موسوعة الفرق

المطلَبُ الأوَّلُ: من أوجُهِ الرَّدِّ على الجَهْميَّةِ في قولِهم بخَلقِ القُرآنِ: أنَّه يلزَمُ من القَولِ بذلك أنَّ اللهَ تعالى خلَق مخلوقًا تكلَّم ودعا النَّاسَ إلى رُبوبيَّتِه


فيكونُ ذلك المخلوقُ هو الذي قال: أنا ربُّكم الأعلى، وهو الذي كلَّم موسى عليه السَّلامُ، وقال له: إني أنا ربُّك، فأجابه موسى عليه السَّلامُ!
قال أبو الحسَنِ الأشعريُّ: (زعمَت الجَهْميَّةُ -كما زعمَتِ النَّصارى- أنَّ كلمةَ اللهِ تعالى حواها بطنُ مريمَ رَضِيَ اللهُ عنها، وزادت الجَهْميَّةُ عليهم فزعَمَت أنَّ كلامَ اللهِ مخلوقٌ حَلَّ في شجرةٍ، وكانت الشَّجرةُ حاويةً له! فلزِمَهم أن تكونَ الشَّجرةُ بذلك الكلامِ مُتكلِّمةً، ووجب عليهم أنَّ مخلوقًا من المخلوقينَ كلَّم موسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّ الشَّجرةَ قالت: يا موسى إنَّني أنا اللهُ لا إله إلَّا أنا فاعبُدْني!
فلو كان كلامُ الله مخلوقًا في شَجرةٍ لكان المخلوقُ قال: يا موسى إنَّني أنا اللهُ لا إلهَ إلَّا أنا فاعبُدْني، وقد قال تعالى: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة: 13] ، وكلامُ اللهِ مِن اللهِ تعالى، فلا يجوزُ أن يكونَ كلامُه الذي هو منه مخلوقًا في شَجرةٍ مخلوقةٍ، كما لا يجوزُ أن يكونَ عِلمُه الذي هو منه مخلوقًا في غيرِه، تعالى اللهُ عن ذلك علُوًّا كبيرًا) [199] ((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص: 68). .
وقال ابنُ بطَّةَ: (هل يجوزُ لمخلوقٍ خَلَقَه اللهُ وكوَّنه أن يقولَ: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] ؟ فمَن زعم أنَّ المُكلِّمَ لموسى كان غيرَ اللهِ، فقد زعَم أنَّ اللهَ خلَق خلقًا ادَّعى الرُّبوبيَّةَ، وأنَّ موسى أجابه وعبَدَه مِن دونِه، ومضى إلى فِرعَونَ برسالةِ مخلوقٍ، وأمَرَ فِرعَونَ أن يعبُدَ غَيرَ اللهِ! تعالى اللهُ عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا) [200] ((الإبانة الكبرى)) (6/ 303). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (يقالُ لهؤلاء الضَّالِّينَ: ما خلَقَه اللهُ في غيرِه من الكلامِ وسائِرِ الصِّفاتِ فإنَّما يعودُ حُكمُه على ذلك المحَلِّ لا على غيرِه؛ فإذا خلَقَ اللهُ في بعضِ الأجسامِ حَركةً أو طَعمًا أو لونًا أو ريحًا، كان ذلك الجِسمُ هو المتحَرِّكَ المتلوِّنَ المترَوِّحَ المطعومَ، وإذا خلَقَ بمحلٍّ حياةً أو علمًا أو قُدرةً أو إرادةً أو كلامًا، كان ذلك المحَلُّ هو الحَيَّ العالِمَ القادِرَ المُريدَ المُتكلِّمَ، فإذا خلَق كلامًا في الشَّجَرةِ أو في غيرِها من الأجسامِ، كان ذلك الجِسمُ هو المُتكلِّمَ بذلك الكلامِ، كما لو خلَق فيه إرادةً أو حياةً أو عِلمًا، ولا يكونُ اللهُ هو المُتكلِّمَ به... فكما أنَّه سُبحانَه لا يجوزُ أن يكونَ متَّصِفًا بما خلَقَه من الصِّفاتِ المشروطةِ بالحياةِ وغيرِ المشروطةِ بالحياةِ، فلا يكونُ هو المتحرِّكَ بما خلَقَه في غيرِه من الحركاتِ، ولا المُصَوِّتَ بما خلَقَه في غيرِه من الأصواتِ، ولا سَمْعُه ولا بَصَرُه وقُدرتُه ما خلَقَه في غيرِه من السَّمعِ والبَصَرِ والقُدرةِ؛ فكذلك لا يكونُ كلامُه ما خلَقَه في غيرِه من الكلامِ، ولا يكونُ مُتكلِّمًا بذلك الكلامِ) [201] ((مجموع الفتاوى)) (12/ 511). .

انظر أيضا: