موسوعة التفسير

سورةُ المُؤْمِنونَ
الآيات (63-67)

ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ

غريب الكلمات:

مُتْرَفِيهِمْ: المُتْرفونَ: الأغنياءُ والرُّؤساءُ، أو المُنَعَّمُونَ في الدُّنْيا، والمُتقلِّبون فِي لِينِ العَيْشِ، الذين قد أبطَرَتْهم النِّعمةُ وسَعَةُ العَيشِ، والتُّرْفَةُ: التوسُّعُ في النِّعمةِ، وأصْلُ (ترف): التَّنعُّمُ [566] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 297)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 70)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/345)، ((المفردات)) للراغب (ص: 166)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 251)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/16)، ((تفسير ابن كثير)) (5/482)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 39). .
يَجْأَرُونَ: أي: يَضِجُّون (يَصيحونَ)، ويَستَغيثونَ باللهِ، ويَرْفعونَ أصْواتَهم بالدُّعاءِ، وجأَر: إذا أفرَطَ في الدُّعاءِ والتَّضرُّعِ، والجؤَارُ هو الصَّوتُ [567] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 298)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 517)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/493)، ((المفردات)) للراغب (ص: 211)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 251)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 308). .
تَنْكِصُونَ: أي: تَرْجِعون عنِ الإيمانِ، وتَرْجِعون القَهْقَرَى، أو تُعرِضون مُدْبرينَ، أو تَستأْخِرونَ، والنُّكوصُ: الإِحْجامُ عنِ الشَّيءِ، وعادةً ما يكونُ عن الخيرِ [568] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 298)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 150)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/477)، ((المفردات)) للراغب (ص: 824)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 251)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 308)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 319). .
سَامِرًا: أي: سُمَّارًا، وهم الجماعةُ يتحدَّثونَ باللَّيلِ، والسَّمرُ: الحديثُ باللَّيْلِ، مأخوذٌ مِنَ السَّمَرِ، وهو ظِلُّ القمرِ، ومنه سُمْرَةُ اللَّونِ، وأصْلُ (سمر): يدُلُّ على خِلافِ البَياضِ في اللَّونِ [569] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 298)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 266)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/100)، ((المفردات)) للراغب (ص: 425)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 251)، ((تفسير القرطبي)) (12/136)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 308)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 521). .
تَهْجُرُونَ: أي: تُعرِضونَ؛ مِنَ الهَجْرِ، وهو التَّرْكُ والإعراضُ، وأصلُه: يدُلُّ على قَطيعةٍ وقَطْعٍ، أو تَهْذُونَ؛ مِنَ الهَجْرِ، وهو الهَذَيانُ [570] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 299)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 150)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/34)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 308)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 320). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ
سَامِرًا مَنصوبٌ على الحالِ؛ إمَّا مِنْ فاعلِ تَنْكِصُونَ، وإمَّا مِنَ الضَّميرِ في مُسْتَكْبِرِينَ، والسَّامِرُ يقَعُ على ما فوقَ الواحِدِ بلَفظِ الإِفرادِ، تقولُ: قَومٌ سامِرٌ. وجُملةُ: تَهْجُرُونَ في مَحَلِّ نَصبٍ، حالٌ مِن فاعلِ تَنْكِصُونَ، أو مِنَ الضَّميرِ في سَامِرًا؛ لأنَّه بمعنى الجَماعةِ؛ فهو اسمٌ لجَمعِ السَّامرينَ، أي: المُتحَدِّثينَ في سَمَرِ اللَّيلِ، وهو ظُلمَتُه؛ فالسَّامِرُ كالحاجِّ والحاضِرِ والجامِلِ، بمعنى: الحُجَّاجِ والحاضرينَ وجَماعةِ الجِمالِ [571] يُنظر: ((معاني القرآن)) للنحاس (4/475)، ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (2/504)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (8/358)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (18/191). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ اللهُ تعالى عن الكافِرينَ أنَّ قُلوبَهم في جَهالةٍ وغَفلةٍ عنِ القُرآنِ الكريمِ، وأنَّ لهم أعمالًا سيِّئةً كثيرةً دونَ أعمالِ المُؤمِنينَ الصَّالحةِ التي ذكرها اللهُ هم مُستَمِرُّونَ عليها، يُمهِلُهم اللهُ سبحانَه حتَّى يَعمَلوها قبْلَ مَوتِهم؛ فيَحِقَّ عليهمُ العَذابُ.
حتَّى إذا عاقَبَ اللهُ هؤلاء المُترَفينَ -الَّذين أبطَرَتْهمُ النِّعمةُ- بالعذابِ الَّذي يُذِلُّهم، إذا هم يَصْرُخونَ ويَستَغيثونَ، فيُقالُ لهم: لا تَصرُخوا وتَستَغيثوا -أيُّها الكافِرونَ-؛ فلا فائِدةَ مِن هذا الصُّراخِ، ولنْ يُخلِّصَكم مِنَّا أحَدٌ؛ قد كانتْ الآياتُ تُتلَى عليكم، فكُنتُم تُعرِضونَ عنها، حالَ كونِكم مستكبرينَ بسببِ البيتِ الحرامِ، -تقولونَ: لا يَظهَرُ علينا أحدٌ؛ لأنَّا أهلُ الحَرمِ-، متحدِّثينَ ليلًا تَهْذونَ في شأنِ القرآنِ، وتقولونَ فيه الباطلَ.

تفسير الآيات:

بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
هذا رجوعٌ لأحوالِ الكفارِ المحكيَّةِ فيما سبَق بقولِه تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ ...، والجُمَلُ التي بيْنَهما -وهي قولُه: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ إلى قولِه: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ- اعتراضٌ في خلالِ الكلامِ المتعلِّقِ بالكفَّارِ [572] يُنظر: ((حاشية الجمل على الجلالين)) (3/209). .
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا.
أي: بلْ [573] قال ابن جرير: (يقولُ تعالى ذِكرُه: ما الأمرُ كما يحسَبُ هؤلاء المُشرِكونَ مِن أنَّ إمدادَناهم بما نُمِدُّهم به مِن مالٍ وبنينَ، بخيرٍ نَسوقُه بذلك إليهم، ورضًا منَّا عنهم؛ لكنَّ قلوبَهم في عَمًى عن هذا القرآنِ). ((تفسير ابن جرير)) (17/74). قُلوبُ المُشرِكينَ في عَمايةٍ وغَفلةٍ عنِ القُرآنِ؛ فهُم لا يُؤمِنونَ به، ولا يَتدبَّرونَه [574] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/74)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 289)، ((تفسير ابن كثير)) (5/482)، ((تفسير السعدي)) (ص: 554). وقيل: (هذه الآياتُ مِن صفاتِ المُشفقينَ، كأنَّه سبحانَه قال بعدَ وصفِهم: ولا نكلِّفُ نفْسًا إلَّا وُسْعَها، ونهايتُه ما أتَى به هؤلاء المشفقونَ، ولدينا كتابٌ يحفظُ أعمالَهم ينطقُ بالحقِّ، وهم لا يُظلمونَ، بل نوفرُ عليهم ثوابَ كلِّ أعمالِهم. بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا هو أيضًا وصفٌ لهم بالحيرةِ، كأنَّه قال: وهم مع ذلك الوجلِ والخوفِ كالمتحيِّرينَ في جعْلِ أعمالِهم مقبولةً أو مردودةً، وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ أي: لهم أيضًا مِن النوافلِ ووجوهِ البرِّ سِوى ما هم عليه، إمَّا أعمالًا قد عمِلوها في الماضي، أو سيَعمَلونها في المستقبَلِ، ثمَّ إنَّه سبحانَه رجَع بقولِه: حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إلى وصفِ الكفَّارِ). ونسَب الرَّازي هذا القولَ لأبي مسلمٍ، واختاره. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/285). .
وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ.
أي: وللمُشرِكينَ أعمالٌ سَيِّئةٌ رَديئةٌ دونَ أعمالِ المُؤمِنينَ الصَّالحةِ التي ذكرها الله، يُمهِلُهم اللهُ سبحانَه حتَّى يَعمَلوها قبْلَ مَوتِهم؛ فيَحِقَّ عليهمُ العَذابُ [575] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/74)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 749). ويُنظر أيضًا: ((تفسير القرطبي)) (12/134، 135)، ((تفسير ابن كثير)) (5/482)، ((تفسير السعدي)) (ص: 554). ممَّن اختار أنَّ المعنى: أنَّ لهؤلاء الكُفَّارِ أعمالًا لا يرضاها اللهُ مِن المعاصي مِن دونِ أعمالِ المؤمِنينَ التي ذكَرَها اللهُ سُبحانَه لا بُدَّ لهم مِن أن يَعمَلوها فيَدخُلوا بها النَّارَ: ابنُ جرير، والثعلبي، والواحدي، والبغوي -ونسبه لأكثرِ المفَسِّرينَ-، والنَّسَفيُّ، وجلال الدين المحلي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/74)، ((تفسير الثعلبي)) (7/51)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 749)، ((تفسير البغوي)) (3/369)، ((تفسير النسفي)) (2/473)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 451). قال الواحدي: (هُمْ لَهَا عَامِلُونَ إجماعُ المفسِّرينَ وأصحابِ المعاني على أنَّ هذا إخبارٌ عمَّا سيعملونَه مِن أعمالِهم الخبيثةِ التي كُتِبَت عليهم، لا بدَّ لهم أن يَعمَلوها). ((الوسيط)) للواحدي (3/294). وقال الشوكاني: (فالإشارةُ بقولِه: ذَلِكَ إمَّا إلى أعمالِ المؤمنينَ، أو إلى أعمالِ الكُفَّارِ، أي: لهم أعمالٌ مِن دُونِ أعمالِ المؤمنينَ التي ذَكَرَها اللهُ، أو مِنْ دونِ أعمالِ الكُفَّارِ التي تَقَدَّم ذِكرُها مِن كَونِ قُلوبِهم في غَفلةٍ عظيمةٍ مِمَّا ذُكِر، وهي فُنونُ كُفرِهم ومَعاصِيهم التي مِن جُملتِها ما سيأتي مِن طَعنِهم في القُرآنِ). ((تفسير الشوكاني)) (3/579). وقال السمعاني: (وقال قتادةُ: الآيةُ تَنصَرِفُ إِلى أصحابِ الطَّاعاتِ، ومعناه: أنَّ المؤمنينَ لهم أعمالٌ سِوى ما عَمِلوا مِن الخيرِ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ). ((تفسير السمعاني)) (3/481). وقال ابن الجوزي: (قَولُه تعالى: وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فيه أربعةُ أقوالٍ: أحدُها: أعمالٌ سَيِّئةٌ دونَ الشِّركِ. رواه عِكرمةُ عن ابنِ عبَّاسٍ. والثَّاني: خطايا مِن دونِ ذلك الحَقِّ. قاله مجاهِدٌ. وقال ابنُ جريرٍ: مِن دونِ أعمالِ المؤمِنينَ وأهلِ التَّقوى والخَشيةِ. والثَّالثُ: أعمالٌ غيرُ الأعمالِ التي ذُكِروا بها سيَعمَلونَها. قاله الزَّجَّاجُ. والرَّابعُ: أعمالٌ -مِن قَبْلِ الحِينِ الذي قدَّرَ الله تعالى أنَّه يُعَذِّبهم عند مجيئِه- مِن المعاصي. قاله أبو سليمان الدمشقي). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/266). ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/18). وقال ابن جُزَي: (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ أي: لهم أعمالٌ سَيِّئةٌ دونَ الغَمرةِ التي هم فيها، فالمعنى: أنَّهم يَجمَعونَ بينَ الكُفرِ وسُوءِ الأعمالِ، والإشارةُ بذلك على هذا إلى الغَمرةِ، وإنَّما أشار إليها بالتَّأكيدِ؛ لأنَّها في معنى الكُفرِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/53). وقال ابنُ كثيرٍ: (وقال آخرونَ: وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ أي: قد كُتِبَ عليهم أعمالٌ سَيِّئةٌ لا بُدَّ أن يَعمَلوها قبْلَ موتِهم لا محالةَ؛ لِتَحِقَّ عليهم كَلِمةُ العذابِ. ورُوِيَ نَحوُ هذا عن مُقاتِلِ بنِ حيَّان، والسُّدِّيِّ، وعبدِ الرَّحمنِ بنِ زيدِ بنِ أسلمَ. وهو ظاهرٌ قَويٌّ حَسَنٌ). ((تفسير ابن كثير)) (5/482). وقال ابنُ جُزي: (هُمْ لَهَا عَامِلُونَ قيل: هي إخبارٌ عن أعمالِهم في الحالِ. وقيل: عن الاستِقبالِ. وقيل: المعنى أنَّهم يتمادَونَ على عَمَلِها حتى يأخُذَهم اللهُ). ((تفسير ابن جزي)) (2/53). .
عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((فوالَّذي لا إلهَ غَيرُه، إنَّ أحَدَكم لَيَعمَلُ بعَمَلِ أهلِ الجَنَّةِ، حتَّى ما يكونُ بَيْنَه وبيْنَها إلَّا ذِراعٌ، فيَسبِقُ عليه الكِتابُ، فيَعمَلُ بعَمَلِ أهلِ النَّارِ، فيَدخُلُها. وإنَّ أحَدَكم لَيَعمَلُ بعَمَلِ أهلِ النَّارِ، حتَّى ما يكونُ بيْنَه وبيْنَها إلَّا ذِراعٌ، فيَسبِقُ عليه الكِتابُ، فيَعمَلُ بعَمَلِ أهلِ الجنَّةِ، فيَدخُلُها) ) [576] رواه البخاري (3332)، ومسلم (2643) واللفظ له. .
حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64).
أي: فإذا عذَّبَ اللهُ عُظَماءَ المُشرِكينَ المُنعَّمينَ، أخَذوا يَصرُخونَ ويَستَغيثونَ مِن شِدَّةِ عَذابِهم، طالِبينَ الخَلاصَ ممَّا أصابَهم [577] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/482)، ((تفسير السعدي)) (ص: 555)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/82)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/337). قال ابنُ الجوزي: (قوله تعالى: حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ أي: أغنياءَهم ورؤساءَهم، والإِشارةُ إِلى قريشٍ. وفي المرادِ بِالْعَذَابِ قولانِ: أحدُهما: ضربُ السيوفِ يومَ بدرٍ. قاله ابنُ عباسٍ، ومجاهدٌ، والضحَّاكُ. والثاني: الجوعُ الذي عُذِّبوا به سبعَ سنينَ. قاله ابنُ السَّائبِ). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/266). ممن اختار أنَّ المرادَ بِالْعَذَابِ: القتلُ يومَ بدرٍ: مقاتلُ بن سليمان، ويحيى بن سلام، وابن أبي زمنين، والسمعاني. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/160)، ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/408)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (3/205)، ((تفسير السمعاني)) (3/482). .
لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65).
أي: لا تَضِجُّوا وتَستَغيثوا -أيُّها الكافِرونَ-؛ فلا شَيءَ يُخلِّصُكم مِن عذابي، ولا يَنفَعُكم صُراخُكم [578] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/78)، ((تفسير القرطبي)) (12/135)، ((تفسير ابن كثير)) (5/482). .
قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بيَّنَ الله تعالى أنَّ المُتْرفينَ مِنَ الكُفَّارِ إذا أخَذَهُم ربُّهم بالعذابِ، ضَجُّوا وصاحُوا واستغاثُوا، وبيَّنَ أنَّهم لا يُغاثُونَ؛ بيَّنَ سبَبَ ذلك [579] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/338). ، وهو أنَّه متى تُلِيَتْ آياتُ اللهِ عليهم أتَوْا بأُمورٍ ثلاثةٍ: أحدِها: أنَّهم كانوا على أعقابِهم يَنكِصُون، وهذا مَثَلٌ يُضرَبُ فيمَنْ تَباعَد عن الحقِّ كلَّ التَّباعُدِ، وثانِيها: قولُه: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ، وثالثِها: يَسْمُرونَ بذِكْرِ القُرآنِ وبالطَّعنِ فيه [580] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/286). .
قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66).
أي: قد كانت آياتُ القُرآنِ تُقرَأُ عليكم؛ لِتُؤمِنوا بها قبْلَ أنْ يَحُلَّ بكمُ العَذابُ، فكنتُم تُكذِّبونَ بها، وتَرجِعونَ مُعرِضينَ عنها [581] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/79)، ((تفسير القرطبي)) (12/136)، ((تفسير السعدي)) (ص: 555)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/338). مِمن فَسَّر الرجوعَ بمعناه الحقيقي: ابنُ جرير، ومكِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/79)، ((الهداية الى بلوغ النهاية)) لمكي (7/4982). قال ابن جرير: (ترجِعونَ مولِّينَ عنها إذا سَمِعتُموها؛ كراهيةً منكم لسَماعِها). ((تفسير ابن جرير)) (17/79). وقيل: هو رجوعٌ معنويٌّ، بمعنَى التأخُّرِ عن الإيمان، والإعراضِ عن الحقِّ. وممَّن اختار هذا المعنَى في الجملةِ: مقاتلُ بن سليمان، وابن أبي زمنين، والواحدي، وابن عطية، والقرطبي، والخازن، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/161)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (3/205)، ((الوسيط)) للواحدي (3/294)، ((تفسير ابن عطية)) (4/149)، ((تفسير القرطبي)) (12/136)، ((تفسير الخازن)) (3/274)، ((تفسير السعدي)) (ص: 555). قال السعدي: (فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ أي: راجعينَ القَهقرى إلى الخلفِ؛ وذلك لأنَّ باتِّباعِهم القرآنَ يتقَدَّمونَ، وبالإعراضِ عنه يستأخِرونَ ويَنزِلونَ إلى أسفَلِ سافِلينَ). ((تفسير السعدي)) (ص: 555). قال البقاعي: (فَكُنْتُمْ أي: كونًا هو كالجبِلَّةِ عَلَى أَعْقَابِكُمْ عند تلاوتِها تَنْكِصُونَ أي: تَرجِعونَ القَهقَرى، إمَّا حِسًّا أو معنًى). ((نظم الدرر)) (13/163). .
كما قال تعالى: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف: 146] .
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67).
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ.
أي: والحالُ أنَّكم مُستَكبِرونَ بسببِ البيتِ الحرامِ، تقولونَ: لا يَظهَرُ علينا أحدٌ؛ لأنَّا أهلُ الحرمِ [582] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/80)، ((تفسير العليمي)) (4/480)، ((تفسير القاسمي)) (7/295)، ((تفسير السعدي)) (ص: 555). قال الرسعني: (والضميرُ في بِهِ كنايةٌ عن البيتِ الحرامِ شرَّفه الله تعالى في قولِ عامَّةِ المفسِّرينَ، وكانوا يفتخِرون به، ويقولونَ: نحن أهلُ الحرمِ، وجوارُ الله تعالى وسَدَنَةُ بيتِه، فلا يظهرُ علينا أحدٌ؛ فيكون كنايةً عن غيرِ مذكورٍ). ((تفسير الرسعني)) (5/137). وقال القرطبيُّ: (الضميرُ في بِهِ قال الجمهورُ: هو عائِدٌ على الحَرَمِ، أو المسجِدِ، أو البلد الذي هو مكَّةُ، وإن لم يتقدَّم له ذِكرٌ؛ لشهرتِه في الأمرِ، أي: يقولون: نحن أهلُ الحَرَمِ فلا نخافُ). ((تفسير القرطبي)) (12/136). وقال ابنُ عطية: (وقالت فرقةٌ: الضميرُ عائدٌ على القرآنِ مِن حيثُ ذُكِرت الآياتُ، والمعنَى يُحدِثُ لكم سماعُ آياتي كِبْرًا وطغيانًا). ((تفسير ابن عطية)) (4/149). وقال ابنُ كثير: (قولُه: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ في تفسيرِه قولانِ: أحدُهما: أنَّ مُسْتَكْبِرِينَ حالٌ منهم حين نكوصِهم عن الحقِّ وإبائهم إيَّاه؛ استكبارًا عليه، واحتقارًا له ولأهلِه، فعلى هذا الضميرُ في بِهِ فيه ثلاثة أقوال: أحدُهما: أنَّه الحرمُ بمكَّةَ، ذُمُّوا لأنَّهم كانوا يَسمُرون بالهُجرِ من الكلامِ. والثاني: أنه ضميرُ القرآن، كانوا يسمُرون ويذكُرون القرآنَ بالهُجرِ من الكلام: «إنَّه سِحر، إنه شِعر، إنه كِهانة» إلى غيرِ ذلك من الأقوالِ الباطلةِ. والثالث: أنَّه محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم، كانوا يذكرونَه في سَمَرهم بالأقوال الفاسدةِ، ويضرِبون له الأمثالَ الباطلةَ؛ مِن أنَّه شاعر أو كاهِنٌ أو ساحرٌ، أو كذَّابٌ أو مجنونٌ. وكلُّ ذلك باطِلٌ، بل هو عبدُ اللهِ ورسولُه، الذي أظهره اللهُ عليهم، وأخرجهم من الحرَمِ صاغرين أذِلَّاءَ. وقيل: المرادُ بقوله: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ أي: بالبيتِ، يفتخرون به ويعتَقِدون أنَّهم أولياؤُه، وليسوا بهم). ((تفسير ابن كثير)) (5/482). .
سَامِرًا تَهْجُرُونَ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قَولِه تعالى: تَهْجُرُونَ قِراءتانِ:
1- قِراءةُ تُهْجِرُونَ بضُمِّ التَّاءِ وكَسرِ الجِيمِ، أي: تُفْحِشُونَ، فكان الكفَّارُ إِذا سمِعوا قِراءَة رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم تكلَّموا بالهُجْرِ وهو الفُحشُ، وسبُّوا النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلمَّ [583] قرأ بها نافع. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/329). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((معاني القراءات)) للأزهري (2/192)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 489). !
2- قِراءةُ تَهْجُرُونَ بفَتحِ التَّاءِ وضَمِّ الجِيمِ، مِن الهَجْرِ بالفتحِ، إمَّا بمعنَى القطيعةِ أو الهذيانِ، أي: تُعرِضونَ عن القرآنِ، أو تهذونَ في شأنِه، مِن قولِك : هجرَ المريضُ، إذا هذَى، أي : تقولون اللغوَ مِن القولِ. وقيل: مِن الهُجْرِ بالضمِّ، أي: الفُحْشِ [584] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/329). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((معاني القراءات)) للأزهري (2/192)، ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 258)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 489)، ((تفسير البيضاوي)) (4/91). ، فيرجعُ إلى معنى القراءةِ الأُولى.
سَامِرًا تَهْجُرُونَ.
أي: حالَ كونِكم متحدِّثينَ ليلًا، تَهْذونَ في شأنِ القرآنِ، وتَقولونَ فيه ما لا معنَى له مِن القولِ؛ مِن الباطلِ الذي لا يضرُّه [585] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/84)، ((تفسير القرطبي)) (12/137)، ((تفسير العليمي)) (4/481). قال الواحدي: (الأكثرونَ على أنَّ السامرَ هاهنا: اسمٌ للجماعةِ الذين يسمرونَ. وهو معنَى قولِ ابنِ عبَّاسٍ، وأكثرِ المفسِّرينَ). ((البسيط)) (16/26). قال القرطبيُّ: (مِنْ «هَجَرَ المريضُ»: إذا هذَى، معناه: يتكلَّمونَ بهَوَسٍ وسَيئٍ مِنَ القَولِ في النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفي القرآنِ). ((تفسير القرطبي)) (12/137).       والمعنى الثاني على قراءةِ تَهْجُرُونَ: أي تُعرِضون عن القرآنِ، أو البيتِ، أو رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/84)، ((تفسير السمعاني)) (3/482). وقال ابنُ عاشور: (أي: في حالِ كَونِكم مُتحَدِّثينَ هجْرًا، وكان كبراءُ قُرَيشٍ يَسمُرون حَولَ الكعبةِ يتحَدَّثونَ بالطَّعنِ في الدِّينِ، وتكذيبِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((تفسير ابن عاشور)) (18/86). وقال البقاعي: (تَهْجُرُونَ أي: تُعرضون عنها [أي: الآياتِ]، وتقولونَ فيها القولَ الفاحشَ). ((نظم الدرر)) (13/164). .
كما قال سُبحانَه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: 4- 5].
وقال تَبارَكَ وتَعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] .
وقال تعالى: وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ [الأنبياء: 36] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قول الله تعالى: حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ جعَل تعالى الأخْذَ واقعًا على المترفينَ منهم؛ لأنَّهم الذين أضلُّوا عامَّةَ قَومِهم، والعامَّةُ أقرَبُ إلى الإنصافِ إذا فَهِموا الحقَّ؛ بسببِ سلامتِهم مِن جُلِّ دواعي المكابرةِ: مِن توقُّعِ تقلُّصِ سُؤددٍ، وزوالِ نعيمٍ. وكذلك حقٌّ على قادةِ الأُممِ أنْ يُؤاخَذوا بالتبعاتِ اللاحقةِ للعامَّةِ مِن جرَّاءِ أخطائِهم ومُغامرتِهم عن تضليلٍ أو سُوءِ تَدبُّرٍ، وأن يُسألوا عن الخَيبةِ أنْ ألْقَوا بالذين اتَّبعوهم في مهواةِ الخَطرِ، كما قال تعالى: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [الأحزاب: 67، 68]، لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [586] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/82). [النحل: 25].
2- قَولُ اللهِ تعالى: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ لعلَّه إنَّما قال: سَامِرًا بلَفْظِ المُفرَدِ؛ لأنَّ كلًّا منهم يَتحدَّثُ في أمْرِ الآياتِ مُجتمِعًا مع غَيرِه، ومُنفرِدًا مع نفْسِه حَديثًا كثيرًا، كحديثِ المُسامِرِ الَّذي مِن شأْنِه ألَّا يُمَلَّ، وقال: تَهْجُرُونَ أي: تُعرِضونَ عنها، وتقولونَ فيها القولَ الفاحِشَ، فأسنَدَه إلى الجمْعِ؛ لأنَّ بَعضَهم كان يَستمِعُها ولم يكُنْ يُفحِشُ القولَ فيها، أو تَعجيبًا مِن أنْ يَجتمِعَ جمْعٌ على مِثْلِ ذلك؛ لأنَّ الجمْعَ جَديرٌ بأنْ يُوجَدَ فيه مَن يُبصِرُ الحَقَّ، فيأمُرُ به [587] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/164). .
3- قال اللهُ تعالى: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ الآيةُ تدُلُّ على أنَّ السَّمرَ إنَّما يُكرَهُ في غَيرِ الخيرِ؛ لأنَّ (الهُجْرَ) هو القولُ الفاحِشُ [588] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 187). ويُنظر أيضًا: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/328). . على قَولٍ في التَّفسيرِ.
4- قولُه تعالى: إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ فيه تأْييسٌ لهم مِن النَّجاةِ مِن العَذابِ الَّذي هُدِّدُوا به [589] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/84، 85). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ
- قولُه: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا إضْرابُ انتقالٍ إلى ما هو أغرَبُ ممَّا سبَقَ، وهو وَصْفُ غَمرةٍ أُخرى انغمَسَ فيها المُشرِكون [590] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/141)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/80). .
- قولُه: وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ اللَّامُ في قولِه: (لَهُمْ أَعْمَالٌ) للاختصاصِ. وتَقديمُ المَجْرورِ بها على المُبتدأِ أَعْمَالٌ؛ لقَصْرِ المُسنَدِ إليه على المُسنَدِ، أي: لهم أعمالٌ لا يَعمَلون غيرَها مِن أعمالِ الإيمانِ والخَيراتِ. ويجوزُ أنْ يكونَ تَقديمُ لَهَا على عَامِلُونَ؛ لإفادةِ الاختصاصِ لقَصرِ القلْبِ [591] قصرُ القلْبِ: فهو أنْ يَقلِبَ المتكلمُ فيه حُكمَ السامعِ، كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمن يعتقدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرفٍ معينٍ، لكنَّه يقول: ما زيدٌ هناك بشاعرٍ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118)، ((التعريفات)) للجرجاني (1/175، 176)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن الميداني (1/525).. ، أي: لا يَعمَلون غيرَها مِن الأعمالِ الصَّالحةِ الَّتي دُعُوا إليها. ويجوزُ أنْ يكونَ للرِّعايةِ على الفاصلةِ؛ لأنَّ القَصرَ قد أُفِيدَ بتَقديمِ المُسنَدِ إليه [592] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/81). .
- ووَصْفُ أَعْمَالٌ بجُملةِ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ؛ للدَّلالةِ على أنَّهم مُستمِرُّونَ عليها لا يُقلِعون عنها؛ لأنَّهم ضُرُّوا بها لكَثرةِ انغماسِهم فيها. وجِيءَ بالجُملةِ الاسميَّةِ؛ لإفادةِ الدَّوامِ على تلك الأعمالِ وثَباتِهم عليها [593] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/81). .
2- قولُه تعالى: حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ
- قولُه: حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ  ... في تَخصيصِ المُترفينَ بالتَّعذيبِ -مع أنَّ شأْنَ العَذابِ الإلهيِّ إنْ كان دُنْيويًّا أنْ يعُمَّ النَّاسَ كلَّهم-: إشارةٌ إلى أنَّ المُتْرفينَ هم سبَبُ نُزولِ العذابِ بالعامَّةِ، ولولا نُفوذُ كَلِمتِهم على قَومِهم لاتَّبعَتِ الدَّهماءُ الحقَّ، ولأنَّ المُتْرفينَ هم أشَدُّ إحساسًا بالعذابِ؛ لأنَّهم لم يَعتادُوا مَسَّ الضَّراءِ والآلامِ، ولأنَّهم مع كَونِهم مُتَمنِّعينَ مَحْمِيِّينَ بحِمايةِ غَيرِهم مِن المَنَعةِ والحَشَمِ حين لَقُوا ما لَقُوا مِن الحالةِ الفظيعةِ، فلأنْ يَلْقاها مَنْ عَداهم مِن الحُماةِ والخَدمِ أَوْلى وأقدَمُ [594] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/142)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/82). . ويجوزُ أنْ يكونَ المُرادُ بالمُتْرفينَ جَميعَ المُشرِكينَ؛ فتَكونَ الإضافةُ بَيانِيَّةً [595] الإضافةُ البَيانيَّةُ: هي الَّتي تَكونُ على تقديرِ (مِن)، ويَكونُ المُضافُ إليه فيها جِنسًا للمُضافِ؛ مِثلُ: «سوارُ ذَهَبٍ، خاتمُ فضةٍ، ثوبُ قُطْنٍ»، أي: سوارٌ مِن ذهبٍ، وخاتمٌ مِن فضةٍ، وثوبٌ مِن قطنٍ. يُنظر: ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/446). ، ويكونَ ذِكْرُ المُتْرفينَ تَهويلًا في التَّهديدِ؛ تَذكيرًا لهم بأنَّ العذابَ يُزِيلُ عنهم تَرَفَهم؛ فيكونَ المعنى: حتَّى إذا أخَذْناهم وهم في تَرَفِهم [596] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/82، 83). .
- وقولُه: إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ كِنايةٌ عن شِدَّةِ ألَمِ العذابِ، بحيث لا يَستطيعونَ صَبرًا عليه؛ فيَصدُرُ منهم صُراخُ التَّأوُّهِ والوَيلِ والثُّبورِ [597] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/84). .
3- قولُه تعالى: لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ مُعترِضةٌ بيْنَ ما قَبْلَها، وما تَفرَّعَ عليه مِن قولِه: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [598] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/84). [المؤمنون: 68] ، وهي مَقولُ قَولٍ مَحذوفٍ؛ مَسُوقةٌ لرَدِّهم وتَبكيتِهم وإقْناطِهم ممَّا عَلَّقوا به أطْماعَهم الفارِغةَ مِن الإغاثةِ والإعانةِ مِن جِهَتِه تعالى [599] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/142). .
- وتَخصيصُ اليومِ بالذِّكرِ؛ لتَهويلِه، والإيذانِ بتَفويتِهم وَقتَ الجُؤارِ [600] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/142). .
- وقولُه: إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ تَعليلٌ للنَّهيِ المُستعمَلِ في التَّسويةِ؛ فمَوقِعُ (إنَّ) إفادةُ التَّعليلِ؛ لأنَّها تُغْني غَناءَ فاءِ التَّفريعِ [601] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/91)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/602)، ((تفسير أبي السعود)) (6/142)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/85). . وتَقديمُ الجارِّ والمَجرورِ مِنَّا؛ للاهتمامِ بجانِبِ اللهِ تعالى، ولرِعايةِ الفاصلةِ [602] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/85). .
- وضُمِّنَ تُنْصَرُونَ معنَى النَّجاةِ؛ فعُدِّيَ الفِعْلُ بـ (مِن)، أي: لا تَنْجُون مِن عَذابِنا، فثَمَّ مُضافٌ مَحذوفٌ [603] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/85). .
4- قولُه تعالى: قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ تَعليلٌ لعَدمِ لُحوقِ النَّصرِ مِن جِهَتِه بسَببِ كُفْرِهم بالآياتِ [604] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/142، 143). . وقيل: استئنافٌ، والخَبرُ مُسْتَعمَلٌ في التَّنديمِ والتَّلهيفِ، وإنَّما لم تُعطَفِ الجُملةُ على جُملةِ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ؛ لقَصدِ إفادةِ معنًى بها غيرِ التَّعليلِ؛ إذ لا كَبيرَ فائدةٍ في الجَمعِ بيْن عِلَّتينِ [605] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/85). .
- قَولُه: قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ لَمَّا كانتْ عَظمةُ الآياتِ -الَّتي استحَقَّتْ بها الإضافةَ إلى اللهِ تعالى- تَكْفي في الحثِّ على الإيمانِ بمُجرَّدِ سَماعِها؛ بُنِيَ للمَفعولِ قولُه: تُتْلَى عَلَيْكُمْ [606] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/163). .
- وذِكْرُ فِعلِ (كُنتم)؛ للدَّلالةِ على أنَّ ذلك شأْنُهم. وذِكْرُ المُضارِعِ تَنْكِصُونَ؛ للدَّلالةِ على التَّكرُّرِ، فذلك خُلُقٌ منهم مُعادٌ مَكرورٌ [607] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/85). .
5- قوله تعالى: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ
- قولُه: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ الضَّميرُ في بِهِ للبَيتِ العَتيقِ أو للحرمِ، والَّذي سَوَّغَ هذا الإضمارَ شُهْرَتُهم بالاستِكبارِ بالبيتِ. ويَجوزُ أنْ يَرجِعَ إلى آَيَاتِي، إلَّا أنَّه ذُكِّرَ؛ لأنَّها في مَعنَى (كتابي). ومعنَى استكبارِهم بالقُرآنِ: تَكذيبُهم به استِكبارًا، ضُمِّنَ مُسْتَكْبِرِينَ معنى مُكذِّبينَ، أو يُحدِثُ لكم استِماعُه استِكبارًا وعُتُوًّا، فأنتم مُستكبِرونَ بسَببِه. أو تَتعلَّقُ الباءُ بـ سَامِرًا، أي: تَسمُرونَ بذِكْرِ القُرآنِ وبالطَّعنِ فيه. وقيل: الضَّميرُ لرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويُحسِّنُه أنَّ في قولِه: تُتْلَى عَلَيْكُمْ دَلالةً على التَّالي، وهو الرَّسولُ عليه السَّلامُ [608] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/194)، ((تفسير البيضاوي)) (4/91)، ((تفسير أبي حيان)) (7/572)، ((تفسير أبي السعود)) (6/143)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/85، 86). .