موسوعة التفسير

سُورةُ النَّصْرِ
الآيات (1-3)

ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ

غريب الكلمات:

أَفْوَاجًا: أي: جماعاتٍ كثيرةً، فَوجًا بعْدَ فَوجٍ، وأصلُ (فوج): يدُلُّ على تجَمُّعٍ [5] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 365)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/458)، ((المفردات)) للراغب (ص: 646)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 419). .
تَوَّابًا: التَّوَّابُ فعَّالٌ مِن تابَ يَتوبُ: أي: يُوفِّقُ العبدَ للتَّوبةِ، ويَقْبَلُها منه، وحقيقةُ التَّوبةِ الرُّجوعُ إلى اللهِ بالْتِزامِ فِعلِ ما يُحِبُّ، وتَرْكِ ما يَكْرَهُ، وأصلُ (توب): يدُلُّ على الرُّجوعِ [6] يُنظر: ((اشتقاق أسماء الله)) للزجاجي (ص: 62)، ((شأن الدعاء)) للخطابي (1/90)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/357)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/313)، ((تفسير أسماء الله الحسنى)) للسعدي (ص: 176). وقال ابن جرير: (إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا يقولُ: إنَّه كان ذا رُجوعٍ لعَبْدِه المُطيعِ إلى ما يُحِبُّ). ((تفسير ابن جرير)) (24/713). .

المعنى الإجمالي:

 افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ مخاطِبًا نَبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم، بقَولِه تعالى:
إذا نصَرَك اللهُ -يا محمَّدُ- على أعدائِك، وتحقَّق لك فَتحُ مكَّةَ، ورأَيتَ العَرَبَ يَدخُلونَ في الإسلامِ جماعاتٍ كثيرةً؛ فنَزِّهْ رَبَّك عن النَّقائِصِ والعُيوبِ تَنزيهًا مُقتَرِنًا بحَمْدِه، واطلُبْ منه محوَ ذُنوبِك؛ إنَّ اللهَ مُتَّصِفٌ أزَلًا وأبدًا بالتَّوبةِ على عِبادِه.

تفسير الآيات:

إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1).
أي: إذا نصَرَك اللهُ -يا محمَّدُ- على أعدائِك، وتحقَّق لك فَتحُ مكَّةَ [7] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/705)، ((تفسير القاسمي)) (9/560)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/587-590)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 339). قال ابنُ عاشور: (النَّصرُ: الإعانةُ على العَدُوِّ، ونَصرُ اللهِ يَعقُبُه التَّغَلُّبُ على العَدُوِّ. والفَتحُ: امتِلاكُ بلَدِ العَدُوِّ وأرضِه). ((تفسير ابن عاشور)) (30/590). وفي المرادِ بالنَّصرِ قَولانِ؛ أحدُهما: نصرُ الرَّسولِ على قُرَيشٍ. والثَّاني: نَصْرُه على كلِّ مَن قاتَله مِن أعدائِه، فإنَّ عاقبةَ النَّصرِ كانت له. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/359)، ((تفسير القرطبي)) (20/230). قال ابنُ عطيَّةَ: (النَّصرُ الَّذي رآه رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم هو غلَبتُه لقُرَيشٍ ولِهَوازِنَ وغيرِ ذلك). ((تفسير ابن عطية)) (5/532). وقال الماوَرْدي: (وفي هذا الفتحِ قَولانِ؛ أحدُهما: فتحُ مكَّةَ، قاله الحسَنُ، ومُجاهِدٌ. الثَّاني: فتحُ المدائنِ والقُصورِ، قاله ابنُ عبَّاسٍ، وابنُ جُبَيرٍ. وقيل: ما فتحه عليه مِن العُلومِ). ((تفسير الماوردي)) (6/360). وقال ابنُ عطيَّةَ: (الفَتحُ: هو فَتحُ مكَّةَ والطَّائِفِ ومُدُنِ الحجازِ وكثيرٍ مِنَ اليمَنِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/532). وقال ابنُ كثير: (المرادُ بالفَتحِ هاهنا فَتحُ مكَّةً قَولًا واحِدًا؛ فإنَّ أحياءَ العرَبِ كانت تَتلَوَّمُ [أي: تنتظر] بإسلامِها فَتحَ مكَّةَ، يقولونَ: إنْ ظَهَر على قَومِه فهو نبيٌّ، فلمَّا فتح اللهُ عليه مكَّةَ دخَلوا في دينِ اللهِ أفواجًا، فلم تَمْضِ سنَتانِ حتَّى استَوْسَقَت جزيرةُ العَربِ إيمانًا، ولم يَبْقَ في سائِرِ قبائِلِ العَرَبِ إلَّا مُظهِرٌ للإسلامِ، وللهِ الحَمدُ والمِنَّةُ). ((تفسير ابن كثير)) (8/513). ويُنظر: ((صحيح البخاري)) (4302). .
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2).
أي: ورأَيتَ العَرَبَ -يا محمَّدُ- يَدخُلونَ في الإسلامِ الَّذي أرسلَك اللهُ به جماعاتٍ كثيرةً، فَوجًا بعْدَ فَوجٍ [8] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/705)، ((تفسير القرطبي)) (20/230)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/316)، ((تفسير الشوكاني)) (5/624). قال ابنُ عطيَّةَ: (دُخولُ النَّاسِ في الإسلامِ أفواجًا كان بيْن فَتحِ مكَّةَ إلى موتِه صلَّى الله عليه وسلَّم). ((تفسير ابن عطية)) (5/532). ويُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (6/78). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((لَمَّا نزَلَت: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: أتاكم أهلُ اليَمَنِ، هم أرَقُّ قُلوبًا، الإيمانُ يَمانٍ، الفِقهُ يَمانٍ، الحِكمةُ يَمانيَةٌ )) [9] أخرجه أحمدُ (7722)، وعبدُ الرَّزَّاقِ في ((التفسير)) (3726). صحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (14/149)، والألبانيُّ على شَرطِ الشَّيخَينِ في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (3369)، وشعيبٌ الأرناؤوط على شَرطِ الشَّيخَينِ في تخريج ((مسند أحمد)) (13/156). وقال ابنُ حَجَرٍ في ((الكافي الشاف)) (327): (أصلُه في مسلمٍ دونَ ما في أوَّلِه، وله شاهِدٌ). .
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3).
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ.
أي: فنَزِّهْ -يا محمَّدُ- رَبَّك عن النَّقائِصِ والعُيوبِ تنزيهًا مُقتَرِنًا بحَمْدِه، وهو وَصْفُه بصِفاتِ الكَمالِ محبَّةً له وتعظيمًا، واطلُبْ منه محوَ ذُنوبِك [10] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/707، 713)، ((تفسير القرطبي)) (20/231)، ((تفسير ابن جزي)) (2/520)، ((تفسير السعدي)) (ص: 936)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 341). .
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يُكثِرُ مِن قَولِ: سُبحانَ اللهِ وبحَمْدِه، أستَغفِرُ اللهَ وأتوبُ إليه. فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أَراك تُكثِرُ مِن قَولِ: سُبحانَ اللهِ وبحَمْدِه، أستَغفِرُ اللهَ وأتوبُ إليه. فقال: خَبَّرَني ربِّي أنِّي سأرى علامةً في أمَّتي، فإذا رأيتُها أكثَرْتُ مِن قَولِ: سُبحانَ اللهِ وبحَمْدِه، أستَغفِرُ اللهَ وأتوبُ إليه، فقد رأيتُها: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فَتحُ مكَّةَ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)) [11] رواه مسلم (484). .
وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يُكثِرُ أن يقولَ في رُكوعِه وسُجودِه: سُبحانَك اللَّهمَّ رَبَّنا وبحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغفِرْ لي؛ يَتأوَّلُ القُرآنَ [12] يَتأوَّل القرآنَ: أي يَفعلُ ما أُمِر به. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (2/299). ) [13] رواه البخاري (4968)، ومسلم (484). .
وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: (كان عُمَرُ يُدخِلُني مع أشْياخِ بَدْرٍ، فقال بعضُهم: لِمَ تُدخِلُ هذا الفتى معنا ولنا أبناءٌ مِثْلُه؟! فقال: إنَّه مِمَّن قد عَلِمتُم، فدعاهم ذاتَ يومٍ ودعاني معهم، وما رُئِيتُه [14] رُئِيتُه: أي: ظنَنْتُه. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (6/395). دعاني يَومَئذٍ إلَّا لِيُريَهم مِنِّي [15] لِيُريَهم مِنِّي: أي: بعضَ فضيلتي. يُنظر: ((الكواكب الدراري)) للكرماني (16/139). ، فقال: ما تَقولون في: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا حتَّى ختَمَ السُّورةَ؟ فقال بعضُهم: أُمِرْنا أن نحمَدَ اللهَ ونَستَغفِرَه إذا نصَرَنا وفَتَح علينا، وقال بعضُهم: لا ندري، أو لم يَقُلْ بعضُهم شيئًا، فقال لي: يا ابنَ عبَّاسٍ، أكذاك تقولُ؟ قُلتُ: لا، قال: فما تقولُ؟ قلتُ: هو أجَلُ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم أعْلَمَه اللهُ له: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فَتحُ مكَّةَ، فذاك علامةُ أجَلِك، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا، قال عُمَرُ: ما أعلَمُ منها إلَّا ما تَعلَمُ) [16] رواه البخاري (4294). .
إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا.
أي: إنَّ اللهَ مُتَّصِفٌ أزَلًا وأبدًا بالتَّوبةِ على عِبادِه، فيُوَفِّقُهم إليها، ويَقْبَلُها منهم [17] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (20/233)، ((تفسير أسماء الله الحسنى)) للسعدي (ص: 176)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/596)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 342). قال القرطبي: (إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا: أي: على المُسَبِّحينَ والمُستَغفِرينَ). ((تفسير القرطبي)) (20/233). .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء: 16].
وقال سُبحانَه وتعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ [الشورى: 25] .

الفوائد التربوية:

1- قال اللهُ تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا الأمورُ الفاضِلةُ تُختَمُ بالاستغفارِ، كالصَّلاةِ والحَجِّ، وغيرِ ذلك، فأمْرُ اللهِ لرَسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم بالحَمدِ والاستغفارِ في هذه الحالِ إشارةٌ إلى أنَّ أجَلَه قد اقترب؛ فلْيَستعِدَّ ويتهيَّأْ للقاءِ رَبِّه، ويختِمْ عُمُرَه بأفضَلِ ما يجِدُه صَلَواتُ اللهِ وسَلامُه عليه [18] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 936). . فالواجبُ على الإنسانِ أن يَحرِصَ في آخِرِ عُمُرِه على الإكثارِ مِن طاعةِ الله، ولا سيَّما ما أوجَب اللهُ عليه، وأن يُكثِرَ مِن الاستِغفارِ والحَمدِ [19] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/140). .
2- في قَولِه تعالى: إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا إشارةٌ إِلى أنَّه سُبحانَه يَقْبَلُ تَوبةَ المستغفِرينَ المُنيبينَ إليه؛ فهو تَرغيبٌ في الاستغفارِ، وحَثٌّ على التَّوبةِ [20] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (2/518). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال اللهُ تبارك وتعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا الإخبارُ بذلك كُلِّه قبْلَ وُقوعِه إخبارٌ بغَيبٍ؛ فهو مِن أعلامِ النُّبُوَّةِ [21] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/520). .
2- في قَولِه تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إعلامٌ منه سُبحانَه لنَبِيِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بدُنُوِّ أجَلِه، وهذا مِن أدَقِّ الفَهمِ وألطَفِه، ولا يُدْرِكُه كلُّ أحدٍ؛ فإنَّه سُبحانَه لم يُعَلِّقِ الاستغفارَ بعَمَلِه، بل عَلَّقَه بما يُحدِثُه هو سُبحانَه مِن نِعمةِ فَتْحِه على رَسولِه ودُخولِ النَّاسِ في دِينِه، وهذا ليس بسَبَبٍ للاستغفارِ؛ فعُلِمَ أنَّ سببَ الاستغفارِ غيرُه، وهو حُضورُ الأجَلِ الَّذي مِن تمامِ نعمةِ اللهِ على عَبْدِه توفيقُه للتَّوبةِ النَّصوحِ والاستغفارِ بيْن يَدَيه؛ لِيَلْقَى ربَّه طاهِرًا مُطهَّرًا مِن كلِّ ذنْبٍ، فيَقْدَمَ عليه مسرورًا راضيًا مَرْضيًّا عنه، ويدُلُّ عليه أيضًا قولُه: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ، وهو صلَّى الله عليه وسلَّم كان يُسَبِّحُ بحَمدِه دائمًا، فعُلِمَ أنَّ المأمورَ به مِن ذلك التَّسبيحِ بعْدَ الفتحِ ودُخولِ النَّاسِ في هذا الدِّينِ أمرٌ أكبَرُ مِن ذلك المتقدِّمِ، وذلك مُقَدِّمةٌ بيْن يَدَي انتقالِه إلى الرَّفيقِ الأعلى، وأنَّه قد بَقِيت عليه مِن عُبوديَّةِ التَّسبيحِ والاستِغفارِ الَّتي تُرَقِّيه إلى ذلك المقامِ بقيَّةٌ، فأَمَرَه بتوفيتِها، ويدُلُّ عليه أيضًا أنَّه سُبحانَه شَرَعَ التَّوبةَ والاستغفارَ في خواتيمِ الأعمالِ؛ فشَرَعَها في خاتمةِ الحجِّ وقيامِ اللَّيلِ، وكان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إذا سَلَّمَ مِن الصَّلاةِ استغفرَ ثلاثًا [22] يُنظر ما أخرجه مسلم (591) من حديث ثَوْبانَ رضيَ الله عنه. ، فعُلِمَ أنَّ التَّوبةَ مَشروعةٌ عَقِيبَ الأعمالِ الصَّالحةِ، فأَمَرَ رسولَه بالاستِغفارِ عَقِيبَ توفيتِه ما عليه مِن تبليغِ الرِّسالةِ والجِهادِ في سبيلِه حينَ دَخَلَ النَّاسُ في دِينِه أفواجًا، فكأنَّ التَّبليغَ عبادةٌ قد أكمَلَها وأدَّاها؛ فشُرِعَ له الاستِغفارُ عَقِيبَها [23] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/266). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا لم يقلْ: (في دينِ الرَّبِّ)، ولا سائِرِ الأسماءِ؛ لأنَّ هذا الاسمَ أعظَمُ الأسماءِ -على قولٍ-؛ لدَلالتِه على الذَّاتِ والصِّفاتِ، فكأنَّه يقولُ: هذا الدِّينُ إن لم يكُنْ له خَصلةٌ سِوى أنَّه دينُ اللهِ، فإنَّه يكونُ واجِبَ القَبولِ. وقيل غير ذلك [24] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/341). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ يدُلُّ على فَضلِ التَّسبيحِ والتَّحميدِ؛ حيثُ يُجعَلُ كافيًا في أداءِ ما وَجَب عليه مِن شُكرِ نِعمةِ النَّصرِ والفَتحِ [25] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/343). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا فيه استِحبابُ التَّسبيحِ في الرُّكوعِ والسُّجودِ [26] وهذا مذهبُ الجمهورِ؛ مِن الحنفيَّةِ، والمالكيَّةِ، والشافعيَّةِ، وهو روايةٌ عن أحمدَ، وقولُ أكثرِ الفُقهاءِ. يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/107)، ((التاج والإكليل)) للموَّاق (1/538)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (1/499)، ((المغني)) لابن قدامة (1/362). وذهَب الحنابلةُ، والظَّاهريَّةُ إلى أنَّ التَّسبيحَ في الرُّكوعِ والسُّجودِ واجبٌ، واختارَه ابنُ تيميَّةَ، وابنُ بازٍ، وابنُ عُثَيمين. يُنظر: ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/347)، (شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (2/414)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (22/550)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (30/14)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (3/320). ، عن عائشةَ رضيَ الله عنها قالت: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يُكثِرُ أن يقولَ في رُكوعِه وسُجودِه: سُبحانَك اللَّهُمَّ رَبَّنا وبحَمْدِك، اللَّهُمَّ اغفِرْ لي؛ يَتأوَّلُ القُرآنَ)) [27] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:301). والحديث أخرجه البخاريُّ (4968)، ومسلمٌ (484) من حديث عائشةَ رضيَ الله عنها. .
6- في قَولِه تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ اقتِرانُ التَّسبيحِ بالحَمدِ، فالباءُ هنا للمُصاحَبةِ؛ وذلك لأنَّه إذا كان التَّسبيحُ مصحوبًا بالحَمدِ فإنَّه به يَتحقَّقُ الكَمالُ؛ لأنَّ الكَمالَ لا يَتحقَّقُ إلَّا بانتفاءِ العيوبِ، وثُبوتِ صِفاتِ الكَمالِ؛ فانتِفاءُ العُيوبِ مأخوذٌ مِن قَولِه: فَسَبِّحْ؛ لأنَّ التَّسبيحَ معناه التَّنزيهُ عن كلِّ نَقصٍ وعَيبٍ، وثبوتُ الكمالاتِ مأخوذٌ مِن قولِه: بِحَمْدِ؛ لأنَّ الحمدَ هو وَصفُ المحمودِ بالصِّفاتِ الكامِلةِ [28] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/145). .
7- في قَولِه تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا إشارةٌ إلى قُربِ وفاةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ويحتَمِلُ أن يكونَ فيه إشارةٌ إلى أنَّ قِلَّةَ الفُتوحِ في زمانِه صلَّى الله عليه وسلَّم لا صُنْعَ له فيه؛ لأنَّ سبَبَه قِصَرُ مُدَّتِه، فمعنى المغفرةِ له: رَفْعُ الملامةِ عنه صلَّى الله عليه وسلَّم [29] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (7/39). .
8- قال اللهُ تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا أمَرَ بالتَّسبيحِ والحَمدِ؛ لِيَكونَ شُكرًا على النَّصرِ والفَتحِ وظُهورِ الإسلامِ، وأمَرَه بذلك وبالاستغفارِ عندَ اقترابِ أجَلِه؛ ليَكونَ ذلك زادًا للآخِرةِ وعُدَّةً للِقاءِ اللهِ [30] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/520). .
9- في قَولِه تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا أمْرُه سُبحانَه للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالتَّسبيحِ بحَمْدِه، والاستغفارِ في هذه الحالِ، وهذا لا يَقتضي أنَّه لا يُشرَعُ في غَيرِها، أو لا يُؤمَرُ به غَيرُه، بل يَقتضي أنَّ هذا سَبَبٌ لِمَا أُمِرَ به -وإنْ كان مأمورًا به في مواضعَ أُخَرَ- كما يُؤْمَرُ الإنسانُ بالحَمدِ والشُّكرِ على نِعمةٍ وإنْ كان مأمورًا بالشُّكرِ على غيرِها، وكما يُؤمَرُ بالتَّوبةِ مِن ذَنْبٍ وإنْ كان مأمورًا بالتَّوبةِ مِن غيرِه، لكنْ هو أُمِرَ أنْ يَختِمَ عمَلَه بهذا، فغيرُه أحوَجُ إلى هذا منه، وقد يَحتاجُ العَبدُ إلى هذا في غيرِ هذه الحالِ، كما يَحتاجُ إلى التَّوبةِ؛ فهو محتاجٌ إلى التَّوبةِ والاستِغفارِ مُطلقًا [31] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/689). .
10- في قَولِه تعالى: وَاسْتَغْفِرْهُ سؤالٌ: أنَّ اللهَ تبارك وتعالى أنزَلَ على نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [الفتح: 1-2] ، والفَتحُ قد حَصَل، فيكونُ المعلولُ حاصلًا، وهو المغفرةُ، فكيف يدعو بالمغفِرةِ؟
الجوابُ: أنَّ هذا مِن بابِ كَمالِ التَّذَلُّلِ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم للهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّ هذا مِن بابِ التَّأكيدِ لِمَا ثَبَتَ، والتَّوكيدُ لِمَا ثَبَتَ أمرٌ معلومٌ في اللُّغةِ العربيَّةِ [32] يُنظر: ((فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام)) لابن عثيمين (2/104). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ
- قولُه: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ عُطِفَ الفتْحُ على النَّصرِ؛ لأنَّهما مُتغايِرانِ؛ فالنَّصرُ الإغاثةُ والإظهارُ على العدُوِّ، ومنه: نصَرَ اللهُ الأرضَ؛ غاثَها، والفتحُ: فتْحُ البلادِ [33] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/810)، ((تفسير أبي حيان)) (10/562). .
- والمُرادُ بالفتْحِ: فتْحُ مكَّةَ، كما يُشعِرُ به التَّعريفُ بلامِ العهْدِ، وهو المعهودُ في قَولِه تعالَى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا [الفتح: 1- 3] ؛ فإضافةُ نَصْرُ إلى اللَّهِ تُشعِرُ بتَعظيمِ هذا النَّصرِ، وأنَّه نصْرٌ عَزيزٌ، خارقٌ للعادةِ، اعْتَنى اللهُ بإيجادِ أسبابِه، ولم تَجْرِ على مُتعارَفِ تَولُّدِ الحَوادثِ عن أمثالِها [34] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/590). ، فمعناه: نَصرٌ لا يَليقُ إلَّا باللهِ، ولا يَليقُ أن يَفعَلَه إلَّا اللهُ، أو لا يليقُ إلَّا بحِكمتِه، ويُقالُ: (هذا صَنعةُ زَيدٍ)، إذا كان زيدٌ مَشهورًا بإحكامِ الصَّنعةِ، والمرادُ منه تعظيمُ حالِ تلك الصَّنعةِ، فكذا هاهنا. أو: لأنَّه إجابةٌ لدُعائِهم: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة: 214] ، فيقولُ: هذا الَّذي سألْتُموه [35] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/336). .
وقيل: مُتعلَّقُ النَّصرِ والفتْحِ مَحذوفٌ؛ وهو نصْرُ رَسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم والمؤمنينَ على أعْدائِهم، وفتْحُ مكَّةَ وغيرِها عليهم؛ كالطَّائفِ ومُدنِ الحِجازِ وكثيرٍ مِن اليمَنِ. وقيل: نصْرُه صلَّى الله عليه وسلَّم على قُرَيشٍ، وفتْحُ مكَّةَ [36] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/562، 563). .
وقيلَ: المرادُ: جِنسُ نصْرِ الله تعالَى ومُطلَقُ الفتْحِ؛ فإنَّ فتْحَ مكَّةَ لَمَّا كانَ مِفْتاحَ الفُتوحِ ومَناطَها -كما أنَّ نفْسَها أمُّ القُرَى وإمامُها- جُعِلَ مَجيئُه بمَنزلةِ مَجيءِ سائرِ الفُتوحِ، وعُلِّقَ بهِ أمْرُه عليه السَّلامُ بالتَّسبيحِ والحمْدِ [37] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/208). .
2- قولُه تعالَى: وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا النَّاسُ: اسمُ جمْعٍ يدُلُّ على جَماعةٍ مِن الآدَميِّينَ، والتَّعريفُ في هذه الآيةِ قيل: هو للاستِغراقِ العُرفيِّ، أي: جَميعَ النَّاسِ الَّذين يَخطُرون بالبالِ؛ لعَدَمِ إرادةِ مَعهودينَ مُعيَّنينَ، ولاستحالةِ دُخولِ كلِّ إنسانٍ في دِينِ اللهِ بدَليلِ المُشاهَدةِ، فالمعْنى: ورَأيتَ العرَبَ، أو: ورَأيتَ ناسًا كَثيرينَ [38] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/592، 593). .
3- قولُه تعالَى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا قُرِنَ التَّسبيحُ بالحمْدِ بباءِ المُصاحَبةِ -على قولٍ- المُقتضيةِ أنَّ التَّسبيحَ لاحقٌ للحمْدِ؛ لأنَّ باءَ المُصاحَبةِ بمعْنى (مع)، فهي مِثلُ (مع) في أنَّها تَدخُلُ على المَتبوعِ، فكان حمْدُ اللهِ على حُصولِ النَّصرِ والفتْحِ ودُخولِ النَّاسِ في الإسلامِ شيئًا مَفْروغًا منه لا يحتاجُ إلى الأمرِ بإيقاعِه؛ لأنَّ شَأنَ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قدْ فَعَلَه، وإنَّما يحتاجُ إلى تَذكيرِه بتَسبيحٍ خاصٍّ لم يَحصُلْ مِن قبْلُ في تَسبيحاتِه، وباستغفارٍ خاصٍّ لم يَحصُلْ مِن قبْلُ في استِغفارِه [39] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/593). . والحمْدُ مُضافٌ للمَفعولِ، أي: فسَبِّحْه حامدًا له، أي: نزِّهْه عمَّا لا يَليقُ به، وأثبِتْ له ما يَليقُ به، فهي داخلةٌ في حيِّزِ الأمرِ. وقيل: الباءُ للاستعانةِ، والحمدُ مُضافٌ إلى الفاعلِ، أي: سبِّحْه بما حَمِدَ به نفْسَه، كقولِه: الْحَمْدُ لِلَّهِ؛ إذ ليس كلُّ تسبيحٍ بمحمودٍ [40] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (2/ 517)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/606). .
- والأمرُ بالاستغفارِ مع التَّسبيحِ في قَولِه: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ تَكميلٌ للأمرِ بما هو قِوامُ أمْرِ الدِّينِ؛ مِن الجمْعِ بيْن الطَّاعةِ، والاحتراسِ مِن المَعصيةِ، ولأنَّ الاستغفارَ مِن التَّواضُعِ للهِ وهضْمِ النَّفْسِ، فهو عِبادةٌ في نفْسِه [41] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/811، 812)، ((تفسير أبي حيان)) (10/564)، ((تفسير أبي السعود)) (9/209). .
- وتَقديمُ التَّسبيحِ والحمْدِ على الاستِغفارِ؛ لأنَّ التَّسبيحَ راجعٌ إلى وَصْفِ اللهِ تعالَى بالتَّنزُّهِ عن النَّقصِ، وهو يَجمَعُ صِفاتِ السَّلبِ، فالتَّسبيحُ مُتمحِّضٌ لجانبِ اللهِ تعالَى، ولأنَّ الحمْدَ ثَناءٌ على اللهِ لإنعامِه، وهو أداءُ العبْدِ ما يَجِبُ عليه لشُكرِ المُنعِمِ، فهو مُستلزِمٌ إثباتَ صِفاتِ الكَمالِ لله الَّتي هي مَنشَأُ إنعامِه على عَبْدِه، فهو جامعٌ بيْنَ جانبِ اللهِ وحظِّ العبْدِ، وأمَّا الاستغفارُ فهو حظٌّ للعبْدِ وَحْدَه؛ لأنَّه طلَبُه مِن اللهِ أنْ يَعفُوَ عمَّا يُؤاخِذُه عليه [42] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/595). .
- وأيضًا في تَقديمِ الأمرِ بالتَّسبيحِ والحمْدِ على الأمرِ بالاستِغفارِ تَمهيدٌ لإجابةِ استغفارِه، على عادةِ العرَبِ في تَقديمِ الثَّناءِ قبْلَ سُؤالِ الحاجةِ؛ فإنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يكُنْ يَخْلو عن تَسبيحِ اللهِ، فأُرِيدَ تَسبيحٌ يُقارِنُ الحمْدَ على ما أُعطِيَه مِن النَّصرِ والفتْحِ ودُخولِ الأُمَّةِ في الإسلامِ [43] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/594). .
- وعطْفُ الأمرِ باستِغفارِ اللهِ تعالَى على الأمرِ بالتَّسبيحِ مع الحمْدِ يَقْتضي أنَّه مِن حيِّزِ جَوابِ إِذَا، وأنَّه استغفارٌ يَحصُلُ مع الحمْدِ، فيدُلُّ على أنَّه استغفارٌ خاصٌّ؛ لأنَّ الاستغفارَ الَّذي يعُمُّ طلَبَ غُفرانِ التَّقصيرِ ونحوه مَأمورٌ به مِن قبْلُ، وهو مِن شَأنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فقدْ قال: ((إنَّه لَيُغَانُ [44] أي: يُطبَقُ ويُستَرُ ويُغَطَّى. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (4/1610). على قَلْبي، وإنِّي لَأَستَغفِرُ اللهَ في اليَومِ مِئةَ مَرَّةٍ)) [45] أخرجه مسلم (2702) من حديث الأغَرِّ المُزَنيِّ رضيَ الله عنه. ، فكان تَعليقُ الأمرِ بالتَّسبيحِ وبالاستغفارِ على حُصولِ النَّصرِ والفتْحِ إيماءً إلى تَسبيحٍ واستغفارٍ يَحصُلُ بهما تَقرُّبٌ لم يُنْوَ مِن قبْلُ، وهو التَّهيُّؤُ لِلِقاءِ اللهِ، وأنَّ حَياتَه الدُّنيويَّةَ أوشَكَت على الانتهاءِ، وانتهاءِ أعمالِ الطَّاعاتِ والقُرُباتِ الَّتي تَزيدُ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم في رفْعِ دَرَجاتِه عندَ ربِّه، فكان هذا إيذانًا باقترابِ وَفاةِ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم بانتقالِه مِن حَياةِ تَحمُّلِ أعباءِ الرِّسالةِ إلى حَياةٍ أبَديَّةٍ في العُلويَّاتِ المَلَكيَّةِ، والكلامُ مِن قَبيلِ الكِنايةِ الرَّمزيةِ [46] تَنقسِمُ الكِنايةُ باعتبارِ الوسائطِ (اللَّوازمِ) والسِّياقِ إلى أربعةِ أقسامٍ: تعريض، وتلويح، ورمْز، وإيماء؛ فالتَّعريضُ اصطِلاحًا: هو أنْ يُطلَقَ الكلامُ ويُشارَ به إلى معنًى آخَرَ يُفهَمُ مِن السِّياقِ. والتَّلويحُ اصطِلاحًا: هو الَّذي كثُرَتْ وسائطُه بلا تَعريضٍ، ويُنتقَلُ فيه إلى الملزومِ بواسِطةِ لَوازِمَ؛ نحو قولِ المرأةِ في حديثِ أمِّ زَرْعٍ: (زَوجي رفيعُ العِمادِ، طويلُ النِّجادِ، عظيمُ الرَّمادِ)، فقولُها: (عظيمُ الرَّمادِ) يدُلُّ على كثرةِ الجَمرِ، وهي على كثرةِ إحراقِ الحطَبِ، وهي على كثرةِ الطَّبائخِ، وهي على كثرةِ الأكَلةِ، وهي على كثرةِ الضِّيفانِ، وهي على أنَّه مِضْيافٌ؛ فانتقَل الفِكرُ إلى جملةِ وسائطَ. والرَّمزُ اصطلاحًا:  هو الذي قلَّت وسائطُه، معَ خفاءِ في اللُّزومِ بلا تعريضٍ نحو: فلانٌ عريضُ القفا، أو عريضُ الوسادةِ؛ كناية عن بلادتِه وبلاهتِه. والإيماءُ أو الإشارةُ اصطلاحًا: هو الذي قلَّت وسائطُه، معَ وضوحِ اللُّزومِ، بلا تعريضٍ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 402 وما بعدها)، ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (145 - 155)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (2/ 300)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 286 - 290). ، وهي لا تُنافي إرادةَ المعْنى الصَّريحِ بأنْ يُحمَلَ الأمرُ بالتَّسبيحِ والاستغفارِ على معْنى الإكثارِ مِن قَولِ ذلك [47] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/594). .
- وكان مُقْتضى الظَّاهرِ أنْ يقولَ: (فسَبِّحْ بحَمْدِه)؛ لتَقدُّمِ اسمِ الجَلالةِ في قَولِه: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ، فعُدِلَ عن الضَّميرِ إلى الاسمِ الظَّاهرِ -وهو رَبِّكَ- لِما في صِفةِ (ربّ) وإضافتِها إلى ضَميرِ المُخاطَبِ مِن الإيماءِ إلى أنَّ مِن حِكمةِ ذلك النَّصرِ والفتْحِ ودُخولِ النَّاسِ في الإسلامِ نِعمةً أنعَمَ اللهُ بها عليه إذ حَصَلَ هذا الخيرُ الجليلُ بواسطتِه، فذلك تَكريمٌ له وعِنايةٌ به، وهو شَأنُ تَلطُّفِ الرَّبِّ بالمَربوبِ؛ لأنَّ مَعناهُ السِّيادةُ المَرفوقةُ بالرِّفقِ والإبلاغِ إلى الكَمالِ [48] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/596). .
- قولُه: إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا تَذييلٌ للكلامِ السَّابقِ كلِّه، وتَعليلٌ لِما يَقْتضي التَّعليلَ فيه مِن الأمرِ باستغفارِ ربِّه باعتبارِ الصَّريحِ مِن الكلامِ السَّابقِ [49] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/596)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/606). .
- وتَوَّابٌ: مِثالُ مُبالَغةٍ مِن: تابَ عليه، أيْ: مُبالِغًا في قَبولِ تَوبتِهم [50] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/209)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/596). .
- وقد اشتَمَلَت جُملةُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا على أربعةِ مُؤكِّداتٍ؛ هي: (إنَّ)، و(كان)، وصِيغةُ المُبالَغةِ في التَّوَّابِ، وتَنوينُ التَّعظيمِ فيه، وحيثُ كان التَّوكيدُ بـ(إنَّ) هنا غيرَ مَقصودٍ به ردُّ إنكارٍ ولا إزالةُ تَردُّدٍ -إذ لا يُفرَضانِ في جانبِ المُخاطَبِ صلَّى الله عليه وسلَّم- فقدْ تَمحَّضَ (إنَّ) لإفادةِ الاهتمامِ بالخبَرِ بتَأكيدِه، وقدْ تَقرَّرَ أنَّ مِن شَأنِ (إنَّ) إذا جاءت على هذا الوجْهِ أنْ تُغنِيَ غَناءَ فاءِ التَّرتيبِ والتَّسبُّبِ، وتُفيدَ التَّعليلَ ورَبْطَ الكلامِ بما قبْلَه كما تُفيدُه الفاءُ. وإذ قدْ كان الكلامُ تَذييلًا وتَعليلًا للكلامِ السَّابقِ؛ تعيَّنَ أنَّ حذْفَ مُتعلَّقِ تَوَّابًا يُقدَّرُ بنَحْوِ: على التَّائبينَ، وهذا المُقدَّرُ مُرادٌ به العُمومُ، وهو عُمومٌ مَخصوصٌ بالمَشيئةِ تُخصِّصُه أدِلَّةُ وَصْفِ الرُّبوبيَّةِ. ولَمَّا ذُكِرَ دَليلُ العُمومِ عَقِبَ أمْرِه بالاستغفارِ أفاد أنَّه إذا استَغفَرَه غَفَرَ له، دَلالةً تَقْتضيها مُستتبَعاتُ التَّراكيبِ، فأفادتْ هذه الجُملةُ تَعليلَ الأمرِ بالاستِغفارِ؛ لأنَّ الاستغفارَ طَلَبُ الغَفْرِ، فالطَّالبُ يَترقَّبُ إجابةَ طَلَبِه، وأمَّا ما في الجُملةِ مِن الأمرِ بالتَّسبيحِ والحمْدِ فلا يَحتاجُ إلى تَعليلٍ؛ لأنَّهما إنشاءُ تَنزيهٍ وثَناءٍ على اللهِ تعالى. ومِن وَراءِ ذلك أفادَتِ الجُملةُ إشارةً إلى وَعْدٍ بحُسنِ القَبولِ عندَ اللهِ تعالَى حِينَما يَقدَمُ على العالَمِ القُدسيِّ، وهذا معنًى كِنائيٌّ؛ لأنَّ مَن عُرِفَ بكَثرةِ قَبولِ تَوبةِ التَّائبينَ شَأنُه أنْ يُكرِمَ وِفادةَ الوافِدينَ الَّذين سَعَوا جُهودَهم في مَرْضاتِه بمُنْتهى الاستطاعةِ؛ فهذه الجُملةُ بمَدلولِها الصَّريحِ ومَدلولِها الكِنائيِّ ومُستتبَعاتِها؛ تَعليلٌ لِما تَضمَّنَتْه الجُملةُ الَّتي قبْلَها مِن معنًى صَريحٍ أو كِنائيٍّ يُناسِبُه التَّعليلُ بالتَّسبيحِ والحمْدِ باعتبارِهِما تَمهيدًا للأمرِ بالاستغفارِ لا يَحتاجانِ إلى التَّعليلِ، أو يُغْني تَعليلُ المُمهَّدِ له بِهما عن تَعليلِهما، ولكنَّهما باعتبارِ كَونِهما رمْزًا إلى مُداناةِ وَفاةِ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يكونُ ما في قَولِه: إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا مِن الوعْدِ بحُسنِ القَبولِ تَعليلًا لمَدلولِهِما الكِنائيِّ، وأمَّا الأمرُ بالاستغفارِ فمُناسَبةُ التَّعليلِ له بقَولِه: إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ناهِضةٌ باعتبارِ كِلْتا دَلالتَيْه الصَّريحةِ والكِنائيَّةِ، أي: إنَّه مُتقبِّلٌ استِغفارَك ومُتقبِّلُك بأحسَنِ قَبولٍ، شَأنَ مَن عُهِدَ منه الصَّفْحُ والتَّكرُّمُ [51] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/596، 597). .
- ومُقْتضَى الظَّاهرِ أنْ يُقالَ: (إنَّه كان غفَّارًا)، فيَجْري الوصْفُ على ما يُناسِبُ قولَه عزَّ وجلَّ: وَاسْتَغْفِرْهُ؛ كما قال تعالى: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا [نوح: 10] ؛ فقيل: المرادُ مِن الاستغفارِ ليس قولَه: أستغفِرُ اللهَ، ولكنْ أن يَتوبَ إليه، ويَطلُبَ منه المغفرةَ بالتَّوبةِ. ويجوزُ أن يكونَ فيه إضمارٌ، كأنَّه قال: واستغفِرْه، وتُبْ إليه؛ إنَّه كان تَوَّابًا. ويجوزُ أن يكونَ احتِباكًا [52] الاحْتِباك: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لِدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخِرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القُرآنِ وعناصِرِ إعجازِه، وهو مِن ألْطَفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ، والأصلُ: واستغفِرْه إنَّه كان غَفَّارًا، وتُبْ إليه إنَّه كان تَوَّابًا، فاستُغنيَ بذِكْرِ الاستغفارِ في السُّؤالِ عن ذِكرِه في الجوابِ، وأحرى أن يُستغنى بذِكرِ التَّوبةِ في الجَوابِ عن ذِكرِها في السُّؤالِ. وقيل: اختيارُ تَوَّابًا على (غَفَّارًا) مع أنَّه الَّذي يَستدعيه وَاسْتَغْفِرْهُ ظاهِرًا؛ للتَّنبيهِ على أنَّ الاستغفارَ إنَّما يَنفعُ إذا كان مع التَّوبةِ [53] يُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (10/637)، ((تفسير الألوسي)) (15/495)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/597، 598). .
ولأنَّ وصْفَ (توَّاب) أشَدُّ مُلاءَمةً لإقامةِ الفاصلةِ مع فاصلةِ أَفْوَاجًا؛ لأنَّ حرْفَ الجيمِ وحرْفَ الباءِ كِلَيْهما حرْفٌ مِن الحُروفِ المَوصوفةِ بالشِّدَّةِ، بخِلافِ حرْفِ الرَّاءِ؛ فهو مِن الحُروفِ الَّتي صِفتُها بيْن الشِّدَّةِ والرِّخوةِ [54] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/598). . وقيل غيرُ ذلك [55] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/345)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/597، 598). .