موسوعة التفسير

سورةُ العَنكَبوتِ
الآيات (56-59)

ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ

غَريبُ الكَلِماتِ:

لَنُبَوِّئَنَّهُمْ: أي: لَنُنزِلَنَّهم، ولَنُسْكِنَنَّهم، يُقالُ: بوَّأتُه منزلًا، إذا أنزلتَه ومكَّنْتَ له فيه، وأصل (بوأ): يدُلُّ على الرُّجوعِ إلى الشَّيءِ [740] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 338)، ((تفسير ابن جرير)) (14/223)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/312)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 289)، ((تفسير القرطبي)) (13/359). .
غُرَفًا: أي: مَنازِلَ عاليةً في الجنَّةِ [741] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/418)، ((المفردات)) للراغب (ص: 605)، ((تفسير القرطبي)) (13/359)، ((تفسير ابن كثير)) (6/292). .

المعنى الإجماليُّ:

يأمُرُ الله تعالى عِبادَه المؤمنينَ بالهجرةِ مِن البلدِ الَّذي لا يَقدِرونَ فيه على إقامةِ الدِّينِ، فيقولُ تعالى: يا عِباديَ الَّذين آمَنوا، إنْ ضُيِّقَ عليكم في عبادتِكم في بلدٍ، فهاجِروا إلى مَوضِعٍ تَتمَكَّنونَ فيه مِنَ العبادةِ؛ فإنَّ أرضي واسِعةٌ، فأخلِصوا العبادةَ لي وحْدي.
ويُبَيِّنُ تعالى لهم أنَّ الموتَ سيُدرِكُهم في كلِّ مكانٍ؛ وذلك ترغيبًا لهم في الهجرةِ، فيقولُ: كلُّ نفْسٍ مُفارِقةٌ للحياةِ، ثمَّ تُرجَعونَ إلينا؛ لِنُجازيَكم على أعمالِكم.
 ويخبِرُ سُبحانَه عمَّا أعَدَّه للمؤمنينَ الصادِقينَ مِن حُسنِ الجزاءِ، فيقولُ: والَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ لَنُسْكِنَنَّهم في مَنازِلَ عاليةٍ مِن الجنَّةِ، تَجري مِن تحتِ تلك المنازِلِ أنهارُ الجنَّةِ، خالِدينَ فيها أبدًا، نِعْمَ جزاءُ العامِلينَ تلك المنازِلُ العاليةُ، وهم الَّذين صَبَروا على طاعةِ اللهِ والأذى في سبيلِه، وعلى رَبِّهم وَحْدَه يَعتَمِدونَ.

تَفسيرُ الآياتِ:

يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ حالَ المُشرِكينَ على حِدةٍ، وحالَ أهلِ الكتابِ على حِدةٍ، وجمَعَهما في الإنذارِ، وجعَلَهما مِن أهلِ النَّارِ؛ اشتَدَّ عِنادُهم، وزاد فَسادُهم، وسَعَوا في إيذاءِ المُؤمِنينَ، ومَنَعوهم مِن العبادةِ؛ فقال مُخاطِبًا للمُؤمِنينَ [742] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/69). :
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ.
أي: يا عباديَ الَّذين آمَنوا، إن لم تَتمَكَّنوا مِن طاعتي وعِبادتي في بلدٍ، فإنَّ أرضي واسِعةٌ؛ فهاجِروا إلى مَوضِعٍ تتمَكَّنونَ فيه مِن ذلك [743] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/433، 435)، ((تفسير القرطبي)) (13/357)، ((تفسير البيضاوي)) (4/198)، ((تفسير ابن كثير)) (6/290)، ((تفسير السعدي)) (ص: 634)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/161). .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء: 97] .
فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ.
أي: فلِي وَحْدي أخلِصوا العبادةَ، وأَظهِروا طاعتي حيثُما يُمكِنُكم مِنَ الأرضِ، ولا تُشرِكوا باللهِ شَيئًا، ولا تُطيعوا في مَعصيتِه أحدًا [744] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/388)، ((تفسير ابن جرير)) (18/435)، ((تفسير السمعاني)) (4/189)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/465)، ((تفسير السعدي)) (ص: 634)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/22). .
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمرَ اللهُ تعالى المؤمِنينَ بالمُهاجَرةِ، صعُبَ عليهم تَركُ الأوطانِ ومُفارَقةُ الإخوانِ، فقال لهم: إنَّ ما تَكرَهونَ لا بُدَّ مِن وُقوعِه؛ فإنَّ كُلَّ نفْسٍ ذائِقةُ الموتِ، والموتَ مُفَرِّقٌ الأحبابَ، فالأَولى أن يكونَ ذلك في سَبيلِ اللهِ، فيُجازيكم عليه؛ فإنَّ إلى اللهِ مَرجِعَكم [745] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/70). .
وأيضًا لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى عِبادَه بالحِرصِ على العبادةِ وصِدقِ الاهتِمامِ بها، حتَّى يتطَلَّبوا لها أوفَقَ البلادِ وإنْ بَعُدَت، وشَقَّ عليهم تَركُ الأوطانِ ومُفارَقةُ الإخوانِ- خوَّفَهم بالموتِ؛ لِتَهونَ عليهم الهِجرةُ [746] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/149). .
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57).
كُلُّ نفْسٍ مخلوقةٍ واجِدَةٌ مَرارةَ الموتِ وكربَه لا مَحالةَ، والموتُ لا بدَّ نازلٌ بكم، وأيْنَما كنتُم يُدرِكُكم، ثمَّ تُرَدُّون بعْدَه إلى اللهِ، فيُجازيكم على أعمالِكم: خَيرِها وشَرِّها؛ فكُونوا في طاعةِ اللهِ وحيثُ أمرَكم؛ فهو خيرٌ لكم [747] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/388)، ((تفسير ابن جرير)) (18/435)، ((تفسير الرسعني)) (5/626)، ((تفسير ابن جزي)) (2/22)، ((تفسير ابن كثير)) (6/291، 292)، ((تفسير الشوكاني)) (4/242)، ((تفسير السعدي)) (ص: 634). قال الواحدي: (المعنى: لا بُدَّ مِن الموتِ، وكُلُّ أحدٍ مَيِّتٌ أيْنَما كان؛ فلا تُقيموا بدارِ الشِّركِ خَوفًا مِن الموتِ). ((البسيط)) (17/548). وقال ابنُ عثيمين: (عبَّرَ عن حقيقةِ الموتِ بالذَّوقِ؛ لأنَّ الإنسانَ يَذوقُ مرارةَ الموتِ وألَمَ فِراقِ الحياةِ، إلَّا إذا كان مُؤمِنًا؛ فإنَّه يَذوقُه مِن وجهٍ، لكنْ يَهونُ عليه الأمرُ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 338). .
كما قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 26، 27].
وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ الله تعالى بيَّنَ ما يكونُ للمُؤمِنينَ وقتَ الرُّجوعِ إليه، كما بيَّنَ مِن قبْلُ ما يكونُ للكافِرينَ، بقَولِه: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [748] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/70). [العنكبوت: 54].
وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا.
أي: والَّذين آمَنوا بما وجَب عليهم الإيمانُ به، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحةَ بإخلاصٍ لله تعالى ومُتابَعةٍ لِشَرعِه؛ لَنُسكِنَنَّهم في الجنَّةِ مَنازِلَ عاليةً [749] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/435، 436)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 835)، ((تفسير ابن كثير)) (6/292)، ((تفسير السعدي)) (ص: 634)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 348). .
قال تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [النحل: 41] .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضيَ الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إنَّ أهلَ الجَنَّةِ يَتراءَونَ أهلَ الغُرَفِ مِن فَوقِهم، كما يَتراءَونَ الكَوكَبَ الدُّرِّيَّ الغابِرَ في الأُفُقِ [750] الدُّرِّيَّ: أي: الشَّديدَ الإضاءةِ. الغابِرَ في الأفُقِ: أي: الذَّاهِبَ الماشيَ الَّذي تدلَّى للغُروبِ وبَعُدَ عن العُيونِ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (17/169)، ((شرح القَسْطَلَّاني)) (5/285). ، مِنَ المَشرقِ أو المَغربِ؛ لِتَفاضُلِ ما بيْنَهم! قالوا: يا رسولَ اللهِ، تلك مَنازِلُ الأنبياءِ لا يَبلُغُها غَيرُهم؟ قال: بلى، والَّذي نفْسي بيَدِه، رِجالٌ آمَنوا بالله، وصَدَّقوا المُرسَلينَ )) [751] رواه البخاري (3256) واللفظ له، ومسلم (2831). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إنَّ في الجنَّةِ غُرْفةً يُرى ظاهِرُها مِن باطِنِها، وباطِنُها مِن ظاهِرِها! فقال أبو موسى الأَشْعَريُّ: لِمَن هي يا رسولَ الله؟ قال: لِمَن أَلانَ الكلامَ، وأطعَمَ الطَّعامَ، وبات لله قائِمًا والنَّاسُ نِيامٌ)) [752] أخرجه أحمد (6615)، والحاكم (1200). صحَّحه الحاكِمُ على شرط مُسلم، وحسَّن إسنادَه المُنذِريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (1/289)، والهيثميُّ في ((مجمع الزوائد)) (2/257)، وصَحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (10/111)، وقال الألباني في ((صحيح الترغيب)) (617): حسَنٌ صحيحٌ. .
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.
أي: تجري مِن تحتِ تلك المنازِلِ العاليةِ أنهارُ الجنَّةِ [753] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/292)، ((تفسير الشوكاني)) (4/243)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 347). قال البِقاعي: (ومِن المعلومِ أنَّه لا يكونُ في موضِعٍ أنهارٌ إلَّا كان به بساتينُ كِبارٌ، وزُروعٌ ورياضٌ وأزهارٌ، فيُشرِفونَ عليها مِن تلك العلالي). ((نظم الدرر)) (14/467). .
كما قال تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد: 15] .
خَالِدِينَ فِيهَا.
أي: ماكِثينَ في غُرَفِ الجنَّةِ أبدًا، فلا يُخرَجونَ منها ولا يَموتونَ [754] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/436)، ((تفسير ابن كثير)) (6/292)، ((تفسير الشوكاني)) (4/243). .
نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ.
أي: نِعْمَ جزاءُ العامِلينَ في الدُّنيا بطاعةِ اللهِ؛ تلك المنازِلُ العاليةُ الَّتي يُسكِنُهم اللهُ إيَّاها في جنَّتِه، وتَجري مِن تحتِها الأنهارُ خالِدينَ فيها [755] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/436)، ((تفسير ابن كثير)) (6/292)، ((تفسير السعدي)) (ص: 635). .
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59).
أي: الَّذين صَبَروا على طاعةِ اللهِ وإقامةِ دينِه، وتحمَّلوا أذَى المُشرِكينَ، وصَبَروا على مُفارَقةِ أوطانِهم؛ فِرارًا مِنَ الفِتَنِ، وعلى رَبِّهم وَحْدَه يَعتَمِدونَ في أمورِ دينِهم ودُنياهم، فلا يَستعينونَ بغيرِ اللهِ في جهادِ أعدائِهم، وطلَبِ أرزاقِهم، وغيرِ ذلك مِن أمورِهم [756] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/436)، ((تفسير ابن كثير)) (6/292)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/467، 468)، ((تفسير السعدي)) (ص: 635)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/24). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قال الله تعالى: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ يجِبُ على كُلِّ مَن كان في بلدٍ يُعمَلُ فيها بالمعاصي، ولا يُمكِنُه تغييرُ ذلك: أن يُهاجِرَ إلى حيثُ تتهيَّأُ له العِبادةُ [757] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/172). .
2- قَولُه تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ تحقيرٌ لأمرِ الدُّنيا ومخاوفِها، كأنَّ بعضَ المُؤمِنينَ نَظَر في عاقبةٍ تلحَقُه في خروجِه مِن وطنِه أنَّه يموتُ أو يجوعُ أو نحوُ هذا، فحَقَّر اللهُ تعالى شأنَ الدُّنيا، أي: أنتم لا محالةَ مَيِّتونَ ومَحشورونَ إلينا؛ فالبِدارُ إلى طاعةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، والهجرةُ إليه أَوْلى ما يُمتثَلُ [758] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/324). .
3- قَولُ الله تعالى: الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ يُنَبِّهُ على أنَّ الإنسانَ لا ينفَكُّ عن أمرٍ شاقٍّ يَنبغي الصَّبرُ عليه [759] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/468). .
4- في قَولِه تعالى: الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أنَّه ينبغي للصَّابرِ أنْ يَعتمِدَ على ربِّه في صَبرِه، وفائدةُ اعتِمادِه في صَبرِه على ربِّه: أوَّلًا: الثَّباتُ على ذلك؛ فإنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يقولُ: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3] . ثانيًا: أنَّ صَبرَه يكونُ عبادةً؛ لأنَّ بعضَ الناسِ يَصْبِرُ ويَتَجَلَّدُ على حَدِّ قولِ الشَّاعرِ:
وتَجلُّـدِي للشَّـامِتينَ أُرِيـهُـمُ                 أنِّي لِرَيْبِ الدَّهرِ لا أتَضَعْضَعُ [760] البيتُ لأبي ذؤيبٍ خويلدِ بنِ خالدٍ الهُذَليِّ، وهو شاعرٌ مخضرمٌ، أدرَك الجاهليَّةَ والاسلامَ. يُنظر: ((معجم الأدباء)) للحموي (3/1275، 1277). ريبُ الدهرِ: أي: حَوادثُه وصُروفُه. يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (1/442)، ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (2/547). لا أتَضَعْضَعُ: أي: لا أخضَعُ أو أذِلُّ، ولا أتكَسَّرُ للمصيبةِ، فتَشَمتَ بي الأعداءُ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (3/1250)، ((تاج العروس)) للزَّبيدي (21/415).
فهذا الصَّبرُ لا شكَّ أنَّه خُلُقٌ جميلٌ، لكنَّه لا يُثابُ عليه، وإنَّما يُثابُ على الصَّبرِ المقرونِ بالتَّوكُّلِ على اللهِ سُبحانَه وتعالى، فهو الَّذي يكونُ فيه الثَّوابُ والأجرُ [761] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 357). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ الله تعالى: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ فيه سؤالٌ: قَولُه تعالى: يَا عِبَادِيَ يُفهَمُ منه كَونُهم عابدينَ، فما الفائِدةُ في الأمرِ بالعبادةِ بقَولِه: فَاعْبُدُونِ؟
الجواب: أنَّ فيه فائدتينِ:
 الفائدة الأولى: المُداوَمةُ، أي: يا مَن عَبَدْتُموني في الماضي، اعبُدوني في المُستقبَلِ.
الفائدة الثَّانية: الإخلاصُ، أي: يا مَن تَعبُدُني، أخلِصِ العمَلَ لي، ولا تعبُدْ غيري [762] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/69). .
فالأمرُ الموَجَّهُ لِمَن يَتَّصِفُ به يُرادُ به أمْرانِ؛ هما: تحقيقُه، والاستِمرارُ فيه وتكميلُه، كما لو قلتَ: يا رجُلُ كُنْ رجُلًا؛ أي: اثْبُتْ على هذا، وحَقِّقِ الرُّجولةَ وكَمِّلْها [763] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 332). .
2- قَولُ الله تعالى: فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ يُشعِرُ بأنَّ عِلَّةَ الأمرِ لهم بالهِجرةِ هي تمكينُهم مِن إظهارِ التَّوحيدِ، وإقامةِ الدِّينِ، وهذا هو المعيارُ في وجوبِ الهِجرةِ مِنَ البلَدِ الَّذي يُفتَنُ فيه المُسلِمُ في دينِه، وتَجري عليه فيه أحكامٌ غيرُ إسلاميَّةٍ [764] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/22). ، فالحكمةُ مِن الهجرةِ القيامُ بعبادةِ اللهِ، وعليه إذا تَمَكَّنَ الإنسانُ مِن عبادةِ اللهِ فلا تجبُ عليه الهجرةُ؛ لكنَّ الأفضلَ الهجرةُ [765] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 332). .
3- في قَولِه تعالى: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ دليلٌ على جوازِ اختيارِ الأرضِ، والنُّقلَةِ مِن مَوضعٍ إلى موضعٍ؛ فرارًا مِن المعصيةِ، وصيانةً للدِّينِ، وخَلاصًا ممَّن لا يُساعِدُ على الآخرةِ، ويدعو إلى الدُّنيا [766] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (3/596). .
4- في قَولِه تعالى: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ إشارةٌ إلى أنَّ مُقتضى العُبوديَّةِ والإيمانِ أنْ يقومَ الإنسانُ بحقيقةِ ما تقتضيه هذه العبوديَّةُ، بحيثُ لا يَرى لنَفْسِه حقًّا بجانبِ حقِّ اللهِ، بمعنى ألَّا يُقَدِّمَ حُظوظَ نفْسِه على حقوقِ ربِّه، وليس المعنى ألَّا يقومَ بالأمْرَينِ؛ فإنَّ الإنسانَ مأمورٌ بأنْ يقومَ بالأمْرَينِ، كما قال النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لعبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضيَ الله عنهما: ((إنَّ لِرَبِّك عليك حَقًّا، ولنفْسِك عليك حَقَّا )) [767] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 328). .
5- في قَولِه تعالى: إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ أنَّ دارَ الإسلامِ تُضافُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّها مكانُ عبادتِه، وهذه الإضافةُ ليست إضافةَ خَلْقٍ وتكوينٍ؛ لأنَّ كلَّ الأراضي للهِ عزَّ وجلَّ، ولكنْ إضافةُ تشريفٍ، وأخَصُّ مِن ذلك إضافةُ المكانِ المُعَيَّنِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، مِثْلُ المساجدِ؛ فهي بيوتُ اللهِ عزَّ وجلَّ [768] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 333). .
6- في قولِه تعالى: أَرْضِي وَاسِعَةٌ إشعارٌ بالوعْدِ مِن الضِّيقِ إلى السَّعةِ، وقد أنجَزَ اللهُ وعْدَه في المدينةِ [769] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/196). ؛ ففيه أنَّ المهاجِرَ سيَجِدُ سَعَةً في أرضِ اللهِ، ويَشْهَدُ لهذا قولُه تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً [النساء: 100] ، فهؤلاء تَرَكوا بلادَهم الَّتي ضُيِّقَ عليهم فيها؛ فعَوَّضَهم اللهُ بلادًا لا يَجِدون فيها الضِّيقَ، بل يَجِدونها ذاتَ سَعةٍ، ومَن تَرَكَ شيئًا للهِ عَوَّضَه اللهُ خيرًا منه [770] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 332). .
7- في قوله تعالى: فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ وُجوبُ الإخلاصِ للهِ عزَّ وجلَّ [771] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 333). .
8- مُفارَقةُ الجسدِ للرُّوحِ لا تَقَعُ إلَّا بعدَ ألَمٍ عظيمٍ تَذوقُه الرُّوحُ والجسدُ جميعًا؛ فإنَّ الرُّوحَ قد تَعَلَّقَتْ بهذا الجسدِ، وألِفَتْه، واشتدَّتْ إِلْفَتُها له، وامتِزاجُها به، ودُخولُها فيه حتَّى صارا كالشَّيءِ الواحدِ؛ فلا يَتفارَقانِ إلَّا بجُهدٍ شديدٍ، وألَمٍ عظيمٍ، ولم يَذُقِ ابنُ آدمَ في حياتِه ألَمًا مِثْلَه، وإلى ذلك الإشارةُ بقولِ الله عزَّ وجلَّ: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [772] يُنظر: ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 98). !
9- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أنَّ الإيمانَ إذا قُرِنَ بالعَمَلِ الصَّالحِ فالمرادُ به ما في القَلبِ، ووجْهُ ذلك: أنَّ العَطفَ يَقتضي المُغايَرةَ، أمَّا إذا ذُكِرَ الإيمانُ وحْدَه فإنَّه يَدخُلُ فيه العَمَلُ الصالحُ [773] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 348). .
10- مِن اللَّطائفِ: مُقابَلةُ غِشيانِ العذابِ للكفَّارِ مِن فَوقِهم ومِن تحتِ أرجُلِهم، في قولِه تعالى: يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [العنكبوت: 55] ، بغِشْيانِ النَّعيمِ للمؤمنينَ مِن فوقِهم بالغُرفِ ومِن تحتِهم بالأنهارِ في قولِه تعالى: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [774] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/24). .
11- قال الله تعالى: نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ لا بصيغةِ الأمرِ؛ لتَفريحِ قُلوبِ المؤمِنينَ، وقال في حَقِّ الكافِرينَ: ذُوقُوا [العنكبوت:55] بصيغة الأمرِ؛ لإيلامِ قُلوبِهم بلَفظِ الأمرِ؛ وذلك لأنَّ لَفظَ الأمرِ يدُلُّ على انقِطاعِ التَّعَلُّقِ بعْدَه؛ فإنَّ مَن قال لأجيرِه: (خُذْ أُجرَتَك) يُفهَمُ منه أنَّه بذلك يَنقَطِعُ تَعلُّقُه عنه، وأمَّا إذا قال: (ما أتَمَّ أُجرَتَك عندي!) أو (نِعْمَ ما لَك مِن الأجرِ!) فيُفهَمُ منه أنَّ ذلك عِندَه، ولم يَقُلْ هاهنا: خُذوا أُجرَتَكم أيُّها العامِلونَ، وقال هناك: ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [775] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/71). [العنكبوت:55] .
12- في قَولِه تعالى: نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ سَمَّى اللهُ تعالى الثَّوابَ أجرًا؛ مِن بابِ إظهارِ كَرَمِه على عبادِه، كأنَّهم أُجَراءُ، فيَكونُ هذا الثَّوابُ واجبًا وُجوبَ الأُجرةِ للأجيرِ، وهذا لا شكَّ أنَّه مِن نعمةِ اللهِ سُبحانه وتعالى وفَضْلِه، وإلَّا فهو المُتفضِّلُ أوَّلًا وآخِرًا [776] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 348). .
13- في قوله تعالى: الْعَامِلِينَ الرَّدُّ على الجَبْريَّةِ؛ حيثُ أضاف العملَ إليهم، فدلَّ هذا على أنَّهم يَعملون باختيارِهم، وإلَّا لَمَا استحَقَّوا الثَّناءَ، فلولا أنَّ الإنسانَ يَعمَلُ باختيارِه ما استَحقَّ أنْ يُثْنَى عليه بالعملِ الصَّالحِ، ولا أنْ يُذَمَّ بالعملِ السَّيِّئِ! ومِن ثَمَّ قالتِ الجبريَّةُ: إنَّ أفعالَ اللهِ غيرُ مُعَلَّلَةٍ! فاللهُ عندَهم يَظْلِمُ مَن شاء؛ وإنْ كان هو الَّذي أَجْبَرَه على العملِ! ويُثِيْبُ مَن شاء؛ وإنْ كان هو الَّذي أَجْبَرَه على العملِ، ولا حكمةَ في ذلك! فهُم لا يُعَلِّلُون أفعالَ اللهِ؛ بل أفعالُ اللهِ عندَهم لِمُجَرَّدِ المشيئةِ [777] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 352). !
14- قَولُ الله تعالى: الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ نصَّ على التَّوكُّلِ وإن كان داخِلًا في الصَّبرِ؛ لأنَّه يُحتاجُ إليه في كُلِّ فِعلٍ وتَركٍ مأمورٍ به، ولا يَتِمُّ إلَّا به [778] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (1/635). .
15- ذِكرُ الصَّبرِ والتَّوكُّلِ هنا مناسِبٌ؛ فإنَّ قَولَه تعالى في الآياتِ السَّابِقةِ: يَا عِبَادِيَ كان لبيانِ أنَّه لا مانِعَ مِن العبادةِ، ومَن يُؤذَى في بُقعةٍ فَلْيَخرُجْ منها، فحَصَل النَّاسُ على قِسْمَينِ: قادِرٌ على الخروجِ، وهو مُتوَكِّلٌ على رَبِّه، يَترُكُ الأوطانَ، ويُفارِقُ الإخوانَ. وعاجِزٌ وهو صابِرٌ على تحمُّلِ الأذى، ومُواظِبٌ على عبادةِ اللهِ تعالى [779] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/71). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
- قولُه: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ استِئنافٌ ابتدائيٌّ وقَعَ اعتِراضًا بيْنَ الجُملتَينِ المُتعاطفتَينِ: جُملةِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [العنكبوت: 52] ، وجُملةِ: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا [780] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/21). [العنكبوت: 58] .
- قولُه: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا النِّداءُ بعُنوانِ التَّعريفِ بالإضافةِ؛ لتَشريفِ المُضافِ، ومُصطلحُ القرآنِ: أنَّ (عِباد) إذا أُضِيف إلى ضَميرِ الجلالةِ، فالمرادُ بهم المؤمنونَ غالبًا إلَّا إذا قامَتْ قرينةٌ، كقولِه: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ [الفرقان: 17] ؛ وعليه فالوصفُ بـ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا في المَوصولِ مِن الدَّلالةِ على أنَّهم آمَنوا باللهِ حقًّا [781] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/22). .
- قولُه: فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ الفاءُ في قولِه: فَإِيَّايَ فاءُ التَّفريعِ، والفاءُ فَاعْبُدُونِ جوابُ شَرطٍ مَحذوفٍ؛ إذِ المعنى: إنَّ أرْضي واسعةٌ إنْ لم تُخْلِصوا العِبادةَ لي في أرضٍ فأخْلِصُوها في غَيرِها، ثمَّ حُذِفَ الشَّرطُ وعُوِّضَ عنه تَقديمُ المفعولِ، مع إفادةِ تَقديمِه معنَى الاختِصاصِ والإخلاصِ. وقيل: الفاءُ في قولِه: فَاعْبُدُونِ إمَّا مُؤكِّدةٌ للْفاءِ الأُولى؛ للدَّلالةِ على تَحقيقِ التَّفريعِ في الفِعلِ وفي مَعمولِه، أي: فلا تَعبُدوا غيري، فاعْبُدونِ، وإمَّا مُؤْذِنةٌ بمَحذوفٍ هو ناصبُ ضَميرِ المُتكلِّمِ تأكيدًا للعِبادةِ، والتَّقديرُ: وإيَّاي اعْبُدوا فاعبُدونِ، وهو أنسَبُ بدَلالةِ التَّقديمِ على الاختصاصِ؛ لأنَّه لَمَّا أفاد الأمرُ بتَخصيصِه بالعِبادةِ، كان ذِكْرُ الفاءِ علامةَ تَقديرٍ على تَقديرِ فِعلٍ مَحذوفٍ قُصِدَ مِن تَقديرِه التَّأكيدُ [782] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/461)، ((تفسير البيضاوي)) (4/198)، ((تفسير أبي حيان)) (8/364)، ((تفسير أبي السعود)) (7/45)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/22). .
- وحُذِفَت ياءُ المُتكلِّمِ بعدَ نُونِ الوِقايةِ في قولِه: فَاعْبُدُونِ؛ تخفيفًا، وللرِّعايةِ على الفاصلةِ [783] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/22). .
قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ جُملةٌ مُستأنَفةٌ جِيءَ بها حثًّا على المُسارَعةِ في الامتثالِ بالأمرِ [784] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/45). . وقيل: قولُه: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ اعتِراضٌ ثانٍ بيْن الجُملتَينِ المُتعاطفتَينِ؛ قُصِدَ منها تأْكيدُ الوعيدِ الَّذي تَضمَّنَتْه جُملةُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ ... [العنكبوت: 52] إلى آخِرِها، وتأكيدُ الوعْدِ الَّذي تَضمَّنَتْه جُملةُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا [العنكبوت: 58] ، أي: الموتُ مُدرِكٌ جميعَ الأنفُسِ، ثمَّ يُرجَعون إلى اللهِ. وقُصِدَ منها أيضًا تَهوينُ ما يُلاقِيه المؤمنونَ مِن الأذى في اللهِ، ولو بلَغَ إلى الموتِ بالنِّسبةِ لِمَا يَترقَّبُهم مِن فضْلِ اللهِ وثوابِه الخالدِ، وفيه إيذانٌ بأنَّهم يَترقَّبُهم جِهادٌ في سبيلِ اللهِ [785] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/22، 23). .
- قولُه: ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ جِيءَ بـ (ثمَّ)؛ لأنَّ بيْنَ الموتِ والمُثولِ بيْنَ يَدَيِ الملِكِ الجبَّارِ في دارِ الجزاءِ تراخيًا، كأنَّه قيل: ثمَّ إنَّكم ميِّتونَ فتُقبَرونَ، ثمَّ تُنشَرونَ، فواصِلون عَقِيبَه إلى الجزاءِ [786] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/194). .
2- قوله تعالى: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ عطْفٌ على جُملةِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ [العنكبوت: 52] ، وجِيءَ بالموصولِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا؛ للإيماءِ إلى وجْهِ بِناءِ الخبرِ، أي: نُبوِّئنَّهم غُرفًا لأجْلِ إيمانِهم وعمَلِهم الصَّالحِ [787] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/23). .
- قولُه: نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ إنشاءُ ثَناءٍ وتَعجُّبٍ على الأجْرِ الَّذي أُعْطُوه؛ فلذلك قُطِعَت عن العطْفِ [788] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/23). .
- قولُه: نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ المخصوصُ بالمدْحِ مَحذوفٌ؛ ثِقَةً بدَلالةِ ما قبْلَه عليه، أي: الجنَّةُ [789] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/45). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ، وقال في سُورةِ (آلِ عمرانَ): أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران: 136] ؛ فاختصَّ ما في سُورةِ (آلِ عمرانَ) بالواوِ في قولِه: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ، وخلَّى ما في سُورةِ (العنكبوتِ) منها؛ وذلك لأنَّ الآيةَ في سُورةِ (آلِ عِمرانَ) مَبنيَّةٌ على تَداخُلِ الأخبارِ؛ لأنَّ أوَّلَها: أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ؛ فـ أُولَئِكَ مُبتدأٌ، وجَزَاؤُهُمْ مُبتدأٌ ثانٍ، ومَغْفِرَةٌ خبرُ المُبتدأِ الثَّاني، وهو مع خبَرِه خبرُ المُبتدأِ الأوَّلِ، والجزاءُ هو الأجْرُ؛ فكأنَّه قال: أولئك أجْرُهم على أعمالِهم مَحْوُ ذُنوبِهم، وإدامةُ نَعيمِهم، أي: هو ترْكُ المُؤاخَذةِ بالذَّنْبِ، والتَّنعيمُ في جنَّةِ الخُلْدِ؛ فهذا الأجرُ مُفضَّلٌ على كلِّ أجرٍ يُعْطاه عاملٌ على عمَلِه؛ فنُسِقَت الأخبارُ بعضُها على بعضٍ؛ للتَّنبيهِ على النِّعمِ الَّتي هُيِّئتْ لِرَجاءِ الرَّاجينَ. والخبرُ إذا جاء بعدَ خبَرٍ في مِثلِ هذا التَّفصيلِ، فحقُّه أنْ يُعطَفَ على ما قبْلَه بالواوِ، وكقولِك: هذا الجزاءُ كذا وكذا.
وأمَّا الآيةُ في سُورةِ (العنكبوتِ): فإنَّ ما قبْلَها مَبْنيٌّ على أنْ يُدرَجَ الكلامُ فيه على جُملةٍ واحدةٍ، وهي: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا؛ فقولُه: وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُبتدأٌ، وقولُه: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ في مَوضعِ خَبرِه، وهذا الخبرُ يتَّصِلُ به مَفعولانِ؛ الأوَّلُ: قولُه: (هُمْ)، والثَّاني: قولُه: غُرَفًا، وقولُه: خَالِدِينَ فِيهَا حالٌ مِن التَّبوئةِ؛ فلمَّا جُعِلَت هذه الأشياءُ كلُّها في درَجِ كلامٍ واحدٍ، وهو جُملةُ ابتداءٍ وخبَرٍ، واحتمَلَ قولُه: نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ أنْ يَرِدَ بالواوِ وأنْ يَجِيءَ مِن دُونِها؛ اختِيرَ مَجِيئُها بغيرِ (واوٍ)؛ لِيُشْبِهَ ما تقدَّمَ مِن عَقدٍ بخبَرٍ، لا على سَبيلِ عطْفٍ ونسَقٍ، فجاء بغيرِ (واوٍ). ويَحتمِلُ أنْ يكونَ في مَوضعِ خبرِ مُبتدأٍ، فكأنَّه قال: ذلك نِعمَ أجْرُ العاملينَ، ويكون قولُه: ذَلِكَ إشارةً إلى ما ذكَرَ اللهُ تعالى مِن إسكانِهم الجنَّةَ؛ فجَرى بلا (واوٍ) مَجرَى ما هو مِن تَمامِ الكلامِ الأوَّلِ؛ فقولُه: نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ أي: ذلك نِعمَ أجْرُ العامِلينَ، مُشارٌ إليه بالتَّفضيلِ على أُجورِ العامِلينَ؛ فجاء كلٌّ على ما يُناسِبُ [790] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص:1014-1017)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 200)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/364). .
3- قوله تعالى: الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فيه تَقديمُ المَجرورِ على مُتعلَّقِه مِن قولِه: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ؛ للاهتمامِ [791] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/24). ، وإفادةِ الحصرِ [792] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 354). .
- وحذفُ مُتعلَّقِ التَّوكُّلِ يُفيدُ أنَّهم مُفَوِّضونَ الأمرَ كلَّه إليه [793] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (7/385). .