موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّاني: هل عَطفُ الأعمالِ الصَّالِحةِ على الإيمانِ يقتضي المُغايَرةَ بَينَهما؟


استدلَّ المُرجِئةُ على قولِهم بإخراجِ العملِ مِن مُسمَّى الإيمانِ بأنَّ عَطفَ الأعمالِ الصَّالِحةِ على الإيمانِ يقتضي المُغايَرةَ، فلا يكونُ العملُ داخِلًا في مُسمَّى الإيمانِ، وهذا استِدلالٌ خاطِئٌ.
قال ابنُ تيميَّةَ: (أمَّا قولُهم: إنَّ اللهَ فرَّق بَينَ الإيمانِ والعَملِ الصَّالِحِ في مواضِعَ؛ فهذا صحيحٌ...، والإيمانُ إذا أُطلِق أدخَل اللهُ ورسولُه فيه الأعمالَ المأمورَ بها...، وذلك لأنَّ أصلَ الإيمانِ هو ما في القلبِ، والأعمالُ الظَّاهِرةُ لازِمةٌ لذلك...، ثُمَّ للنَّاسِ في مِثلِ هذا قولانِ:
منهم مَن يقولُ: المعطوفُ دخَل في المعطوفِ عليه أوَّلًا، ثُمَّ ذُكِر باسمِه الخاصِّ تخصيصًا له، لئلَّا يُظَنَّ أنَّه لم يدخُلْ في الأوَّلِ، وقالوا: هذا في كُلِّ ما عُطِف فيه خاصٌّ على عامٍّ...، فعلى قولِ هؤلاء يُقالُ: الأعمالُ الصَّالِحةُ المعطوفةُ على الإيمانِ دخلَت في الإيمانِ، وعُطِفَت عليه عَطفَ الخاصِّ على العامِّ.
وقيل: بل الأعمالُ في الأصلِ ليست مِن الإيمانِ؛ فإنَّ أصلَ الإيمانِ هو ما في القلبِ، ولكن هي لازِمةٌ له، فمَن لم يفعَلْها كان إيمانُه مُنتفِيًا؛ لأنَّ انتِفاءَ اللَّازِمِ يقتضي انتِفاءَ الملزومِ، لكن صارت بعُرفِ الشَّارِعِ داخِلةً في اسمِ الإيمانِ إذا أُطلِق) [210] ((مجموع الفتاوى)) (7/198- 202) باختصارٍ. .
وأيضًا، فإنَّ عَطفَ الشَّيءِ على الشَّيءِ يقتضي المُغايَرةَ بَينَ المعطوفِ والمعطوفِ عليه، معَ الاشتِراكِ في الحُكمِ الذي ذُكِر لهما [211] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (2/ 484). .
والمُغايَرةُ على مراتِبَ:
الأولى: أن يكونا مُتبايَنينِ، ليس أحدُهما هو الآخَرَ، ولا جُزءًا منه، ولا بَينَهما تلازُمٌ، كقولِه تعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] ، وقولِ اللهِ سبحانَه: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ [آلِ عِمْرَانَ: 3] ، وهذا هو الغالِبُ.
الثَّانيةُ: أن يكونَ بَينَهما تلازُمٌ، كقولِه تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [المائدة: 92] ، وكقولِه سبحانَه: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: 42] .
الثَّالثةُ: عَطفُ بعضِ الشَّيءِ عليه، كقولِه تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [البقرة: 238] ، وكقولِ اللهِ سبحانَه: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [الْبَقَرَةِ: 98] ، وقولِ اللهِ عزَّ وجلَّ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ [الْأَحْزَابِ: 7] .
وفي مِثلِ هذا وَجهانِ:
1- أن يكونَ داخِلًا في الأوَّلِ، فيكونَ مذكورًا مرَّتَينِ.
2- أنَّ عَطفَه عليه يقتضي أنَّه ليس داخِلًا فيه هنا، وإن كان داخِلًا فيه مُنفرِدًا.
الرَّابعةُ: عَطفُ الشَّيءِ على الشَّيءِ لاختِلافِ الصِّفتَينِ، كقولِه تعالى: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ [غافر: 3] .
فإذا كان العَطفُ في الكلامِ يكونُ على هذه الوُجوهِ نظَرْنا في كلامِ الشَّارِعِ كيف ورَد فيه الإيمانُ؟ فإذًا هو إذا أُطلِق يُرادُ به ما يُرادُ بلفظِ البِرِّ، والتَّقوى، والدِّينِ، والإسلامِ [212] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (2/484). .
وقد قال بعضُ المُرجِئةِ: إنَّ اللهَ تعالى خاطَب المُؤمِنينَ باسمِ الإيمانِ قَبلَ أن يفرِضَ عليهم الأعمالَ.
والجوابُ عن ذلك: أنَّ اللهَ خاطَب المُؤمِنينَ باسمِ الإيمانِ الذي كان واجِبًا عليهم، وآمَنوا به مِن قَبلُ؛ لأنَّ فرائِضَ الإسلامِ وشرائِعَه نزَلَت مُفرَّقةً، فأوَّلُ ما أوجَب على عِبادِه الشَّهادتَينِ؛ فآمَنوا بها وأقرُّوا، فزادهم الشَّرائِعَ الأخرى: الصَّلاةَ، ثُمَّ الصِّيامَ والزَّكاةَ، وكُلَّما نزَلَت شريعةٌ خاطَبهم باسمِ الإيمانِ الذي كانوا عليه مِن قَبلُ؛ لأنَّهم لو لم يُؤمِنوا بما نزَل مِن الشَّرائِعِ مُتأخِّرًا كالحجِّ ونَحوِه لكفَروا، ولم ينفَعْهم إيمانُهم السَّابِقُ، فإنَّما خاطَبهم اللهُ باسمِ الإيمانِ السَّابِقِ على نُزولِ الفريضةِ، ثُمَّ خاطَبهم وهُم بالمدينةِ باسمِ الإيمانِ المُتقدِّمِ لهم في كُلِّ ما أمَرهم به، أو نهاهم عنه [213] يُنظر: ((الإيمان)) لأبي عبيد (ص: 10) وما بعدها. .
قال ابنُ تيميَّةَ: (اسمُ الإيمانِ قد يُذكَرُ مُجرَّدًا، وقد يُذكَرُ مقرونًا بالعملِ الصَّالِحِ، أو بالإسلامِ؛ فإذا ذُكِر مُجرَّدًا تناوَل الأعمالَ، كما في الصَّحيحَينِ: ((الإيمانُ بِضعٌ وستُّونَ شُعبةً، أفضَلُها قولُ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطَّريقِ )) [214] أخرجه البخاري (9) مختصرًا، ومسلم (35) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ مسلمٍ: ((الإيمانُ بِضعٌ وسَبعون أو بِضعٌ وسِتُّون شُعبةً، فأفضَلُها قَولُ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطَّريقِ ، والحياءُ شُعبةٌ مِن الإيمانِ). ، وفيهما: أنَّه قال لوَفدِ عبدِ القيسِ: ((آمُرُكم بالإيمانِ باللهِ، وهل تدرونَ ما الإيمانُ باللهِ؟ شهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وإقامُ الصَّلاةِ، وإيتاءُ الزَّكاةِ، وتُعطوا مِن المَغنَمِ الخُمسَ )) [215] أخرجه البخاري (7556) واللَّفظُ له، ومسلم (17) من حديثِ عبدِ اللهِ بن عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. . وإذا ذُكِر معَ الإسلامِ كما في حديثِ جِبريلَ أنَّه سأل النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الإيمانِ والإسلامِ والإحسانِ، ففرَّق بَينَهما، فقال: ((الإيمانُ أن تُؤمِنَ باللهِ، وملائِكتِه، وكُتبِه، ورُسلِه )) إلى آخِرِه [216] أخرجه البخاري (50)، ومسلم (9) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ مسلمٍ: ((ما الإيمانُ؟ قال: أن تؤمِنَ باللهِ وملائكتِه وكتابِه ولقائِه ورُسُلِه). وأخرجه مسلمٌ (8) من حديثِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، بلفظِ: (... فأخبِرْني عن الإيمانِ، قال: أن تؤمِنَ باللهِ وملائكتِه وكتُبِه ورسُلِه...). ...، وإذا أفرَد الإيمانَ أدخَل فيه الأعمالَ الظَّاهِرةَ؛ لأنَّها لوازِمُ ما في القلبِ؛ لأنَّه متى ثبَت الإيمانُ في القلبِ، والتَّصديقُ بما أخبَر به الرَّسولُ وجَب حُصولُ مُقتضي ذلك ضرورةً؛ فإنَّه ما أسرَّ أحدٌ سريرةً إلَّا أبداها اللهُ على صَفَحاتِ وَجهِه وفَلَتاتِ لِسانِه، فإذا ثبَت التَّصديقُ في القلبِ لم يتخلَّفِ العملُ بمُقتضاه البتَّةَ، فلا تستقِرُّ معرفةٌ تامَّةٌ ومحبَّةٌ صحيحةٌ، ولا يكونُ لها أثرٌ في الظَّاهِرِ) [217] ((مجموع الفتاوى)) (18/271). .
وبهذا يتبيَّنُ فسادُ استِدلالاتِ المُرجِئةِ وبُطلانُها [218] يُنظر: ((آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية)) لعبدِ اللهِ محمد السند (ص: 183-264). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/194-197).   .

انظر أيضا: