موسوعة الفرق

الفَصلُ الأوَّلُ: التَّعريفُ بالماتُريديَّةِ


المذهَبُ الماتُريديُّ فِرقةٌ تُنسَبُ إلى أبي منصورٍ محمَّدِ بنِ محمَّدٍ الماتُريديِّ السَّمَرْقَنْديِّ (ت 333هـ)، وقد ظهرت هذه الفِرقةُ في القرنِ الرَّابعِ الهجريِّ في بلادِ ما وراءَ النَّهرِ [1] تضمُّ منطقةُ بلادِ ما وراءَ النَّهرِ في العصرِ الحاضِرِ هذه الدُّولَ: كازاخستانُ، قيرغيزستانُ، أوزبكستانُ، طاجاكستانُ، تركمانستانُ. ، وكانت في أوَّلِ أمرِها مغمورةً لا يكادُ يعرفُها مُعظَمُ العُلَماءِ المشهورينَ في القرنِ الرَّابعِ والخامِسِ والسَّادسِ، فلم يذكُرْها العُلَماءُ والمتكَلِّمون الذين تكلَّموا عن الفِرَقِ؛ كأبي الحسَنِ الأشْعَريِّ في كتابِه: مقالاتُ الإسلاميِّينَ، والمَلطيِّ في كتابِه: التَّنبيهُ والرَّدُّ على أهلِ الأهواءِ والبِدَعِ، وعبدِ القاهرِ البغداديِّ في كتابِه: الفَرْقُ بَينَ الفِرَقِ، وابنِ حزمٍ في كتابِه: الفصلُ في المِلَلِ والأهواءِ والنِّحَلِ، وطاهرٍ الإسفرايينيِّ في كتابِه: التَّبصيرُ في الدِّينِ وتمييزُ الفِرقةِ النَّاجيةِ عن الفِرَقِ الهالِكينَ، والشَّهْرَسْتانيِّ في كتابِه: المِلَلُ والنِّحَلُ.
ولا نجِدُ لأبي منصورٍ الماتُريديِّ ومذهبِه ذِكرًا في كُتُبِ الأشاعرةِ المؤلَّفةِ في القرنينِ الرَّابعِ والخامسِ؛ فليس للماتُريديِّ ولا للماتُريديَّةِ أيُّ ذِكرٍ في كتُبِ أبي الحسَنِ الأشْعَريِّ، وابنِ الباقِلَّانيِّ، وابنِ فُورَكٍ، والبَيهَقيِّ، وأبي المعالي الجُوَينيِّ، وأبي حامدٍ الغَزاليِّ، وابنِ عساكِر، وأوَّلُ من ذكر الماتُريديَّ من الأشاعرةِ -فيما يُعلَمُ- الفخرُ الرَّازيُّ (ت: 606هـ)؛ فقد قال في مبحثِ جوازِ رؤيةِ اللهِ: (مذهبُنا في هذه المسألةِ ما اختار الشَّيخُ أبو منصورٍ الماتُريديُّ السَّمرقَنديُّ، وهو أنَّا لا نُثبِتُ صِحَّةَ رؤيةِ الله تعالى بالدَّليلِ العَقليِّ، بل نتمسَّكُ في هذه المسألةِ بظواهِرِ القرآنِ والأحاديثِ) [2] ((الأربعين في أصول الدين)) (1/ 277). .
وأقدَمُ من ذكَرَ الماتُريديَّةَ من مؤلِّفي عُلَماءِ أهلِ السُّنَّةِ فيما يُعلَمُ: السِّجزي (ت 444هـ)؛ فقد قال: (بُلِيَ أهلُ السُّنَّةِ بعد المعتزلةِ بقومٍ يدَّعون أنَّهم من أهلِ الاتِّباعِ، وضرَرُهم أكثَرُ من ضررِ المعتَزِلةِ وغيرِهم، وهم: أبو محمَّدِ بنُ كُلَّابٍ، وأبو العبَّاسِ القَلانسيُّ، وأبو الحسَنِ الأشْعَريُّ، وبعدَهم: محمَّدُ بنُ أبي تريد بسِجِستانَ) [3] ((رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت)) (ص: 343) بتصَرُّفٍ يسيرٍ.  .
ولعلَّ أوَّلَ من أشهَرَ مَذهَبَ الماتُريديِّ: أبو اليسر البَزْدَويُّ النَّسَفيُّ (ت 493هـ) شيخُ الحنفيَّةِ فيما وراءَ النَّهرِ، له مؤلَّفاتٌ كثيرةٌ، منها كتابُ أصولِ الدِّينِ، أظهر فيه مذهَبَ الماتُريديِّ، ونصَرَه، وبيَّن أنَّه مذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، وذكر أنَّ أبا الحسَنِ الأشْعَريَّ يوافقُهم في أكثرِ المسائِلِ، وذكر بعضَ المسائلِ التي خالف فيها أبو الحسَنِ الأشْعَريُّ وابنُ كُلَّابٍ أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ الذين يَقصِدُ بهم الماتُريديَّةَ، وذكر أنَّ مذهَبَهم وَسَطٌ بَينَ المعتزلةِ والجَهْميَّةِ والحنابلةِ والكرَّاميَّةِ [4] يُنظر: ((أصول الدين)) للبَزْدَوي (ص: 13، 244 - 254).  .
ثمَّ جاء بعده أبو المُعينِ النَّسَفيُّ (ت 508هـ)، وله مؤلَّفاتٌ كثيرةٌ في علمِ الكلامِ نصر فيها المذهَبَ الماتُريديَّ، ومن كتُبِه المشهورةِ: تبصرةُ الأدِلَّةِ، والتَّمهيدُ في أصولِ الدِّينِ [5] يُنظر: ((تاج التراجم)) لابن قطلوبغا (ص: 308)، ((الفوائد البهية في تراجم الحنفية)) للكنوي (ص: 216)، ((الفرق الكلامية)) لناصر العقل (ص: 186).  .
ثمَّ جاء بعدَهما نجمُ الدِّين النَّسَفيُّ (ت 537هـ)، الملقَّبُ بمفتي الثَّقَلينِ، صاحِبُ كتابِ: العقائدُ النَّسَفيَّةُ، أشهَرِ متنٍ في المذهَبِ الماتُريديِّ [6] يُنظر: ((الجواهر المضية في طبقات الحنفية)) لعبد القادر القرشي (1/ 394)، ((الفرق الكلامية)) لناصر العقل (ص: 186).  .
ولمَّا كان أبو منصورٍ الماتُريديُّ حنفيًّا، وكان أئمَّةُ مذهبِ الماتُريديَّةِ على المذهَبِ الحنفيِّ، فقد اشتهر المذهَبُ الماتُريديُّ بينهم، فأكثَرُ الحنفيَّةِ المتأخِّرينَ ماتُريديَّةٌ، ويقرِّرون أنَّ المذهَبَ الماتُريديَّ هو مذهَبُ أهل السُّنَّةِ والجماعةِ، وأنَّه المَذهَب الحقُّ الواجِبُ اتِّباعُه في العقائدِ.
والمَذهَبُ الماتُريديُّ كمَذهَبِ الأشاعرةِ المتأخِّرينَ في غالبِ الأصولِ؛ كتأويلِ نُصوصِ الصِّفاتِ أو تفويضِ معانيها، وإنكارِ عُلوِّ اللهِ على خَلقِه حقيقةً، والقولِ بأنَّ اللهَ ليس في السَّماءِ، ولا داخِلَ العالمِ ولا خارِجَه، ولا يمينَ ولا يسارَ، ولا فوقَ ولا تحتَ، والقولِ بالكلامِ النَّفسيِّ، وأنَّ كلامَ اللهِ ليس له تعلُّقٌ بمشيئتِه، وأنَّه ليس بحرفٍ وصوتٍ، وأنَّه لا يُسمَعُ، والقولِ بعَدَمِ حُجِّيَّةِ أخبارِ الآحادِ في العقائِدِ؛ ولذلك صار كثيرٌ من عُلَماءِ الأشاعرةِ والماتُريديَّةِ المتأخِّرينَ يَعُدُّون أهلَ السُّنَّةِ من انتسب إلى أبي الحسَنِ الأشْعَريِّ وأبي منصورٍ الماتُريديِّ، وجعلوا الخلافَ القليلَ الذي بَينَ المَذهَبِ الأشْعَريِّ والمَذهَبِ الماتُريديِّ خِلافًا سائغًا [7] يُنظر: ((أصول الدين)) للبَزْدَوي (ص: 40 - 43، 62 - 65)، ((الاعتماد في الاعتقاد)) لأبي البركات النسفي (ص: 158 - 170)، ((السيف المشهور في شرح عقيدة أبي منصور)) لتاج الدين السبكي (ص: 3)، ((شرح المقاصد في علم الكلام)) للتفتازاني (2/ 271)، ((مسائل الاختلاف بين الأشاعرة والماتريدية)) لابن كمال باشا مع شرح سعيد فودة (ص:11- 76)، ((مفتاح السعادة ومصباح السيادة)) لطاشكبري زاده (2/ 133)، ((إشارات المرام)) للبياضي (ص: 36 - 40)، ((إتحاف السادة المتقين)) لمرتضى الزبيدي (2/ 6)، ((تبسيط العقائد الإسلامية)) لحسن أيوب (ص: 299)، ((الماتريدية دراسة وتقويمًا)) لأحمد الحربي (ص: 491 - 501).   .
قال ابن حجر الهيتمي: (المرادُ بالسُّنَّةِ ما عليه إمامَا أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: الشَّيخُ أبو الحسَنِ الأشْعَريُّ، وأبو منصورٍ الماتُريديُّ، والبدعةُ ما عليه فِرقةٌ من فِرَقِ المبتَدِعةِ المخالِفةِ لاعتقادِ هذَينِ الإمامَينِ، وجميعِ أتباعِهما) [8] ((الزواجر)) (1/ 165).  .
وبسببِ شُهرةِ المَذهَبِ الأشْعَريِّ بَينَ الشَّافعيَّةِ والمالكيَّةِ المتأخِّرينَ، وشُهرةِ المَذهَب الماتُريديِّ بَينَ الحنفيَّةِ المتأخِّرين، وانتصارِ أعلامِهم للمَذهَبينِ، وانتسابِهم إلى أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ؛ خفيَ على أكثرِ النَّاسِ مَذهَبُ السَّلَفِ في مسائِلِ الصِّفات وغيرِها من مسائِلِ العقيدةِ التي يخالفُ فيه الأشاعرةُ والماتُريديَّةُ السَّلَفَ الصَّالحَ، واختلط الحقُّ بالباطلِ على كثيرٍ من أهلِ العلمِ فضلًا عن غيرِهم، حتى ذهب بعضُ الحنابلةِ المتأخِّرينَ إلى أنَّ أهلَ السُّنَّةِ هم الأشاعرةُ والماتُريديَّةُ وأهلُ الحديثِ [9] يُنظر: ((لوائح الأنوار السنية)) للسفاريني الحنبلي (1/141) و (2/138).      .
والنَّاظرُ بعِلمٍ وإنصافٍ في كتُبِ الماتُريديَّةِ يتبيَّنُ له أنَّ المَذهَبَ الماتُريديَّ فِرقةٌ كلاميَّةٌ، مُرجِئةٌ، صوفيَّةٌ، وأنَّهم مع ردِّهم على المعتزلةِ كثيرًا إلَّا أنَّهم تأثَّروا بهم في بعضِ مسائلِ العقيدةِ؛ كنفيِ الصِّفاتِ الخبريَّةِ الاختياريَّةِ، والاستدلالِ على وجودِ اللهِ سُبحانَه بدليلِ الأعراضِ وحدوثِ الأجسامِ، والقولِ بعدمِ إمكانِ سماعِ كلامِ اللهِ سُبحانَه.
وبسببِ عدَمِ اعتناءِ الماتُريديَّةِ بتوحيدِ الألوهيَّةِ فقد وقع من بعضِ المتأخِّرين منهم مخالفاتٌ في هذا التَّوحيدِ، بل وفي توحيدِ الرُّبوبيَّة، كاعتقادِ أنَّ غيرَ اللهِ سُبحانَه له تصرُّفٌ في الكونِ، وتجويزِ الاستغاثةِ بغيرِ اللهِ سُبحانَه، واللهُ المستعانُ [10] يُنظر: ((الماتريدية دراسة وتقويمًا)) لأحمد الحربي (ص: 507)، ((نقض عقائد الأشاعرة والماتريدية)) لخالد الغامدي (ص: 137 - 560).  .
فالمَذهَبُ الماتُريديُّ لم يكُنْ معروفًا عِندَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ وأتباعِهم، ولا يُعرَفُ عن أحدٍ من أئمَّةِ السَّلَفِ الصَّالحِ أنَّه كان يقولُ بتلك المخالفاتِ التي وقع فيها أصحابُ المَذهَبِ الماتُريديِّ، وسيأتي النَّقلُ من كتُبِ الماتُريديَّةِ أنفُسِهم لبيانِ مخالفةِ مَذهَبِهم للعقيدةِ الصَّحيحة السَّمحةِ التي كان عليها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه ومن اتَّبَعهم بإحسانٍ [11] يُنظر: ((أصول الدين)) للبَزْدَوي (ص: 13، 244 - 254)، ((الاعتماد في الاعتقاد)) لأبي البركات النسفي (ص: 165 – 169، 183 – 194، 380 - 384)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 433، 510)، ((الماتريدية دراسة وتقويمًا)) لأحمد الحربي (ص: 131 – 376، 489 - 517)، ((الفرق الكلامية)) لناصر العقل (ص: 175 - 187).  .

انظر أيضا: