موسوعة الفرق

الفصلُ الثَّاني: من أُسُسِ وقواعِدِ تقريرِ العقيدةِ عِندَ الماتُريديَّةِ: تَركُ الاحتجاجِ بأحاديثِ الآحادِ في العقيدةِ


يرى الماتُريديَّةُ أنَّ أخبارَ الآحادِ وإن كانت صحيحةً لا يُعتمَدُ عليها في إثباتِ مَسائلِ العقيدةِ.
قال أبو منصورٍ الماتُريديُّ: (خبَرُ الآحادِ يوجِبُ علمَ العَمَلِ، ولا يوجِبُ علمَ الشَّهادةِ) [125] ((تفسير الماتريدي)) (10/ 503).   .
بل إنَّ الماتُريديَّ لا يُصَدِّقُ بأحاديثِ المعراجِ الثَّابتةِ في الصَّحيحينِ؛ لكونِها عنده أخبارَ آحادٍ!
قال أبو منصورٍ الماتُريديُّ في تفسيرِه: (ما رُويَ من الأخبارِ أنَّه عُرجَ به إلى السَّماءِ حتى رأى إخوانَه الأنبياءَ الماضينَ قَبلَه، وما ذُكِرَ فيها، فنحن نقولُ ما قال الصِّدِّيقُ رضوانُ اللهِ عليه: إن كان قال ذلك فأنا أشهَدُ على ذلك، وإلَّا نقُلْ على مقدارِ ما في الآيةِ: إنَّه أُسرِيَ به إلى بيتِ المقدِسِ المسجِدِ الأقصى، ولا نزيدُ عليه؛ لأنَّه من أخبارِ الآحادِ، فلا تَسَعُ الشَّهادةُ له) [126] ((تفسير الماتريدي)) (7/ 4). لكن المذهبَ المستَقِرَّ عند الماتريديَّةِ: التصديقُ بالمعراجِ، قال أبو المعين النَّسفيُّ: (قالت المعتزلةُ: المعراجُ لم يكُنْ لأنه جاءت به أخبارُ الآحادِ، وخبرُ الواحِدِ يوجِبُ العَمَلَ، ولا يوجِبُ الاعتقاد، وقال أهلُ السُّنَّة والجماعة: المعراجُ كان صحيحًا إلى السماءِ؛ لأنه روي عن أكثر أصحابِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، نحو أبي سعيدٍ الخُدريِّ، وأنسِ بنِ مالكٍ، ومالكِ بنِ صعصعةَ، وابنِ عبَّاسٍ، وأمِّ هانئٍ -رضي الله عنهم- أنهم قالوا: المعراجُ به إلى السَّماءِ) ((بحر الكلام)) (ص: 192).    .
وقال الماتُريديُّ في تفسيرِ قَولِه عزَّ وجَلَّ: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى [النجم: 16] : قال عامَّةُ أهلِ التَّأويلِ: يغشاها فَراشٌ من ذَهَبٍ. وكذا ذَكَر في خبرٍ مرفوعٍ: ((غشَّاها فراشًا من ذهَبٍ)) [127] أخرجه مسلم (173) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (لما أسريَ برسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم انتهي به إلى سدرة المنتهى، وهي في السَّماء السَّادسة إليها ينتهي ما يُعرج به من الأرض، فيُقبَض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها، فيُقبَض منها، قال: إذ يغشى السِّدْرةَ ما يغشى [النجم: 16] قال: فراشٌ من ذَهَبٍ...). . ولكِنْ لا نُفَسِّرُ ما الذي يغشى السِّدرةَ، بل نُبهِمُ كما أبهم اللهُ تعالى إلَّا بحديثٍ ثبتَ عن تواتُرٍ، واللهُ أعلَمُ.
وقال بعضُهم في قولِه تعالى: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى [النجم: 16] : أي: ما يغشى من أمرِ اللهِ تعالى، ويروون خبرًا عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لمَّا انتهيتُ إلى السِّدرةِ رأيتُ وَرَقَها أمثالَ آذانِ الفِيَلةِ، ورأيتُ نَبقَها أمثالَ القِلالِ، فلمَّا غَشِيها من أمرِ اللهِ ما غَشِيها، تحوَّلَت ياقوتًا)) [128] أخرجه أحمد (12301)، وابن أبي شيبة (32375)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (591) باختلاف يسيرٍ. صحَّح إسنادَه على شرط الشيخينِ: شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (12301)، وجوَّده على شرط مسلمٍ: الألباني في تخريج ((كتاب السنة)) (591). وأصلُه في صحيح البخاري (3887) من حديث أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما، ومسلم (162) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه؛ دون ذكر أنها تحوَّلت ياقوتًا. إن ثبت هذا الخبَرُ ففيه دليلٌ: أنَّ السِّدرةَ شجرةٌ؛ إذ ذَكَر وَرَقَها، وفيه أنَّ الذي يغشاها أمرُ اللهِ تعالى) [129] ((تفسير الماتريدي)) (9/ 422). .
وجاء في كتابِ المسامَرةِ لابنِ الهُمَامِ الحَنَفيِّ: (الشَّرعُ إنَّما ثبت بالعَقلِ؛ فإنَّ ثبوتَه يتوقَّفُ على دلالةِ المُعجزةِ على صِدقِ المبلِّغِ، وإنَّما ثبتت هذه الدَّلالةُ بالعَقلِ، فلو أتى الشَّرعُ بما يُكَذِّبُ العقلَ وهو شاهِدُه، لبطل الشَّرعُ والعقلُ معًا، إذا تقرَّر هذا فنقولُ: كُلُّ لفظٍ يَرِدُ في الشَّرعِ ممَّا يُسنَدُ إلى الذَّاتِ المقدَّسةِ أو يُطلَقُ اسمًا أو صفةً لها وهو مخالِفٌ للعقلِ، ويسمَّى المتشابهَ، لا يخلو إمَّا أن يتواترَ أو ينقُلَ آحادًا، والآحادُ إن كان نصًّا لا يحتمِلُ التَّأويلَ قطَعْنا بافتراءِ ناقِلِه أو سَهوِه أو غَلَطِه، وإن كان ظاهِرًا فظاهِرُه غيرُ مرادٍ، وإن كان متواترًا فلا يُتصوَّرُ أن يكونَ نصًّا لا يحتَمِلُ التَّأويلَ، بل لا بدَّ وأن يكونَ ظاهِرًا، وحينئذٍ نقولُ: الاحتمالُ الذي ينفيه العقلُ ليس مرادًا منه) [130] ((المسامرة)) (ص: 27).   .
وقال الماتُريديُّ في تفسيرِ النَّاقورِ والنَّفخِ في الصُّورِ: (جائزٌ أن يحمَلَ هذا كلُّه على التَّحقيقِ؛ فتتحقَّقَ الصَّيحةُ والزَّجرةُ والنَّقرةُ، ثمَّ تَعقُبُها السَّاعةُ، وجائزٌ أن يكونَ هذا على التَّمثيلِ؛ فيكونَ فيه إخبارٌ عن سهولةِ ذلك الأمرِ وهَونِه على اللهِ تعالى؛ لأنَّ اللَّمحةَ والزَّجرةَ والنَّفخةَ والنَّقرةَ أمرٌ سهلٌ، لا يشتَدُّ على أحدٍ، أو يكونَ على تقصيرِ الوقتِ على الذين ينفخُ فيهم الرُّوحَ، أي: الأرواحُ تُرَدُّ عليهم في قدرِ النَّفخةِ، والزَّجرةِ، والصَّيحةِ؛ خلافًا لأمرِ النَّشأة الأُولى؛ لأنَّه في النَّشأةِ الأولى إنَّما نفخ فيه الرُّوحَ بعد كونِه نُطفةً في بطنِ أمِّه أربعين يومًا، ثمَّ عَلَقةً، ثمَّ مُضغةً كذلك القَدرِ من المدَّةِ، ثمَّ نَفَخ فيه الرُّوحَ بعد مُدَدٍ وأوقاتٍ، وفي النَّشأةِ الأخرى يَنفُخُ الرُّوحَ بالقَصرِ من المدَّةِ، وذلك قَدرُ النَّفخةِ والزَّجرة والصَّيحةِ واللَّمحةِ، واللهُ أعلمُ.
وإنَّما قُلنا بأنَّ التَّأويلَ قد يتوجَّهُ إلى التَّمثيلِ دونَ التَّحقيقِ، وإن ذُكِر في بعضِ الأحاديثِ تَثبيتُ الصُّورِ والنَّاقورِ؛ لأنَّها من أخبارِ الآحادِ، وخَبَرُ الواحِدِ يوجِبُ عِلمَ العَمَلِ، ولا يوجِبُ عِلمَ الشَّهادةِ، وفي تحقيقِ الصُّورِ والنَّاقورِ ليس إلَّا الشَّهادةُ؛ لذلك لم يحصُلِ الأمرُ على التَّحقيقِ والقطعِ؛ لئلَّا نقطَعَ الحُكمَ على الشَّهادةِ) [131] ((تفسير الماتريدي)) (10/ 304).  .
وقال التَّفْتازانيُّ: (لا عبرةَ بالظَّنِّ في بابِ الاعتقاداتِ، خصوصًا إذا اشتمل على اختلافِ روايةٍ، وكان القولُ بموجِبِه ممَّا يفضي إلى مخالفةِ ظاهِرِ الكتابِ) [132] ((شرح العقائد النسفية)) (ص: 89).  .
وقال ابنُ الهُمَامِ: (أخبارُ الآحادِ من الأدِلَّةِ اللَّفظيةِ الظَّنيَّةِ توجِبُ العَمَلَ دونَ العِلمِ عندَ الجمهورِ، على ما عُرِفَ في الأُصولِ) [133] ((فتح القدير)) (9/ 144). ويُنظر: ((فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت)) للأنصاري (3/ 252 - 259).  .
وقال القاري: (الآحادُ لا تفيدُ الاعتمادَ في الاعتقادِ) [134] ((منح الروض الأزهر في شرح الفقه الأكبر)) (ص: 171).  .
والصَّوابُ: أنَّ مسائِلَ الاعتقادِ تُؤخَذُ من القرآنِ الكريمِ، ومن الحديثِ الصَّحيحِ بقِسمَيه المتواتِرِ والآحادِ، والذي عليه الصَّحابةُ ومن تَبِعَهم بإحسانٍ من العُلَماءِ المحقِّقين أنَّ خبرَ الواحِدِ المتلقَّى بالقَبولِ يفيدُ العِلمَ والعمَلَ حتَّى في مسائِلِ الاعتقادِ، وممَّا يدُلُّ على ذلك أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا بَعَثَ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ رَضِيَ الله عنه إلى أهْلِ اليَمَنِ قال له: ((إنَّكَ تَقْدَمُ علَى قَوْمٍ مِن أهْلِ الكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أوَّلَ ما تَدْعُوهُمْ إلى أنْ يُوَحِّدُوا اللهَ تعالى... )) [135] رواه البخاري (7372) واللفظ له، ومسلم (19).  ومعاذٌ فَرْدٌ.
قال الشَّافعيُّ: (فإنْ قال قائِلٌ: اذكُرِ الحُجَّةَ في تثبيتِ خَبَرِ الواحدِ بنَصِّ خبَرٍ أو دلالةٍ فيه أو إجماعٍ. قُلتُ له: أخبَرَنا سفيانُ عن عبدِ الملِكِ بنِ عُميرٍ، عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، عن أبيه: أنَّ النَّبيَّ قال: ((نَضَّر اللهُ عَبدًا سَمِع مقالتي فحَفِظَها ووعاها وأدَّاها؛ فرُبَّ حامِلِ فِقهٍ غيرُ فقيهٍ، ورُبَّ حامِلِ فِقهٍ إلى من هو أفقهُ منه )) [136] أخرجه مطولًا الترمذي (2658)، والشافعي في ((المسند)) (1806) واللفظ له، والحميدي (88).  صحَّحه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/364)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2658)، وصحَّح إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح السنة)) (112) ... فلمَّا ندب رسولُ اللهِ إلى استماعِ مقالتِه وحِفظِها وأدائِها امرأً يؤدِّيها، والمرءُ واحدٌ- دلَّ على أنَّه لا يأمُرُ أن يؤدَّى عنه إلَّا ما تقومُ به الحُجَّةُ على من أدَّى إليه؛ لأنَّه إنَّما يؤدَّى عنه حلالٌ، وحرامٌ يُجتَنَبُ، وحَدٌّ يقامُ، ومالٌ يُؤخَذُ ويُعطى، ونصيحةٌ في دينٍ ودُنيا... لم أحفَظْ عن فقهاءِ المُسلِمين أنَّهم اختلفوا في تثبيتِ خَبَرِ الواحِدِ) [137] ((الرسالة)) (ص: 401- 403، 458). .
وقال الخطيبُ البغداديُّ: (على العَمَلِ بخبرِ الواحِدِ كان كافَّةُ التَّابعين ومَن بَعدَهم من الفقهاءِ الخالفينَ، في سائِرِ أمصارِ المُسلِمين إلى وقتِنا هذا، ولم يبلُغْنا عن أحدٍ منهم إنكارٌ لذلك، ولا اعتراضٌ عليه؛ فثبت أنَّ مِنْ دينِ جميعِهم وجوبَه؛ إذ لو كان فيهم من كان لا يرى العَمَلَ به، لنُقِلَ إلينا الخبَرُ عنه بمَذهَبِه فيه) [138] ((الكفاية في علم الرواية)) (ص: 31). .
وقال السَّمعانيُّ: (إنَّ الخَبَرَ إذا صحَّ عن رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ورواه الثِّقاتُ والأئمَّةُ، وأسنده خلَفُهم عن سلَفِهم إلى رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتلقَّتْه الأمَّةُ بالقبولِ؛ فإنَّه يوجِبُ العِلمَ فيما سبيلُه العِلمُ. هذا قولُ عامَّةِ أهلِ الحديثِ والمتقنينَ من القائمينَ على السُّنَّة، وإنَّما هذا القولُ الذي يُذكَرُ أنَّ خبرَ الواحِدِ لا يفيدُ العِلمَ بحالٍ، ولا بدَّ من نقلِه بطريقِ التَّواترِ لوقوعِ العِلمِ به- شيءٌ اختَرَعتْه القَدَريَّةُ والمُعتزِلةُ، وكان قَصدُهم منه ردَّ الأخبارِ) [139] ((الانتصار لأصحاب الحديث)) (ص: 34). .
وقال ابنُ الموصِليِّ: (انعقادُ الإجماعِ المعلومِ المتيقَّنِ على قبولِ هذه الأحاديثِ وإثباتِ صِفاتِ الرَّبِّ تعالى بها، فهذا لا يَشُكُّ فيه من له أقَلُّ خبرةٍ بالمنقولِ؛ فإنَّ الصَّحابةَ هم الذين رَوَوا هذه الأحاديثَ وتلَقَّاها بعضُهم عن بعضٍ بالقَبولِ، ولم ينكِرْها أحدٌ منهم على من رواها، ثمَّ تلقَّاها عنهم جميعُ التَّابعين من أوَّلهم إلى آخِرِهم، ومن سمِعَها منهم تلقَّاها بالقبولِ والتَّصديقِ لهم، ومَن لم يسمَعْها منهم تلقَّاها عن التَّابعين كذلك، وكذلك تابعُ التَّابعين مع التَّابعين.
هذا أمرٌ يعلمُه ضرورةً أهلُ الحديثِ، كما يعلمونَ عدالةَ الصَّحابةِ وصِدقَهم وأمانتَهم ونَقْلَهم ذلك عن نبيِّهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كنَقلِهم الوُضوءَ والغُسلَ من الجنابةِ، وأعدادَ الصَّلواتِ وأوقاتَها، ونَقلِ الأذانِ والتَّشهُّدِ والجُمُعةِ والعيدينِ؛ فإنَّ الذين نقلوا هذا هم الذين نقلوا أحاديثَ الصِّفاتِ، فإن جاز عليهم الخطأُ والكَذِبُ في نقلِها جاز عليهم ذلك في نقلِ غيرِها ممَّا ذكرْنا، وحينئذٍ فلا وثوقَ لنا بشيءٍ نُقل لنا عن نبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم البتَّةَ! وهذا انسلاخٌ من الدِّينِ والعِلمِ والعقلِ، على أنَّ كثيرًا من القادحين في دينِ الإسلامِ قد طردوا وقالوا: لا وثوقَ لنا بشيءٍ من ذلك البتَّةَ!) [140] ((مختصر الصواعق المرسلة)) (ص: 605). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (خبرُ الواحدِ إذا تلقَّته الأمَّةُ بالقَبولِ عمَلًا به وتصديقًا له، يفيدُ العِلمَ اليقينيَّ عِندَ جماهيرِ الأمَّةِ، وهو أحدُ قِسمَيِ المتواتِرِ. ولم يكنْ بَينَ سلفِ الأمَّةِ في ذلك نزاعٌ،... وكان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يرسِلُ رُسُلَه آحادًا، ويرسِلُ كُتُبَه مع الآحادِ، ولم يكُنِ المُرسَلُ إليهم يقولون: لا نقبَلُه لأنَّه خبرُ واحدٍ!... وخبرُ الواحدِ وإن كان يحتمِلُ الصِّدقَ والكَذِبَ ولكنَّ التَّفريقَ بَينَ صحيحِ الأخبارِ وسقيمِها لا ينالُه أحدٌ إلَّا بعد أن يكونَ معظَمَ أوقاتِه مشتغِلًا بالحديثِ، والبحثِ عن سيرةِ الرُّواةِ؛ ليقِفَ على أحوالِهم وأقوالِهم، وشِدَّةِ حَذَرِهم من الطُّغيانِ والزَّللِ، وكانوا بحيثُ لو قُتلوا لم يسامحوا أحدًا في كلمةٍ يتقوَّلُها على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا فعلوا هم بأنفُسِهم ذلك. وقد نقلوا هذا الدِّينِ إلينا كما نُقِل إليهم، فهم يَزَكُ الإسلامِ وعصابةُ الإيمانِ، وهم نقَّادُ الأخبارِ، وصيارِفةُ الأحاديثِ. فإذا وقف المرءُ على هذا من شأنِهم، وعَرَف حالَهم، وخبَرَ صِدقَهم وورَعَهم وأمانَتَهم؛ ظهر له العِلمُ فيما نقلوه ورَوَوه، ومن له عقلٌ ومعرفةٌ يعلمُ أنَّ أهلَ الحديثِ لهم من العِلمِ بأحوالِ نبيِّهم وسيرتِه وأخبارِه ما ليس لغيرِهم به شعورٌ، فضلًا أن يكونَ معلومًا لهم أو مظنونًا، كما أنَّ النُّحاةَ عندَهم من أخبارِ سِيبَوَيهِ والخليلِ وأقوالِهما ما ليس عندَ غَيرِهم، وعند الأطبَّاءِ من كلامِ بُقراطَ وجالينوسَ ما ليس عندَ غيرِهم، وكُلُّ ذي صنعةٍ هو أخبَرُ بها من غيرِه) [141] ((شرح الطحاوية)) (2/ 501- 503). .  
وقال ابنُ عُثَيْمينَ: (جَوابُنا على مَن يَرى أنَّ أحاديثَ الآحادِ لا تَثبُتُ بها العَقيدةُ؛ لأنَّها تُفيدُ الظَّنَّ، والظَّنُّ لا تُبْنى عليه العَقيدةُ أن نقولَ:
هذا رأيٌ غَيرُ صَوابٍ؛ لأنَّه مَبنيٌّ على غَيرِ صَوابٍ، وذلك مِن عِدَّةِ وُجوهٍ:
1- القَولُ بأنَّ حَديثَ الآحادِ لا يُفيدُ إلَّا الظَّنَّ ليس على إطلاقِه، بل في أخبارِ الآحادِ ما يُفيدُ اليَقينَ إذا دَلَّتِ القَرائِنُ على صِدقِه، كما إذا تَلَقَّته الأمَّةُ بالقَبولِ، مِثلُ حَديثِ عَمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه: ((إنَّما الأعْمالُ بالنِّيَّاتِ)) [142] أخرجه مطولًا البخاري (1) واللَّفظُ له، ومسلم (1907) فإنَّه خَبَرُ آحادٍ، ومعَ ذلك فإنَّنا نَعلَمُ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قاله، وهذا ما حَقَّقَه شَيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميَّةَ، والحافِظُ ابنُ حَجَرٍ، وغَيرُهما.
2- أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ يُرسِلُ الآحادَ بأُصولِ العَقيدةِ: شَهادةِ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ مُحمَّدًا رَسولُ اللهِ، وإرْسالُه حُجَّةٌ مُلزِمةٌ، كما بَعَثَ مُعاذًا إلى اليَمَنِ، واعتَبَرَ بَعْثَه حُجَّةً مُلزِمةً لأهلِ اليَمَنِ بقَبولِه.
3- إذا قُلْنا بأنَّ العَقيدةَ لا تَثبُتُ بأخبارِ الآحادِ أَمكَنَ أن يُقال: والأحْكامُ العَمَليَّةُ لا تَثبُتُ بأخْبارِ الآحادِ؛ لأنَّ الأحْكامَ العَمَليَّةَ يَصحَبُها عَقيدةُ أنَّ اللهَ تَعالى أمَرَ بِهذا أو نَهى عن هذا، وإذا قُبِلَ هذا القَولُ تَعطَّلَ كَثيرٌ مِن أحْكامِ الشَّريعةِ.
4- أنَّ اللهَ تَعالى أمَرَ بالرُّجوعِ إلى قَولِ أهلِ العِلمِ لِمَن كانَ جاهِلًا فيما هو مِن أَعظَمِ مَسائِلِ العَقيدةِ، وهي الرِّسالةُ. فقال تَعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ [النحل: 43-44] . وهذا يَشمَلُ سُؤالَ الواحِدِ والمُتَعدِّدِ. والحاصِلُ أنَّ خَبَرَ الآحادِ إذا دَلَّتِ القَرائِنُ على صِدْقِه أفادَ العِلمَ، وثَبتَتْ به الأحْكامُ العَمَليَّةُ والعِلميَّةُ)) [143] ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (1/ 31). .  
ولا يُعرَفُ عن أبي حنيفةَ أنَّه يُفرِّقُ في خبرِ الآحادِ بَينَ مسائِلِ العقيدةِ ومسائِلِ الفقهِ، بل جاء عنه أنَّه قال: (إذا جاء الحديثُ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم نَحِدْ عنه إلى غيرِه، وأخَذْنا به، وإذا جاء عن الصَّحابةِ تخيَّرْنا، وإذا جاء عن التَّابعينَ زاحَمْناهم) [144] رواه ابن خسرو في مسند أبي حنيفة (26). .
وقد نقل ابنُ تيميَّةَ عن أصحابِ أبي حنيفةَ وغيرِهم القولَ بإيجابِ أخبارِ الآحادِ المتلقَّاةِ بالقَبولِ العِلمَ.
قال ابنُ تيميَّةَ: (الصَّحيحُ أنَّ خَبَرَ الواحِدِ قد يفيدُ العِلمَ إذا احتَفَّت به قرائِنُ تفيدُ العِلمَ ... ولهذا كان أكثَرُ مُتونِ الصَّحيحَينِ ممَّا يَعلَمُ عُلَماءُ الحديثِ عِلمًا قطعيًّا أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قاله؛ تارةً لتواتُرِه عندَهم، وتارةً لتلَقِّي الأمَّةِ له بالقَبولِ، وخبَرُ الواحِدِ المُتلقَّى بالقَبولِ يُوجِبُ العِلمَ عندَ جُمهورِ العُلَماءِ من أصحابِ أبي حنيفةَ ومالِكٍ والشَّافعيِّ وأحمدَ، وهو قَولُ أكثَرِ أصحابِ الأشعَريِّ، كالإسفَرايِينيِّ وابنِ فُورَك؛ فإنَّه وإن كان في نفسِه لا يُفيدُ إلَّا الظَّنَّ، لكنْ لمَّا اقترن به إجماعُ أهلِ العِلمِ بالحديثِ على تلقِّيه بالتَّصديقِ كان بمنزلةِ إجماعِ أهلِ العِلمِ بالفِقهِ على حُكمٍ مُستنِدينَ في ذلك إلى ظاهِرٍ أو قياسٍ أو خبَرِ واحدٍ؛ فإنَّ ذلك الحُكمَ يصيرُ قَطعيًّا عندَ الجُمهورِ، وإن كان بدونِ الإجماعِ ليس بقَطعيٍّ؛ لأنَّ الإجماعَ معصومٌ، فأهلُ العِلمِ بالأحكامِ الشَّرعيَّةِ لا يُجمِعونَ على تحليلِ حرامٍ، ولا تحريمِ حلالٍ، كذلك أهلُ العِلمِ بالحديثِ لا يُجمِعونَ على التَّصديقِ بكَذِبٍ، ولا التَّكذيبِ بصِدقٍ، وتارةً يكونُ عِلمُ أحَدِهم لقرائِنَ تحتَفُّ بالأخبارِ تُوجِبُ لهم العِلمَ، ومَن عَلِمَ ما عَلِموه حصل له من العِلمِ ما حصَلَ لهم) [145] ((مجموع الفتاوى)) (18/ 40). .
وما أحسَنَ قَولَ أبي المظفَّرِ السَّمعانيِّ: (كما يُرجَعُ في معرفةِ مذاهبِ الفُقَهاءِ الذين صاروا قُدوةً في هذه الأُمَّةِ إلى أهلِ الفِقهِ، ويُرجَعُ في معرفةِ اللُّغةِ إلى أهلِ اللُّغةِ، ويُرجَعُ في معرفةِ النَّحوِ إلى أهلِ النَّحوِ؛ فكذلك يجِبُ أن يُرجَعَ في معرفةِ ما كان عليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه إلى أهلِ النَّقلِ والرِّوايةِ؛ لأنَّهم عُنُوا بهذا الشَّأنِ، واشتَغَلوا بحِفظِه، والتفَحُّصِ عنه، ونَقْلِه، ولولاهم لاندرَسَ عِلمُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم يقِفْ أحدٌ على سُنَّتِه وطريقَتِه،... كلُّ فريقٍ من المُبتَدِعةِ إنَّما يدَّعي أنَّ الذي يعتَقِدُه هو ما كان عليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّهم كُلَّهم يدَّعون شَريعةَ الإسلامِ، مُلتزِمون في شعائِرِها، يَرَونَ أنَّ ما جاء به محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو الحَقُّ، غيرَ أنَّ الطُّرُقَ تفرَّقت بهم بعد ذلك، وأحدَثوا في الدِّينِ ما لم يأذَنْ به اللهُ ورسولُه، فزعَمَ كُلُّ فريقٍ أنَّه هو المتمَسِّكُ بشريعةِ الإسلامِ، وأنَّ الحقَّ الذي قام به رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو الذي يعتَقِدُه وينتَحِلُه، غيرَ أنَّ اللهَ تعالى أبى أن يكونَ الحَقُّ والعقيدةُ الصَّحيحةُ إلَّا مع أهلِ الحديثِ والآثارِ؛ لأنَّهم أخذوا دينَهم وعقائِدَهم خَلَفًا عن سَلَفٍ، وقَرنًا عن قَرنٍ، إلى أن انتهوا إلى التابعينَ، وأخذه التابعونَ عن أصحابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأخذه أصحابُ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا طريقَ إلى معرفةِ ما دعا إليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم النَّاسَ من الدِّينِ المستقيمِ والصِّراطِ القويمِ إلَّا هذا الطَّريقُ الذي سلكَه أصحابُ الحديثِ، وأمَّا سائِرُ الفِرَقِ فطلَبوا الدِّينَ لا بطريقِه؛ لأنَّهم رجعوا إلى معقولِهم وخواطِرِهم وآرائِهم، فطلَبوا الدِّينَ من قِبَلِه، فإذا سمعوا شيئًا من الكتابِ والسُّنَّةِ عرَضوه على معيارِ عُقولهم، فإن استقام قَبِلوه، وإن لم يستقِمْ في ميزانِ عُقولهم ردُّوه، فإن اضطُرُّوا إلى قَبولِه حرَّفوه بالتأويلاتِ البعيدةِ، والمعاني المستنكَرةِ؛ فحادوا عن الحقِّ، وزاغوا عنه، ونبذوا الدِّينَ وراءَ ظُهورِهم، وجعَلوا السُّنَّةَ تحتَ أقدامِهم، تعالى اللهُ عمَّا يَصِفون، وأمَّا أهلُ الحَقِّ فجَعلوا الكتابَ والسُّنَّةَ إمامَهم، وطلبوا الدِّينَ مِن قِبَلِهما، وما وقع لهم من مَعقولهم وخواطِرِهم عرَضوه على الكِتابِ والسُّنَّة، فإن وجدوه موافِقًا لهما قَبِلوه، وشكَروا اللهَ عزَّ وجَلَّ حيثُ أراهم ذلك، ووقَفَهم عليه، وإن وجدوه مخالِفًا لهما تركوا ما وقع لهم، وأقبلوا على الكِتابِ والسُّنَّةِ) [146] ((الانتصار لأصحاب الحديث)) (ص: 43). .  

انظر أيضا: