موسوعة الفرق

الفَصلُ الثَّالثُ: من أسُسِ وقواعِدِ تقريرِ العقيدةِ عندَ الماتُريديَّةِ: القولُ بالمجازِ


من أهمِّ أصولِ المُتكلِّمينَ كالماتُريديَّةِ قولُهم بالمجازِ الذي يؤدِّي إلى تعطيلِ نُصوصِ الصِّفاتِ، فكُلُّ نصٍّ لا يوافِقُ آراءَهم حملوه على المجازِ، وجعلوا الحقيقةَ فيه ما تقرِّرُه عقولُهم بالتَّأويلِ أو التَّفويضِ!
قال أبو منصورٍ الماتُريديُّ: (أضاف إلى نفسِه التَّنزيلَ؛ ليُعلَمَ أنَّ هذه الأخبارَ، وهي قولُه: إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة: 40] ، وقَولُه عزَّ وجَلَّ: تَنْزِيلٌ [الحاقة: 43] خرجت على المجازِ، ليس على التَّحقيقِ؛ لأنَّ التَّنزيلَ هو إنزالُه، فسُمِّي تنزيلًا؛ لأنَّه هو الذي كلَّفه الإنزالَ، لا أن يكونَ هو الذي تولَّى الإنزالَ، وإن كان هو خالِقَه) [147] ((تفسير الماتريدي)) (10/ 190). .
وقال الماتُريديُّ أيضًا في صفةِ إتيانِ اللهِ سُبحانَه ومجيئِه واستوائِه: (ما كان من هذه الأفعالِ موصولًا بصلةٍ فإنَّه يجوزُ أن يرادَ منه تلك الصِّلةُ، وإنما نتكلَّمُ بإضافةِ هذا الفِعلِ إليه مجازًا) [148] ((تفسير الماتريدي)) (9/ 581). ويُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (7/ 107). .
وقال البياضيُّ: (لَمَّا لم يمكِنْ حملُ تلك النُّصوصِ على معانيها الحقيقيَّةِ من الجوارحِ الجُسمانيَّةِ والتَّحيُّزِ والانفعالاتِ النَّفسانيَّةِ؛ لمنعِ البراهينِ القطعيَّةِ، ولم يجُزْ إبطالُ الأصلِ؛ لعدَمِ دَركِ حقيقةِ الوصفِ بلا كيفيَّةٍ، تُحمَلُ على المجازِ) [149] ((إشارات المرام)) (ص: 156). .
وتأويلُ نصوصِ الصِّفاتِ بدعوى المجازِ بلا بُرْهانٍ مخالِفٌ لِما عليه السَّلَفُ الصَّالحُ؛ قال محمَّدُ بنُ الحَسَنِ الشَّيبانيُّ صاحِبُ أبي حنيفةَ: (اتَّفق الفُقَهاءُ كُلُّهم من المشرِقِ إلى المغرِبِ على الإيمانِ بالقُرآنِ والأحاديثِ التي جاء بها الثِّقاتُ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في صِفةِ الرَّبِّ عزَّ وجَلَّ، من غيرِ تغييرٍ ولا وصفٍ ولا تشبيهٍ، فمن فسَّر اليومَ شيئًا من ذلك فقد خرج ممَّا كان عليه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفارَق الجماعةَ؛ فإنَّهم لم يَصِفوا ولم يُفسِّروا، ولكِنْ أفتَوا بما في الكِتابِ والسُّنَّةِ ثمَّ سكتوا، فمَن قال بقولِ جَهمٍ فقد فارق الجماعةَ؛ لأنَّه قد وصَفه بصِفةِ لا شَيءٍ!) [150] رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (740).  .
وقال ابنُ عَبْدِ البَرِّ: (هذه الآياتُ كلُّها واضِحاتٌ في إبْطالِ قَولِ المُعْتَزِلةِ، وأمَّا ادِّعاؤُهم المَجازَ في الاستِواءِ، وقَولُهم في تَأويلِ اسْتَوَى: اسْتَولى، فلا مَعْنى له؛ لأنَّه غَيرُ ظاهِرٍ في اللُّغةِ، ومَعْنى الاسْتيلاءِ في اللُّغةِ المُغالَبةُ، واللهُ لا يُغالِبُه ولا يَعْلوه أحَدٌ، وهو الواحِدُ الصَّمَدُ، ومِن حَقِّ الكَلامِ أن يُحمَلَ على حَقيقتِه حتَّى تَتَّفِقَ الأمَّةُ أنَّه أُريدَ به المَجازُ؛ إذ لا سَبيلَ إلى اتِّباعِ ما أُنزِلَ إلينا مِن رَبِّنا إلَّا على ذلك، وإنَّما يُوجَّهُ كَلامُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ إلى الأَشهَرِ والأَظهَرِ مِن وُجوهِه ما لم يَمنَعْ مِن ذلك ما يَجِبُ له التَّسْليمُ، ولو ساغَ ادِّعاءُ المَجازِ لكلِّ مُدَّعٍ ما ثَبَتَ شيءٌ مِن العِباراتِ، وجَلَّ اللهُ عَزَّ وجَلَّ عن أن يُخاطِبَ إلَّا بما تَفهَمُه العَرَبُ في مَعْهودِ مُخاطَباتِها ممَّا يَصِحُّ مَعْناه عِندَ السَّامِعينَ، والاستِواءُ مَعْلومٌ في اللُّغةِ ومَفْهومٌ، وهو العُلُوُّ والارْتِفاعُ على الشَّيءِ والاسْتِقرارُ والتَّمكُّنُ فيه. قال أبو عُبَيْدةَ في قَولِه تَعالى: اسْتَوى، قال: عَلا، قال: وتقولُ العَرَبُ: اسْتَوَيْتُ فَوْقَ الدَّابَّةِ، واسْتَوَيْتُ فَوْقَ البَيْتِ ...، قال أبو عُمَرَ: الاستِواءُ: الاسْتِقرارُ في العُلْوِ، وبِهذا خاطَبَنا اللهُ عَزَّ وجَلَّ) [151] ((التمهيد)) (7/ 131).      .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (الحقيقةُ والمجازُ من عوارِضِ الألفاظِ، هذا التَّقسيمُ هو اصطلاحٌ حادِثٌ بعد انقضاءِ القرونِ الثَّلاثةِ، لم يتكلَّمْ به أحدٌ من الصَّحابةِ ولا التَّابعين لهم بإحسانٍ، ولا أحدٌ من الأئمَّةِ المشهورينَ في العِلمِ؛ كمالكٍ، والثَّوريِّ، والأوزاعيِّ، وأبي حنيفةَ، والشَّافعيِّ، بل ولا تكلَّم به أئمَّةُ اللُّغةِ والنَّحوِ؛ كالخليلِ، وسيبَوَيهِ، وأبي عَمرِو بنِ العلاءِ، ونحوِهم. وأوَّلُ من عُرِف أنَّه تكلَّم بلفظِ المجازِ أبو عُبَيدةَ مَعمَرُ بنُ المثَنَّى في كتابِه، ولكِنْ لم يَعْنِ بالمجازِ ما هو قسيمُ الحقيقةِ، وإنما عنى بمجازِ الآيةِ ما يُعَبَّرَ به عن الآيةِ؛... وإنما هذا اصطلاحٌ حادثٌ، والغالبُ أنَّه كان من جهةِ المُعتزِلةِ ونحوِهم من المُتكلِّمين [152] لعلَّ الجاحظَ (ت 255 هـ) أوَّلُ من أشهر المجازَ، ومن ذلك قوله: (هذا الكلامُ صحيح المعنى، لا يعيبه إلا من لا يعرف مجازَ الكلام) ((الحيوان)) (1/ 212)، وقال: (سمع الحسنُ رجلًا يقول: طلع سهيلٌ وبرد الليلُ، فكره ذلك، وقال: إن سهيلًا لم يأِت بحرٍّ ولا ببرد قط؛ ولهذا الكلام مجازٌ ومذهَبٌ، وقد كرهه الحسنُ كما ترى. وكره مالك بن أنس أن يقول الرجل للغيم والسحابة: ما أخلَقَها للمَطَرِ! وهذا كلام مجازه قائِمٌ، وقد كرهه ابن أنس، كأنهم من خوفهم عليهم العودَ في شيء من أمر الجاهلية احتاطوا في أمورهم، فمنعوهم من الكلام الذي فيه أدنى متعلق) ((الحيوان)) (1/ 341). ويُنظر: ((الحيوان)) للجاحظ (5/ 25 - 36)، ثم جاء ابن جني المعتزلي (392هـ) فقرر أن أكثر اللغة مجاز، قال ابن جني: (هذه اللغةُ أكثرها جارٍ على المجاز، وقلَّما يخرج الشيء منها على الحقيقة) ((الخصائص)) (3/ 250). ويُنظر: ((الخصائص)) لابن جني (2/ 449 - 459).   ؛ فإنَّه لم يوجَدْ هذا في كلامِ أحدٍ من أهلِ الفقهِ والأصولِ والتَّفسيرِ والحديثِ ونحوِهم من السَّلَفِ، وهذا الشَّافعيُّ هو أوَّلُ من جرَّد الكلامَ في أصولِ الفِقهِ لم يُقَسِّمْ هذا التَّقسيمَ، ولا تكلَّمَ بلفظِ الحقيقةِ والمجازِ، وكذلك محمَّدُ بنُ الحَسَنِ له في المسائِلِ المبنيَّةِ على العربيَّةِ كلامٌ معروفٌ في الجامِعِ الكبيرِ وغيرِه، ولم يتكلَّمْ بلفظِ الحقيقةِ والمجازِ... تقسيمُ الألفاظِ إلى حقيقةٍ ومجازٍ إنما اشتَهَر في المائةِ الرَّابعةِ، وظهرت أوائِلُه في المائةِ الثَّالثةِ، وما علِمْتُه موجودًا في المائةِ الثَّانية، اللَّهُمَّ إلَّا أن يكونَ في أواخِرِها) [153] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 88).      .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (قال بعضُ أئمَّةِ النُّحاةِ: أكثَرُ اللُّغةِ مجازٌ، فإذا كان أكثَرُ اللُّغةِ مجازًا سَهُل على النُّفوسِ أنواعُ التأويلاتِ؛ فقُلْ ما شِئتَ، وأوِّلْ ما شِئتَ، وانزِلْ عن الحقيقةِ، ولا يَضُرُّك أيُّ مجازٍ ركِبْتَه! ... أعطى الجَهميُّ من نفسِه أنَّ أكثَرَ اللُّغةِ مجازٌ، وأنَّ الأدلَّةَ اللَّفظيَّةَ لا تفيدُ اليقينَ، وأنَّ العقلَ إذا عارَض السَّمعَ وَجَب تقديمُ العقلِ، والإعراضُ عن السَّمعِ وإهدارُه، ثمَّ إمَّا أن يشتَغِلَ بتأويلِه... أو يُفوِّضَه ولا يحتَجَّ به!...، فكيف يقومُ بعد هذا حُجَّةٌ من كتابٍ أو سُنَّةٍ على مبطِلٍ من العالَمينَ؟!) [154] ((الصواعق المرسلة)) (2/ 451، 456).      .
وقال ابنُ الموصِليِّ: (تقسيمُ الألفاظِ إلى حقيقةٍ ومجازٍ ليس تقسيمًا شرعيًّا ولا عقليًّا ولا لُغَويًّا؛ فهو اصطلاحٌ مَحْضٌ، وهو اصطلاحٌ حَدَث بعد القرونِ الثَّلاثةِ المفضَّلةِ بالنَّصِّ، وكان منشؤه من جهةِ المُعتزِلةِ والجَهْميَّةِ ومن سلك طريقَهم من المُتكلِّمين) [155] ((مختصر الصواعق المرسلة)) (ص: 287).      .

انظر أيضا: