موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّالثُ: أقوالُ أهلِ العِلمِ في الرَّدِّ على المُرجِئةِ في عَدمِ إدخالِهم العَملَ في مُسمَّى الإيمانِ


1- عن الحَسنِ قال: (لو شاء اللهُ عزَّ وجلَّ لجعَل الدِّينَ قولًا لا عَملَ فيه، أو عملًا لا قولَ فيه، ولكن جعَل دينَه قولًا وعَملًا، وعَملًا وقولًا؛ فمَن قال قولًا حَسنًا، وعمِل سيِّئًا ردَّ قولُه على عَملِه، ومَن قال قولًا حَسنًا وعمِل عَملًا صالِحًا رفَع قولُه عَملَه. ابنَ آدَمَ، قولُك أحَقُّ بك) [219] يُنظر: ((الإبانة الكبرى)) لابن بطة (2/ 896). .
2- عن الزُّهريِّ قال: قال لي هشامٌ: أبلَغَك أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَر مُنادِيًا فنادى: ((مَن قال لا إلهَ إلَّا اللهُ دخَل الجنَّةَ ؟ )) [220] أخرجه ابن حبان (151) مُطَوَّلًا من حديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه ابنُ حبان، وصحَّح إسنادَه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (3/127)، وشعيب الأرناؤوط على شرطِ مسلمٍ في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (151). وأخرجه مسلم (26) بلفظِ: عن عثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من مات وهو يعلَمُ أنَّه لا إلهَ إلَّا اللهُ، دخل الجنَّةَ)). والحديثُ رُوِي بلفظِ: ((من كان آخِرَ كلامِه: لا إلهَ إلَّا اللَّهُ، دخَل الجنَّةَ)). أخرجه أبو داود (3116) واللَّفظُ له، وأحمد (22127) من حديثِ معاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه ابنُ العربي في ((عارضة الأحوذي)) (2/369)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (5/188)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3116)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3116). ، قلْتُ: نعَم، وذاك قَبلَ نُزولِ الفرائِضِ، ثُمَّ نزَلَت الفرائِضُ، فينبغي للنَّاسِ أن يعمَلوا بما افترَض اللهُ عليهم) [221] أخرجه ابن بطة في ((الإبانة الكبرى)) (1248). .
وعن الزُّهريِّ أيضًا قال: (ما ابتُدِع في الإسلامِ بِدعةٌ هي أضَرُّ على أهلِه مِن هذه، يعني الإرجاءَ) [222] يُنظر: ((الإبانة الكبرى)) لابن بطة (2/ 893). .
3- عن سُرَيجِ بنِ النُّعمانِ قال: سألْتُ يحيى بنَ سُلَيمٍ الطَّائِفيَّ ونحن خَلفَ المقامِ: (أيَّ شيءٍ تقولُ المُرجِئةُ؟ قال: يقولونَ: ليس الطَّوافُ بهذا البيتِ مِن الإيمانِ) [223] يُنظر: ((الإبانة الكبرى)) لابن بطة (2/ 899). .
4- عن حسَّانَ بنِ عطيَّةَ قال: (احذَروا -رحِمكم اللهُ- مَن يقولُ: أنا مُؤمِنٌ عندَ اللهِ، وأنا مُؤمِنٌ كامِلُ الإيمانِ، ومَن يقولُ: إيماني كإيمانِ جِبريلَ وميكائيلَ؛ فإنَّ هؤلاء مُرجِئةٌ أهلُ ضلالٍ وزَيغٍ وعُدولٍ عن الملَّةِ) [224] يُنظر: ((الإبانة الكبرى)) لابن بطة (2/ 899). .
5- عن مُبارَكِ بنِ حسَّانَ قال: قلْتُ لسالِمٍ الأفطَسِ: (رجُلٌ أطاع اللهَ فلم يعصِه، ورجُلٌ عصى اللهَ فلم يُطِعْه، فصار المُطيعُ إلى اللهِ فأدخَله الجنَّةَ، وصار العاصي إلى اللهِ فأدخَله النَّارَ، هل يتفاضَلانِ في الإيمانِ؟ قال: لا، فذكرْتُ ذلك لعطاءٍ، فقال: سَلْهم: الإيمانُ طيِّبٌ أو خبيثٌ؟ فإنَّ اللهَ قال: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأنفال: 37] . قال: فسألْتُهم، فلم يُجيبوني، فقال سالِمٌ: إنَّما الإيمانُ مَنطِقٌ ليس معَه عَملٌ، فذكرْتُ ذلك لعطاءٍ، فقال: سبحانَ اللهِ! أمَا تقرَؤونَ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة: 177] ، ثُمَّ عطَف اللهُ على هذا الاسمِ العمَلَ، فألزَمه، فقال: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ [البقرة: 177] ، قال: سَلْهم: هل دخَل هذا العملُ في هذا الاسمِ؟ فقال: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ [الإسراء: 19] ، فألزَم الاسمَ العَملَ، وألزَم العَملَ الاسمَ) [225] يُنظر: ((الإبانة الكبرى)) لابن بطة (2/ 897). .
6- قال الأوزاعيُّ: (لا يستقيمُ الإيمانُ إلَّا بالقولِ، ولا يستقيمُ الإيمانُ والقولُ إلَّا بالعَملِ، ولا يستقيمُ الإيمانُ والقولُ والعَملُ إلَّا بنِيَّةٍ مُوافِقةٍ للسُّنَّةِ، وكان مَن مضى مِن سَلفِنا لا يُفرِّقونَ بَينَ الإيمانِ والعَملِ، والعَملُ مِن الإيمانِ، والإيمانُ مِن العَملِ، وإنَّما الإيمانُ اسمٌ جامِعٌ، كما يجمَعُ هذه الأديانَ اسمُها، ويُصدِّقُه العَملُ؛ فمَن آمَن بلِسانِه وعرَف بقَلبِه، وصدَّق بعَملِه؛ فتلك العُروةُ الوُثقى التي لا انفِصامَ لها، ومَن قال بلِسانِه، ولم يعرِفْ بقَلبِه، ولم يُصدِّقْه بعَملِه؛ لم يُقبَلْ منه، وكان في الآخِرةِ مِن الخاسِرينَ) [226] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) لللالكائي (5/ 956). .
7- قال الوليدُ بنُ مُسلِمٍ: سمِعْتُ الأوزاعيَّ ومالِكَ بنَ أنسٍ وسعيدَ بنَ عبدِ العزيزِ يُنكِرونَ قولَ مَن يقولُ: إنَّ الإيمانَ قولٌ بلا عَملٍ، ويقولونَ: (لا إيمانَ إلَّا بعَملٍ، ولا عَملَ إلَّا بإيمانٍ) [227] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) لللالكائي (1586). .
8- قال سُفيانُ الثَّوريُّ: (خالَفْنا المُرجِئةَ في ثلاثٍ؛ نحن نقولُ: الإيمانُ قولٌ وعَملٌ، وهُم يقولونَ: قولٌ بلا عَملٍ، ونحن نقولُ: يزيدُ ويَنقُصُ، وهُم يقولونَ: لا يزيدُ ولا ينقُصُ، ونحن نقولُ: نحن مُؤمِنونَ بالإقرارِ، وهُم يقولونَ: نحن مُؤمِنونَ عندَ اللهِ) [228] يُنظر: ((شرح السنة)) للبغوي (1/41). .
9- قال سُفيانُ بنُ عُيَينةَ: (الإيمانُ قولٌ وعَملٌ، فأخَذْناه ممَّن قَبلَنا: قولٌ وعَملٌ، وإنَّه لا يكونُ قولٌ إلَّا بعَملٍ) [229] يُنظر: ((الشريعة)) للآجري (2/ 604). .
وعن مُحمَّدِ بنِ عبدِ الملِكِ المِصِّيصيِّ قال: (كنَّا عندَ سُفيانَ بنِ عُيَينةَ، فسأله رجُلٌ عن الإيمانِ، فقال: قولٌ وعَملٌ، قال: يزيدُ ويَنقُصُ؟ قال: يزيدُ ما شاء اللهُ، ويَنقُصُ حتَّى لا يبقى شيءٌ منه مِثلَ هذه، وأشار سُفيانُ بيَدِه، قال الرَّجلُ: كيف نصنَعُ بقومٍ عندَنا يزعُمونَ أنَّ الإيمانَ قولٌ بلا عَملٍ؟ قال سُفيانُ: كان القولُ قولَهم قَبلَ أن تنزِلَ أحكامُ الإيمانِ وحُدودُه...، فمَن ترَك خَلَّةً مِن خِلالِ الإيمانِ جاحِدًا كان بها عندَنا كافِرًا، ومَن ترَكها كسلًا أو تهاوُنًا أدَّبْناه، وكان بها عندَنا ناقِصًا، هكذا السُّنَّةُ، أبلِغْها عنِّي مَن سألك مِن النَّاسِ) [230] يُنظر: ((الشريعة)) للآجري (2/ 553). .
وقال ابنُ عُيَينةَ أيضًا: وقد سُئِل عن الإرجاءِ: (يقولونَ: الإيمانُ قولٌ، ونحن نقولُ: الإيمانُ قولٌ وعَملٌ. والمُرجِئةُ أوجَبوا الجنَّةَ لمَن شهِد أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ مُصِرًّا بقَلبِه على تَركِ الفرائِضِ، وسمَّوا تَركَ الفرائِضِ ذَنبًا بمنزِلةِ رُكوبِ المحارِمِ! وليس بسَواءٍ؛ لأنَّ رُكوبَ المحارِمِ مِن غَيرِ استِحلالٍ مَعِصيةٌ، وتَرْكَ الفرائِضِ مُتعمِّدًا مِن غَيرِ جَهلٍ ولا عُذرٍ هو كُفرٌ، وبيانُ ذلك في أمرِ آدَمَ صَلَواتُ اللهِ عليه، وإبليسَ وعُلَماءِ اليهودِ؛ أمَّا آدَمُ فنهاه اللهُ عزَّ وجلَّ عن أكلِ الشَّجرةِ، وحرَّمها عليه، فأكَل منها مُتعمِّدًا ليكونَ ملَكًا، أو يكونَ مِن الخالِدينِ، فسُمِّي عاصيًا مِن غَيرِ كُفرٍ، وأمَّا إبليسُ -لعَنه اللهُ- فإنَّه فُرِض عليه سجدةٌ واحِدةٌ، فجحَدها مُتعمِّدًا؛ فسُمِّي كافِرًا، وأمَّا عُلَماءُ اليهودِ فعرَفوا نَعتَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّه نبيٌّ رَسولٌ، كما يعرِفونَ أبناءَهم، وأقرُّوا به باللِّسانِ، ولم يَتَّبِعوا شريعتَه؛ فسمَّاهم اللهُ عزَّ وجَلَّ كُفَّارًا، فرُكوبُ المحارِمِ مِثلُ ذَنبِ آدَمَ عليه السَّلامُ وغَيرِه مِن الأنبياءِ، وأمَّا تَركُ الفرائِضِ جُحودًا فهو كُفرٌ مثِلُ كُفرِ إبليسَ لعَنه اللهُ، وتَركُها على معرفةٍ مِن غَيرِ جُحودٍ؛ فهو كُفرٌ، مِثلُ كُفرِ عُلَماءِ اليهودِ. واللهُ أعلَمُ) [231] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 347). .
10- قال الفُضَيلُ بنُ عِياضٍ:) ميَّز أهلُ البِدَعِ العَملَ مِن الإيمانِ، وقالوا: إنَّ فرائِضَ اللهِ ليس مِن الإيمانِ، ومَن قال ذلك فقد أعظَم الفِريةَ، أخافُ أن يكونَ جاحِدًا للفرائِضِ، رادًّا على اللهِ عزَّ وجلَّ أمرَه) [232] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 376). .
11- قال الحُمَيديُّ: (أُخبِرْتُ أنَّ ناسًا يقولونَ: مَن أقرَّ بالصَّلاةِ والزَّكاةِ والصَّومِ والحجِّ، ولم يفعَلْ مِن ذلك شيئًا حتَّى يموتَ، أو يُصلِّي مُستدبِرَ القِبلةِ حتَّى يموتَ؛ فهو مُؤمِنٌ، ما لم يكنْ جاحِدًا إذا علِم أنَّ تَركَه ذلك فيه إيمانُه إذا كان يُقِرُّ بالفرائِضِ واستِقبالِ القِبلةِ، فقلْتُ: هذا الكُفرُ الصُّراحُ، وخلافُ كتابِ اللهِ وسنَّةِ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفِعلِ المُسلِمينَ؛ قال اللهُ عزَّ وجلَّ: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ [البينة: 5] ) [233] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (5/ 957)، ((السنة)) للخلال (3/ 586). .
12- قال القاسِمُ بنُ سلَّامٍ: (زعَمَت هذه الفِرقةُ أنَّ اللهَ رضِي عنهم بالمعرفةِ‍‍، ولو كان أمرُ اللهِ ودينُه على ما يقولُ هؤلاء ما عُرِف الإسلامُ مِن الجاهليَّةِ، ولا فُرِّقَت المِلَلُ بعضُها مِن بعضٍ؛ إذ كان يرضى منهم بالدَّعوى على قُلوبِهم من غَيرِ إظهارِ الإقرارِ بما جاءت به النُّبوَّةُ، والبَراءةِ ممَّا سِواها، وخَلعِ الأندادِ والآلهةِ بالألسِنةِ بَعدَ القُلوبِ، ولو كان هذا يكونُ مُؤمِنًا، ثُمَّ شهِد رجُلٌ بلِسانِه: أنَّ اللهَ ثاني اثنينِ، كما يقولُ المجوسُ والزَّنادِقةُ، أو ثالِثُ ثلاثةٍ كقولِ النَّصارى، وصلَّى للصَّليبِ، وعبَد النِّيرانَ بَعدَ أن يكونَ قَلبُه على المعرفةِ باللهِ؛ لكان يلزَمُ قائِلَ هذه المقالةِ أن يجعَلَه مُؤمِنًا مُستكمِلًا الإيمانَ، كإيمانِ الملائِكةِ والنَّبيِّينَ، فهل يلفِظُ بهذا أحدٌ يعرِفُ اللهَ، أو مُؤمِنٌ له بكتابٍ أو رسولٍ؟! وهذا عندَنا كُفرٌ لن يبلُغَه إبليسُ فمَن دونَه مِن الكُفَّارِ قطُّ) [234] ((الإيمان)) (ص: 31). .
13- قال إسحاقُ بنُ راهَوَيهِ: (غلَت المُرجِئةُ حتَّى صار مِن قولِهم أنَّ قومًا يقولونَ: مَن ترَك الصَّلَواتِ المكتوباتِ، وصَومَ رَمَضانَ، والزَّكاةَ والحَجَّ وعامَّةَ الفرائِضِ، مِن غَيرِ جُحودٍ لها؛ إنَّا لا نُكفِّرُه، يُرجَأُ أمرُه إلى اللهِ بَعدُ؛ إذ هو مُقِرٌّ) [235] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (1/ 21). .
14- قال أبو ثَورٍ: (أمَّا الطَّائِفةُ التي زعَمَت أنَّ العَملَ ليس مِن الإيمان، فيُقالُ لهم: ما أراد اللهُ عزَّ وجلَّ مِن العِبادِ إذ قال لهم: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة: 43] الإقرارَ بذلك؟ أو الإقرارَ والعَملَ؟ فإن قالت: إنَّ اللهَ أراد الإقرارَ ولم يُرِدِ العَملَ، فقد كفَرَت عندَ أهلِ العِلمِ، مَن قال: إنَّ اللهَ لم يُرِدْ مِن العِبادِ أن يُصلُّوا ولا يُؤتوا الزَّكاةَ، فإن قالت: أراد منهم الإقرارَ والعَملَ؛ قيل: فإذا أراد منهم الأمرَينِ جميعًا لِمَ زعَمْتُم أنَّه يكونُ مُؤمِنًا بأحدِهما دونَ الآخَرِ، وقد أرادهما جميعًا؟ أرأَيتُم لو أنَّ رجُلًا قال: أعمَلُ جميعَ ما أمَر اللهُ ولا أُقِرُّ به، أيكونُ مُؤمِنًا؟ فإن قالوا: لا، قيل لهم: فإن قال: أُقِرُّ بجميعِ ما أمَر اللهُ به ولا أعمَلُ منه شيئًا، أيكونُ مُؤمِنًا؟ فإن قالوا: نعَم، قيل لهم: ما الفَرقُ وقد زعَمْتُم أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أراد الأمرَينِ جميعًا؟ فإن جاز أن يكونَ بأحدِهما مُؤمِنًا إذا ترَك الآخَرَ، جاز أن يكونَ بالآخَرِ إذا عمِل ولم يُقِرَّ مُؤمِنًا، لا فَرقَ بَينَ ذلك، فإن احتجَّ فقال: لو أنَّ رجُلًا أسلَم فأقرَّ بجميعِ ما جاء به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أيكونُ مُؤمِنًا بهذا الإقرارِ قَبلَ أن يجيءَ وَقتُ عَملٍ؟ قيل له: إنَّما نُطلِقُ له الاسمَ بتصديقِه أنَّ العَملَ عليه بقولِه أن يعمَلَه في وَقتِه إذا جاء، وليس عليه في هذا الوَقتِ الإقرارُ بجميعِ ما يكونُ به مُؤمِنًا، ولو قال: أُقِرُّ ولا أعمَلُ، لم نُطلِقْ له اسمَ الإيمانِ) [236] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) للالكائي (4/ 932). .
15- قال أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ رادًّا على مَن أقرَّ بالصَّلاةِ والزَّكاةِ والصَّومِ والحجِّ، ولم يفعَلْ مِن ذلك شيئًا حتَّى يموتَ: (مَن قال هذا فقد كفَر باللهِ، وردَّ على اللهِ أمرَه، وعلى الرَّسولِ ما جاء به) [237] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (5/ 957). .
وقال أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ في سياقِ نَقضِه لمَن اكتفى في الإيمانِ بالإقرارِ: (يلزَمُه أن يقولَ: هو مُؤمِنٌ بإقرارِه، وإن أقرَّ بالزَّكاةِ في الجُملةِ، ولم يجِدْ في كُلِّ مائتَي دِرهَمٍ خمسةً أنَّه مُؤمِنٌ، فيلزَمُه أن يقولَ: إذا أقرَّ، ثُمَّ شَدَّ الزُّنَّارَ في وَسَطِه، وصلَّى للصَّليبِ، وأتى الكنائِسَ والبِيَعَ، وعَمِل الكبائِرَ كُلَّها، إلَّا أنَّه في ذلك مُقِرٌّ باللهِ، فيلزَمُه أن يكونَ عندَه مُؤمِنًا! وهذه الأشياءُ مِن أشنَعِ ما يلزَمُهم) [238] يُنظر: ((السنة)) لأبي بكر بن الخلال (4/ 27). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (هذا الذي ذكَره أحمَدُ مِن أحسَنِ ما احتجَّ النَّاسُ به عليهم، جمَع جُملًا يقولُ غَيرُه بعضَها، وهذا الإلزامُ لا مَحيدَ لهم عنه) [239] ((مجموع الفتاوى)) (7/401). .
16- قال أبو الحَسنِ الأشعَريُّ: (الفِرقةُ الثَّانيةُ مِن المُرجِئةِ: يزعُمونَ أنَّ الإيمانَ هو المعرفةُ باللهِ فقط، والكُفرَ هو الجَهلُ به فقط، فلا إيمانَ باللهِ إلَّا المعرفةُ به، ولا كُفرَ باللهِ إلَّا الجَهلُ به، وأنَّ قولَ القائِلِ: إنَّ اللهَ ثالِثُ ثلاثةٍ، ليس بكُفرٍ، ولكنَّه لا يظهَرُ إلَّا مِن كافِرٍ، وذلك أنَّ اللهَ سبحانَه أكْفَرَ مَن قال ذلك، وأجمَع المُسلِمونَ أنَّه لا يقولُه إلَّا كافِرٌ، وزعَموا أنَّ معرفةَ اللهِ هي المحبَّةُ له، وهي الخُضوعُ للهِ، وأصحابُ هذا القولِ لا يزعُمونَ أنَّ الإيمانَ باللهِ إيمانٌ بالرَّسولِ، وأنَّه لا يُؤمِنُ باللهِ إذا جاء الرَّسولُ إلَّا مَن آمَن بالرَّسولِ...، وزعَموا أنَّ الصَّلاةَ ليست بعِبادةٍ للهِ، وأنَّه لا عِبادةَ إلَّا الإيمانُ به، وهو معرفتُه، والإيمانُ عندَهم لا يزيدُ ولا يَنقُصُ، وهو خَصلةٌ واحِدةٌ، وكذلك الكُفرُ. والقائِلُ بهذا القولِ أبو الحُسَينِ الصَّالِحيُّ) [240] ((مقالات الإسلاميين)) (1/115). .
17- قال الآجُرِّيُّ: (إن احتجَّ مُحتجٌّ بالأحاديثِ التي رُوِيَت: ((مَن قال لا إلهَ إلَّا اللهُ دخَل الجنَّةَ )) [241] أخرجه ابن حبان (151) مُطَوَّلًا من حديثِ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه ابنُ حبان، وصحَّح إسنادَه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (3/127)، وشعيب الأرناؤوط على شرط مسلم في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (151). وأخرجه مسلم (26) بلفظِ: عن عثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من مات وهو يعلَمُ أنَّه لا إلهَ إلَّا اللهُ، دخل الجنَّةَ)). والحديثُ رُوِي بلفظِ: ((من كان آخِرَ كلامِه: لا إلهَ إلَّا اللَّهُ، دخَل الجنَّةَ)).. أخرجه أبو داود (3116) واللَّفظُ له، وأحمد (22127) من حديثِ معاذ بن جبل رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (2/369)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (5/188)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3116)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3116). ، قيل له: هذه كانت قَبلَ نُزولِ الفرائِضِ، على ما تقدَّم ذِكرُنا له، وهذا قولُ عُلَماءِ المُسلِمينَ ممَّن نفَعهم اللهُ تعالى بالعِلمِ، وكانوا أئمَّةً يُقتَدى بهم، سِوى المُرجِئةِ الذين خرَجوا عن جُملةِ ما عليه الصَّحابةُ والتَّابِعونَ لهم بإحسانٍ، وقولِ الأئمَّةِ الذين لا يُستوحَشُ مِن ذِكرِهم في كُلِّ بَلدٍ) [242] ((الشريعة)) (1/550). .
وقال الآجُرِّيُّ أيضًا: (الأعمالُ -رحِمكم اللهُ تعالى- بالجوارِحِ تصديقٌ للإيمانِ بالقلبِ واللِّسانِ، فمَن لم يُصدِّقِ الإيمانَ بجوارِحِه -مِثلُ الطَّهارةِ والصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّيامِ والحجِّ والجهادِ وأشباهٍ لهذه- ورضِي مِن نَفسِه بالمعرفةِ والقولِ، لم يكنْ مُؤمِنًا، ولم تنفَعْه المعرفةُ والقولُ، وكان تَركُه العَملَ تكذيبًا منه لإيمانِه، وكان العَملُ بما ذكَرْنا تصديقًا منه لإيمانِه، وباللهِ تعالى التَّوفيقُ) [243] ((الشريعة)) (2/ 614). .
18- قال أبو طالِبٍ المَكِّيُّ: (إنَّ الأمَّةَ مُجمِعةٌ أنَّ العبدَ لو آمَن بجميعِ ما ذكرْناه مِن عُقودِ القلبِ في حديثِ جِبريلَ عليه السَّلامُ مِن وَصفِ الإيمانِ [244] أخرجه البخاري (50)، ومسلم (9) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ مسلمٍ: ((ما الإيمانُ؟ قال: أن تؤمِنَ باللهِ وملائكتِه وكتابِه ولقائِه ورُسُلِه). وأخرجه مسلمٌ (8) من حديثِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، بلفظِ: (... فأخبِرْني عن الإيمانِ، قال: أن تؤمِنَ باللهِ وملائكتِه وكتُبِه ورسُلِه...) ، ولم يعمَلْ بما ذكرْناه مِن وَصفِ الإسلامِ بأعمالِ الجوارِحِ- لا يُسمَّى مُؤمِنًا، وأنَّه إن عمِل بجميعِ ما وُصِف به الإسلامُ، ثُمَّ لم يعتقِدْ ما وصَفه مِن الإيمانِ؛ أنَّه لا يكونُ مُسلِمًا) [245] ((قوت القلوب)) (2/ 219). .
19- قال ابنُ بطَّةَ العُكبَريُّ: (قد تلَوتُ عليكم مِن كتابِ اللهِ ما يدُلُّ العُقَلاءَ مِن المُؤمِنينَ أنَّ الإيمانَ قولٌ وعَملٌ، وأنَّ مَن صدَّق بالقولِ وترَك العَملَ كان مُكذِّبًا وخارِجًا مِن الإيمانِ، وأنَّ اللهَ لا يقبَلُ قولًا إلَّا بعَملٍ، ولا عَملًا إلَّا بقولٍ) [246] ((الإبانة)) (2/792). .
وقال ابنُ بطَّةَ أيضًا: (مَن زعَم أنَّه يُقِرُّ بالفرائِضِ ولا يُؤدِّيها ويعمَلُها، وبتحريمِ الفواحِشِ والمُنكَراتِ ولا يَنزجِرُ عنها ولا يترُكُها، وأنَّه معَ ذلك مُؤمِنٌ؛ فقد كذَّب بالكتابِ وبما جاء به رسولُه، ومَثلُه كمَثلِ المُنافِقينَ الذين قالوا: قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [المائدة: 41] ، فأكذَبهم اللهُ، وردَّ عليهم قولَهم، وسمَّاهم مُنافِقينَ، مأواهم الدَّركُ الأسفَلُ مِن النَّارِ، على أنَّ المُنافِقينَ أحسَنُ حالًا مِن المُرجِئةِ؛ لأنَّ المُنافِقينَ جحَدوا العَملَ وعمِلوه، والمُرجِئةَ أقرُّوا بالعَملِ بقولِهم وجحَدوه بتَركِ العَملِ به، فمن جحَد شيئًا وأقرَّ به بلِسانِه وعَمِلَه ببدنِه، أحسَنُ حالًا ممَّن أقرَّ بلِسانِه وأبى أن يعمَلَه ببدنِه؛ فالمُرجِئةُ جاحِدونَ لِما هُم به مُقرُّونَ، ومُكذِّبونَ لِما هُم به مُصدِّقونَ؛ فهُم أسوَأُ حالًا مِن المُنافِقينَ) [247] ((الإبانة)) (2/789). وكلامُه صريحٌ في تكفيرِ تاركِ العَمَلِ، وأنَّه أسوأُ حالًا من المنافِقين، ولا يُفهَمُ منه تكفيرُ المرجِئةِ بإطلاقٍ، بل كلامُه عن المُرجِئةِ التَّاركين للعَمَلِ مع الإقرارِ به. يُنظر: ((الإيمان عند السَّلف)) للخضير (2/23). .
20- قال ابنُ تيميَّةَ: (مِن المُمتنِعِ أن يكونَ الرَّجلُ مُؤمِنًا إيمانًا ثابِتًا في قلبِه بأنَّ اللهَ فرَض عليه الصَّلاةَ والزَّكاةَ والصِّيامَ والحجَّ، ويعيشُ دَهرَه لا يسجُدُ للهِ سجدةً ولا يصومُ مِن رَمَضانَ، ولا يُؤدِّي للهِ زكاةً، ولا يحُجُّ إلى بَيتِه! فهذا مُمتنِعٌ، ولا يصدُرُ هذا إلَّا معَ نِفاقٍ في القلبِ وزَندَقةٍ، لا معَ إيمانٍ صحيحٍ) [248] ((مجموع الفتاوى)) (7/611) باختصارٍ. .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (مِن هنا غلِطَت الجَهْميَّةُ والمُرجِئةُ؛ فإنَّهم جعَلوا الإيمانَ مِن بابِ القولِ؛ إمَّا قولُ القلبِ الذي هو عِلمُه، أو معنًى غَيرُ العِلمِ عندَ مَن يقولُ بذلك، وهذا قولُ الجَهْميَّةِ ومَن تبِعهم، كأكثَرِ الأشعَريَّةِ، وبعضِ مُتأخِّري الحَنفيَّةِ) [249] ((التسعينية)) (2/650-652). .
وقال أيضًا: (المُرجِئةُ المُتكلِّمونَ منهم والفُقَهاءُ منهم يقولونَ: إنَّ الأعمالَ قد تُسمَّى إيمانًا مجازًا؛ لأنَّ العَملَ ثَمرةُ الإيمانِ ومُقتضاه، ولأنَّها دليلٌ عليه) [250] ((مجموع الفتاوى)) (7/195). .
وقال أيضًا: (أمَّا جَهمٌ فكان يقولُ: إنَّ الإيمانَ مُجرَّدُ تصديقِ القلبِ، وإن لم يتكلَّمْ به، وهذا القولُ لا يُعرَفُ عن أحدٍ مِن عُلَماءِ الأمَّةِ وأئمَّتِها، بل أحمَدُ ووَكيعٌ كفَّروا مَن قال بهذا القولِ، ولكنَّ هذا هو الذي نصَره الأشعَريُّ وأكثَرُ أصحابِه، ولكن قالوا معَ ذلك: إنَّ كُلَّ مَن حكَم الشَّرعُ بكُفرِه حكَمْنا بكُفرِه، واستدلَلْنا بتكفيرِ الشَّارِعِ له على خُلوِّ قلبِه مِن المعرفةِ) [251] ((مجموع الفتاوى)) (13/47). .
وقال أيضًا: (لو قُدِّرَ أنَّ قومًا قالوا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: نحن نُؤمِنُ بما جِئْتَنا به بقُلوبِنا مِن غَيرِ شكٍّ، ونُقِرُّ بألسِنتِنا بالشَّهادتَينِ، إلَّا أنَّا لا نُطيعُك في شيءٍ ممَّا أمرْتَ به، ونهَيتَ عنه ...، هل كان يَتوهَّمُ عاقِلٌ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ لهم: أنتم مُؤمِنونَ كامِلو الإيمانِ، وأنتم مِن أهلِ شفاعتي يومَ القيامةِ، ويُرجى لكم ألَّا يدخُلَ أحدٌ منكم النَّارَ؟! بل كُلُّ مُسلِمٍ يعلَمُ بالاضطِرارِ أنَّه يقولُ لهم: أنتم أكفَرُ النَّاسِ بما جئْتُ به، ويضرِبُ رِقابَهم إن لم يتوبوا مِن ذلك) [252] ((مجموع الفتاوى)) (7/287). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (التَّحقيقُ أنَّ إيمانَ القلبِ التَّامَّ يستلزِمُ العَملَ الظَّاهِرَ بحَسَبِه لا محالةَ، ويمتنِعُ أن يقومَ بالقلبِ إيمانٌ تامٌّ بدونِ عَملٍ ظاهِرٍ؛ ولهذا صاروا يُقدِّرونَ مسائِلَ يمتنِعُ وُقوعُها لعَدمِ تحقُّقِ الارتِباطِ الذي بَينَ البَدنِ والقلبِ، مِثلُ أن يقولوا: رجُلٌ في قلبِه مِن الإيمانِ مِثلُ ما في قلبِ أبي بكرٍ وعُمرَ، وهو لا يسجُدُ للهِ سجدةً، ولا يصومُ رَمضانَ، ويزني بأمِّه وأختِه، ويشرَبُ الخمرَ نهارَ رَمضانَ؛ يقولونَ: هذا مُؤمِنٌ تامُّ الإيمانِ! فيبقى سائِرُ المُؤمِنينَ يُنكِرونَ ذلك غايةَ الإنكارِ...، إنَّما قال الأئمَّةُ بكُفرِ هذا؛ لأنَّ هذا فَرضُ ما لا يقعُ، فيمتنِعُ أن يكونَ الرَّجلُ لا يفعَلُ شيئًا ممَّا أُمِر به مِن الصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّيامِ والحجِّ، ويفعَلُ ما يقدِرُ عليه مِن المُحرَّماتِ، مِثلُ الصَّلاةِ بلا وُضوءٍ، وإلى غَيرِ القِبلةِ، ونِكاحِ الأمَّهاتِ، وهو معَ ذلك مُؤمِنٌ في الباطِنِ، بل لا يفعَلُ ذلك إلَّا لعَدمِ الإيمانِ الذي في قلبِه) [253] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 204 - 218). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (لو قيل: إنَّ رجُلًا مِن أهلِ السُّنَّةِ قيل له: ترضَّ عن أبي بكرٍ وعُمرَ، فامتنَع عن ذلك حتَّى قُتِل، معَ محبَّتِه لهما، واعتِقادِه فَضلَهما، ومعَ عَدمِ الأعذارِ المانِعةِ مِن التَّرضِّي عنهما؛ فهذا لا يقعُ قطُّ. وكذلك لو قيل: إنَّ رجُلًا يشهَدُ أنَّ مُحمَّدًا رسولُ اللهِ باطِنًا وظاهِرًا، وقد طُلِب منه ذلك، وليس هناك رهبةٌ ولا رغبةٌ يمتنِعُ لأجْلِها، فامتنَع منها حتَّى قُتِل؛ فهذا يمتنِعُ أن يكونَ في الباطِنِ يشهَدُ أنَّ مُحمَّدًا رسولُ اللهِ؛ ولهذا كان القولُ الظَّاهِرُ مِن الإيمانِ الذي لا نجاةَ للعبدِ إلَّا به عندَ عامَّةِ السَّلفِ والخَلفِ مِن الأوَّلينَ والآخِرينَ إلَّا الجَهْميَّةَ؛ جَهمًا ومَن وافَقه) [254] ((الإيمان)) (ص: 174). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (إذا قُرِن الإيمانُ بالإسلامِ فإنَّ الإيمانَ في القلبِ، والإسلامَ ظاهِرٌ ...، ومتى حصَل له هذا الإيمانُ وجَب ضرورةً أن يحصُلَ له الإسلامُ الذي هو الشَّهادتانِ، والصَّلاةُ، والزَّكاةُ، والصِّيامُ، والحجُّ؛ لأنَّ إيمانَه باللهِ وملائِكتِه وكُتبِه ورُسلِه يقتضي الاستِسلامَ للهِ والانقِيادَ له، وإلَّا فمِن المُمتنِعِ أن يكونَ قد حصَل له الإقرارُ والحُبُّ والانقيادُ باطِنًا، ولا يحصُلُ ذلك في الظَّاهِرِ معَ القُدرةِ عليه، كما يمتنِعُ وُجودُ الإرادةِ الجازِمةِ معَ القُدرةِ بدونِ وُجودِ المُرادِ، وبهذا تعرِفُ أنَّ مَن آمَن قلبُه إيمانًا جازِمًا امتنَع ألَّا يتكلَّمَ بالشَّهادتَينِ معَ القُدرةِ؛ فعَدمُ الشَّهادتَينِ معَ القُدرةِ مُستلزِمٌ انتِفاءَ الإيمانِ القلبيِّ التَّامِّ، وبهذا يظهَرُ خطأُ جَهمٍ ومَن اتَّبَعه في زَعمِهم أنَّ مُجرَّدَ إيمانٍ بدونِ الإيمانِ الظَّاهِرِ ينفَعُ في الآخِرةِ، فإنَّ هذا مُمتنِعٌ؛ إذ لا يحصُلُ الإيمانُ التَّامُّ في القلبِ إلَّا ويحصُلُ في الظَّاهِرِ موجِبُه بحسَبِ القُدرةِ، فإنَّ مِن المُمتنِعِ أن يحِبَّ الإنسانُ غَيرَه حُبًّا جازِمًا، وهو قادِرٌ على مُواصلتِه، ولا يحصُلُ منه حركةٌ ظاهِرةٌ إلى ذلك!) [255] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 553). .
21- قال ابنُ القيِّمِ: (الإيمانُ له ظاهِرٌ وباطِنٌ، وظاهِرُه قولُ اللِّسانِ وعَملُ الجوارِحِ، وباطِنُه تصديقُ القلبِ وانقِيادُه ومحبَّتُه، فلا ينفَعُ ظاهِرٌ لا باطِنَ له، وإن حُقِن به الدِّماءُ، وعُصِم به المالُ والذُّرِّيَّةُ، ولا يُجزِئُ باطِنٌ لا ظاهِرَ له، إلَّا إذا تعذَّر بعَجزٍ أو إكراهٍ وخَوفِ هلاكٍ؛ فتخلُّفُ العَملِ ظاهِرًا معَ عَدمِ المانِعِ دليلٌ على فسادِ الباطِنِ وخُلوِّه مِن الإيمانِ) [256] ((الفوائد)) (ص: 85) باختصارٍ. .
وقال ابنُ القيِّمِ أيضًا: (كُلُّ إسلامٍ ظاهِرٍ لا ينفُذُ صاحِبُه منه إلى حقيقةِ الإيمانِ الباطِنةِ؛ فليس بنافِعٍ، حتَّى يكونَ معَه شيءٌ مِن الإيمانِ الباطِنِ. وكُلُّ حقيقةٍ باطِنةٍ لا يقومُ صاحِبُها بشرائِعِ الإسلامِ الظَّاهِرةِ لا تنفَعُ ولو كانت ما كانت) [257] ((الفوائد)) (ص: 142) باختصارٍ. .
وقال أيضًا: (يستحيلُ في العادةِ والطَّبيعةِ أن يكونَ الرَّجلُ مُصدِّقًا تصديقًا جازِمًا أنَّ اللهَ فرَض عليه كُلَّ يومٍ وليلةٍ خمسَ صَلواتٍ، وأنَّه يُعاقِبُه على تَركِها أشَدَّ العِقابِ، وهو معَ ذلك مُصِرٌّ على تَركِها) [258] ((الصلاة وحكم تاركها)) (ص: 60) باختصارٍ. .
22- قال السَّعديُّ: (مَن ادَّعى أنَّه مُؤمِنٌ، وهو لم يعمَلْ بما أمَر اللهُ به ورسولُه مِن الواجِباتِ، ومِن تَركِ المُحرَّماتِ؛ فليس بصادِقٍ في إيمانِه) [259] ((التوضيح والبيان لشجرة الإيمان)) (ص: 54) وما بَعدَها. .
23- قال حافِظٌ الحَكميُّ: (مُحالٌ أن ينتفِيَ انقِيادُ الجوارِحِ بالأعمالِ الظَّاهِرةِ معَ ثُبوتِ عَملِ القلبِ؛ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ في الجَسَدِ مُضغةً إذا صلَحَت صلَح الجَسدُ كُلُّه، وإذا فسَدَت فسَد الجَسدُ كُلُّه، ألا وهي القلبُ )) [260] أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) من حديثِ النُّعمانِ بنِ بشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. ، ومِن هنا يتبيَّنُ لك أنَّ مَن قال مِن أهلِ السُّنَّةِ في الإيمانِ: هو التَّصديقُ على ظاهِرِ اللُّغةِ، أنَّهم إنَّما عنَوا التَّصديقَ الإذعانيَّ المُستلزِمَ للانقِيادِ ظاهِرًا وباطِنًا، لم يَعْنوا مُجرَّدَ التَّصديقِ) [261] ((معارج القبول)) (2/ 594). .
24- قال ابنُ بازٍ: (إخراجُ العَملِ مِن الإيمانِ هو قولُ المُرجِئةِ، وليس الخلافُ بَينَهم وبَينَ أهلِ السُّنَّةِ فيه لفظيًّا، بل هو لفظيٌّ ومعنويٌّ، ويترتَّبُ عليه أحكامٌ كثيرةٌ يعلَمُها مَن تدبَّر كلامَ أهلِ السُّنَّةِ وكلامَ المُرجِئةِ، واللهُ المُستعانُ) [262] يُنظر: هامش ((الطحاوية)) للطحاوي (ص: 28). .
25- قال الألبانيُّ مُعلِّقًا على تعريفِ الإيمانِ للطَّحاويِّ: (هذا مَذهَبُ الحَنفيَّةِ والماتُريديَّةِ خلافًا للسَّلفِ وجماهيرِ الأئمَّةِ، كمالِكٍ والشَّافِعيِّ وأحمَدَ والأوزاعيِّ وغَيرِهم؛ فإن هؤلاء زادوا على الإقرارِ والتَّصديقِ العَملَ بالأركانِ، وليس الخلافُ بَينَ المَذهَبينِ اختِلافًا صوريًّا كما ذهَب إليه الشَّارِحُ بحُجَّةِ أنَّهم جميعًا اتَّفَقوا على أنَّ مُرتكِبَ الكبيرةِ لا يخرُجُ عن الإيمانِ، وأنَّه في مشيئةِ اللهِ؛ إن شاء عذَّبه، وإن شاء عفا عنه؛ فإنَّ هذا الاتِّفاقَ وإن كان صحيحًا فإنَّ الحَنفيَّةَ لو كانوا غَيرَ مُخالِفينَ للجماهيرِ مُخالَفةً حقيقيَّةً في إنكارِهم أنَّ العَملَ مِن الإيمانِ لاتَّفَقوا معَهم على أنَّ الإيمانَ يزيدُ ويَنقُصُ، وأنَّ زِيادتَه ونَقصَه بالمعصيةِ، معَ تضافُرِ أدلَّةِ الكتابِ والسُّنَّةِ والآثارِ السَّلفيَّةِ على ذلك...، ثُمَّ كيف يصِحُّ أن يكونَ الخلافُ المذكورُ صوريًّا وهُم يُجيزونَ لأفجَرِ واحِدٍ منهم أن يقولَ: إيماني كإيمانِ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، بل كإيمانِ الأنبِياءِ والمُرسَلينَ وجِبريلَ وميكائيلَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ؟! كيف وهُم بناءً على مَذهَبِهم هذا لا يُجيزونَ لأحدِهم -مهما كان فاسِقًا فاجِرًا- أن يقولَ: أنا مُؤمِنٌ إن شاء اللهُ تعالى، بل يقولُ: أنا مُؤمِنٌ حقًّا؟!) [263] تخريج ((العقيدة الطحاوية)) (ص: 62). .
26- قال ابنُ عُثَيمينَ عن المُرجِئةِ وقولِ بعضِ غُلاتِهم: (يقولونَ: الأعمالُ ليست مِن الإيمانِ، والإيمانُ هو الاعتِرافُ بالقلبِ فقط؛ ولهذا يقولونَ: إنَّ فاعِلَ الكبيرةِ كالزَّاني والسَّارِقِ وشارِبِ الخَمرِ وقاطِعِ الطَّريقِ؛ لا يستحِقُّ دُخولَ النَّارِ، لا دُخولًا مُؤبَّدًا ولا مُؤقَّتًا؛ فلا يضُرُّ معَ الإيمانِ معصيةٌ مهما كانت؛ صغيرةً أم كبيرةً، إذا لم تصِلْ إلى حدِّ الكُفرِ!) [264] ((شرح العقيدة الواسطية)) (2/ 69). .
27- قال بكر أبو زيدٍ: (إيَّاك ثُمَّ إيَّاك -أيُّها المُسلِمُ- أن تغترَّ بما فاه به بعضُ النَّاسِ مِن التَّهوينِ بواحِدٍ مِن هذه الأسُسِ الخَمسةِ لحقيقةِ الإيمانِ [265] الأسُسُ الخَمسةُ هي: قولُ اللِّسانِ، وعَمَلُ الجوارحِ، واعتقادُ القَلبِ، وزيادةُ الإيمانِ، ونقصانُه.  ، لا سيَّما ما تلقَّفوه عن الجَهْميَّةِ وغُلاةِ المُرجِئةِ مِن أنَّ العَملَ كَماليٌّ في حقيقةِ الإيمانِ، ليس رُكنًا فيه، وهذا إعراضٌ عن المُحكَمِ مِن كتابِ اللهِ تعالى في نَحوِ ستِّينَ مَوضِعًا، مِثلُ قولِ اللهِ تعالى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 43] ، ونَحوُها في السُّنَّةِ كثيرٌ؛ وخَرْقٌ لإجماعِ الصَّحابةِ ومَن تبِعهم بإحسانٍ) [266] ((درء الفتنة)) (ص: 9). .
28- قال صالِح الفوزان: (الإيمانُ قولٌ باللِّسانِ، واعتِقادٌ بالقلبِ، وعَملٌ بالجوارِحِ؛ فالأعمالُ داخِلةٌ في حقيقةِ الإيمانِ، وليست بشيءٍ زائِدٍ عن الإيمانِ، فمَن اقتصَر على القولِ باللِّسانِ، والتَّصديقِ بالقلبِ دونَ العَملِ؛ فليس مِن أهلِ الإيمانِ الصَّحيحِ) [267] ((التعليقات المختصرة على متن العقيدة الطحاوية)) (ص: 145)، ((أسئلة وأجوبة في مسائل الإيمان والكفر)) (ص: 3). .

انظر أيضا: