موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّالِثُ: من أوجُهِ الرَّدِّ على الجَهْميَّةِ في قَولِهم بخَلقِ القُرآنِ: أنَّ هذا القَولَ مُخالِفٌ للكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ


1- قال اللهُ تعالى: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54] .
ومُخالَفةُ مقالةِ الجَهْميَّةِ لهذه الآيةِ من وجهَينِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّه تعالى فَرَّق بَينَ الخَلقِ والأمرِ، وهما صفتانِ من صفاتِه، أضافهما إلى نفسِه، أمَّا الخَلقُ ففِعْلُه، وأمَّا الأمرُ فقَولُه، والأصلُ في المتعاطِفَينِ التغايُرُ إلَّا إذا قامت القرينةُ على عدَمِ إرادةِ ذلك، وهنا قد قامت القرائنُ على توكيدِ الفَرقِ بينهما، ومنها الوجهُ الآتي.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ الخَلقَ إنَّما يكونُ بالأمرِ، كما قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] .
فقَولُه تعالى: كُنْ هو أمرُه، فلو كان مخلوقًا لاحتاج خَلقُه إلى أمرٍ، والأمرُ إلى أمرٍ، إلى ما لا نهايةَ، وهذا باطِلٌ. وقد احتجَّ أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ على الجَهْميَّةِ المُعتَزِلةِ بهذه الآيةِ، فقال: (قُلتُ: قال اللهُ: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] ففرَّق بَينَ الخَلقِ والأمرِ) [206] يُنظر: ((الإبانة الكبرى)) لابن بطة (5/ 293). .
وقال أيضًا: (قال اللهُ: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ … [النحل: 1] فأمْرُه كلامُه واستطاعتُه ليس بمخلوقٍ، فلا تَضرِبوا كِتابَ اللهِ بَعْضَه ببَعضٍ) [207] يُنظر: ((الإبانة الكبرى)) لابن بطة (6/ 253). .
وقال فيما كتَبَه للمُتوكِّلِ حينَ سأله عن مسألةِ القُرآنِ: (قد قال اللهُ تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة: 6] ، وقال: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، فأخبر بالخَلقِ، ثُمَّ قال: وَالْأَمْرُ، فأخبَرَ أنَّ الأمرَ غَيرُ مخلوقٍ) [208] يُنظر: ((سيرة الإمام أحمد بن حنبل)) لصالح بن أحمد (ص: 121). .
وقد سبَق أحمدَ إلى هذا الاحتجاجِ شَيخُه سفيانُ بنُ عُيَينةَ، فقال: (ما يقولُ هذا الدُّويبَّةُ؟ -يعني بِشرًا المِرِّيسيَّ- قالوا: يا أبا مُحمَّدٍ، يزعُمُ أنَّ القرآنَ مخلوقٌ، فقال: كذَب؛ قال اللهُ عزَّ وجلَّ: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فالخَلقُ خَلْقُ اللهِ تبارك وتعالى، والأمرُ القُرآنُ) [209] يُنظر: ((الشريعة)) للآجري (1/ 505)، ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (2/ 244). وللاستزادة يُنظر: ((العقيدة السلفية في كلام رب البرية)) للجديع (ص: 122- 124). .
2- عن خَولةَ بنتِ حكيمٍ السُّلَميَّةِ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((من نَزلَ منزِلًا ثُمَّ قال: أعوذُ بكَلِماتِ اللهِ التَّامَّاتِ من شَرِّ ما خَلَق، لم يَضُرَّه شيءٌ حتى يرتحِلَ مِن مَنزِلِه ذلك )) [210] أخرجه مسلم (2708). .
قال البُخاريُّ: (‌‌باب ما كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يستعيذُ بكَلِماتِ اللهِ لا بكلامِ غَيرِه: وقال نُعَيمٌ: لا يستعاذُ بالمخلوقِ، ولا بكلامِ العبادِ والجِنِّ والإنسِ والملائكةِ. ‌وفي ‌هذا ‌دليلٌ ‌أنَّ ‌كلامَ ‌اللهِ ‌غيرُ ‌مخلوقٍ، وأنَّ سِواه مخلوقٌ) [211] ((خلق أفعال العباد)) (ص: 96). .
3- إجماعُ الأئمَّةِ على إثباتِ صِفةِ الكلامِ للهِ تعالى، وأنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ:
قال ابنُ تيميَّةَ: (أئمَّةُ الدِّينِ كُلُّهم متَّفِقون على ما جاء به الكِتابُ والسُّنَّةُ، واتَّفَق عليه سلَفُ الأمَّةِ من أنَّ اللهَ كلَّم موسى تكليمًا، وأنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، وأنَّ المُؤمِنينَ يَرونَ رَبَّهم في الآخرةِ كما تواترَت به الأحاديثُ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّ للهِ علمًا وقدرةً ونحوَ ذلك.
ونصوصُ الأئمَّةِ في ذلك مشهورةٌ متواترةٌ حتَّى إنَّ أبا القاسِمَ الطَّبريَّ الحافِظَ لمَّا ذكَر في كِتابه في (شَرح أصولِ السُّنَّةِ) مقالاتِ السَّلَفِ والأئمَّةِ في الأصولِ، ذكَر مَن قال: القُرآنُ كلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، وقال: (فهؤلاء خمسُمائةِ وخمسونَ نَفْسًا أو أكثَرُ من التَّابعينَ والأئمَّةِ المَرضيِّينَ سِوى الصَّحابةِ، على اختلافِ الأعصارِ ومُضيِّ السنينَ والأعوامِ، وفيهم نحوٌ من مائةِ إمامٍ ممَّن أخذ النَّاسُ بقَولِهم وتدَّينوا بمذاهبِهم، ولو اشتغَلتُ بنقلِ قولِ أهلِ الحديثِ لبلغَت أسماؤُهم ألوفًا، لكنِّي اختصَرتُ فنقَلتُ عن هؤلاء عَصرًا بَعدَ عصرٍ، لا يُنكِرُ عليهم مُنكِرٍ، ومن أنكَر قولَهم استتابوه أو أمَروا بقَتلِه أو نَفيِه أو صَلبِه) قال: (لا خلافَ بَينَ الأمَّةِ أنَّ أوَّلَ من قال: القُرآنُ مخلوقٌ، جَعْدُ بنُ دِرهَمٍ في سَنةِ نيِّفٍ وعِشرينَ ومائةٍ، ثُمَّ جَهْمُ بنُ صَفوانَ، فأمَّا جَعْدٌ فقتَلَه خالِدُ بنُ عبدِ اللهِ القَسْريُّ، وأمَّا جَهْمٌ فقُتِلَ بمَروٍ في خلافةِ هشامِ بنِ عبدِ المَلِكِ) [212] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (2/ 344). .
وروى بإسنادِه عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه من وجهينِ أنَّهم قالوا له يومَ صِفِّينَ: حكَّمتَ رجُلَينِ؟ فقال: (ما حكَّمتُ مخلوقًا ما حكَّمتُ إلَّا القُرآنَ) [213] يُنظر: ((تفسير القرآن العظيم)) لابن أبي حاتم (10/ 3249)، ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (2/ 255). .
وعن عِكرِمةَ قال: (كان ابنُ عبَّاسٍ في جنازةٍ، فلمَّا وُضِع الميِّتُ في لحدِه قام رجُلٌ فقال: "اللَّهُمَّ رَبَّ القُرآنِ اغفِرْ له". فوثَب إليه ابنُ عبَّاسٍ فقال: "‌مَهْ! ‌القرآنُ ‌منه") [214] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (2/257). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (من حلَف بالقُرآنِ فعليه بكُلِّ آيةٍ يَمينٌ) [215] يُنظر: ((المصنف)) لابن أبي شيبة (7/ 287)، ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (2/258)، ((ذم الكلام وأهله)) للهروي (2/ 21). .
وعن سُفيانَ بنِ عُيَينةَ قال: سمِعتُ عَمرَو بنَ دينارٍ يقولُ: (أدركْتُ مشايخَنا والنَّاسَ منذُ سبعينَ سَنةً يقولونَ: القرآنُ كلامُ اللهِ، منه بدأ وإليه يعودُ). وفي لفظٍ: (يقولونَ: القرآنُ كلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ).
وقال حَربٌ الكَرمانيُّ: ثنا إسحاقُ بنُ إبراهيمَ -يعني ابنَ راهَوَيهِ- عن سُفيانَ بنِ عُيَينةَ وعن عَمرِو بنِ دينارٍ قال: (أدركْتُ أصحابَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فمَن دونَهم منذُ سبعينَ سنةً يقولونَ: اللهُ الخالِقُ، وما سواه مخلوقٌ، إلَّا القرآنَ؛ فإنَّه كلامُ اللهِ منه خرج وإليه يعودُ) [216] يُنظر: ((نقض الدارمي على المريسي)) للدارمي (1/ 573). .
وهذا قد رواه عن ابنِ عُيَينةَ إسحاقُ، وإسحاقُ إمَّا أن يكونَ سمِعَه منه أو من بعضِ أصحابِه عنه.
وعن جَعفَرٍ الصَّادِقِ بنِ مُحمَّدٍ -وهو مشهورٌ عنه- أنَّهم سألوه عن القرآنِ: أخالِقٌ هو أم مخلوقٌ؟ فقال: (ليس بخالِقٍ ولا مخلوقٍ، ولكنَّه كلامُ اللهِ) [217] يُنظر: ((خلق أفعال العباد)) للبخاري (ص: 44)، ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (2/268). .
وهكذا رُوِيَ عن الحسَنِ البصريِّ، وأيوبَ السَّختيانيِّ، وسُليمانَ التَّيميِّ، وخَلقٍ من التَّابعينَ، وعن مالكِ بنِ أنسٍ، واللَّيثِ بنِ سَعدٍ، وسُفيانَ الثَّوريِّ، وابنِ أبي ليلى، وأبي حنيفةَ، والشَّافعيِّ، وأحمَدَ بنِ حَنبَلٍ، وإسحاقَ بنِ راهَوَيهِ، وأمثالِ هؤلاء من الأئمَّةِ، وكلامُ هؤلاء الأئمَّةِ وأتباعِهم في ذلك كثيرٌ مشهورٌ، بل اشتَهَر عن أئمَّةِ السَّلَفِ تكفيرُ من قال: القُرآنُ مخلوقٌ، وأنَّه يُستتابَ، فإن تاب وإلَّا قُتِل، كما ذكَروا ذلك عن مالِكِ بنِ أنسٍ وغَيرِه؛ ولذلك قال الشَّافعيُّ لحَفصٍ الفَردِ، وكان من أصحابِ ضِرارِ بنِ عَمرٍو ممَّن يقولُ: القُرآنُ مخلوقٌ، فلمَّا ناظر الشَّافعيَّ وقال له: القُرآنُ مخلوقٌ، قال له الشَّافعيُّ: (كفَرْتَ باللهِ العظيمِ)... وأمَّا مالِكُ بنُ أنسٍ فنُقِل عنه من غيرِ وَجهٍ الرَّدُّ على من يقولُ: القُرآنُ مخلوقٌ، واستتابتُه، وهذا المشهورُ عنه متَّفَقٌ عليه بَينَ أصحابِه. وأمَّا أبو حنيفةَ وأصحابُه فقد ذكَر أبو جَعفرٍ الطَّحاويُّ في الاعتقادِ الذي قال في أوَّلِه: (ذِكرُ بيانِ اعتقادِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ على مَذهَبِ فُقَهاءِ المِلَّةِ؛ أبي حنيفةَ النُّعمانِ بنِ ثابتٍ الكوفيِّ، وأبي يوسُفَ يَعقوبَ بنِ إبراهيمَ الأنصاريِّ، وأبي عبدِ اللهِ مُحمَّدِ بنِ الحسَنِ الشَّيبانيِّ) [218] ((الطحاوية)) (ص: 31). ، قال فيه: (وإنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ، منه بدأ بلا كيفيَّةٍ قَولًا، وأنزلَه على نبيِّه وَحيًا، وصدَّقه المُؤمِنون على ذلك حقًّا، وأثبَتوا أنَّه كلامُ اللهِ تعالى بالحقيقةِ ليس بمخلوقٍ ككلامِ البَرِيَّةِ، فمَن سَمِعَه فزَعَم أنَّه كلامُ البشَرِ فقد كَفَر، وقد ذمَّه اللهُ وعابه وأوعَده عذابَه وتوعَّده؛ حيثُ قال: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر: 6] ، فلمَّا أوعَدَ اللهُ سَقَرَ لِمن قال: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر: 5] عَلِمْنا أنَّه قَولُ خالِقِ البشَرِ، ولا يُشبِهُ قَولَ البَشَرِ) [219] ((الطحاوية)) (ص: 40). .
وأمَّا أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ فكلامُه في مِثلِ هذا مشهورٌ مُتواترٌ، وهو الذي اشتَهَر بمحنةِ هؤلاء الجَهْميَّةِ؛ فإنَّهم أظهَروا القَولَ بإنكارِ صفاتِ اللهِ تعالى وحقائِقِ أسمائِه، وأنَّ القُرآنُ مخلوقٌ، حتى صار حقيقةُ قولِهم تعطيلَ الخالِقِ سُبحانَه وتعالى، ودَعَوا النَّاسَ إلى ذلك، وعاقَبوا مَن لم يجِبْهم إمَّا بالقَتلِ، وإمَّا بقَطعِ الرِّزقِ، وإمَّا بالعَزلِ عن الولايةِ، وإمَّا بالحبسِ أو بالضَّربِ، وكفَّروا من خالفَهم، فثَبَّت اللهُ تعالى الإمامَ أحمدَ حتى أظهَر اللهُ به باطِلَهم، ونَصَر أهلَ الإيمانِ والسُّنَّةِ عليهم، وأذلَّهم بَعدَ العِزِّ، وأخملَهم بَعدَ الشُّهرةِ، واشتَهَر عِندَ خواصِّ الأمَّةِ وعوامِّها أنَّ القُرآنَ كلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، وإطلاقُ القَولِ أنَّ من قال: إنَّه مخلوقٌ، فقد كَفَر.
وأمَّا إطلاقُ القَولِ بأنَّ اللهَ لم يُكلِّمْ موسى، فهذه مناقَضةٌ لنصِّ القُرآنِ، فهو أعظَمُ من القَولِ بأنَّ القُرآنُ مخلوقٌ، وهذا بلا رَيبٍ يُستتابُ، فإن تاب وإلَّا قُتِل، فإنَّه أنكَر نصَّ القُرآنِ، وبذلك أفتى الأئمَّةُ والسَّلَفُ في مِثلِه، والذي يقولُ: القُرآنُ مخلوقٌ، فهو في المعنى موافِقٌ له، فلذلك كفَّره السَّلَفُ.
قال البُخاريُّ في كِتابِ (خَلق الأفعالِ): (قال سُفيانُ الثَّوريُّ: (من قال: القُرآنُ مخلوقٌ، فهو كافِرٌ). قال: وقال عبدُ اللهِ بنُ المبارَكِ: من قال: إِنَّنِي أَنَا الَّلُه لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا [طه: 14] مخلوقٌ، فهو كافِرٌ، ولا ينبغي لمخلوقٍ أن يقولَ ذلك). قال: (وقال ابنُ المبارَكِ: (لا نقولُ كما قالت الجَهْميَّةُ: إنَّه في الأرضِ هاهنا، بل على العَرشِ استوى)، وقيل له: كيف نَعرِفُ ربَّنا؟ قال: (فوقَ سمواتِه على عَرشِه بائِنٌ مِن خَلقِه). وقال: من قال: "لا إلهَ إلَّا اللهُ" مخلوقٌ، فهو كافِرٌ، وإنَّا نحكي كلامَ اليهودِ والنَّصارى ولا نستطيعُ أن نحكيَ كلامَ الجَهْميَّةِ). قال: (وقال عليُّ بنُ عاصمٍ: (ما الذين قالوا: إنَّ للهِ ولدًا، أكفَرَ من الذين قالوا: إنَّ اللهَ لا يتكلَّمُ).
قال البُخاريُّ: (كان إسماعيلُ بنُ أبي إدريسَ يُسمِّيهم زنادقةَ العِراقِ، وقيل له: سمعْتَ أحدًا يقولُ: القُرآنُ مخلوقٌ؟ فقال: هؤلاءِ الزَّنادقةُ). قال: (وقال أبو الوليدِ: سَمِعتُ يحيى بنَ سعيدٍ -وذُكِر له أنَّ قومًا يقولونَ: القُرآنُ مخلوقٌ- فقال: (كيف يصنعونَ بـ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] ؟ كيف يصنعونَ بقَولِه: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا [طـه: 14]؟). قال: (وقال أبو عُبَيدٍ القاسِمُ بنُ سَلامٍ: "نظَرتُ في كلامِ اليهودِ والمجوسِ، فما رأيتُ قومًا أضَلَّ في كُفرِهم منهم، وإنِّي لأستجهِلُ مَن لا يُكفِّرُهم إلَّا مَن لا يَعرِفُ كُفرَهم"). قال: (وقال سُلَيمانُ بنُ داودَ الهاشميُّ: "من قال: القُرآنُ مخلوقٌ، فهو كافِرٌ، وإن كان القُرآنُ مخلوقًا كما زعموا، فلِمَ صار فِرعَونُ أَولى بأن يُخلَّدَ في النَّارِ إذ قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النَّازعات: 24] ؟ وزَعموا أنَّ هذا مخلوقٌ، والذي قال: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه: 14] هذا أيضًا قد ادَّعى ما ادَّعى فِرعَونُ، فلمَ صار فِرعَونُ أولى أن يخلَّدَ في النَّارِ مِن هذا، وكِلاهما عِندَه مخلوقٌ؟". فأخبر بذلك أبو عُبَيدٍ فاستحسَنه وأعجبَه) [220] ((خلق أفعال العباد)) (ص: 31- 33). . ومعنى كلامِ هؤلاء السَّلَفِ رَضِيَ اللهُ عنهم: أنَّ من قال: إنَّ كلامَ اللهِ مخلوقٌ خلَقَه في الشَّجَرةِ أو غيرِها -كما قال هذا الجَهْميُّ المُعتَزِليُّ- كان حقيقةُ قولِه أنَّ الشَّجرةَ هي التي قالت لموسى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [طـه: 14]! ومن قال: هذا مخلوقٌ، قال ذلك، فهذا المخلوق عِندَه كفِرعَونَ الذي قال: أنا ربُّكم الأعلى، كِلاهما مخلوقٌ، وكِلاهما قال ذلك، فإن كان قولُ فِرعَونَ كُفرًا، فقَولُ هؤلاء أيضًا كُفرٌ. ولا رَيبَ أنَّ قولَ هؤلاء يَؤُولُ إلى قَولِ فِرعَونَ، وإن كانوا لا يفهمونَ ذلك؛ فإنَّ فِرعَونَ كذَّب موسى فيما أخبَرَ به من أنَّ رَبَّه هو الأعلى، وأنَّه كلَّمه كما قال تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا [غافر: 36-37] ، وهو قد كذَّب موسى في أنَّ اللهَ كلَّمه، ولكِنَّ هؤلاء يقولونَ: إذا خلَق كلامًا في غيرِه صار هو المُتكلِّمَ به، وذلك باطِلٌ وضلالٌ من وجوهٍ كثيرةٍ:
أحَدُها: أنَّ اللهَ سُبحانَه أنطق الأشياءَ كُلهَّا نُطقًا مُعتادًا ونُطقًا خارجًا عن المعتادِ؛ قال تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس: 65] ، وقال تعالى: حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [فصلت: 20-21] .
وقال تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور: 24] ، وقد قال تعالى: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ [ص: 18] وقد ثبت أنَّ الحَجَرَ كان يُسلِّمُ عليه [221] أخرجه مسلم (2277) من حديث جابر بن سَمُرة رضي الله عنه بلفظ: ((إني لأعرِفُ حجَرًا بمكَّةَ كان يسلِّمُ عليَّ قبل أن أُبعَثَ، إنِّي لأعرفُه الآنَ)). ، وأمثالُ ذلك من إنطاقِ الجماداتِ، فلو كان إذا خَلَق كلامًا في غَيرِه كان هو المُتكلِّمَ به، كان هذا كُلُّه كلامَ اللهِ تعالى، ويكونُ قد كلَّم مَن سَمِع هذا الكلامَ كما كلَّم موسى بنَ عِمرانَ، بل قد ثبَت أنَّ اللهَ خالِقُ أفعالِ العبادِ، فكُلُّ ناطقٍ فاللهُ خالِقُ نُطقِه وكلامِه، فلو كان مُتكلِّمًا بما خلَقَه من الكلامِ لكان كلُّ كلامٍ في الوُجودِ كلامَه، حتى كلامُ إبليسَ والكُفَّارِ وغَيرِهم) [222] ((مجموع الفتاوى)) (12/ 504- 511). .

انظر أيضا: