موسوعة الفرق

الفَرعُ الأوَّلُ: تقريرُ عقيدةِ الماتُريديَّةِ في صفاتِ اللهِ تعالى


تُعَدُّ الماتُريديَّةُ من (الصِّفاتيَّةِ)؛ وذلك لأنَّهم يُثبِتون بعضَ الصِّفاتِ، ويُثبِتون لهذه الصِّفاتِ معنًى حقيقيًّا يقومُ بذاتِ الرَّبِّ تعالى، لكنَّهم يُؤَوِّلون أو يفَوِّضون أكثَرَ الصِّفاتِ مِثلَ الأشاعِرةِ [414] يُنظر: ((الماتريدية دراسة وتقويمًا)) للحربي (ص: 247- 260). .
 فالماتُريديَّةُ ليسوا كالجَهميَّةِ المحْضةِ والمُعتزِلةِ الذين يُنكِرون جميعَ الصِّفاتِ، فليست الصِّفاتُ عندهم مجرَّدَ وَصفِ الواصِفِ أو نفيِ الضِّدِّ [415] يُنظر: ((التوحيد)) للماتريدي (ص: 49-60، 128، 129)، ((أصول الدين)) للبَزْدَوي (ص: 21، 22) ((إشارات المرام)) للبياضي (ص: 107، 136). .
وتؤكِّدُ الماتُريديَّةُ على أنَّ إثباتَ الصِّفاتِ التي يثبتونَها لا يستلزِمُ التَّشبيهَ؛ إذ إنَّه لا شَبَهَ بَينَ حقيقةِ الخالِقِ والمخلوقِ، ولو كان إثباتُ الصِّفاتِ يستلزِمُ التَّشبيهَ للزم قِدَمُ المخلوقِ أو حدوثُ الخالِقِ، وهذا ما لا يقولُ به عاقِلٌ.
قال الماتُريديُّ: (ليس في إثباتِ الأسماءِ وتحقيقِ الصِّفاتِ تشابُهٌ لنفيِ حقائِقِ ما في الخَلقِ عنه، فلو كان لشيءٍ منه شَبَهٌ يسقطُ عنه من ذلك القِدَمُ، أو عن غيرِه الحَدَثُ...، فلو وُصِف بالشَّبهِ بغيرِه بجهةٍ فيصيرُ من ذلك الوَجهِ كأحَدِ الخَلقِ) [416] ((التوحيد)) (ص: 24، 25)، ويُنظر فيه أيضًا: (ص: 41، 107). .
وقال أبو المُعينِ النَّسَفيُّ: (إنَّ الصَّانِعَ القديمَ جَلَّ ثناؤه لا يُشبِهُ العالَمَ، ولا شيئًا من العالَمِ بوجهٍ من الوُجوهِ؛ لأنَّ المتشابهينِ هما المتماثلانِ، والمتماثلانِ ما ينوبُ أحدُهما منابَ صاحبِه، ويسُدُّ مسَدَّه... فإن كان المتغايران ينوبُ أحدُهما منابَ صاحبِه ويسُدُّ مسَدَّه من جميعِ الوجوهِ، كانا مثلينِ من جميعِ الوجوهِ، وإن كان ينوبُ منابَه ويسُدُّ مسَدَّه من بعضِ الوجوهِ، فهما مثلانِ من ذلك الوَجهِ، ثمَّ إنَّ ما ينوبُ أحدُهما منابَ صاحِبِه ويسُدُّ مسَدَّه في وجهٍ من الوُجوهِ إن استويا في ذلك الوَجهِ، إذًا لو كان بينهما تفاوتٌ في ذلك الوجهِ لما ناب أحدُهما منابَ صاحِبِه، ولا سدَّ مسَدَّه، وإذا عُرِفَ هذا فنقولُ: إنَّ اللهَ تعالى لو كان مِثلًا للعالَمِ أو لشَيءٍ من أجزائِه من جميعِ الوجوهِ، لكان هو جَلَّ جلالُه محدَثًا من جميعِ الوُجوهِ، أو كان ما يماثِلُه قديمًا من جميعِ الوجوهِ، ولو كان يماثِلُه بوجهٍ من الوجوهِ لكان اللهُ تعالى محدَثًا من ذلك الوَجهِ، أو ما يماثِلُه من ذلك الوَجهِ. والقولُ بحَدَثِ القديمِ من جميعِ الوُجوهِ أو بوجهٍ من الوُجوهِ، أو بقِدَمِ المحدِثِ من جميعِ الوجوهِ، أو بوجهٍ من الوُجوهِ محالٌ) [417] ((التمهيد لقواعد التوحيد)) (ص: 13، 14). .
وما ذكَرَته الماتُريديَّةُ من الدَّليلِ العَقليِّ على نفيِ التَّشبيهِ من جهةِ أنَّه يستلزِمُ الجمعَ بَينَ النَّقيضينِ صحيحٌ، ولكِنَّهم ساروا على هذا الأصلِ فقط فيما أثبتوه من الصِّفاتِ، وأمَّا في بقيَّةِ الصِّفاتِ فهم على النَّقيضِ من ذلك؛ إذ يعتقدون أنَّ إثباتَها على حقيقتِها يستلزِمُ التَّشبيهَ والتَّجسيمَ، وهذا في الحقيقةِ تناقُضٌ؛ إذ إنَّ القولَ في جميعِ الصِّفاتِ واحِدٌ نفيًا وإثباتًا، ولا دليلَ على التَّفريقِ.
وأمَّا من ناحيةِ علاقةِ الصِّفاتِ بالذَّاتِ، فقد قالت الماتُريديَّةُ بأنَّ صفاتِ اللهِ لا هي هو ولا غيرُه؛ إذ لو كانت الصِّفاتُ عينَ الذَّاتِ لكانت ذاتًا، ولو كانت غيرًا لزم تعدُّدُ القدماءِ؛ لأنَّ الغيرينِ هما اللَّذانِ يجوزُ انفكاكُ أحَدِهما عن الآخَرِ.
قال الأوشي:
صفاتُ اللهِ ليست عينَ ذاتٍ
ولا غيرًا سِواه ذا انفِصال
قال القاري: (أطلق النَّاظِمُ صفاتِ اللهِ، فشَمِلَت صفاتِ الذَّاتِ وصفاتِ الأفعالِ؛ فهي ليست عينَ الذَّاتِ ولا غيرَها، لو كانت عينًا لكانت ذاتًا، ولو كانت غيرًا لزم التَّركيبُ، وهو من المحالاتِ) [418] ((ضوء المعالي)) (ص: 24، 25، 26). .
والذي دفع الماتُريديَّةَ إلى هذا القولِ هو اعتراضُ المُعتزِلةِ عليهم عندما أثبتوا بعضَ الصِّفاتِ، بأنَّ إثباتَها للهِ يستلزِمُ تعدُّدَ القُدَماءِ؛ إذ إنَّ الصِّفاتِ غيرُ الذَّاتِ، فقالت الماتُريديَّةُ بنفيِ الغيريَّةِ دفعًا لهذا الاعتراضِ، وقالت بنفيِ ذاتيَّةِ الصِّفاتِ دفعًا لنفيِ الصِّفاتِ.
يوضِّحُ هذا قولُ أبي المُعينِ النَّسَفيُّ: (ما يزعُمُ المُعتزِلةُ أنَّ اللهَ تعالى لو كانت له هذه الصِّفاتُ لكانت أغيارًا له، وفيه إبطالُ التَّوحيدِ، والقولُ بأزليَّةِ غيرِ اللهِ تعالى كلامٌ باطِلٌ؛ لأنَّ الصِّفاتِ ليست بأغيارٍ للهِ تعالى، بل كُلُّ صفةٍ لا هي ولا هو ولا غيرُه؛ لأنَّ الغيرينِ موجودان، يتصوَّرُ وجودُ أحَدِهما مع انعدامِ صاحِبِه، وذلك في حقِّ ذاتِ اللهِ تعالى وصفاتِه ممتنعٌ؛ إذ ذاتُه أزليَّةٌ، وكذا صفاتُه، والعَدَمُ على الأزليِّ محالٌ، فانعدم حدُّ المغايرةِ، وانعدمت المغايرةُ، كالواحِدِ من العشرةِ لا يكونُ غيرَ العَشَرةِ، ولا عينَ العَشَرةِ؛ لاستحالةِ بقائِه بدونِها، أو بقائِها بدونِه؛ إذ هو منها، فعَدَمُها عَدَمُه، ووجودُها وجودُه) [419] ((التمهيد لقواعد التوحيد)) (ص: 23). .
وهذه المسألةُ من المغاليطِ التي ابتدعَتْها الجَهْميَّةُ؛ حيث استخدموا في مناظراتِهم ألفاظًا مجمَلةً حتى يوقِعوا النَّاسَ في شِراكِهم، فيجذبوهم إلى ما هم فيه من الضَّلالِ والاعتقادِ الفاسِدِ.
قال أحمدُ بنُ حنبَلٍ في ردِّه على الجَهْميَّةِ: (إنَّ الجَهْمَ ادَّعى أمرًا آخَرَ، وهو من المحالِ، فقال: أخبِرونا عن القرآنِ أهو اللهُ، أو غيرُ اللهِ؟! فادَّعى في القرآنِ أمرًا يوهِمُ النَّاسَ، فإذا سُئِل الجاهِلُ عن القرآنِ، هو اللهُ، أو غيرُ اللهِ؟ فلا بدَّ له من أن يقولَ بأحدِ القولَينِ. فإن قال: هو اللهُ. قال له الجَهميُّ: كفَرْتَ. وإن قال: هو غيرُ اللهِ. قال: صدَقْتَ، فلمَ لا يكونُ غيرُ اللهِ مخلوقًا؟ فيقَعُ في نفسِ الجاهِلِ من ذلك ما يميلُ به إلى قولِه الجَهْميِّ) [420] ((الرد على الجهمية والزنادقة)) (ص: 110). .
والماتُريديَّةُ لَمَّا ألجأَتْهم الجَهْميَّةُ والمُعتزِلةُ إلى هذا القولِ، أرادوا أن يتخلَّصوا من هذا الإشكالِ، فخرجوا بقولٍ ثالثٍ، وهو أنَّ صفاتِ اللهِ لا هي ولا هو ولا غيرُه، وهو في الحقيقةِ قولٌ متناقِضٌ لا سبيلَ إلى رفعِه [421] يُنظر مقدمة تحقيق كتاب ابن رشد: ((مناهج الأدلة)) لمحمد قاسم (ص: 120). ، إذ إنَّهم بقولِهم هذا نَفَوا مسمَّى اللَّفظينِ مُطلقًا.
ولمَّا كان أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ معتَصِمينَ بكتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفَّقهم اللهُ تعالى إلى الحقِّ والصَّوابِ، ولم يقَعوا في شِراكِ الجَهْميَّةِ كما وقع غَيرُهم.
قال ابنُ تيميَّةَ: (قدْ تَكلَّمَ الإمامُ أَحْمَدُ في رَدِّه على الجَهْميَّةِ في جَوابِ هذا، وبَيَّنَ أنَّ لَفْظَ الغَيرِ لم يَنطِقْ به الشَّرْعُ لا نَفْيًا ولا إثْباتًا، وحينَئذٍ فلا يَلزَمُ أن يكونَ داخِلًا لَفْظُ الغَيرِ في كَلامِ الشَّارِعِ ولا غَيرَ داخِلٍ...، وأيضًا فهو لَفْظٌ مُجمَلٌ يُرادُ بالغَيرِ ما هو مُنفَصِلٌ عن الشَّيءِ، ويُرادُ بالغَيرِ ما ليس هو الشَّيءَ؛ فلِهذا لا يُطلَقُ القَولُ بأنَّ كَلامَ اللهِ وعِلمَ اللهِ ونَحْوَ ذلك هو هو؛ لأنَّ هذا باطِلٌ، ولا يُطلَقُ أنَّه غَيرُه؛ لِئَلَّا يُفهَمَ أنَّه بائِنٌ عنه مُنفَصِلٌ عنه، وهذا الَّذي ذَكَرَه الإمامُ أَحْمَدُ عليه الحُذَّاقُ مِن أئِمَّةِ السُّنَّةِ، فهؤلاء لا يُطلِقونَ أنَّه هو، ولا يُطلِقونَ أنَّه غَيرُه، ولا يَقولونَ: ليس هو هو، ولا غَيرُه، فإنَّ هذا أيضًا إثْباتُ قِسْمٍ ثالِثٍ، وهو خَطَأٌ، ففَرْقٌ بَيْنَ تَرْكِ إطْلاقِ اللَّفْظَينِ لِما في ذلك مِن الإجْمالِ، وبَيْنَ نَفْيِ مُسمَّى اللَّفْظَينِ مُطلَقًا وإثْباتِ مَعنًى ثالِثٍ خارِجٍ عن مُسمَّى اللَّفْظَينِ) [422] ((مجموع الفتاوى)) (17/158-161). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (الذي عليه سَلَفُ الأمَّةِ وأئمَّتُها إذا قيل لهم: عُلوُّ اللهِ وكلامُ اللهِ، هل هو غيرُ اللهِ أم لا؟ لم يُطلِقوا النَّفيَ ولا الإثباتَ؛ فإنَّه إذا قيل لهم: غيرُه، أوهم أنَّه مبايِنٌ له، وإذا قال: ليس غيرَه، أوهم أنَّه هو، بل يستفصِلُ السَّائِلَ، فإن أراد بقولِه: غيرُه، أنَّه مبايِنٌ له منفَصِلٌ عنه، فصفاتُ الموصوفِ لا تكونُ مباينةً له منفَصِلةً عنه، وإن كان مخلوقًا، فكيف بصفاتِ الخالِقِ؟ وإن أراد بالغَيرِ أنَّها ليست هي هو، فليست الصِّفةُ هي الموصوفَ، فهي غيرُه بهذا الاعتبارِ) [423] ((الجواب الصحيح)) (2/157). .
وقال أيضًا: (الواجِبُ أن يُنظَرَ في هذا البابِ، فما أثبته اللهُ ورسولُه أثبتناه، وما نفاه اللهُ ورسولُه نفيناه، والألفاظُ التي ورد بها النَّصُّ يعتَصَمُ بها في الإثباتِ والنَّفيِ؛ فنثبت ما أثبتته النُّصوصُ من الألفاظِ والمعاني، وننفي ما نفَته النُّصوصُ من الألفاظِ والمعاني. وأمَّا الألفاظُ التي تنازع فيها من ابتدَعها من المتأخِّرين، فلا تُطلَقُ نفيًا ولا إثباتًا حتى يُنظَرَ في مقصودِ قائِلِها؛ فإن كان قد أراد بالنَّفيِ والإثباتِ معنًى صحيحًا موافقًا لما أخبر به الرَّسولُ، صُوِّب المعنى الذي قصَدَه بلفظِه، ولكِنْ ينبغي أن يعَبَّرَ عنه بألفاظِ النُّصوصِ، لا يُعدَلَ إلى هذه الألفاظِ المبتَدَعةِ المجمَلةِ إلَّا عِندَ الحاجةِ، مع قرائِنَ تُبَيِّنُ المرادَ بها) [424] ((منهاج السنة)) (2/554). .
والصِّفاتُ الثُّبوتيَّةُ عِندَ الماتُريديَّةِ ثماني صفاتٍ، هي: القدرةُ، والعِلمُ، والحياةُ، والإرادةُ، والسَّمعُ، والبَصَرُ، والكلامُ، والتَّكوينُ [425] يُنظر: ((إشارات المرام)) للبياضي (ص: 107، 114)، ((نظم الفرائد)) لزاده (ص: 24). .
وهم قد خصُّوا الإثباتَ بهذه الصِّفاتِ دونَ غيرِها؛ لأنَّها التي دلَّ العقلُ عليها عندَهم، وأمَّا غيرُها من الصِّفاتِ فإنَّه لا دليلَ عليها من العَقلِ عندَهم؛ فلذا قالوا بنفيِها، وسلكوا في الاستدلالِ على إثباتِ هذه الصِّفاتِ طريقتينِ، وقد يسلُكون أحيانًا طرُقًا غيرَها:
الأولى: التَّنزيهُ عن النَّقائِصِ
الثَّانيةُ: دلالةُ المحدَثاتِ
قال أبو المُعينِ النَّسَفيُّ موضِّحًا الطَّريقةَ الأولى: (إذا ثبت أنَّ صانعَ العالَمِ قديمٌ، ومن شرطِ القِدَمِ التَّبرِّي عن النَّقائِصِ، ثبت أنَّه حيٌّ قادرٌ سميعٌ بصيرٌ عالمٌ؛ إذ لو لم يكُنْ كذلك لكان موصوفًا بالموتِ والجهلِ والعَجزِ والعَمى والصَّمَمِ؛ إذ هذه الصِّفاتُ متعاقِبةٌ لتلك الصِّفاتِ، فلو لم تكُنْ هذه الصِّفاتُ ثابتةً لله تعالى لثبت ما يعاقِبُها وهي صفاتُ نقصٍ، ومن شَرطِ القِدَمِ الكمالُ، فدلَّ أنَّه موصوفٌ بما بيَّنَّا؛ لضرورةِ انتفاءِ أضدادِها التي هي من سماتِ (المحدَثِ) لكونِها نقائِصَ) [426] ((تبصرة الأدلة)) (ص: 246). .
وقال في الثَّانيةِ: (إذا ثبت أيضًا أنَّه هو المخترِعُ لهذا العالَمِ مع اختلافِ أنواعِه، وهو الخالِقُ له على ما هو عليه من الإحكامِ والإتقانِ، وبديعِ الصِّفةِ وعجيبِ النَّظمِ والتَّرتيبِ، وتركيبِ الأفلاكِ وما فيها من الكواكِبِ السَّائرةِ، وما يُرى من البدائعِ في أبدانِ الحيواناتِ من الحياةِ والتَّميُّزِ والاهتداءِ إلى اجتلابِ المنافِعِ (وانتفاءِ) المضارِّ، وما فيهنَّ من الحواسِّ، وما في الأجسامِ الجماديَّةِ من البدائعِ والخاصيَّاتِ التي أُودِعَت فيها على وَجهٍ لو تأمَّل ذو البصيرةِ الموصوفُ بدقَّةِ الفكرةِ وحِدَّةِ الخاطِرِ ورجاحةِ العقلِ وكمالِ الذِّهنِ وقوَّةِ التَّمييزِ جميعَ عُمُرِه فيها، لما وقف على كُنهِها، بل على جزءٍ من ألفِ جزءٍ ممَّا فيها من آثارِ كمالِ الحكمةِ ولطفِ التَّدبيرِ، ثبت أنَّه حيٌّ قادرٌ عالمٌ سميعٌ بصيرٌ، يجري العِلمُ بذلك مجرى الأوائلِ البديهيَّةِ، حتى إنَّ العقلاءَ بأسرِهم ينسُبون من يضيفُ نسيجَ الدِّيباجِ المنقوشةِ، وتحصيلَ التَّصاويرِ المونقةِ، وبناءَ القُصورِ العاليةِ، واتخاذَ السُّفُنِ الجاريةِ إلى ميِّتٍ عاجزٍ جاهلٍ، إمَّا إلى الحماقةِ والغباوةِ، وإمَّا إلى العنادِ والمكابرةِ) [427] ((تبصرة الأدلة)) (ص: 246، 247). .
وقبل ذِكرِ استدلالِهم على إثباتِ كُلِّ صفةٍ على حِدةٍ، لا بدَّ من بيانِ أمرٍ مُهِمٍّ، وهو: أنَّ ما أثبته الماتُريديَّةُ من صفاتِ اللهِ تعالى ثابتٌ بالشَّرعِ والعقلِ -ولا ريبَ في هذا- ولكِنَّ تخصيصَهم هذه الصِّفاتِ الثَّماني دونَ غيرِها بالإثباتِ تخصيصٌ من غيرِ مُخَصِّصٍ، ولا دليلَ عليه من العقلِ ولا من النَّقلِ.
بل إنَّ الدَّليلَ النَّقليَّ والعقليَّ قد دلَّ على اتصافِه تعالى بهذه الصِّفاتِ وغيرِها، فالشَّرعُ قد أثبت صفاتٍ أخرى غيرَ تلك الصِّفاتِ الثَّماني، فما الموجِبُ لعدَمِ إثباتِها؟
فإن قالوا: إنَّ إثباتَ الصِّفةِ لا بدَّ له من دليلٍ عقليٍّ على تلك الصِّفةِ بعينِها، ولم يقُمْ لدينا دليلٌ عقليٌّ على غيرِ ما أثبَتْناه من الصِّفاتِ [428] يُنظر: ((شرح المقاصد)) للتفتازاني (2/106)، حيث رد التفتازاني على من زعم أنه لا صفة لله غير السبعة التي أثبتتها الأشاعرة، ورده في الحقيقة رد على جميع الماتريدية والأشاعرة الذين لم يثبتوا جميع الصفات. .
فالجوابُ: (أنَّ وجوبَ تصديقِ كُلِّ مُسلِمٍ بما أخبر اللهُ به ورسولُه من صفاتِه، ليس موقوفًا على أن يقومَ عليه دليلٌ عقليٌّ على تلك الصِّفةِ بعينِها؛ فإنَّه ممَّا يُعلَمُ بالاضطرارِ من دينِ الإسلامِ أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أخبَرَنا بشيءٍ من صفاتِ اللهِ تعالى وجب علينا التَّصديقُ به، وإن لم نعلَمْ ثبوتَه بعُقولِنا.
ومن لم يُقِرَّ بما جاء به الرَّسولُ حتى يعلَمَه بعقلِه، فقد أشبه الذين قال اللهُ عنهم: لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام: 124] ومن سلك هذا السَّبيلَ فهو في الحقيقةِ ليس مؤمنًا بالرَّسولِ، ولا متلقِّيًا عنه الأخبارَ بشأنِ الرُّبوبيَّةِ، ولا فَرقَ عنده بَينَ أن يخبِرَ الرَّسولُ بشيءٍ من ذلك، أو لم يخبرْ به، فإنَّ ما أخبر به إذا لم يعلَمْه بعقلِه لا يُصَدِّقُ به، بل يتأوَّلُه أو يفَوِّضُه، وما لم يخبَرْ به إن عَلِمه بعَقلِه آمنَ به، وإلَّا فلا، فلا فرقَ عِندَ من سلك هذه السَّبيلَ بَينَ وجودِ الرَّسولِ وإخبارِه، وبَينَ عدَمِ الرَّسولِ وعدَمِ إخبارِه، وكان ما يُذكَرُ من القرآنِ والحديثِ والإجماعِ في هذا البابِ عديمَ الأثَرِ عِندَه، وهذا قد صرَّح به أئمَّةُ هذا الطَّريقِ) [429] ((شرح الأصفهانية)) لابن تيمية (ص: 30، 31). .
ثمَّ يقالُ لهم: لمَ أثبتُّم له تعالى إرادةً، وأنَّه مريدٌ حقيقةً، ونفيتُم حقيقةَ الحُبِّ والرَّحمةِ ونحوِ ذلك؟!
فإن قالوا: لأنَّ إثباتَ هذا تشبيهٌ.
قيل لهم: وكذلك يقولُ لكم منازِعُكم في الإرادةِ.
ويقولُ لكم أهلُ الإثباتِ: لا بدَّ لكم أن تأتوا في الدَّلالةِ على ما أثبتُّموه من الصِّفاتِ بالعقلِ بقياسٍ شموليٍّ أو قياسٍ تمثيليٍّ، فتقولون في الشُّموليِّ: كُلُّ فعلٍ متقَنٍ محكَمٍ فإنَّه يدُلُّ على علمِ فاعِلِه وقدرتِه وإرادتِه، وهذه المخلوقاتُ كذلك؛ فهي دالَّةٌ على علمِ الرَّبِّ تعالى وقدرتِه ومشيئتِه، وتقولون في التَّمثيليِّ: الفعلُ المحكَمُ المتقَنُ يدُلُّ على عِلمِ فاعِلِه وقدرتِه في الشَّاهِدِ، فكان دليلًا في الغائِبِ، والدَّلالةُ العقليَّةُ لا تختلفُ شاهدًا وغائبًا، فلا يمكنُكم أن تُثبتوا له سُبحانَه بالعقلِ صفةً أو فعلًا إلَّا بالقياسِ المتضمِّنِ قضيَّةً كُلِّيَّةً، إمَّا لفظًا كما في قياسِ الشُّمولِ، وإمَّا معنًى كما في قياسِ التَّمثيلِ، فإذا كنتُم لا يمكنُكم إثباتُ الصَّانعِ ولا صفاتِه إلَّا بالقياسِ الذي لا بدَّ فيه من إثباتِ قَدرٍ مشترَكٍ بَينَ المقيسِ والمقيسِ عليه، وبَينَ أفرادِ القضيَّةِ الكُلِّيَّةِ، ولم يكُنْ هذا عندَكم تشبيهًا ممتنعًا، فكيف تُنكِرون معانيَ ما وصف اللهُ به نفسَه ووصفه به رسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وحقائقَه، بزعمِكم أنَّه يتضمَّنُ تشبيهًا [430] يُنظر: ((مختصر الصواعق المرسلة)) لابن الموصلي (2/119، 120)، بتصَرُّف. ويُنظر: ((منهاج السنة)) لابن تيمية (2/115). ؟
فإن قالوا: الإرادةُ التي نُثبتها لله ليست مثلَ إرادةِ المخلوقينَ، كما أنَّا قد اتَّفَقْنا وسائرَ المُسلِمين على أنَّه حيٌّ، عليمٌ، قديرٌ، وليس هو مثلَ سائرِ الأحياءِ العُلَماءِ القادرينَ.
قال لكم أهلُ الإثباتِ: كذلك الرَّحمةُ والمحبَّةُ التي نُثبِتُها لله ليست مِثلَ رحمةِ المخلوقِ، ومحبَّةِ المخلوقِ.
فإن قالوا: لا نعقِلُ من الرَّحمةِ والمحبَّةِ إلَّا هذا.
قال لكم النُّفاةُ: ونحن لا نعقِلُ من الإرادةِ إلَّا هذا [431] يُنظر: ((شرح العقيدة الأصفهانية)) لابن تيمية (ص: 27، 28) بتصَرُّف. .
فإن قالوا: إنَّا نُثبتُ تلك الصِّفاتِ بالعقلِ.
قال لكم أهلُ الإثباتِ: لكم جوابان:
أحدُهما: أنَّ عدَمَ الدَّليلِ المعيَّنِ لا يستلزمُ عدَمَ المدلولِ المعيَّنِ، وعلى فرضِ أنَّ ما سلكتُم من الدَّليلِ العقليِّ لا يُثبتُ ذلك، فإنَّه لا ينفيه، والنَّافي لا بدَّ أن يأتيَ بدليلٍ كالمثبِتِ سواءً بسواءٍ، وليس لكم أن تنفوا شيئًا من الصِّفاتِ بغيرِ دليلٍ؛ لأنَّ النَّافيَ عليه الدَّليلُ كما على المُثبِتِ، والسَّمعُ قد دلَّ عليه، ولم يعارِضْ ذلك معارِضٌ عقليٌّ ولا سمعيٌّ، فيجبُ إثباتُ ما أثبته الدَّليلُ السَّالمُ عن المعارِضِ المقاوِمِ.
الثَّاني: أن يقالَ: يمكِنُ إثباتُ هذه الصِّفاتِ بنظيرِ ما أثبتُّم به تلك الصِّفاتِ من العقليَّاتِ، فيقالُ: نفْعُ العبادِ بالإحسانِ إليهم يدُلُّ على الرَّحمةِ، كدلالةِ التَّخصيصِ على الإرادةِ، وإكرامُ الطَّائعينَ يدُلُّ على محبَّتِهم، وعقابُ الكافرينَ يدُلُّ على بُغضِهم، والغاياتُ المحمودةُ في مفعولاتِه ومأموراتِه تدُلُّ على حكمتِه البالغةِ [432] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/19). .
فإن قالوا: إنَّما نفَينا الرَّحمةَ والرِّضا والغَضَبَ ونحوَ ذلك من الصِّفاتِ؛ لأنَّه لا يُعقَلُ لها حقيقةٌ تليقُ بالخالِقِ إلَّا الإرادةَ.
قيل لهم: هذا باطِلٌ؛ فإنَّ نصوصَ الكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ مع الأدِلَّةِ العقليَّةِ تُبَيِّنُ الفَرقَ؛ فإنَّ اللهَ سُبحانَه يقولُ: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر: 7] ، وقال تعالى: إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَولِ [النساء: 108] ، فبيَّن أنَّه لا يرضى هذه المحرَّماتِ مع أنَّ كُلَّ شيءٍ كائنٌ بسَبَبِه، وقال تعالى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ [البقرة: 205] .
وقد عُلِمَ بالاضطرارِ من دينِ الإسلامِ، وبإجماعِ الأمَّةِ: أنَّ اللهَ يحِبُّ الإيمانَ والعَمَلَ الصَّالحَ، ولا يحبُّ الكُفرَ والفُسوقَ والعِصيانَ، وأنَّه يرضى هذا ولا يرضى هذا، والجميعُ بمشيئتِه وقدرتِه [433] يُنظر: ((شرح الأصفهانية)) (ص: 32، 33)، ((مجموع الفتاوى)) (3/299، 300) كلاهما لابن تيمية. .
فعُلِمَ بهذا أنَّ ما يجبُ إثباتُه لله تعالى من الصِّفاتِ ليس مقصورًا على ما أثبتته الماتُريديَّةُ. بل إنَّ الواجِبَ الذي عليه سَلَفُ الأمَّةِ وأئمَّتُها: أن يوصَفَ اللهُ تعالى بما وصف به نفسَه، وبما وصفه به رسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ ومن غيرِ تكييفٍ ولا تمثيلٍ. وهذا هو المنهجُ الحقُّ الواجِبُ اتِّباعُه، والسَّبيلُ المستقيمُ الذي لا اعوجاجَ فيه، واللهُ يهدي من يشاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ.
وأمَّا الطُّرُقُ العقليَّةُ التي استدلَّت بها الماتُريديَّةُ على إثباتِ ما أثبتوه من الصِّفاتِ، فهي صحيحةٌ مستقيمةٌ؛ فمعرفةُ الخالِقِ عن طريقِ التَّدبُّرِ والتَّفكُّرِ في المخلوقاتِ أمرٌ قد حثَّ عليه اللهُ تعالى في كتابِه في آياتٍ كثيرةٍ، من ذلك قولُه تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة: 164] ، وقَولُه تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ [آل عمران: 109] ، وقَولُه تعالى: أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ [ق: 6-8] [434] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (2/201-203، 4/310)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (1/526)، ((روح المعاني)) للآلوسي (2/33). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (إذا تأمَّلتَ ما دعا اللهُ سُبحانَه في كتابِه عبادَه إلى الفكرِ فيه، أوقعك على العِلمِ به سُبحانَه وتعالى، وبوحدانيَّتِه، وصفاتِ كَمالِه ونعوتِ جلالِه؛ من عمومِ قُدرتِه وعِلمِه، وكمالِ حكمتِه ورحمتِه، وإحسانِه وبِرِّه، ولطفِه وعدلِه، ورضاه وغضَبِه، وثوابِه وعقابِه؛ فبهذا تعرَّف إلى عبادِه وندبهم إلى التَّفكُّرِ في آياتِه) [435] ((مفتاح دار السعادة)) (ص: 204). .
وقد دلَّ كتابُ اللهِ أيضًا على الطَّريقِ العقليِّ الثَّاني، وهو ثبوتُ الكمالِ لله وتنزيهُ اللهِ عن النَّقائِصِ، كما في قَولِه تعالى: أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل: 17] ، وقوله: ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [النحل: 75] ، وقَولِه: وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [النحل: 76] ، وقولِه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] ، وقولِه: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ [الأعراف: 148] ، وقَولِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ لأبيه: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا [مريم: 42] ومثلُ هذا كثيرٌ في القرآنِ.
قال ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ الكمالَ ثابتٌ للهِ، بل الثَّابتُ له هو أقصى ما يمكِنُ من الأكمليَّةِ، بحيث لا يكونُ وجودُ كمالٍ لا نَقصَ فيه إلَّا وهو ثابِتٌ للرَّبِّ تعالى، يستحقُّه بنفسِه المقدَّسةِ، وثبوتُ ذلك مستلزِمٌ نفيَ نقيضِه، فثبوتُ الحياةِ يستلزِمُ نفيَ الموتِ، وثبوتُ العِلمِ يستلزمُ نفيَ الجهلِ، وثبوتُ القدرةِ يستلزمُ نفيَ العجزِ، وإنَّ هذا الكمالَ ثابتٌ له بمقتضى الأدِلَّةِ العقليَّةِ والبراهينِ اليقينيَّةِ مع دلالةِ السَّمعِ على ذلك. وثبوتُ معنى الكمالِ قد دلَّ عليه القرآنُ بعباراتٍ متنوِّعةٍ، دالَّةٍ على معانٍ متضمِّنةٍ لهذا المعنى، فما في القرآنِ من إثباتِ الحمدِ له وتفصيلِ محامِدِه، وأنَّ له المثَلَ الأعلى، وإثباتِ معاني أسمائِه، ونحوِ ذلك: كُلُّه دالٌّ على هذا المعنى) [436] ((مجموع الفتاوى)) (6/71، 72، 75). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (المقصودُ هنا أن نبيِّنَ أنَّ ثبوتَ الكمالِ لله معلومٌ بالعقلِ، وأنَّ نقيضَ ذلك منتَفٍ عنه؛ فإنَّ الاعتمادَ في الإثباتِ والنَّفيِ على هذه الطَّريقِ مستقيمٌ في العقلِ والشَّرعِ) [437] ((مجموع الفتاوى)) (6/71، 72، 75). .
وقال أيضًا: (هذه الطَّريقةُ هي من أعظَمِ الطُّرُقِ في إثباتِ الصِّفاتِ، وكان السَّلَفُ يحتجُّون بها، ويُثبتون أنَّ من عبد إلهًا لا يسمَعُ ولا يبصِرُ ولا يتكلَّمُ، فقد عبد ربًّا ناقصًا مَعيبًا مَؤوفًا، ويُثبِتون أنَّ هذه كمالٌ، فالخالي عنها ناقِصٌ) [438] ((درء تعارض العقل والنقل)) (2/340). .

انظر أيضا: