موسوعة الفرق

المَطلَبُ الأوَّلُ: الانحِرافُ في أعمالِ القُلوبِ عندَ المُتكلِّمينَ


عُلَماءُ الكلامِ مِن الأشاعِرةِ والماتُريديَّةِ في كلامِهم عن الإيمانِ أهمَلوا أعمالَ القُلوبِ بالكُلِّيَّةِ تَبعًا للجَهْميَّةِ، جاعِلينَ الإيمانَ قضيَّةً عقليَّةً بحتةً، ولم يُثبِتوا مِن أعمالِ القلبِ سِوى التَّصديقِ الخَبريِّ الذي هو في الحقيقةِ أشبَهُ بالعملِ الذِّهنيِّ الخالِصِ، وإن نسَبوه للقلبِ [268] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) لأبي الحسن الأشعري (1/114)، ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 199). .
وأكثَرُ مُتكلِّمي الأمَّةِ مِن الأشاعِرةِ والماتُريديَّةِ اعتنَقوا مَذهَبَ الجَهْميَّةِ في الإيمانِ معَ إطباقِ أئمَّةِ السَّلفِ على تكفيرِ جَهمٍ وأصحابِه، واعتِبارِ الجَهْميَّةِ فِرقةً خارِجةً عن فِرَقِ أهلِ القِبلةِ الثَّلاثِ والسَّبعينَ [269] يُنظر: ((الشريعة)) للآجري (1/ 503) (2/ 987) (3/ 1106، 1190). .
ومِن أغرَبِ التَّناقُضاتِ عندَ هؤلاء المُتكلِّمينَ أن يكونَ ما نقَله أبو الحَسنِ الأشعَريُّ نَفسُه في المقالاتِ عن جَهمٍ والصَّالِحيِّ وبِشرٍ المِرِّيسيِّ اليهوديِّ؛ هو نَفسُ عقيدتِهم التي صرَّح بها أئمَّتُهم، كالباقِلَّانيِّ والجُوَينيِّ والإيجيِّ ومَن جاء بَعدَه!
ويكفي لإثباتِ هذا التَّناقُضِ نَقلُ مَذهَبِ جَهمٍ كما سطَّره الأشعَريُّ نَفسُه، ثُمَّ مُقارَنتُه بكلامِ أئمَّةِ الأشاعِرةِ؛ فقال أبو الحَسنِ الأشعَريُّ في كلامِه عن فِرَقِ المُرجِئةِ: (الفِرقةُ الأولى منهم يزعُمونَ أنَّ الإيمانَ باللهِ هو المعرفةُ باللهِ وبرُسلِه وبجميعِ ما جاء مِن عندِ اللهِ فقط، وأنَّ ما سِوى المعرفةِ مِن الإقرارِ باللِّسانِ، والخُضوعِ بالقلبِ، والمحبَّةِ للهِ ولرسولِه، والتَّعظيمِ لهما، والخوفِ منهما، والعَملِ بالجوارِحِ؛ فليس بإيمانٍ...، وهذا قولٌ يُحكى عن الجَهمِ بنِ صَفوانَ) [270] ((مقالات الإسلاميين)) (1 / 114). .
وقال الباقِلَّانيُّ في بيانِ ما يجِبُ اعتِقادُه ولا يجوزُ الجَهلُ به: (وأن يعلَمَ أنَّ الإيمانَ باللهِ عزَّ وجلَّ هو التَّصديقُ بالقلبِ...، والدَّليلُ على أنَّ الإيمانَ هو الإقرارُ بالقلبِ والتَّصديقُ قولُه عزَّ وجلَّ: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف: 17] ، وقد اتَّفَق أهلُ اللُّغةِ قَبلَ نُزولِ القرآنِ وبَعثِ الرَّسولِ عليه السَّلامُ على أنَّ الإيمانَ في اللُّغةِ هو التَّصديقُ دونَ سائِرِ أفعالِ الجوارِحِ والقُلوبِ) [271] ((الإنصاف)) (ص: 5). .
وقال أبو المعالي الجُوَينيُّ: (حقيقةُ الإيمانِ عندَنا: التَّصديقُ...، والمُؤمِنُ على التَّحقيقِ: مَن انطوى عَقدُه على المعرفةِ بصدقِ مَن أخبَر عن صانِعِ العالَمِ وصِفاتِه وأنبيائِه؛ فإن اعترَف بلِسانِه بما عرَفه بجَنانِه فهو مُؤمِنٌ ظاهِرًا وباطِنًا) [272] ((العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية)) (ص: 257، 258). ويُنظر: ((الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد)) (ص: 416 - 418). .
وقال الإيجيُّ: (اعلَمْ أنَّ الإيمانَ في اللُّغةِ التَّصديقُ، قال تعالى حِكايةً عن إخوةِ يوسُفَ: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف: 17] ) [273] ((المواقف)) (3/527). .
فهذا دليلٌ على اتِّفاقِ الجَهْميَّةِ والأشاعِرةِ على أنَّ أعمالَ القُلوبِ والجوارِحِ غَيرُ داخِلةٍ في الإيمانِ، والفَرقُ اللَّفظيُّ بَينَهما أنَّ الجَهْميَّةَ تقولُ: إنَّ الإيمانَ المعرفةُ، والأشاعِرةُ يقولونَ: الإيمانُ التَّصديقُ، ولكنَّ ما تمحَّله الأشاعِرةُ وتكلَّفوه مِن التَّفريقِ بَينَ المعرفةِ وبَينَ التَّصديقِ المُجرَّدِ أمرٌ لا يقبَلُه العُقَلاءُ [274] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/398). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ الفَرقَ بَينَ معرفةِ القلبِ وبَينَ مُجرَّدِ تصديقِ القلبِ الخالي عن الانقِيادِ الذي يُجعَلُ قولَ القلبِ؛ أمرٌ دقيقٌ، وأكثَرُ العُقَلاءِ يُنكِرونَه، وبتقديرِ صِحَّتِه لا يجِبُ على كُلِّ أحدٍ أن يوجِبَ شيئَينِ لا يُتصوَّرُ الفرقُ بَينَهما، وأكثَرُ النَّاسِ لا يتصوَّرونَ الفرقَ بَينَ معرفةِ القلبِ وتصديقِه، ويقولونَ: إنَّ ما قاله ابنُ كُلَّابٍ والأشعَريُّ مِن الفَرقِ كلامٌ باطِلٌ لا حقيقةَ له، وكثيرٌ مِن أصحابِه اعترَف بعَدمِ الفَرقِ...، والمقصودُ هنا أنَّ الإنسانَ إذا رجَع إلى نَفسِه عسُر عليه التَّفريقُ بَينَ عِلمِه بأنَّ الرَّسولَ صادِقٌ، وبَينَ تصديقِ قلبِه تصديقًا مُجرَّدًا عن انقيادٍ وغَيرِه مِن أعمالِ القلبِ بأنَّه صادِقٌ) [275] ((مجموع الفتاوى)) (7/398). .
والفَرقُ الحقيقيُّ بَينَ الجَهْميَّةِ والأشاعِرةِ في مسألةِ الإيمانِ أنَّ الجَهْميَّةَ يُثبِتونَ الإيمانَ حتَّى معَ إنكارِ اللِّسانِ، في حينِ أنَّ الأشاعِرةَ ينفونَ الإيمانَ عمَّن صرَّح بالكُفرِ بلِسانِه؛ لأنَّ هذا دليلٌ عندَهم على عَدمِ تصديقِ القلبِ [276] يُنظر: ((العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية)) للجويني (ص: 258). .
ولو أضاف المُتكلِّمونَ إلى التَّصديقِ شيئًا آخَرَ مِن أعمالِ القلبِ لانخرَم أصلُهم، وفسَدَت قاعِدتُهم التي يُقرِّرونَها، وهي أنَّ الإيمانَ شيءٌ واحِدٌ لا يتركَّبُ، ولا يزيدُ ولا يَنقُصُ [277] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/393). .
ولهذا ألزَمهم أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ إلزامًا لا مَحيصَ لهم عنه حينَ قال: (أمَّا مَن زعَم أنَّ الإيمانَ الإقرارُ، فما يقولُ في المعرفةِ؟ هل يحتاجُ إلى المعرفةِ معَ الإقرارِ؟ وهل يحتاجُ أن يكونَ مُصدِّقًا بما عرَف؟ فإن زعَم أنَّه يحتاجُ إلى المعرفةِ معَ الإقرارِ فقد زعَم أنَّه مِن شيئَينِ، وإن زعَم أنَّه يحتاجُ أن يكونَ مُقرًّا ومُصدِّقًا بما عرَف فهو مِن ثلاثةِ أشياءَ؛ وإن جحَد وقال: لا يحتاجُ إلى المعرفةِ والتَّصديقِ فقد قال قولًا عظيمًا، ولا أحسَبُ أحدًا يدفَعُ المعرفةَ والتَّصديقَ) [278] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/393). .
فهذا التَّفريقُ نَفسُه يوقِعُهم في هذا الإلزامِ ولا مناصَ؛ فإمَّا أن يلتزِموا القولَ بأنَّ الإيمانَ هو التَّصديقُ المُجرَّدُ عن المعرفةِ، وهو ما لا يُتصوَّرُ أنَّ أحدًا يقولُه، وإمَّا أن يقولوا: إنَّه المعرفةُ معَ التَّصديقِ، فيبطُلُ أصلُهم الثَّابِتُ عندَهم، وهو أنَّ الإيمانَ شيءٌ واحِدٌ لا يتركَّبُ ولا يتعدَّدُ، وحينَئذٍ يلزَمُهم إدخالُ سائِرِ أعمالِ القلبِ كما أدخَلوا المعرفةَ [279] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/393). .

انظر أيضا: