التَّوحيدِ، ورَدٌّ على عَبدةِ الأوثانِ [353] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/424). . أو همزةُ الاستفهامِ للإنكارِ على إهمالِهم للنَّظرِ، والواوُ للعطْفِ على مُقدَّرٍ [354] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/64). . ويجوزُ أنْ يكونَ الاستفهامُ تَقريريًّا [355] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/334)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/53). .
- قولُه: كَانَتَا رَتْقًا وإنَّما قيل: كَانَتَا دونَ (كُنَّ)؛ لأنَّ المُرادَ جماعةُ السَّمواتِ وجماعةُ الأرضِ [356] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/113)، ((تفسير البيضاوي)) (4/50)، ((تفسير أبي حيان)) (7/424). . والإخبارُ عن السمَّواتِ والأرضِ بأنَّهما رَتْقٌ إخبارٌ بالمصدَرِ؛ للمُبالَغةِ في حُصولِ الصِّفَةِ، وإنَّما لم يقُلْ نحوَ: (فصارَتَا فَتْقًا)؛ لأنَّ الرَّتْقَ مُتمكِّنٌ منهما أشدَّ تَمكُّنٍ؛ لِيَستدِلَّ به على عَظيمِ القُدرةِ في فَتْقِهما، ولدَلالةِ الفِعْلِ على حَدثانِ الفَتْقِ؛ إيماءً إلى حُدوثِ الموجوداتِ كلِّها، وأنْ ليس منها أزلِيٌّ [357] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/53). . وقيل: لم يقل (كانتا رتقين)؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ رتقٌ، كقولِه: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ [الأنبياء: 8] ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ جسدٌ [358] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/137). .
- وفي قولِه: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ -على القولِ بأنَّ (جَعَلْنَا) بمعنى (صَيَّرنا)- قدَّمَ المفعولَ الثَّانيَ مِنَ الْمَاءِ؛ للاهتمامِ به، لا لمُجرَّدِ أنَّ المفعولينِ في الأصْلِ مُبتدأٌ وخَبَرٌ [359] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/65). .
- قولُه: أَفَلَا يُؤْمِنُونَ فُرِّعَ على وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ؛ إنكارًا عليهم عدَمَ إيمانِهم بوَحدانيَّةِ اللهِ [360] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/56). .
- والاستفهامُ في قولِه: أَفَلَا يُؤْمِنُونَ استفهامُ إنكارٍ لعدَمِ إيمانِهم باللهِ وحْدَه، وفيه معنى التَّعجُّبِ مِن ضَعْفِ عُقولِهم، والفاءُ للعطْفِ على مُقدَّرٍ يَستدعيهِ الإنكارُ السَّابقُ، أي: أيَعْلَمون ذلك، فلا يُؤمِنون [361] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/425)، ((تفسير أبي السعود)) (6/65). ؟!
2- قوله تعالى: وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ

- قولُه: وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا ... فيه تَكريرُ الفِعْلِ (جَعَلَ)؛ لاختلافِ المَجْعولينِ، ولتَوفيةِ مَقامِ الامتنانِ حَقَّه [362] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/65). .
- قولُه: فِجَاجًا سُبُلًا في الفِجاجِ معنى الوصْفِ، وإنَّما قُدِّمَت على (السُّبلِ) ولم تُؤخَّرْ كما في قولِه: لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا [نوح: 20] ؛ للإعلامِ بأنَّه جعَلَ فيها طُرقًا واسعةً، فهو بَيانٌ لِما أُبْهِمَ هناك، ولِيَصيرَ حالًا؛ فيُفِيدَ أنَّه تعالى حين خلَقَها خلَقَها كذلك، أو ليُبْدِلَ منها سُبُلًا، فيَدُلَّ ضِمْنًا على أنَّه تعالى خلَقَها ووسَّعَها للسَّابِلةِ، مع ما فيه من التَّوكيدِ [363] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/114)، ((تفسير أبي حيان)) (7/426)، ((تفسير أبي السعود)) (6/65). . فإنْ قِيلَ: لم قُدِّمَ هاهنا، وأُخِّرَ هناك؟ فالجوابُ: أنَّ الآيةَ في سُورةِ (نُوحٍ) واردةٌ لبَيانِ الامتنانِ على سَبيلِ الإجمالِ، وهذه الآيةُ في سُورةِ (الأنبياءِ) واردةٌ لِبَيانِ الاعتبارِ، والبَعْثِ على إمعانِ النَّظرِ فيه، وذلك يَقْتضي التَّفصيلَ، ومِن ثَمَّ عقَّبَ قولَه: كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا بهذه [364] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/340). .
3- قولُه تعالى: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ لمَّا ذكَرَ الاعتبارَ بخلْقِ الأرضِ وما فيها، ناسَبَ -بحُكْمِ الطِّباقِ- ذِكْرُ خَلْقِ السَّماءِ عَقِبَه، إلَّا أنَّ حالةَ خلْقِ الأرضِ فيها منافعُ للنَّاسِ؛ فعقَّبَ ذِكْرَها بالامتنانِ بقولِه تعالى: أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ، وبقولِه تعالى: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ. وأمَّا حالُ خلْقِ السَّماءِ فلا تَظهَرُ فيه مَنفعةٌ، فلم يُذْكَرْ بعْدَه امتنانٌ، ولكنَّه ذكَرَ إعراضَهم عن التَّدبُّرِ في آياتِ خَلْقِ السَّماءِ الدَّالَّةِ على الحِكْمةِ البالِغَةِ، فعَقَّبَ بقولِه تعالى: وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ، فأدمَجَ في خِلالِ ذلك مِنَّةً، وهي حِفْظُ السَّماءِ مِن أنْ تقَعَ بعْضُ الأجرامِ الكائنةِ فيها، أو بعْضُ أجزائِها على الأرضِ، فتُهْلِكَ النَّاسَ، أو تُفسِدَ الأرضَ، فتُعَطِّلَ مَنافِعَها، فذلك إدماجٌ للمِنَّةِ في خِلالِ الغرَضِ المقصودِ الَّذي لا مَندوحةَ عن العِبْرةِ به [365] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/58). .
- وأطلَقَ السَّقفَ على السَّماءِ في قولِه: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا على طَريقةِ التَّشبيهِ البليغِ [366] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/58). .
4- قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ
- قولُه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ بَيانٌ لبعْضِ تلك الآياتِ الَّتي هم عنها مُعرِضونَ بطَريقِ الالْتِفاتِ -حيث الْتَفَت مِن ضَميرِ المُتكلِّمِ إلى ضَميرِ الغائبِ- المُوجِبِ لتأْكيدِ الاعتناءِ بفَحْوى الكلامِ [367] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/65، 66). .
- وسِيقَتْ هذه الآيةُ في مَعرِضِ المِنَّةِ بصَوغِها في صِيغَةِ الجُملةِ الاسميَّةِ المُعرَّفةِ الجُزأينِ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ...؛ لإفادةِ القصْرِ، وهو قَصْرُ إفرادٍ إضافيٌّ، بتَنزيلِ المُخاطَبينَ من المُشرِكينَ مَنزِلةَ مَن يَعتقِدُ أنَّ أصنامَهم مُشارِكةٌ للهِ في خَلْقِ تلك الأشياءِ [368] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/59). .
- ولكَونِ المِنَّةِ والعِبْرةِ في إيجادِ نَفْسِ اللَّيلِ والنَّهارِ، ونَفْسِ الشَّمسِ والقمَرِ، لا في إيجادِها على حالةٍ خاصَّةٍ؛ جِيءَ هنا بفِعْلِ (الخَلْقِ) لا بفِعْلِ (الجَعْلِ) [369] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/59). .
- وأيضًا في قولِه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مُناسَبةٌ قويَّةٌ لذِكْرِ خَلْقِ الشَّمسِ عَقِبَ ذِكْرِ خلْقِ النَّهارِ؛ للتَّنبيهِ على مَنشَأِ خَلْقِ النَّهارِ؛ فخَلْقُ النَّهارِ نَتيجةٌ لخَلْقِ الشَّمسِ وتوجُّهِ أشعَّتِها إلى النِّصْفِ المُقابِلِ للأشعَّةِ من الكُرَةِ الأرضيَّةِ، فخَلْقُ النَّهارِ تبَعٌ لخلْقِ الشَّمسِ وخَلْقِ الأرضِ، ومُقابلةِ الأرضِ لأشعَّةِ الشَّمسِ. وأمَّا ذِكْرُ خَلْقِ القَمرِ فلِمُناسَبةِ خَلْقِ الشَّمسِ، وللتَّذكيرِ بمِنَّةِ إيجادِ ما يُنِيرُ على النَّاسِ بعْضَ النُّورِ في بعضِ أوقاتِ الظُّلمةِ. وكلُّ ذلك من المِنَنِ [370] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/59، 60). .
- وجُملةُ: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ مُستأنَفةٌ استئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّه لمَّا ذكَرَ الأشياءَ المُتضادَّةَ بالحقائقِ أو بالأوقاتِ؛ ذِكْرًا مُجْمَلًا في بعضِها الَّذي هو آياتُ السَّماءِ، ومُفصَّلًا في بعْضٍ آخرَ، وهو الشَّمسُ والقمرُ، كان المَقامُ مُثيرًا في نُفوسِ السَّامِعينَ سُؤالًا عن كيفيَّةِ سَيْرِها، وكيف لا يقَعُ لها اصطدامٌ أو يقَعُ منها تخلُّفٌ عن الظُّهورِ في وقْتِه المعلومِ؟ فأُجِيبَ بأنَّ كلَّ المذكوراتِ له فَضاءٌ يَسيرُ فيه، لا يُلاقي فضاءَ سَيْرِ غيرِه [371] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/60). .
- قولُه تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ فيه مُحسِّنٌ بَديعيٌّ؛ فإنَّ حُروفَه تُقْرَأُ مِن آخِرِها على التَّرتيبِ كما تُقْرَأُ مِن أوَّلِها، مع خِفَّةِ التَّركيبِ، ووفْرَةِ الفائدةِ، وجَريانِه مَجْرى المثَلِ، مِن غيرِ تَنافُرٍ ولا غَرابةٍ [372] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/61).  وهذا النَّوع يُسمَّى في البلاغةِ (القَلب)، وهو في الكلامِ بحيثُ إذا قُلِبت حروفُه لم تتغيَّر قراءتُه، ولا بُدَّ مع ذلك أنْ يكونَ جيِّدَ السَّبكِ، مُنسجِمَ المعنى، ويُسمَّى أيضًا: ما يُقرأُ مِن الجِهتَينِ، العكس، والمقلوبُ المستوي، وما لا يَستحيلُ بالانعكاسِ، وهو مِن أنواع البديع، ومنه في الشِّعر قولُ القائل: مَودَّتُه تدومُ لكُلِّ هَولٍ                    وهَلْ كُلٌّ مَودَّتُه تدومُ يُنظر: ((مفاتيح التفسير)) للخطيب (2/677). .
- وفي قولِه: يَسْبَحُونَ جاء بواوِ الجمْعِ العاقلِ؛ فأمَّا الجمْعُ فقيل: هناك معطوفٌ مَحذوفٌ وهو (والنُّجومُ)، ولذلك عاد الضَّميرُ مَجموعًا، ولو لم يكُنْ ثَمَّ معطوفٌ مَحذوفٌ، لكان (يَسْبَحَانِ) مُثنًّى، وحسَّنَ ذلك كونُه جاء فاصِلةً رأْسَ آيةٍ، وأمَّا كونُه ضَميرَ مَن يَعقِلُ، ولم يكُنِ التَّركيبُ (يَسْبَحْنَ)؛ لأنَّه لمَّا كانتِ السِّباحةُ من أفعالِ الآدميِّينَ، جاء ما أُسْنِدَ إليهما مَجموعًا جمعَ مَن يَعقِلُ، كقولِه: رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [373] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/427). [يوسف: 4] . أو ضَميرُ يَسْبَحُونَ عائدٌ إلى عُمومِ آياتِ السَّماءِ وخُصوصِ الشَّمسِ والقمرِ، وأُجْرِيَ عليها ضَميرُ جماعةِ الذُّكورِ باعتبارِ تَذكيرِ أسماءِ بعْضِها، مثْلُ القمَرِ والكوكبِ [374] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/60). . أو جاء الجمْعُ باعتبارِ المَطالِعِ [375] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/115)، ((تفسير البيضاوي)) (4/51)، ((تفسير أبي السعود)) (6/66). .
- فإنْ قِيلَ: لكلِّ واحدٍ من القَمرينِ فَلَكٌ على حِدَةٍ؛ فكيف قِيلَ: جَميعُهم يَسْبَحُونَ في فَلَكٍ؟ قيل: اكْتَفى بما يدُلُّ على الجِنْسِ اختصارًا، ولأنَّ الغرَضَ الدَّلالةُ على الجِنْسِ [376] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/115)، ((تفسير البيضاوي)) (4/50). .