موسوعة الفرق

الفَصلُ الرَّابعُ: من أسُسِ وقواعِدِ تقريرِ العقيدةِ عندَ الماتُريديَّةِ: أنَّ معرفةَ اللهِ واجِبةٌ بالعقلِ قبلَ وُرودِ السَّمعِ


قال أبو منصورٍ الماتُريديُّ: (يحتَمِلُ قَولُه تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] حقيقةَ الحُجَّةِ، لكِنَّ ذلك إنما يكونُ في العباداتِ والشَّرائعِ التي سبيلُ معرفتِها السَّمعُ لا العقلُ، وأمَّا الدِّينُ فإنَّ سبيلَ لزومِه بالعَقلِ؛ فلا يكونُ لهم في ذلك على اللهِ حُجَّةٌ؛ إذ في خِلقةِ كُلِّ أحدٍ من الدَّلائِلِ ما لو تأمَّل وتفكَّر فيها لدلَّتْه على هيبتِه، وعلى وحدانيَّتِه وربوبيَّتِه، لكِنْ بَعَث الرُّسُلَ لقَطعِ الاحتجاجِ لهم عنه، وإن لم تكُنْ لهم الحُجَّةُ)  [156] ((تفسير الماتريدي)) (3/ 421). .
وقال أبو المُعينِ النَّسَفيُّ: (كلُّ بالغٍ عاقلٍ يجِبُ عليه أن يستَدِلَّ بأنَّ للعالمِ صانعًا، كما استدلَّ سيِّدُنا إبراهيمُ صلواتُ اللهِ عليه: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام: 76] ، وأصحابُ الكهفِ فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا [الكهف: 14] حتَّى إنَّ من لم يبلُغْه الوحيُ لا يكونُ معذورًا) [157] ((بحر الكلام)) (ص: 85). .
وقال أبو البركاتِ النَّسَفيُّ: (الإيمانُ باللهِ تعالى فرضٌ اتِّفاقًا، والكفرُ به حرامٌ، لكِنَّهم اختلفوا أن وجوبَه بالعقلِ أو بالسَّمعِ، واختلفوا أيضًا أنَّه هل يُعرَفُ حُسنُ الإيمانِ، وشُكرُ المنعِمِ، وقُبحُ الكُفرِ بالعقلِ أو لا؟ فقالت المُلحدةُ والرَّوافِضُ والمشَبِّهةُ والخوارِجُ المحكمةُ: لا يجِبُ بالعقلِ شَيءٌ، ولا يُعرَفُ به حُسنُ الإيمانِ وقُبحُ الكُفرِ، وإنَّما يُعرَفُ ذلك بالشَّرعِ.
وقالت المُعتزِلةُ: العقلُ يوجِبُ الإيمانَ وشُكرَ المنعِمِ، ويَعرِفُ بذاتِه حُسنَ الأشياءِ، ويُثبِتُ الأحكامَ على ما يقتضيه صلاحُ الخَلقِ. وقال بعضُ أصحابِنا: العقلُ له أن يُعرَفَ به حُسنُ بعضِ الأشياءِ وقُبحُها، ووجوبُ الإيمانِ وشُكرُ المنعِمِ.
والفرقُ بَينَ قولِنا وقولِ المُعتزِلةِ أنَّهم يقولون: العقلُ موجِبٌ بذاتِه كما يقولون: إنَّ العبدَ موجِدٌ لأفعالِه، وعندنا العقلُ آلةٌ للمعرفةِ، والموجِبُ هو اللهُ تعالى، كما أنَّ الرَّسولَ مُعَرِّفٌ للوجوبِ، والموجِبُ هو اللهُ تعالى، ولكِنْ بواسطةِ الرَّسولِ عليه السَّلامُ، ووجوبُ الإيمانِ بالعقلِ مرويٌّ عن أبي حنيفةَ رَضِيَ الله عنه؛ فقد ذكر الحاكِمُ الشَّهيدُ في المنتقى أنَّ أبا حنيفةَ رَضِيَ الله عنه قال: لا عُذرَ لأحدٍ في الجهلِ بخالِقِه؛ لمَّا يرى من خَلقِ السَّمواتِ والأرضِ، وخلقِ نَفسِه وغيرِه، ورُويَ أنَّه قال: لو لم يَبعَثِ اللهُ رسولًا لوجَبَت على الخلقِ معرفتُه بعقولِهم، وعليه مشايخُنا من أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، حتى قال الشَّيخُ أبو منصورٍ رحمه الله في الصَّبيِّ العاقِلِ: إنه يجِبُ عليه معرفةُ اللهِ تعالى. وهو قولُ كثيرٍ من مشايخِ أهلِ العراقِ؛ لأنَّ الوجوبَ على البالغِ باعتبارِ عَقلِه. فإذا كان الصَّبيُّ عاقلًا كان كالبالغِ في وجوبِ الإيمانِ عليه، وإنما التَّفاوتُ بينهما في ضعفِ البنيةِ وقوَّتِها، فلا جَرَم يفترقانِ في عَمَلِ الأركانِ، لا فيما يتعلَّق بالجَنانِ. وقال كثيرٌ من مشايخِنا: لا يجبُ على الصَّبيِّ شيءٌ قبل البلوغِ؛ لعمومِ قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((رُفِع القَلَمُ عن ثلاثٍ: عن الصَّبيِّ حتَّى يحتَلِمَ... )) الحديث [158] أخرجه أبو داود (4401)، وابن خزيمة (1003)، وابن حبان (143) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه صحَّحه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (949)، والذهبي في ((المهذب)) (7/3404) ، وحمل الشَّيخُ أبو منصورٍ -رحمه الله- الحديثَ على الشَّرائعِ، ولا خلافَ بَينَ أصحابِنا أنَّ إسلامَ الصَّبيِّ العاقِلِ صحيحٌ)  [159]((الاعتماد في الاعتقاد)) (ص: 362 - 366). ويُنظر: ((أصول الدين)) للبَزْدَوي (ص: 212 - 217)، ((تبصرة الأدلة)) لأبي معين النسفي (ص: 27 - 33)، ((تلخيص الأدلة لقواعد التوحيد)) للصفار (ص: 133 - 145)، ((منح الروض الأزهر في شرح الفقه الأكبر)) للقاري (ص: 390 - 392)، ((إشارات المرام)) للبياضي (ص: 59). .
وقال الغَزْنَويُّ: (قال جمهورُ المُتكلِّمينَ: إنَّ طريقَ معرفةِ اللهِ تعالى إنما هو النَّظَرُ والاستدلالُ؛ إذ العِلمُ بوجودِه ليس بضروريٍّ، فلا بدَّ له من دليلٍ، والدَّليلُ النَّقليُّ من الكتابِ والسُّنَّةِ فَرعٌ على ثبوتِه وثبوتِ النُّبوَّةِ، فلا يمكِنُ الاستدلالُ به في الوصولِ، فتعيَّن الاستدلالُ بالدَّلائلِ العقليَّةِ التي ورد النَّقلُ أيضًا بتصحيحِها)  [160]((شرح عقيدة الإمام الطحاوي)) (ص: 35). .
وقال التَّفْتازانيُّ: (ذهب بعضُ أهلِ السُّنَّةِ -وهم الحَنَفيَّةُ- إلى أنَّ حُسنَ بعضِ الأشياءِ وقُبحَها ممَّا يُدرَكُ بالعقلِ، كما هو رأيُ المُعتزِلةِ؛ كوجوبِ أوَّلِ الواجباتِ، ووجوبِ تصديقِ النَّبيِّ وحرمةِ تكذيبِه دفعًا للتسلسُلِ، وكحرمةِ الإشراكِ باللهِ، ونسبةِ ما هو في غايةِ الشَّناعةِ إليه، على من هو عارفٌ به وبصفاتِه وكمالاتِه، ووجوبِ تَركِ ذلك. ولا نزاعَ في أنَّ كُلَّ واجبٍ حَسَنٌ، وكلَّ حرامٍ قبيحٌ، إلَّا أنَّهم لم يقولوا بالوجوبِ أو الحرمةِ على اللهِ تعالى، وجعلوا الحاكِمَ بالحُسنِ والقبحِ والخالِقَ لأفعالِ العبادِ هو اللهَ تعالى، والعقلَ آلةً لمعرفةِ بعضِ ذلك من غيرِ إيجابٍ ولا توليدٍ، بل بإيجادِ اللهِ تعالى من غيرِ كَسبٍ في البعضِ، ومع الكَسبِ بالنَّظرِ الصَّحيحِ في البعضِ)  [161]((شرح المقاصد في علم الكلام)) (2/ 153). .
والحقُّ أنَّ وجوبَ معرفةِ اللهِ تعالى ثابتٌ بالعقلِ والسَّمعِ، والقرآنُ يدُلُّ على هذا، فإنَّه يذكُرُ الأدِلَّةَ والبراهينَ العقليَّةَ على التَّوحيدِ، ويُبَيِّنُ حُسنَه، ويُبَيِّنُ قبحَ الشِّركِ عقلًا وفطرةً، ويأمرُ بالتَّوحيدِ، وينهى عن الشِّركِ؛ ولهذا ضرب اللهُ سُبحانَه الأمثالَ، وهي أدِلَّةٌ عقليَّةٌ، وخاطب العبادَ بذلك خطابَ من استقرَّ في عقولِهم وفِطَرِهم حُسنُ التَّوحيدِ ووجوبُه، وقبحُ الشِّركِ وذَمُّه، كقولِه تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 29] ، وقَولِه سُبحانَه: ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [النحل: 75] ، وقولِه عزَّ وجَلَّ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: 73-74] إلى أضعافِ ذلك من براهينِ التَّوحيدِ العقليَّةِ التي أرشد إليها القرآنُ ونبَّه عليها.
ولكِنَّ العقابَ على تركِ هذا الواجِبِ يتأخَّرُ إلى حينِ ورودِ الشَّرعِ، كما دلَّ عليه قولُه تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] ، فالحُجَّةُ إنما قامت على النَّاسِ بالقرآنِ وبالرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، كما نبَّههم بما في عقولِهم وفِطَرِهم من حُسنِ التَّوحيدِ والشُّكرِ، وقُبحِ الشِّركِ والكُفرِ [162] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/ 453). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (تنازَع النَّاسُ في معرفةِ اللهِ وتوحيدِه، وأصولِ الدِّينِ: هل يجِبُ ويحصُلُ بالشَّرعِ، أو يجبُ بالشَّرعِ ويحصُلُ بالعقلِ؟ أو يجِبُ ويحصُلُ بالعقلِ؟ على ثلاثةِ أقوالٍ مشهورةٍ لأصحابِ الإمامِ أحمدَ، وغيرِهم من أتباعِ الأئمَّةِ الأربعةِ؛ فطائفةٌ يقولون: يجِبُ بالشَّرعِ ويحصُلُ به، وهو قولُ السَّالميَّةِ، وهو المشهورُ عن أهلِ الحديثِ والفِقهِ الذين يذمُّون الكلامَ. وقد ذكر الآمِديُّ ثلاثةَ أقوالٍ في طُرُقِ العِلمِ، قيل: بالعقلِ فقط، والسَّمعُ لا يحصُلُ به، كقولِ الرَّازيِّ، وقيل: بالسَّمعِ فقط، وهو الكتابُ والسُّنَّةُ، وقيل: بكُلٍّ منهما، ورجَّح هذا، وهو الصَّحيحُ.
والقولُ الثَّاني: أنَّها لا تجِبُ إلَّا بالشَّرعِ، لكن يحصُلُ بالعقلِ، وهو قولُ الأشْعَريِّ وأصحابِه ومن وافقَهم؛ كالقاضي أبي يَعلى، وابنِ الزَّاغونيِّ، وابنِ عَقيلٍ، وغيرِهم.
والقولُ الثَّالثُ: أنَّها تحصُلُ بالعقلِ وتجِبُ به، وهو قولُ من يوجِبُ بالعقلِ كالمُعتزِلةِ، والكرَّاميَّةِ، وهو قولُ طائفةٍ من المالكيَّةِ والشَّافعيَّةِ، وعليه أكثَرُ الحَنَفيَّةِ، ونقلوه عن أبي حنيفةَ نَفسِه، وقد صرَّح هؤلاء أنَّ من لم يأتِه رسولٌ يستحقُّ العقوبةَ في الآخرةِ؛ لمخالفتِه مُوجِبَ العقلِ.
وأعدلُ الأقوالِ: أنَّ الأفعالَ مُشتَمِلةٌ على أوصافٍ تقتضي حُسنَها ووجوبَها، وتقتضي قُبحَها وتحريمَها، وأنَّ ذلك قد يُعلَمُ بالعقلِ، لكِنَّ اللهَ لا يُعذِّبُ أحدًا إلَّا بعد بلوغِ الرِّسالةِ، كما قال: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] ) [163] ((النبوات)) (2/ 673 - 676) باختصار وتصَرُّف. .
وقال ابنُ القيِّمِ: (الصَّوابُ وُجوبُه بالسَّمعِ والعَقلِ، وإن اختلفت جهةُ الإيجابِ؛ فالعقلُ يُوجِبُه: بمعنى اقتضائِه لفِعلِه، وذمِّه على تركِه، وتقبيحِه لضِدِّه، والسَّمعُ يوجِبُه بهذا المعنى، ويزيدُ: إثباتَ العقابِ على تركِه، والإخبارَ عن مقتِ الرَّبِّ تعالى لتاركِه، وبُغضَه له، وهذا قد يُعلَمُ بالعقلِ؛ فإنَّه إذا تقرَّر قُبحُ الشَّيءِ وفُحشُه بالعقلِ، وعُلِم ثبوتُ كمالِ الرَّبِّ جَلَّ جلالُه بالعقلِ أيضًا؛ اقتضى ثبوتُ هذينِ الأمرينِ عِلمَ العقلِ بمقتِ الرَّبِّ تعالى لمرتَكِبِه، وأمَّا تفاصيلُ العقابِ وما يوجِبُه مقتُ الرَّبِّ منه فإنَّما يُعلَمُ بالسَّمعِ) [164] ((مدارج السالكين)) (3/ 454). .

انظر أيضا: