موسوعة الأخلاق والسلوك

أ- مِنَ القُرآنِ الكريمِ


الصَّبرُ مِن أكثَرِ الأخلاقِ التي اعتَنى بها دينُ الإسلامِ؛ لذا تَكرَّرَ ذِكرُه في القُرآنِ في مَواضِعَ كثيرةٍ.
قال أبو عَبدِ اللهِ أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ: (ذَكر اللهُ سُبحانَه الصَّبرَ في القُرآنِ في تِسعينَ مَوضِعًا) [5543] ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص: 113). .
وقد سيقَ الصَّبرُ في القُرآنِ في عِدَّةِ أنواع:
أحدُها: الأمرُ به، كقَولِه: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل: 127] ، وقال: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الطور: 48].
الثَّاني: النَّهيُ عَمَّا يُضادُّه، كقَولِه تعالى: وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف: 35] ، وقَولِه: وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم: 48] .
الثَّالثُ: تَعليقُ الفلاحِ به، كقَوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ  [آل عمران:  200]، فعَلَّقَ الفلاحَ بمَجموعِ هذه الأُمورِ.
الرَّابعُ: الإخبارُ عن مُضاعَفةِ أجرِ الصَّابرينَ على غَيرِه، كقَولِه: أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا [القصص: 54]، وقولِه: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10] .
الخامِسُ: تَعليقُ الإمامةِ في الدِّينِ به وباليقينِ؛ قال اللهُ تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: 24] .
السَّادِسُ: ظَفَرُهم بمَعيَّةِ اللهِ سُبحانَه لهم؛ قال تعالى: إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ.
السَّابعُ: أنَّه جَمَعَ للصَّابرينَ ثَلاثةَ أُمورٍ لم يجمَعها لغَيرِهم، وهي الصَّلاةُ مِنه عليهم، ورَحمَتُه لهم، وهدايتُه إيَّاهم؛ قال تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة: 155-157] .
الثَّامِنُ: أنَّه سُبحانَه جَعَل الصَّبرَ عَونًا وعُدَّةً، وأمر بالاستِعانةِ به، فقال: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ [البقرة: 45] فمَن لا صَبرَ له لا عَونَ له.
التَّاسِعُ: أنَّه سُبحانَه عَلَّقَ النَّصرَ بالصَّبرِ والتَّقوى، فقال تعالى: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران: 125] .
العاشِرُ: أنَّه سُبحانَه جَعَل الصَّبرَ والتَّقوى جُنَّةً عَظيمةً مِن كيدِ العَدوِّ ومَكرِه، فمَا استَجَنَّ العَبدُ مِن ذلك جَنَّةً أعظَمَ مِنهما؛ قال تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران: 120] .
الحاديَ عَشَر: أنَّه سُبحانَه أخبَرَ أنَّ مَلائِكتَه تُسَلِّمُ عليهم في الجَنَّةِ بصَبرِهم، كما قال: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد: 24] .
الثاني عَشر: أنَّه سُبحانَه أباحَ لهم أن يُعاقِبوا على ما عُوقِبوا به، ثُمَّ أقسَمَ قَسمًا مُؤَكَّدًا غايةَ التَّأكيدِ أنَّ صَبرَهم خَيرٌ لهم فقال: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل: 126] .
الثَّالثَ عَشَرَ: أنَّه سُبحانَه رَتَّب المَغفِرةَ والأجرَ الكبيرَ على الصَّبرِ والعَمَلِ الصَّالحِ، فقال: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [هود: 11] .
الرَّابعَ عَشَرَ: أنَّه سُبحانَه جَعَل الصَّبرَ على المَصائِب مِن عَزمِ الأُمورِ، أي: مِمَّا يُعزَمُ مِنَ الأُمورِ التي إنَّما يُعزَمُ على أجَلِّها وأشرَفِها، فقال: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى: 43] وقال لُقمانُ لابنِه: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان: 17] .
الخامِسَ عَشَرَ: أنَّه سُبحانَه وعَدَ المُؤمِنينَ بالنَّصرِ والظَّفَرِ، وأخبَرَ أنَّه إنَّما أنالهم ذلك بالصَّبرِ، فقال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا [الأعراف: 137] .
السَّادِسَ عَشَرَ: أنَّه سُبحانَه عَلَّقَ مَحَبَّتَه بالصَّبرِ وجَعلَها لأهلِه فقال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146] .
السَّابعَ عَشَرَ: أنَّه سُبحانَه أخبَرَ عن خِصالِ الخَيرِ أنَّه لا يُلَقَّاها إلَّا الصَّابرونَ، في مَوضِعَينِ مِن كتابِه؛ في سورةِ القَصَصِ في قِصَّةِ قارونَ، وأنَّ الذين أوتوا العِلمَ قالوا للذين تَمَنَّوا مِثلَ ما أُوتي: وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص: 80] ، وفي سورةِ حم السَّجدةِ؛ حَيثُ أمَرَ العَبدَ أن يدفعَ بالتي هي أحسَنُ، فإذا فعَل ذلك صارَ الذى بَينَه وبَينَه عَداوةٌ كأنَّه حَبيبٌ قَريبٌ، ثُمَّ قال: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 35] .
الثَّامِنَ عَشَرَ: أنَّه سُبحانَه أخبَرَ أنَّه إنَّما ينتَفِعُ بآياتِه ويتَّعِظُ بها الصَّبَّارُ الشَّكورُ، فقال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، وقال تعالى في لُقمانَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لقمان: 31] ، وقال في قِصَّةِ سَبَأ: فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، وقال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [الشورى: 32-33] ، فهذه أربعةُ مَواضِعَ في القُرآنِ تَدُلُّ على أنَّ آياتِ الرَّبِّ إنما ينتَفِعُ بها أهلُ الصَّبرِ والشُّكرِ.
التَّاسِعَ عَشَرَ: أنَّه أثنى على عَبدِه أيُّوبَ بأحسَنِ الثَّناءِ على صَبرِه، فقال: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 44] فأطلقَ عليه نِعْمَ الْعَبْدُ بكونِه وجدَه صابرًا، وهذا يدُلُّ على أنَّ مَن لم يصبِرْ إذا ابتُلي فإنَّه بئسَ العَبدُ.
العِشرونَ: أنَّه سُبحانَه حَكمَ بالخُسرانِ حُكمًا عامًّا على كُلِّ مَن لم يُؤمِنْ ولم يكُنْ مِن أهلِ الحَقِّ والصَّبرِ، وهذا يدُلُّ على أنَّه لا رابحَ سِواهم، فقال تعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 1 - 3] ، وذلك أنَّ العَبدَ كمالُه في تَكميلِ قوَّتَيه: قوَّةِ العِلمِ وقوَّةِ العَمَلِ، وهما الإيمانُ والعَمَلُ الصَّالحُ، وكما هو مُحتاجٌ إلى تَكميلِ نَفسِه فهو مُحتاجٌ إلى تَكميلِ غَيرِه، وهو التَّواصي بالحَقِّ والتَّواصي بالصَّبرِ، وأخيَّةُ ذلك وقاعِدتُه وساقُه الذى يقومُ عليه إنَّما هو الصَّبرُ.
الحادي والعِشرونَ: أنَّه سُبحانَه خَصَّ أهلَ المَيمَنةِ بأنَّهم أهلُ الصَّبرِ والمَرحَمةِ الذين قامَت بهم هاتانِ الخَصلتانِ، ووصَّوا بهما غَيرَهم، فقال تعالى: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ [البلد: 17-18] ، وهذا حَصرٌ لأصحابِ المَيمَنةِ فيمَن قامَ به هذانِ الوصفانِ.
الثاني والعِشرونَ: أنَّه سُبحانَه قَرَن الصَّبرَ بأركانِ الإسلامِ ومَقاماتِ الإيمانِ كُلِّها، فقَرنه بالصَّلاةِ، كقَولِه: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ [البقرة: 45] ، وقَرنه بالأعمالِ الصَّالحةِ عُمومًا، كقَوله: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [هود: 11] ، وجَعَله قَرينَ التَّقوى، كقَولِه: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ [يوسف: 90] ، وجَعَله قَرينَ الشُّكرِ، كقَولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم: 5] ، وجَعَله قَرينَ الحَقِّ، كقَولِه: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 3] ، وجَعَله قَرينَ الرَّحمةِ، كقَولِه: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [البلد: 17] ، وجَعَله قَرينَ اليقينِ، كقَولِه: لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: 24] ، وجَعَله قَرينَ الصِّدقِ، كقَولِه: وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ [الأحزاب: 35] ، وجَعَله سَبَبُ مَحَبَّتِه ومَعيَّتِه ونَصرِه وعَونِه وحُسنِ جَزائِه، ويكفي بَعضُ ذلك شَرَفًا وفضلًا. واللهُ أعلمُ [5544] يُنظَر: ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص: 114). .

انظر أيضا: