موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّاني: تعريفُ الإرجاءِ اصطِلاحًا


أطلَق السَّلَفُ مُصطلَحُ الإرجاءِ على مُرجِئةِ الفُقَهاءِ القائِلينَ بأنَّ الإيمانَ تصديقٌ بالقلبِ، ونُطقٌ باللِّسانِ، وأنَّ الأعمالَ ليست مِن الإيمانِ [2] يُنظر: ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (7/29)، ((شرح السنة)) للبغوي (1/41)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/666) و (13/41). ، ثُمَّ أُطلِق الإرجاءُ على الجَهْميَّةِ القائِلينَ بأنَّ الإيمانَ هو المعرفةُ فقط، والكَرَّاميَّةِ القائِلينَ بأنَّ الإيمانَ هو قولُ اللِّسانِ فقط [3] يُنظر: ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/139)، ((مقالات الإسلاميين)) لأبي الحسن الأشعري (1/119)، ((التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع)) للمَلَطي (ص: 146)، ((القدرية والمرجئة)) لناصر العقل (ص: 77). .
وقد أطلَق بعضُ السَّلفِ الإرجاءَ على الذين أرجؤوا إلى اللهِ سبحانَه أمرَ عُثمانَ وطَلحةَ والزُّبَيرِ وعائِشةَ وعليٍّ ومُعاوِيةَ وعَمرِو بنِ العاصِ، رضِي اللهُ عنهم، ولم يقطَعوا بمَن كان منهم مُخطِئًا أو مُصيبًا، وكان بعضُهم لا يتولَّاهم، ولا يتبرَّأُ منهم، وهذا الإرجاءُ يتعلَّقُ بما وقَع بَينَ الصَّحابةِ بَعدَ مَقتَلِ عُثمانَ رضِي اللهُ عنه، وليس له صلةٌ بمَذهَبِ المُرجِئةِ [4] يُنظر: ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (6/ 307)، ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (13/ 380، 381) و (39/ 495، 496). .
والمشهورُ عندَ العُلَماءِ إطلاقُ الإرجاءِ على مَن يقولُ: إنَّ الإيمانَ قولٌ أو تصديقٌ بلا عَملٍ، أو يقولُ: إنَّه لا يضُرُّ معَ الإيمانِ ذَنبٌ كما لا تنفَعُ معَ الكُفرِ طاعةٌ، وما يتفرَّعُ على ذلك مِن القولِ بعَدمِ زيادةِ الإيمانِ ونُقصانِه، وأنَّه درجةٌ واحِدةٌ لا يتفاضَلُ المُؤمِنونَ فيه، وعَدمِ تجويزِ الاستِثناءِ في الإيمانِ، بل يجِبُ عندَ المُرجِئةِ أن يقولَ المُسلِمُ: أنا مُؤمِنٌ، ولا يجوزُ له أن يقولَ: أنا مُؤمِنٌ إن شاء اللهُ. والقولِ بأنَّ صاحِبَ الكبيرةِ مُؤمِنٌ كامِلُ الإيمانِ [5] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 312 - 314، 318، 319، 324، 327، 338)، ((تهذيب الآثار - مسند ابن عباس)) لابن جرير (2/ 658، 660)، ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/ 114-121)، ((فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام وبيان موقف الإسلام منها)) للعواجي (3/ 1074) باختصارٍ. .
قال عبدُ اللهِ بنُ أحمَدَ بنِ حَنبَلٍ: حدَّثنا سُوَيدُ بنُ سعيدٍ الهَرَويُّ، قال: سألْنا سُفيانَ بنَ عُيَينةَ عن الإرجاءِ، فقال: (يقولونَ: الإيمانُ قولٌ، ونحن نقولُ: الإيمانُ قولٌ وعَملٌ، والمُرجِئةُ أوجَبوا الجنَّةَ لمَن شهِد أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ مُصِرًّا بقلبِه على تركِ الفرائِضِ، وسمَّوا تركَ الفرائِضِ ذنبًا بمنزِلةِ رُكوبِ المحارِمِ، وليس بسواءٍ؛ لأنَّ رُكوبَ المحارِمِ مِن غَيرِ استِحلالٍ معصيةٌ، وتَرْكَ الفرائِضِ مُتعمِّدًا مِن غَيرِ جَهلٍ ولا عُذرٍ هو كُفرٌ، وبيانُ ذلك في أمرِ آدَمَ صلَواتُ اللهِ عليه، وإبليسَ، وعُلَماءِ اليهودِ؛ أمَّا آدَمُ فنهاه اللهُ عزَّ وجلَّ عن أكلِ الشَّجرةِ، وحرَّمها عليه، فأكل منها مُتعمِّدًا؛ ليكونَ مَلَكًا، أو يكونَ مِن الخالِدينَ؛ فسُمِّي عاصيًا مِن غَيرِ كُفرٍ، وأمَّا إبليسُ -لعَنه اللهُ- فإنَّه فُرِض عليه سجدةٌ واحِدةٌ، فجحَدها مُتعمِّدًا؛ فسُمِّي كافِرًا، وأمَّا عُلَماءُ اليهودِ فعرَفوا نَعتَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّه نبيٌّ رسولٌ كما يعرِفونَ أبناءَهم، وأقرُّوا به باللِّسانِ، ولم يتَّبِعوا شريعتَه، فسمَّاهم اللهُ عزَّ وجلَّ كُفَّارًا، فرُكوبُ المحارِمِ مِثلُ ذَنبِ آدَمَ عليه السَّلامُ وغَيرِه مِن الأنبياءِ، وأمَّا تركُ الفرائِضِ جُحودًا فهو كُفرٌ مِثلُ كُفرِ إبليسَ لعَنه اللهُ، وتَركُهم على معرفةٍ مِن غَيرِ جُحودٍ فهو كُفرٌ مِثلُ كُفرِ عُلَماءِ اليهودِ. واللهُ أعلَمُ) [6] ((السنة)) (1/ 347). .

انظر أيضا: