موسوعة الفرق

الفصلُ الأوَّلُ: من أُسُسِ وقواعِدِ تقريرِ العقيدةِ عندَ الماتُريديَّةِ: الاعتمادُ على العَقلِ


لا يخفى على النَّاظِرِ في الكُتُبِ المعتَمَدةِ عِندَ الماتُريديَّةِ أنَّهم يتَّفِقون مع المُعتزِلةِ في بعضِ المسائِلِ والأصولِ، ومن ذلك الغُلُوُّ في تعظيمِ العَقلِ، والإكثارُ من الاستدلالِ به [120] ومن ذلك: أنَّ أبا منصورٍ الماتريديَّ ذكر العقلَ مائة مرة في كتابه التوحيد، وهو كتاب صغير في 400 صفحة، وإن كان كثير مما قاله صحيحٌ، وقد قال في أول كتابه: (ثم أصلُ ما يعرَفُ به الدينُ؛ إذ لا بدَّ أن يكون لهذا الخلق دينٌ يلزمهم الاجتماعُ عليه، وأصلٌ يلزمُهم الفزعُ إليه، وجهان: أحدُهما السَّمعُ، والآخَرُ العَقلُ) ((التوحيد)) (ص: 4). ويُنظر: ((أبو منصور الماتريدي حياته وآراؤه العقدية)) للغالي (ص: 91 – 97). ، واتِّفاقُهم على تقديمِ العقلِ على النَّقلِ [121] يُنظر: ((أصول الدين)) للبَزْدَوي (ص: 214 - 217)، ((تبصرة الأدلة)) لأبي معين النسفي (ص: 27 - 33)، ((الفرق الكلامية)) لناصر العقل (ص: 179 - 184)، ((الماتريدية دراسة وتقويمًا)) للحربي (ص: 133 -146).   ، مع أنَّه لا تعارُضَ أصلًا بَينَ العقلِ الصَّريحِ والنَّقلِ الصَّحيحِ.
ومن ذلك أنَّ التَّفْتازانيَّ بعد أنْ ذَكَر بعضَ نُصوصِ الصِّفاتِ ردَّها بقولِه: (الجوابُ أنَّها ظنيَّاتٌ سمعيَّةٌ في معارضةِ قطعيَّاتٍ عقليَّةٍ، فيُقطَعُ بأنَّها ليست على ظواهِرِها، ويُفوَّضُ العِلمُ بمعانيها إلى اللهِ تعالى، مع اعتقادِ حقيقتِها جريًا على الطَّريقِ الأسلمِ، أو تُأَوَّلُ تأويلاتٍ مناسِبةً موافِقةً لِما عليه الأدِلَّةُ العقليَّةُ على ما ذُكِرَ في كتُبِ التَّفاسيرِ وشُروحِ الأحاديثِ، سُلوكًا للطَّريقِ الأحكَمِ) [122] ((شرح المقاصد في علم الكلام)) (2/ 67) باختصار.   .
قال الألوسيُّ: (الماتُريديَّةُ وإنْ لم يقولوا كالمُعتزِلةِ بأنَّ العقلَ حاكِمٌ بالحُسنِ والقُبحِ اللَّذَينِ أثبتوهما جميعًا، لكِنَّهم قالوا: إنَّ العقلَ آلةٌ للعلمِ بهما، فيخلقُه اللهُ تعالى عَقيبَ نَظَرِ العقلِ نَظَرًا صحيحًا... وقد صرَّح غيرُ واحدٍ من عُلمائِهم بأنَّ العقلَ حُجَّةٌ من حُجَجِ اللهِ تعالى، ويجِبُ الاستدلالُ به قبل وُرودِ الشَّرعِ) [123] ((تفسير الألوسي)) (8/ 38) باختصار. .
وما أحسَنَ ما قاله أبو المظفَّرِ السَّمعانيُّ: (اعلَمْ أنَّ فصلَ ما بيننا وبَينَ المبتَدِعةِ هو مسألةُ العقلِ؛ فإنَّهم أسَّسوا دينَهم على المعقولِ، وجعلوا الاتِّباعَ والمأثورَ تبعًا للمعقولِ، وأمَّا أهلُ السُّنَّةِ قالوا: الأصلُ الاتِّباعُ، والعقولُ تَبَعٌ، ولو كان أساسُ الدِّينِ على المعقولِ لاستغنى الخلقُ عن الوحيِ وعن الأنبياءِ صلواتُ اللهِ عليهم، ولبَطَل معنى الأمرِ والنَّهيِ، ولَقال مَن شاء ما شاء، ولو كان الدِّينُ بُني على المعقولِ وَجَب ألَّا يجوزَ للمؤمنينَ أن يقبَلوا شيئًا حتى يَعقِلوا، ونحن إذا تدبَّرْنا عامَّةَ ما جاء في أمرِ الدِّينِ مِن ذِكرِ صفاتِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، وما تُعُبِّدَ النَّاسُ به من اعتقادِه، وكذلك ما ظهر بَينَ المُسلِمينَ وتداولوه بينهم ونقلوه عن سَلَفِهم إلى أن أسنَدوه إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن ذِكرِ عَذابِ القبرِ، وسؤالِ الملَكَينِ، والحَوضِ، والميزانِ، والصِّراطِ، وصفاتِ الجنَّةِ، وصفاتِ النَّارِ، وتخليدِ الفريقينِ فيهما؛ أمورٌ لا ندرِكُ حقائِقَها بعقولِنا، وإنَّما ورد الأمرُ بقَبولِها، والإيمانِ بها، فإذا سمِعْنا شيئًا من أمورِ الدِّينِ وعقَلْناه وفَهِمْناه فللهِ الحمدُ في ذلك والشُّكرُ، ومنه التَّوفيقُ، وما لم يمكِنَّا إدراكُه وفَهمُه، ولم تبلُغْه عقولُنا؛ آمَنَّا به، وصدَّقْنا، واعتقَدْنا أنَّ هذا من قِبَلِ ربوبيَّتِه وقُدرتِه، واكتَفَينا في ذلك بعِلمِه ومشيئتِه، وقال تعالى في مِثلِ هذا: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85] ، وقال الله تعالى: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة: 255] ) [124] ((الانتصار لأصحاب الحديث)) (ص: 81).   .

انظر أيضا: