موسوعة الفرق

الفَرعُ الثَّاني: بعضُ الصِّفاتِ الإلهيَّةِ التي أثبتها الماتُريديَّةُ


أوَّلًا: صفةُ القُدرةِ
استدلَّت الماتُريديَّةُ على إثباتِ اتِّصافِ اللهِ تعالى بصفةِ القُدرةِ بإيجادِه تعالى وخلقِه للمخلوقاتِ، وهي طريقةُ (دلالةِ المحْدَثاتِ) أو (دليلِ الأفعالِ)، كما استدلُّوا بطريقةِ (التَّنزيهِ عن النَّقائِصِ) إلَّا أنَّ استدلالَهم بالطَّريقةِ الأُولى أقوى وأشهَرُ عندَهم، حتى إنَّ كثيرًا منهم لا يذكُرونَ غيرَها.
والماتُريديُّ يستدلُّ على ثبوتِ صفةِ القُدرةِ بدلالةِ المحدَثاتِ، ويربِطُ ثبوتَ القُدرةِ بثبوتِ الاختيارِ، فالاتِّساقُ والحكمةُ في المعقولاتِ وإيجادُ المعدومِ وإعدامُ الموجودِ، يقتضي ثبوتَ الاختيارِ من الفاعلِ، وإذا ثبت الاختيارُ ثبتت القدرةُ؛ إذ لا اختيارَ بغيرِ قُدرةٍ.
قال الماتُريديُّ: (اتِّساقُ الفعلِ المتوالي بلا فسادٍ يظهَرُ ولا خروجَ عن طريقِ الحكمةِ، يثبت كونَ المفعولِ بالاختيارِ من الفاعِلِ، فثبت أنَّ الخلقَ كان بفِعلِه حقيقةً... وأيضًا أنَّ اللهَ تعالى إذا أنشأ شيئًا ثمَّ أفناه، وفيه أيضًا ما قد أعاده نحوَ اللَّيلِ والنَّهارِ، ثبت أنَّ فِعلَه بالاختيارِ؛ إذ تحقَّق به صلاحُ ما قد أفسَدَه، وإعادةُ ما قد أفناه، وإيجادُ المعدومِ وإعدامُ الموجودِ، فثبت أنَّ طريقَ ذلك الاختيارُ؛ إذ من كان الذي منه يكونُ بالطَّبعِ لا يجيءُ منه نفيُ ما يوجَدُ، وإيجادُ ما يعدمُه... وأيضًا أنَّا قد بيَّنَّا حدَثَ العالمِ لا من شيءٍ، وذلك نوعٌ ما لا يبلُغُه إلَّا فِعلُ من هو في غايةِ معنى الاختيارِ، وما يكونُ بالطَّبعِ فحَقُّه الاضطرارُ، ومحالٌ أن يكونَ من يبلُغُ شأنُه إلى إنشاءِ الأشياءِ لا من شيءٍ، ثمَّ يكونُ ذلك بالطَّبعِ، مع ما كان وقوعُ الشَّيءِ بالطَّبعِ هو تحتَ قَهرِ آخَرَ، وجعَلَه بحيثُ يسقُطُ عنه الإمكانُ، وذلك آيةُ الحَدَثِ وأمارةُ الضَّعفِ، جلَّ رَبُّنا عن ذلك وتعالى، مع ما جرى التَّعارفُ المتوارثُ من الخَلقِ بالدَّعَواتِ والتَّضرُّعِ إلى اللهِ تعالى بالفَرَجِ، وأنَّه قهَرَ كذا ونَصَر كذا، وأعان فلانًا وخذَلَ فلانًا، وأنَّ كُلَّ ذي قوَّةٍ يفعلُ بقوَّةٍ أنشأها، ولا ينالُ شيءٌ من ذلك بالمضطَرِّ، ولا يرغَبُ فيه، دلَّ ذلك على أنَّ العالمَ باختياره، فإذا ثبت الاختيارُ ثبتت له القدرةُ على الخلقِ، والإرادةُ؛ لكونِه على ما هو عليه؛ لأنَّ من لا قُدرةَ له يخرجُ الذي يكونُ منه مضطربًا فاسدًا، ولا يملِكُ الشَّيءَ وضِدَّه. فثبت أنَّ ما كان منه بقدرةٍ كان باختيارٍ، وذلك أماراتُ الفعلِ الحقيقيَّةُ في الشَّاهدِ الذي هو أصلٌ للعلمِ بالغائِبِ) [439] ((التوحيد)) (ص: 44، 45)، ويُنظر فيه أيضًا: (ص: 60). .
وأما أبو المُعينِ النَّسَفيُّ وعامَّةُ الماتُريديَّةِ فإنَّهم يُثبتون القدرةَ بدلالةِ مُطلَقِ الفِعلِ، بدون توسيطِ الاختيارِ في الاستدلالِ، وذلك أنَّ فِعلَ الفاعِلِ لا يكونُ صادرًا إلَّا عن قدرةٍ؛ فالخلقُ لا يكونُ إلَّا من قادرٍ.
وكلتا الطَّريقتينِ محورُهما واحدٌ إلَّا أنَّ الثَّانيةَ أقلُّ مُقدِّماتٍ، فهي أقربُ وأبسطُ في الاستدلالِ من الأولى.
قال أبو المُعينِ النَّسَفيُّ مقرِّرًا دلالةَ المحدَثاتِ على قُدرةِ اللهِ تعالى: (المفعولُ كما دلَّ على الفاعِلِ فمُطلَقُه يدُلُّ على القدرةِ؛ فإنَّ كُلَّ من رأى المفعولَ استدلَّ بكونِه مفعولًا على قدرةِ فاعِلِه عليه) [440] ((تبصرة الأدلة)) (ص: 292، 293). .
وقال أيضًا: (لو لم يكُنِ للهِ تعالى قدرةٌ لما تُصوِّرَ منه إيجادُ هذا العالَمِ البديعِ، بما فيه من الأجرامِ العُلويَّةِ، والنُّجومِ السَّيَّارةِ، والأشخاصِ الحيوانيَّةِ، وحيث حصلت به هذه الأشياءُ دلَّ على أنَّ له قدرةً) [441] ((التمهيد)) (ص: 22). .
ثانيًا: صفةُ العِلمِ
تُثبت الماتُريديَّةُ صفةَ العِلم للهِ تعالى بدلالةِ المحدَثاتِ عليه؛ إذ الإحكامُ والإتقانُ في المخلوقاتِ والمحدَثاتِ يدلَّانِ على علمِ الخالِقِ والمحدِثِ؛ إذ لا إحكامَ ولا إتقانَ بغيرِ عِلمٍ.
قال الماتُريديُّ: (على ما ذكَرْنا من تواصُلِ الفعلِ وتتابُعِه محكَمًا متقَنًا هو الدَّليلُ أنَّه كان فِعلَه على العِلمِ به) [442] ((التوحيد)) (ص: 45)، ويُنظر فيه أيضًا: (ص: 47، 61، 62، 66، 67). .
وقال أبو المُعينِ النَّسَفيُّ: (لنا أيضًا طريقةُ دلالةِ المحدَثاتِ على الصِّفاتِ، وهي: المفعولُ كما دلَّ على الفِعلِ، فمُطلَقُه يدُلُّ على القدرةِ، وكونُه محكمًا متقَنًا يدُلُّ على العِلمِ؛ فإنَّ كُلَّ من رأى المفعولَ مُحكَمًا متقَنًا استدلَّ بكونِه مفعولًا على قُدرةِ فاعِلِه عليه، وبكونِه محكَمًا على علمِ فاعِلِه به) [443] ((تبصرة الأدلة)) (ص: 292). .
وقرَّر البياضيُّ الدَّليلَ من ثلاثةِ أوجُهٍ:
الأوَّلُ: إثباتُه بخلقِه للأشياءِ؛ فإنَّه يقتضي معلوميَّةَ الأشياءِ قبل أن تُخلَقَ.
الثَّاني: أنَّه يدُلُّ على قدرةِ الخالِقِ، أي: كونُه فاعلًا بالقَصدِ والاختيارِ؛ لأنَّ الخلقَ إيجادٌ عن عدَمٍ ولا يُتصوَّرُ الفِعلُ بالقصدِ والاختيارِ إلَّا مع العِلمِ بالمقصودِ.
الثَّالثُ: أنَّ الخلقَ البديعَ يدُلُّ على عِلمِ الخالِقِ [444] ((إشارات المرام)) (ص: 126). .
وبعد أن ذكَرَ هذه الأوجُهَ قال: (تقريرُه أنَّ خَلقَه تعالى وأفعالَه متقَنٌ مشتَمِلٌ على الصُّنعِ الغريبِ والتَّرتيبِ العجيبِ، وكُلُّ من كان فِعلُه كذلك فهو عالمٌ، أمَّا الصُّغرى فظاهِرةٌ لمن نظر في الآفاقِ والأنفُسِ وارتباطِ العُلْويَّاتِ بالسُّفليَّاتِ، وما أعطى الحيواناتِ من الأسبابِ والآلاتِ المناسبةِ لمصالحِها، وما أعطى النَّحْلَ والعنكبوتَ من العِلمِ بما يفعلُه من البيوتِ بلا فرجارٍ وآلةٍ، كما دلَّ قولُه تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا [النحل: 68] ، وأمَّا الكبرى فضروريَّةٌ، وقد ينبَّهُ عليها بأنَّ من رأى خطوطًا حَسَنةً أو سمع ألفاظًا عَذبةً تدُلُّ على معانٍ دقيقةٍ جَزَم بأنَّ مصدَرَها عالمٌ، وتوهُّمُ كفايةِ الظَّنِّ مدفوعٌ بالتَّكرارِ، والتَّكثُّرُ على التَّصوُّرِ ضروريٌّ، وهو كافٍ في المقصودِ) [445] ((إشارات المرام)) (ص: 126). .
كما أنَّهم استدلُّوا على إثباتِ صفةِ العِلمِ بدليلِ التَّنزيهِ عن النَّقائِصِ، وتقريرُه: إذا لم يتَّصِفِ الرَّبُّ تعالى بالعِلمِ اتَّصف بالجَهلِ؛ لأنَّ العِلمَ والجهلَ من الصِّفاتِ المتعاقِبةِ، واتِّصافُه تعالى بالجهلِ ممتَنِعٌ؛ لأنَّه صفةُ نَقصٍ، ومن شَرطِ القِدَمِ التَّبرِّي عن النَّقائِصِ؛ فوجب اتصافُه تعالى بالعِلمِ.
قال أبو المُعينِ النَّسَفيُّ: (إنَّا عرَفْنا ثبوتَ هذه الصِّفاتِ كُلِّها لمعرفتِنا بتعاقبِ أضدادِها التي في أنفُسِها نقائِصُ إيَّاها، ومعرفتِنا باستحالةِ ثُبوتِ النَّقائِصِ في القديمِ، فعرَفْنا ثبوتَ هذه الصِّفاتِ التي هي صفاتُ الكمالِ ضَرورةَ انتفاءِ النَّقائصِ عن القديمِ، وعُرِف أنَّ ثبوتَها من شرائِط القِدَمِ، وهذه الطَّريقةُ جاريةٌ في هذه الصِّفاتِ) [446] ((تبصرة الأدلة)) (ص: 247). .
والدَّليلُ الأوَّلُ هو المشهورُ عندَهم وعندَ عامَّةِ المُتكلِّمينَ في إثباتِ صفةِ العِلمِ، ولا ريبَ في صحَّتِه؛ فقد دلَّ القرآنُ عليه، كما في قولِه تعالى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14] .
ودلالةُ المحدَثاتِ -بما فيها من الإحكامِ والإتقانِ- على علمِ الخالِقِ والمحدِثِ أمرٌ ضروريٌّ يدركُه كُلُّ عاقلٍ بدونِ إقامةِ دليلٍ منطقيٍّ لا يفهَمُه كُلُّ أحدٍ.
وقولُه تعالى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ قد دلَّ على وجوبِ عِلمِه تعالى بالأشياءِ من عدَّةِ أوجُهٍ:
1- أنَّه خالِقٌ لها، والخَلقُ هو الإبداعُ بتقديرٍ، وذلك يتضمَّنُ تقديرَها في العِلمِ قبل تكوُّنِها في الخارجِ.
2- أنَّ ذلك مستلزِمٌ للإرادةِ، والمشيئةُ والإرادةُ مستلزمةٌ لتصوُّرِ المرادِ والشُّعورِ به، وهذه الطَّريقةُ المشهورةُ عِندَ أكثَرِ أهلِ الكلامِ.
3- أنَّها صادرةٌ عنه، وهو سببُها التَّامُّ، والعِلمُ بأصلِ الأمرِ وسَبَبِه يوجِبُ العِلمَ بالفرعِ المسبَّبِ، فعِلمُه بنفسِه مستلزِمٌ العِلمَ بكُلِّ ما يصدُرُ منه.
4- أنَّه في نفسِه لطيفٌ يُدرِكُ الدَّقيقَ، خبيرٌ يدرِكُ الخفيَّ، وهذا هو مقتضى العِلمِ بالأشياءِ، فيجبُ وجودُ المقتضي لوجودِ السَّببِ التَّامِّ، فهو في علمِه بالأشياءِ مستغنٍ بنفسِه عنها، كما هو غنيٌّ بنفسِه في جميعِ صفاتِه [447] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (2/211) و (16/298، 354، 355)، ((شرح الأصفهانية)) (ص: 344، 345)، ((درء تعارض العقل والنقل)) (10/114) كلها لابن تيمية، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص: 98 – 100)، ((لوامع الأنوار)) للسفاريني (1/148، 149). .
والآيةُ مع دلالتِها على صحَّةِ طريقةِ الماتُريديَّةِ أتمُّ وأكمَلُ وأوضحُ في الدَّلالةِ على وجوبِ اتِّصافِه تعالى بالعِلمِ من طريقتِهم.
ثالثًا: صفةُ الحياةِ
اختلفت الماتُريديَّةُ في طريقةِ الاستدلالِ على إثباتِ صفةِ الحياةِ، فذهب بعضُهم إلى أنَّ الحياةَ تَثبت بدلالةِ المُحدَثاتِ؛ إذ إنَّ الفعلَ كما لا يتصوَّرُ إلَّا من قادرٍ عالمٍ، كذلك لا يتصوَّرُ إلَّا من حيٍّ، وذهب بعضُهم إلى أنَّ الحياةَ تَثبُت بدلالةِ القُدرةِ والعِلمِ لا بدلالةِ الفعلِ؛ إذ يستحيلُ ثبوتُ القُدرةِ والعِلمِ بدونِ الحياةِ.
قال أبو المُعينِ النَّسَفيُّ موضِّحًا هذا: (ثبوتُ الحياةِ عِندَ بعضِ أصحابِنا -نصرَهم اللهُ- بدلالةِ المُحدَثاتِ عليها؛ إذ إحكامُ الفعلِ كما لا يتصوَّرُ إلَّا من قادرٍ عالمٍ لا يتصوَّرُ إلَّا من حيٍّ، تحقُّقُه أنَّ الحياةَ لذاتِ ما لا يُعرَفُ في الشَّاهِدِ إلَّا بوجودِ الأفعالِ الاختياريَّةِ، وعند وجودِها يقعُ التَّيقُّنُ بثبوتِ الحياةِ، بحيث لا مجالَ للرَّيبِ في ذلك، ويُعَدُّ الشَّاكُّ فيه متجاهلًا، وكما يُستدَلُّ بالفعلِ المحكَمِ المتقَنِ على كونِ الفاعِلِ قادرًا عالمًا يُستدلُّ به على كونه حيًّا، وتمكَّن في فِكرِ العقولِ امتناعُ القَولِ بوجودِ ذلك إلَّا من حيٍّ على ما ذكَرْنا. وعند بعضِ أصحابِنا كانت الحياةُ من مدلولاتِ العِلمِ والقُدرةِ لا من مدلولاتِ الفعلِ، بل الفعلُ يدُلُّ على عِلمِه وقدرتِه، ويستحيلُ ثبوتُهما بدونِ الحياةِ؛ إذ الحياةُ شرطُ ثبوتِهما، ودليلُ استحالةِ ثُبوتِهما بدونِ الحياةِ أنَّ الموتَ والجماديَّةَ يضادَّانِ العِلمَ والقُدرةَ؛ إذ العقولُ السَّليمةُ كما تأبى قَبولَ قولِ من أخبر عن اجتماعِ الموتِ والحياةِ، والسَّوادِ والبياضِ، والحَرَكةِ والسُّكونِ، تأبى قَبولَ قولِ من يجوِّزُ ثبوتَ العِلمِ والقُدرةِ للميِّتِ، وتعرفُ امتناعَ اجتماعِهما مع الموتِ، كما تعرفُ امتناعَ اجتماعِ الحياةِ والموتِ، ولا تُفَرِّقُ بينهما، فلو جاز ذا لجاز الأوَّلُ، ولو امتنع لامتنع هذا؛ لانعدامِ ما يوجِبُ التَّفرقةَ بَينَ الأمرينِ في العُقولِ الصَّحيحةِ السَّليمةِ، تحقُّقُه أنَّ ذلك لو جاز لجاز أن يكونَ كُلُّ ديباجٍ نفيسٍ، وكُلُّ صورةٍ مُونِقةٍ، وكلُّ قَصرٍ عالٍ في العالمِ، كانت حاصلةً عن فعلِ الجماداتِ والموتى، ولعلَّ كُلَّ تصنيفٍ دقيقٍ في فنٍّ من العلومِ كان من عَمَلِ الموتى والجماداتِ، وتجويزُ هذا كُلِّه هَذَيانٌ، وخروجٌ عن قضيَّةِ العقولِ التحاقٌ بالمتجاهِلةِ) [448] ((تبصرة الأدلة)) (ص: 247، 248). .
واستدلُّوا أيضًا على ثُبوتِ صفةِ الحياةِ بدليلِ ثُبوتِ الكمالِ والتَّنزيهِ عن النَّقائِصِ، فلو لم يتَّصِفِ الخالِقُ بالحياةِ لوجب أن يتَّصِفَ بالموتِ؛ إذ إنَّ الموتَ والحياةَ من الصِّفاتِ المتعاقبةِ، والموتُ صفةُ نَقصٍ يجِبُ تنزيهُ الخالِقِ عنها، كما أنَّ الحياةَ صِفةُ كَمالٍ يجِبُ اتِّصافُه بها؛ إذ من شرطِ القِدَمِ الكمالُ والتَّبرِّي عن النَّقائِصِ، فثبت وجوبُ اتِّصافِه بالحياةِ [449] يُنظر: ((تبصرة الأدلة)) (ص: 246)، ((التمهيد لقواعد التوحيد)) (ص: 21) كلاهما لأبي المعين النسفي. .
وكلُّ هذه الطُّرُقِ الثَّلاثِ التي استدلَّت بها الماتُريديَّةُ على اتِّصافِ الباري بالحياةِ الصَّحيحةِ مستقيمةٌ، بل هي بديهيَّةٌ ضروريَّةٌ؛ إذ إنَّ معرفةَ اتِّصافِ الخالِقِ بالحياةِ أمرٌ ضروريٌّ مُستقِرٌّ في الفِطَرِ، لا يجحَدُه إلَّا مكابِرٌ مُلحِدٌ.
قال ابنُ تيميَّةَ في تعليقِه على قولِ الأصْفَهانيِّ: (الدَّليلُ على أنَّه حيٌّ عِلمُه وقدرتُه؛ لاستحالةِ قيامِ العِلمِ والقُدرةِ بغيرِ الحَيِّ): (هذا دليلٌ مشهورٌ للنُّظَّارِ، يقولون: قد عُلِم أنَّ من شرطِ العِلمِ والقُدرةِ الحياةَ؛ فإنَّ ما ليس بحيٍّ يمتنِعُ أن يكونَ عالمًا؛ إذ الميِّتُ لا يكونُ عالمًا، والعِلمُ بهذا ضروريٌّ) [450] ((شرح الأصفهانية)) (ص: 395). .
فلذلك اضطرَّ ابنُ رُشدٍ الفيلسوفُ إلى الاعترافِ بصحَّةِ هذا الدَّليلِ؛ حيثُ قال: (أمَّا صفةُ الحياةِ فظاهِرٌ وجودُها من صفةِ العِلمِ، وذلك أنَّه يظهَرُ في الشَّاهِدِ أنَّ من شرطِ العِلمِ الحياةَ، والشَّرطُ عِندَ المُتكلِّمين يجبُ أن ينتقِلَ فيه الحُكمُ من الشَّاهِدِ إلى الغائِبِ، ما قالوه في ذلك صوابٌ) [451] ((مناهج الأدلة)) (ص: 161، 162). .
رابعًا: صفةُ الإرادةِ
أثبَتَت الماتُريديَّةُ الإرادةَ لله عزَّ وجلَّ بدليلِ أنَّ اللهَ تعالى قد خلق الخَلقَ باختيارِه، ولا اختيارَ بدونِ إرادةٍ، كما أنَّه لا اختيارَ بدونِ قُدرةٍ. وأيضًا اختصاصُ المفعولِ بوجهٍ دونَ وجهٍ، وبوقتٍ دونَ وقتٍ، دليلٌ على اتصافِ الفاعِلِ بالإرادةِ؛ إذ هي المعنى الذي يوجِبُ التَّخصيصَ. وكذلك استدلُّوا بدليلِ التَّنزيهِ؛ إذ إنَّ الخالِقَ لو لم يكُنْ مريدًا لكان عاجزًا.
قال الماتُريديُّ: (إنَّ شرطَ كُلِّ مَن فِعْلُه اختيارٌ الإرادةُ، وكُلُّ مَن فِعْلُه الاضطرارُ أنَّه غيرُ مريدٍ) [452] ((التوحيد)) (ص: 293). .
وقال أيضًا: (الأصلُ الذي يقعُ عليه الفعلُ في الشَّاهِدِ أن يكونَ على إرادةٍ أو غَلَبةٍ أو سَهوٍ، فكلُّ من خرج في شيءٍ عن الوَصفِ بالغَلَبةِ فيه والسَّهوِ لزم الوَصفُ بالإرادةِ التي هي الأفعالُ) [453] ((التوحيد)) (ص: 305)، ويُنظر فيه أيضًا: (ص: 44، 45، 60). .
كما أنَّ التَّخصيصَ في المفعولاتِ يدُلُّ على اتِّصافِ الفاعِلِ بالإرادةِ دَلالةً بديهيَّةً؛ إذ لا تخصيصَ بلا إرادةٍ.
قال ابنُ تيميَّةَ في تعليقِه على قولِ الأصْفَهانيِّ: (الدَّليلُ على إرادتِه تخصيصُه الأشياءَ بخصوصيَّاتِ، واستحالةُ المخصَّصِ من غيرِ مُخَصِّصٍ): (إنَّ هذا دليلٌ مشهورٌ للنُّظَّارِ، ويقرِّرُ هنا: أنَّ العالمَ فيه تخصيصاتٌ كثيرةٌ، مِثلُ تخصيصِ كُلِّ شيءٍ بما له من القَدْرِ، والصِّفاتِ، والحرَكاتِ؛ كطُولِه وقِصَرِه، وطَعمِه ولونِه وريحِه، وحياتِه وقدرتِه، وعِلمِه وسمعِه وبصَرِه، وسائرِ ما فيه، مع العِلمِ الضَّروريِّ بأنَّه من الممكِنِ أن يكونَ خلافَ ذلك؛ إذ ليس واجِبَ الوجودِ بنَفسِه. ومعلومٌ أنَّ الذَّاتَ المجرَّدةَ التي لا إرادةَ لها لا تُخصِّصُ، وإنَّما يكونُ التَّخصيصُ بالإرادةِ) [454] ((شرح الأصفهانية)) (ص: 395). .
وثبوتُ الإرادةِ بدليلِ التَّنزيهِ أمرٌ مُدرَكٌ ببداهةِ العقولِ؛ إذ إنَّه من الضَّرورياتِ، بل إنَّ معرفةَ اتِّصافِ اللهِ تعالى بصفةِ الإرادةِ أمرٌ لا يحتاجُ لإقامةِ الأدِلَّةِ العقليَّةِ المنطقيَّةِ عليه؛ إذ إنَّه يُدرَكُ بالفِطرةِ والضَّرورةِ، ولا يجحَدُ هذا إلَّا مختومٌ على قلبِه، أو فاقِدٌ لعَقلِه.
خامسًا: صِفَتا السَّمعِ والبَصَرِ
استدَلَّت الماتُريديَّةُ على اتِّصافِ اللهِ تعالى بصِفَتَي السَّمعِ والبَصَرِ، بدليلِ الكمالِ والتَّنزيهِ عن النَّقائِصِ، وذلك أنَّ السَّمعَ والبَصَرَ صِفاتُ كَمالٍ، والصَّمَمَ والعَمى صِفَتا نقصٍ، ومن شَرطِ القِدَمِ الكَمالُ والتَّبرِّي عن النَّقائِصِ، فلزم اتصافُه بالسَّمعِ والبَصَرِ، وتنزيهُه عن الصَّمَمِ والعَمى.
قال أبو المُعينِ النَّسَفيُّ: (إذا ثبت أنَّ صانِعَ العالَمِ قديمٌ، ومن شَرطِ القِدَمِ التَّبرِّي عن النَّقائصِ، ثبت أنَّه سميعٌ بصيرٌ؛ إذ لو لم يكُنْ كذلك لكان موصوفًا بالعمى والصَّمَمِ؛ إذ هذه الصِّفاتُ متعاقِبةٌ لتلك الصِّفاتِ، فلو لم يكُنْ هذه الصِّفاتُ ثابتةً للهِ تعالى لثَبَت ما يعاقِبُها، وهي صفاتُ نقصٍ، ومن شَرطِ القِدَمِ الكمالُ؛ فدَلَّ أنَّه موصوفٌ بما بيَّنَّا لضرورةِ انتفاءِ أضدادِها التي هي سماتُ المحْدَثِ؛ لكَونِها نقائِصَ) [455] ((تبصرة الأدلة)) (ص: 246). .
وقال ابنُ الهُمَامِ: (إنَّه تعالى سميعٌ بصيرٌ بمرأًى منه خفايا الهواجسِ والأوهامِ، وبمَسمَعٍ منه صوتَ أرجُلِ النَّملةِ على الصَّخرةِ الملْساءِ؛ لأنَّهما صِفتا كمالٍ، فهو الأحَقُّ بالاتصافِ بهما من المخلوقِ، وقال تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام: 83] ، وقد ألزم عليه السَّلامُ أباه الحُجَّةَ بقَولِه: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ [مريم: 42] ، فأفاد أنَّ عَدَمَها نقصٌ لا يليقُ بالمعبودِ) [456] ((المسايرة)) (ص: 65 -67). .
ويرى البَياضيُّ: أنَّ ثبوتَ السَّمعِ والبَصَرِ من المعلومِ من الدِّينِ بالضَّرورةِ، وأنَّه لا حاجةَ لإقامةِ الأدِلَّةِ العقليَّةِ على ثبوتِ ذلك، بل يُكتفى بالأدِلَّةِ السَّمعيَّةِ [457] يُنظر: ((إشارات المرام)) (ص: 119). .
وخالف ابنُ الهُمَامِ جمهورَ الماتُريديَّةِ؛ حيث ذهب إلى أنَّ السَّمعَ والبَصَرَ يرجِعانِ إلى صفةِ العِلمِ، وقد نصَّ على ذلك بقَولِه: (اعلَمْ أنَّهما يرجِعانِ إلى صفةِ العِلمِ) [458] ((المسايرة)) (ص: 67). .
ولا جَرَمَ أنَّ القولَ بمغايرةِ السَّمعِ والبَصَرِ للعِلمِ هو القولُ الصَّحيحُ؛ وذلك لأنَّ اللهَ قرن بَينَ العِلمِ وبَينَ السَّمعِ والبَصَرِ، وفرَّق بَينَ السَّمعِ والبَصَرِ، وهو لا يفرِّقُ بَينَ علمٍ وعلمٍ؛ لتنوُّعِ المعلوماتِ.
قال تعالى: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت: 36] ، وفي موضعٍ آخَرَ: إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف: 200] ، وقال: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 227] ، ذكر سمعَه لأقوالِهم وعِلمَه؛ ليتناوَلَ باطِنَ أحوالِهم، وقال لموسى وهارونَ: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46] .
قال الدَّارميُّ في ردِّه على بِشرٍ المِرِّيسيِّ: (لا يقالُ لشَيءٍ: إنَّه سميعٌ بصيرٌ إلَّا لمن هو من ذوي الأسماعِ والأبصارِ، وقد يقالُ في مجازِ الكلامِ: الجبالُ والقصورُ تتراءى وتسمَعُ، على معنى أنَّها تقابِل بعضُها بعضًا، وتبلغُها الأصواتُ ولا تَفقهُ، ولا يقالُ: جَبَلٌ سميعٌ بصيرٌ، وقَصرٌ سميعٌ بصيرٌ؛ لأنَّ "سميع" مستحيلٌ ذلك إلَّا لمن يسمَعُ بسَمعٍ، ويُبصِرُ ببَصرٍ، فإن أنكر أصحابُ المِرِّيسيِّ ما قُلنا فليُسَمُّوا شيئًا ليس من ذوي الأسماعِ والأبصارِ أجازت العَرَبُ أن يقولوا فيه: هو سميعٌ بصيرٌ؛ فإنَّهم لا يأتون بشيءٍ يجوزُ أن يقالَ له ذلك) [459] ((رد الدارمي على بشر المريسي)) (ص: 50). .
فالقولُ بأنَّ السَّمعَ والبصَرَ يرجِعانِ إلى صفةِ العِلمِ قَولٌ ظاهِرُ البطلانِ عقلًا ونقلًا، بل معلومُ الفسادِ بالضَّرورةِ.

انظر أيضا: