موسوعة الفرق

الفصلُ الخامسُ: من أسُسِ وقواعِدِ تقريرِ العقيدةِ عندَ الماتُريديَّةِ: القولُ بالتَّحسينِ والتَّقبيحِ العقليَّينِ


تنازع أهلُ الكلامِ في مسألةِ التَّحسينِ والتَّقبيحِ، فقالت المُعتَزِلةُ بالتَّحسينِ والتَّقبيحِ العَقليَّينِ، وقرَّروا أنَّ اللهَ يُعذِّبُ النَّاسَ قَبلَ وُرودِ الشَّرعِ، وخالفوا قَولَ اللهِ سُبحانَه: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] ، ونفَت الأشاعِرةُ حُسنَ الأشياءِ وقُبحَها بالعَقلِ، وقالوا: الأفعالُ قَبلَ وُرودِ الشَّرعِ سواءٌ في الحُسنِ والقُبحِ، وإنَّما يُعرَفُ حُسنُها وقُبحُها بالشَّرعِ وحدَه، وأجازوا أن يأمُرَ اللهُ سُبحانَه بالشِّركِ والظُّلمِ والزِّنا والفَواحِشِ، وإنَّما كانت هذه مُحرَّمةً لوُرودِ الشَّرعِ بالنَّهيِ عنها، فدَلَّ الشَّرعُ على قُبحِها، أمَّا العَقلُ وَحدَه فلا يدُلُّ على قُبحِها، وخالفوا قَولَ اللهِ سُبحانَه: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ [الأعراف: 28] ، وقَولَه عزَّ وجلَّ: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف: 157] ، وتكَلَّم الأشاعِرةُ في جوازِ أن يُكلِّفَ اللهُ العِبادَ ما لا يُطيقونَ فِعلَه، وهدى اللهُ أهلَ السُّنَّةِ لِما اختلفوا فيه من الحَقِّ بإذنِه، فأثبتوا أنَّ للأفعالِ حُسنًا وقُبحًا ذاتيَّينِ يمكِنُ إدراكُه بالعقلِ كما يُدرَكُ بالشَّرعِ، وقرَّروا أنَّ التَّكليفَ والعقابَ لا يكونُ إلَّا بَعدَ وُرودِ الشَّرعِ، فلا يترتَّبُ ثوابٌ ولا عقابٌ إلَّا بالأمرِ والنَّهيِ، فالفِعلُ القبيحُ كالشِّركِ والظُّلمِ والزِّنا هو قبيحٌ في نفسِه، ولا يمكِنُ أن يأمُرَ اللهُ به، وقَبلَ وُرودِ الأمرِ والنَّهيِ لا يكونُ مُوجِبًا للعقابِ؛ فاللهُ لا يعاقِبُ النَّاسَ على فِعلِ القبائِحِ إلَّا بَعدَ إرسالِ الرُّسُلِ عليهم السَّلامُ.
فالماتُريديَّةُ يوافِقون المُعتزِلةَ في إثباتِ الحُسنِ والقُبحِ الذَّاتيَّينِ للأفعالِ، إلَّا أنَّ أئمَّةَ بُخارى من الماتُريديَّة -وإن أثبتوا الحُسنَ والقُبحَ العقليَّينِ- متَّفِقون مع الأشاعرةِ في أنَّه لا يجبُ إيمانٌ ولا يحرمُ كفرٌ قبلَ البَعثةِ، كما أنَّ جميعَ الماتُريديَّةِ يخالفون المُعتزِلةَ في وجوبِ الصَّلاحِ واللُّطفِ وغيرِها من الأمورِ التي أوجبها المُعتزِلةُ على اللهِ سُبحانَه، وقولُ المُعتزِلةِ والماتُريديَّةِ بالتَّحسينِ والتَّقبيحِ العقليَّينِ راجعٌ إلى أنَّ العقلَ عندَهم هو أصلُ المعرفةِ؛ فلذلك كان أصلًا للنَّقلِ، ومقدَّمًا عليه عِندَ التَّعارُضِ.
قال أبو منصورٍ الماتُريديُّ: (يُعرَفُ حُسنُ الأشياءِ وقُبحُها جملةً ببدائهِ العقولِ، ولكِنَّ العقولَ لا تعرفُ حُسنَ كُلِّ شيءٍ على الإشارةِ إليه، ولا قُبحَ كُلِّ قبيحٍ على الإشارةِ إليه، وإنما تعرفُ ذلك إما بخبرٍ يَرِدُ على ألسُنِ الرُّسُلِ عليهم السَّلامُ، أو باستعمالِ الفِكرِ؛ ألا ترى أنَّك تجدُ النَّفسَ من طبعِها أنَّها تألفُ الملاذَّ والمنافِعَ، وتنفِرُ عن المكارهِ والآلامِ، ولكنَّها لا تعرِفُ مَعرفةَ كُلِّ منتَفَعٍ على الإشارةِ إليه ولا ضرارةَ أعيُنِ الأشياءِ؛ وإنما تعرِفُ ذلك بالذَّوقِ، وكذلك العينُ تدرِكُ الألوانَ، لكنَّها لا تعرِفُ حُسنَه وقبحَه، بل العقلُ هو الذي يفصِلُ بينهما، فعلى ذلك قد جُعِل في طبعِ العقلِ قُبحُ القبائِحِ جُملةً وحُسنُ الحَسَنِ، ولكِنْ لا يفصِلُ بينهما على الإشارةِ إلى كلٍّ في نفسه إلَّا بما ذكَرْنا؛ فيكونُ قولُه: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس: 8] أي: جعل في نفسِها ما يُبَيِّن القبيحَ من الحَسَنِ، والخبيثَ من الطَّيِّبِ، ويُبَيِّن قبحَ الفُجورِ وحُسنَ التَّقوى، ويلزِمُه المحنةَ والكُلفةَ بذلك، ثمَّ يصِلُ إلى معرفةِ ذلك إمَّا بالرُّسُلِ، وإمَّا باستعمالِ الفِكرِ) [165] ((تفسير الماتريدي)) (10/ 542). .
وقال أبو البركاتِ النَّسَفيُّ: (قالت المُلحدةُ والرَّوافِضُ والمشَبِّهةُ والخوارِجُ المحكمةُ: لا يجِبُ بالعقلِ شَيءٌ، ولا يُعرَفُ به حُسنُ الإيمانِ وقُبحُ الكُفرِ، وإنَّما يُعرَفُ ذلك بالشَّرعِ.
وقالت المُعتزِلةُ: العقلُ يوجِبُ الإيمانَ وشُكرَ المنعِمِ، ويَعرِفُ بذاتِه حُسنَ الأشياءِ، ويُثبِتُ الأحكامَ على ما يقتضيه صلاحُ الخَلقِ. وقال بعضُ أصحابِنا: العقلُ له أن يُعرَفَ به حُسنُ بعضِ الأشياءِ وقُبحُها، ووجوبُ الإيمانِ وشُكرُ المنعِمِ... قال الأشْعَريُّ: لا يجِبُ ولا يحرُمُ بالعقلِ شيءٌ، ولكن يجوزُ أن يُعرَفَ به حُسنُ بعضِ الأشياءِ وقُبحُها، فعنده جميعُ الأحكامِ المتعَلِّقةِ بالتَّكليفِ متلقَّاةٌ من جهةِ السَّمعِ؛ لقولِه تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] ، فقد نفى التَّعذيبَ إلَّا ببَعثةِ الرَّسولِ، فلو كان الفِعلُ حَسَنًا أو قبيحًا بالعقلِ، للزم وقوعُ التَّعذيبِ وإن لم يوجَدِ الرُّسُلُ؛ ولأنَّ شُكرَ المنعِمِ لو وجب عقلًا لوجب لفائدةٍ، وإلَّا كان عبثًا وهو قبحٌ، والفائدةُ إمَّا أن تعودَ إلى الباري، وهو منزَّهٌ عنها، أو إلى العبدِ، وذا إنما يكونُ في الدُّنيا أو في العُقبى، والأوَّلُ ممنوعٌ؛ لأنَّه إتعابُ النَّفسِ بلا فائدةٍ، وكذا الثَّاني؛ لأنَّه لا مجالَ للعقلِ في دَركِ الثَّوابِ الأُخرويِّ. قُلنا: الفائدةُ الأمنُ من احتمالِ العقابِ بتقديرِ عَدَمِ الشُّكرِ؛ إذ هو محتَملٌ، ودفعُ الخوفِ عن النَّفسِ من أجلِّ الفوائِدِ، على أنَّا لا نعني بالوجوبِ أنَّه مستحَقُّ الثَّوابِ أو العقابِ بفعلِه أو بتركِه؛ إذ هما يُعرفانِ بالسَّمعِ، وإنما نعني بذلك أن يَثبُتَ في العقلِ نوعُ رُجحانِ الإتيانِ بالإيمانِ، وخَطَرُ الكُفرانِ، بحيثُ لا يحكُمُ العقلُ أنَّ التَّركَ والإتيانَ فيهما سيَّانِ، بل الحُكمُ بأنَّ الإتيانَ بالإيمانِ يوجِبُ نوعَ مَدحٍ، والامتناعُ عنه يوجِبُ نوعَ ذمٍّ، ولا نعيِّنُ ذلك، وكذا الشُّكرُ إظهارُ النِّعمةِ من المنعِمِ، ومتى عَرَف أنَّ الكُلَّ من اللهِ تعالى يحرمُ عليه الكُفرانُ، أي: لمنعِ عَقلِه أن يَدَّعيَ ذلك لغيرِ اللهِ تعالى، أو أشرَكَ فيه أحدٌ مع اللهِ تعالى، كيف وحُسنُ الصِّدقِ النَّافِعِ والإيمانِ، وقُبحُ الكَذِبِ الضَّارِّ والكُفرانِ: مُودَعٌ في العقولِ، معلومٌ بالضَّرورةِ بلا نظَرٍ إلى عُرفٍ وشرعٍ؟! فالبراهمةُ المُنكِرةُ للشَّرائعِ مُعترفةٍ بهما)  [166]((الاعتماد في الاعتقاد)) (ص: 362، 366 - 368). .
وجاء في كتابِ المسامرةِ في شرحِ المسايرةِ: (لا يجِبُ قبلَ البَعثةِ شيءٌ عِندَ الأشاعرةِ؛ لا إيمانٌ ولا غيرُه، ولا يحرُمُ قبل البَعثةِ كُفرٌ، وإنما وجب الإيمانُ وسائرُ الواجباتِ، وحَرُم الكفرُ وسائرُ المحرَّماتِ بالشَّرعِ، وقالت الحَنَفيَّةُ قاطبةً بثبوتِ الحُسنِ والقُبحِ للفعلِ على الوجهِ الذي قالته المُعتزِلةُ. وهو أنَّ العقلَ قد يستقِلُّ بإدراكِ الحُسنِ والقُبحِ الذَّاتيَّينِ أو لصفةٍ، فيُدرِكُ القبحَ المناسِبَ لترتُّبِ حكمِ اللهِ تعالى بالمنعِ من الفعلِ على وَجهٍ ينتهِضُ معه الإتيانُ به سببًا للعقابِ، ويدرِكُ الحُسنَ المناسِبَ لترتُّبِ حكمِه تعالى فيه بالإيجابِ والثَّوابِ بفِعلِه، والعقابِ بتركِه، إلَّا أنَّ المُعتزِلة أطلقوا القولَ بعَدَمِ توقُّفِ حُكمِ العقلِ بذلك على ورودِ الشَّرعِ، قالوا: نعم ما قَصَر العقلُ عن إدراكِ جهةِ الحُسنِ والقُبحِ فيه -كحُسنِ صَومِ آخرِ يومٍ من رمضانَ، وقُبحِ صومِ أوَّلِ يومٍ من شوَّالٍ- يأتي الشَّرعُ كاشفًا عن حُسنٍ وقبحٍ فيه ذاتيَّينٍ، أو لصفةٍ، وخالفهم الحَنَفيَّةُ في هذا الإطلاقِ،... ثمَّ اتَّفق الحَنَفيَّةُ على نفيِ ما بنَتْه المُعتزِلةُ على إثباتِ الحُسنِ والقبحِ للفِعلِ من القولِ بوُجوبِ أمورٍ على اللهِ تعالى كوجوبِ الأصلَحِ للعبادِ، ووجوبِ الرِّزقِ، ووجوبِ الثَّوابِ على الطَّاعةِ، ووجوبِ العِوَضِ في إيلامِ الأطفالِ والبهائِمِ، ووجوبِ العقابِ بالمعاصي إن مات مرتكِبُها بلا توبةٍ... وقال أئمَّةُ بُخارى من الحَنَفيَّةِ: لا يجِبُ إيمانٌ ولا يحرُمُ كُفرٌ قبل البعثةِ، كقولِ الأشاعرةِ) [167] ((المسامرة)) لابن أبي شريف (ص: 148، 149، 154) باختصار وتصَرُّف. .
وجاء في كتابِ فواتِح الرَّحَموت بشَرحِ مُسلم الثُّبوت: (من الحَنَفيَّةِ من قال: إنَّ العقلَ قد يستقِلُّ في إدراكِ بعضِ أحكامِه تعالى، فأوجب هذا البعضُ الإيمانَ، وحرَّم الكُفرَ وكُلَّ ما لا يليقُ بجنابِه تعالى على كُلِّ أحدٍ، بلغه دعوةُ رسولٍ أم لا، حتَّى على الصَّبيِّ العاقِلِ، هذا قولُ مُعظَمِ الحَنَفيَّةِ كالشَّيخِ الإمامِ عَلَمِ الهُدى أبي منصورٍ الماتُريديِّ، والإمامِ فخرِ الإسلامِ، وصاحِبِ الميزانِ، واختاره صدرُ الشَّريعةِ وغيرُه،... ثمَّ اعلَمْ أنَّه لا فرق بَينَ قولِ هؤلاء الكِرامِ وقولِ المُعتزِلةِ؛ فإنَّهم كانوا قائلينَ: إنَّ حُسنَ بعضِ الأشياءِ ممَّا يُدرَكُ بالعقلِ، ولا يتوقَّفُ على البَعثةِ، وهؤلاء الكرامُ أيضا قالوا بذلك، فلو كان خلافٌ لكان في تعيينِ ذلك البعضِ من الأحكامِ، والظَّاهرُ من كلماتِهم أنَّ ذلك البعضَ هو الإيمانُ والشُّكرُ ونحوُهما، وعندَ المُعتزِلةِ كثيرٌ، ويُفهَمُ من كلامِ الإمامِ فخرِ الإسلامِ أنَّ حاصِلَ النِّزاعِ بيننا وبينهم أنَّ العقلَ عندَهم علَّةٌ مُوجِبةٌ للحُكمِ، وعند الأشْعَريَّةِ مُهدَرةُ الاعتبارِ، وعندنا لا هذا ولا ذاك، بل العقلُ يوجِبُ أهليَّةَ الحُكمِ، وتعلُّقَ الحكمِ من العليمِ الخبيرِ،... فخرج حاصِلُ البحثِ أنَّ هاهنا ثلاثةَ أقوالٍ:
الأوَّلُ: مَذهَبُ الأشْعَريَّةِ أنَّ الحُسنَ والقُبحَ في الأفعالِ شرعيٌّ، وكذلك الحُكمُ.
الثَّاني: أنَّهما عقليَّانِ، وهما مناطانِ لتعلُّقِ الحكمِ، فإذا أُدرِكَ في بعضِ الأفعالِ كالإيمانِ والكفرِ، والشُّكرِ والكُفرانِ، يتعلَّقُ الحكمُ منه تعالى بذمَّةِ العبدِ، وهو مَذهَبُ هؤلاء الكرامِ والمُعتزِلةِ، إلَّا أنَّه عندنا لا تجِبُ العقوبةُ بحَسَبِ القُبحِ العقليِّ، كما لا تجِبُ بعدَ ورودِ الشَّرعِ؛ لاحتمالِ العفوِ، بخلافِ هؤلاء بناءً على وجوبِ العَدلِ عِندَهم بمعنى إيصالِ الثَّوابِ إلى من أتى بالحسَناتِ، وإيصالِ العقابِ إلى من أتى بالقبائِحِ.
الثَّالثُ: أنَّ الحُسنَ والقُبحَ عقليَّانِ، وليسا موجِبَينِ للحُكمِ، ولا كاشفَينِ عن تعلُّقِه بذمَّةِ العبدِ، وهو مختارُ الشَّيخِ ابنِ الهُمَامِ صاحِبِ التَّحريرِ، وتبعه المصنَّفُ، ورأيتُ في بعضِ الكتُبِ: وجدتُ مشايخَنا الذين لاقيتُهم قائلينَ مِثلَ قولِ الأشْعَريَّةِ) [168] ((فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت)) (1/ 38) باختصار وتصَرُّف. .
وجاء أيضًا في فواتِحِ الرَّحَموت بشرح مسلم الثُّبوت: (مسألةٌ: قال الأشْعَريَّةُ: شُكرُ المنعِمِ ليس بواجبٍ عقلًا خلافًا للمُعتزِلةِ ومُعظَمِ مشايخِنا، وقد نصَّ صدرُ الشَّريعةِ على أنَّ شُكرَ المنعِمِ واجِبٌ عقلًا عندنا، وفي الكَشفِ نقلًا عن القواطِعِ، وذهب طائفةٌ من أصحابِنا إلى أنَّ الحُسنَ والقُبحَ ضربانِ: ضربٌ يُعلَمُ بالعقلِ، كحُسنِ العدلِ والصِّدقِ النَّافِعِ، وشُكرِ النِّعمةِ، وقُبحِ الظُّلمِ والكَذِبِ الضَّارِّ، ثمَّ قال: وإليه ذهب كثيرٌ من أصحابِ الإمامِ أبي حنيفةَ خصوصًا العراقيِّينَ منهم، وهو مَذهَبُ المُعتزِلةِ بأسْرِهم) [169] ((فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت)) (1/ 72). .
وقال القاري: (الفرقُ بيننا وبَينَ المُعتزِلةِ القائلينَ بالحُسنِ والقبحِ العقليَّينِ ما ذكره الأستاذُ أبو منصورٍ الماتُريديُّ وعامَّةُ مشايخِ سَمَرْقَنْدَ رحمهم اللهُ تعالى: أنَّ العقلَ عندهم إذا أدرك الحُسنَ والقُبحَ يوجِبُ بنفسِه على اللهِ وعلى العبادِ مقتضاهما. وعندنا الموجِبُ هو اللهُ تعالى يوجبُه على عبادِه، ولا يجِبُ عليه سُبحانَه شيءٌ باتِّفاقِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ. والعقلُ عندنا آلةٌ يُعرَفُ بها ذلك الحُكمُ بواسطةِ إطْلاعِ اللهِ تعالى العقلَ على الحُسنِ والقُبحِ الكائنَينِ في الفعلِ. والفرقُ بيننا وبَينَ الأشاعرةِ أنَّهم قائلون بأنَّه لا يُعرَفُ حكمٌ من أحكامِ اللهِ إلَّا بعدَ بَعثةِ نبيٍّ، ونحن نقولُ: قد تُعرَفُ بعضُ الأحكامِ قبلَ البَعثةِ بخَلقِ اللهِ تعالى العِلمَ به؛ إمَّا بلا كسبٍ، كوجوبِ تصديقِ النَّبيِّ، وحُرمةِ الكَذِبِ الضَّارِّ، وإما مع كسبٍ بالنَّظرِ والفِكرِ، وقد لا تُعرَفُ إلَّا بالكتابِ والنَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، كأكثرِ الأحكامِ. وقال أئمَّةُ بخارى: عندنا لا يجِبُ إيمانٌ ولا يَحرُمُ كُفرٌ قبل البَعثةِ، كقولِ الأشاعرةِ) [170] ((منح الروض الأزهر في شرح الفقه الأكبر)) (ص: 306). .
أقوالُ العُلَماءِ في الرَّدِّ على الماتُريديَّةِ وغيرِهم في مسألةِ التَّحسينِ والتَّقبيحِ:
قال ابنُ تيميَّةَ: (العُقلاءُ متَّفِقونَ على أنَّ كونَ بعضِ الأفعالِ مُلائِمًا للإنسانِ وبعضَها منافيًا له إذا قيل: هذا حسَنٌ وهذا قبيحٌ، فهذا الحُسنُ والقُبحُ ممَّا يُعلَمُ بالعقلِ باتِّفاقِ العُقَلاءِ، وتنازعوا في الحُسنِ والقُبحِ بمعنى كونِ الفِعلِ سَببًا للذَّمِّ والعقابِ: هل يُعلَمُ بالعَقلِ أم لا يُعلَمُ إلَّا بالشَّرعِ؟ وكان من أسبابِ النِّزاعِ أنَّهم ظنُّوا أنَّ هذا القِسمَ مُغايِرٌ للأوَّلِ، وليس هذا خارِجًا عنه؛ فليس في الوُجودِ حَسَنٌ إلَّا بمعنى المُلائِمِ، ولا قبيحٌ إلَّا بمعنى المُنافي، والمَدحُ والثَّوابُ مُلائِمٌ، والذَّمُّ والعِقابُ مُنافٍ، فهذا نوعٌ من المُلائِمِ والمُنافي، يبقى الكلامُ في بعضِ أنواعِ الحَسَنِ والقبيحِ لا في جميعِه، ولا رَيبَ أنَّ من أنواعِه ما لا يُعلَمُ إلَّا بالشَّرعِ، ولكِنَّ النِّزاعَ فيما قُبحُه معلومٌ لعُمومِ الخَلقِ كالظُّلمِ والكَذِبِ ونَحوِ ذلك، النِّزاعُ في أمورٍ: منها هل للفِعلِ صِفةٌ صار بها حَسَنًا وقبيحًا، وأنَّ الحُسنَ العَقليَّ هو كَونُه مُوافِقًا لمصلحةِ العالَمِ، والقُبحَ العَقليَّ بخِلافِه؟ فهل في الشَّرعِ زيادةٌ على ذلك؟ وفي أنَّ العقابَ في الدُّنيا والآخرةِ هل يُعلَمُ بمجرَّدِ العَقلِ؟ ومن النَّاسِ مَن أثبَت قِسمًا ثالثًا للحُسنِ والقُبحِ وادَّعى الاتِّفاقَ عليه: وهو كَونُ الفِعلِ صِفةَ كَمالٍ أو صِفةَ نَقصٍ، وهذا القِسمُ لم يذكُرْه عامَّةُ المتقَدِّمينَ المتكَلِّمينَ في هذه المسألةِ؛ ولكِنْ ذكَره بعضُ المُتأخِّرينَ كالرَّازي، وأخَذه عن الفلاسفةِ، والتَّحقيقُ أنَّ هذا القِسمَ لا يخالِفُ الأوَّلَ؛ فإنَّ الكمالَ الذي يحصُلُ للإنسانِ ببَعضِ الأفعالِ هو يعودُ إلى المُوافقةِ والمُخالفةِ، وهو اللَّذَّةُ أو الألمُ، فالنَّفسُ تلتَذُّ بما هو كمالٌ لها، وتتألَّمُ بالنَّقصِ، فيعودُ الكمالُ والنَّقصُ إلى الملائِمِ والمُنافي، والمقصودُ هنا: أنَّ الفَرقَ بَينَ الأفعالِ الحَسَنةِ التي يحصُلُ لصاحِبِها بها لذَّةٌ وبَينَ السَّيِّئةِ التي يحصُلُ له بها ألمٌ: أمرٌ حِسِّيٌّ يَعرِفُه جميعُ الحيوانِ) [171] ((مجموع الفتاوى)) (8/ 309). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 431 - 436). .
وقال ابنُ القيِّمِ: (تحقيقُ القولِ في هذا الأصلِ العظيمِ أنَّ القُبحَ ثابِتٌ للفِعلِ في نفسِه، وأنَّه لا يُعذِّبُ اللهُ عليه إلَّا بَعدَ إقامةِ الحُجَّةِ بالرِّسالةِ) [172] ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 7). .
وقال أيضًا: (الحَقُّ الذي لا يجِدُ التناقُضُ إليه السَّبيلَ أنَّه لا تلازُمَ بينهما، وأنَّ الأفعالَ في نَفسِها حَسَنةٌ وقبيحةٌ، كما أنَّها نافِعةٌ وضارَّةٌ، والفَرقُ بينهما كالفَرقِ بَينَ المطعوماتِ والمشموماتِ والمَرئيَّاتِ، ولكِنْ لا يترتَّبُ عليهما ثوابٌ ولا عقابٌ إلَّا بالأمرِ والنَّهيِ، وقبلَ ورودِ الأمرِ والنَّهيِ لا يكونُ قبيحًا مُوجِبًا للعقابِ مع قُبحِه في نَفسِه، بل هو في غايةِ القُبحِ، واللهُ لا يعاقِبُ عليه إلَّا بَعدَ إرسالِ الرُّسُلِ؛ فالسُّجودُ للشَّيطانِ والأوثانِ، والكَذِبُ والزِّنا، والظُّلمُ والفواحِشُ، كُلُّها قبيحةٌ في ذاتِها، والعِقابُ عليها مشروطٌ بالشَّرعِ. فالنُّفاةُ يقولونَ: ليست في ذاتها قبيحةً، وقُبحُها والعقابُ عليها إنَّما ينشَأُ بالشَّرعِ، والمُعتَزِلةُ تقولُ: قُبحُها والعِقابُ عليها ثابتانِ بالعَقلِ) [173] ((مدارج السالكين)) (1/ 247). .
وقال الشَّاطبيُّ: (عامَّةُ المبتَدِعةِ قائلةٌ بالتَّحسينِ والتَّقبيحِ، فهو عمدتُهم الأولى، وقاعدتُهم التي يبنون عليها الشَّرعَ، فهو المقدَّمُ في نِحَلِهم بحيث لا يتَّهِمون العقلَ، وقد يتَّهِمون الأدِلَّةَ إذا لم توافِقْهم في الظَّاهرِ حتى يردُّوا كثيرًا من الأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ، وقد عَلِمتَ أيُّها النَّاظرُ أنَّه ليس كُلُّ ما يقضي به العقلُ يكونُ حَقًّا؛ ولذلك تراهم يرتضون اليومَ مَذهَبًا ويرجعون عنه غدًا، ثمَّ يصيرون بعد غَدٍ إلى رأيٍ ثالثٍ! ولو كان كُلُّ ما يقضي به حقًّا لكفى في إصلاحِ معاشِ الخلقِ ومعادِهم، ولم يكُنْ لبَعثةِ الرُّسُلِ عليهم السَّلامُ فائدةٌ، ولكان على هذا الأصلِ تُعَدُّ الرِّسالةُ عبثًا لا معنى له، وهو كُلُّه باطلٌ، فما أدَّى إليه مثلُه، فأنت ترى أنَّهم قدَّموا أهواءَهم على الشَّرعِ؛ ولذلك سُمُّوا في بعضِ الأحاديثِ، وفي إشارةِ القرآنِ: أهلَ الأهواءِ؛ وذلك لغَلَبةِ الهوى على عقولِهم، واشتهارِه فيهم) [174] ((الاعتصام)) (1/ 144). .

انظر أيضا: