موسوعة الأخلاق والسلوك

سادسًا: مَظاهرُ وصورُ الظُّلمِ


أوَّلًا: ظُلمُ العَبدِ نَفسَه
1- أعظَمُه الشِّركُ باللهِ:
 قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] .
 قال ابنُ تَيميَّةَ: (ومِمَّا ينبَغي أن يُعلمَ أنَّ كثيرًا مِن النَّاسِ لا يعلمونَ كونَ الشِّركِ مِن الظُّلمِ، وأنَّه لا ظُلمَ إلَّا ظُلمُ الحُكَّامِ أو ظُلمُ العَبدِ نَفسَه، وإن عَلِموا ذلك مِن جِهةِ الاتِّباعِ، والتَّقليدِ للكِتابِ والسُّنَّةِ، والإجماعِ، لم يفهَموا وجهَ ذلك؛ ولذلك لم يسبِقْ ذلك إلى فهمِ جَماعةٍ مِن الصَّحابةِ لمَّا سَمِعوا قَولَه: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام: 82] ، كما ثَبَتَ ذلك في الصَّحيحَينِ مِن حَديثِ ابنِ مَسعودٍ أنَّهم قالوا: أيُّنا لم يظلِمْ نَفسَه؟! فقال رَسولُ اللهِ: ((ألم تَسمَعوا إلى قَولِ العَبدِ الصَّالحِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ؟)). وذلك أنَّهم ظَنُّوا أنَّ الظُّلمَ - كما حَدَّه طائِفةٌ مِن المُتَكلِّمينَ- هو إضرارٌ غَيرُ مُستَحَقٍّ، ولا يرَونَ الظُّلمَ إلَّا ما فيه إضرارٌ بالمَظلومِ، إن كان المُرادُ أنَّهم لن يضُرُّوا دينَ الله وعِبادَه المُؤمِنينَ، فإنَّ ضَرَرَ دينِ اللهِ وضَرَرَ المُؤمِنينَ بالشِّركِ والمَعاصي أبلَغُ وأبلَغُ) [4586] ((جامع المسائل)) (6/235). .
2- التَّعَدِّي على حُدودِ اللهِ:
 قال تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 229] . قال ابنُ جَريرٍ: (تلك مَعالمُ فُصولِه، بَيَّنَ ما أحَلَّ لكم وما حَرَّمَ عليكم أيُّها النَّاسُ؛ فلا تَعتَدوا ما أُحِلَّ لكم مِن الأُمورِ التي بَيَّنَها وفصَّلها لكم مِن الحَلالِ إلى ما حَرَّمَ عليكم؛ فتُجاوزوا طاعَتَه إلى مَعصيتِه، وإنَّما عنى تعالى ذِكرُه بقَولِه: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا هذه الأشياءَ التي بَيَّنتُ لكم في هذه الآياتِ التي مَضَت؛ مِن نِكاحِ المُشرِكاتِ الوثَنيَّاتِ، وإنكاحِ المُشرِكينَ المُسَلماتِ، وإتيانِ النِّساءِ في المَحيضِ، وما قد بَيَّنَ في الآياتِ الماضيةِ قَبل قَولِه: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ مِمَّا أحَلَّ لعِبادِه وحَرَّمَ عليهم، وما أمرَ ونَهى) [4587] ((جامع البيان)) للطبري (4/583). .
3- الصَّدُّ عن مَساجِدِ اللهِ أن يُذكَرَ فيها اسمُه:
 قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 114] .
قال ابنُ جَريرٍ: (وأيُّ امرِئٍ أشَدُّ تَعَدِّيًا وجَراءةً على اللهِ وخِلافًا لأمرِه، مِن امرِئٍ مَنعَ مَساجِدَ اللهِ أن يُعبَدَ اللهُ فيها؟!) [4588] ((جامع البيان)) للطبري (2/519). .
4- كَتمُ الشَّهادةِ:
قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 140] .
قال السَّعديُّ: (فهي شَهادةٌ عِندَهم مودَعةٌ مِن اللهِ لا مِن الخَلقِ، فيقتَضي الاهتِمامَ بإقامَتِها، فكتَموها وأظهَروا ضِدَّها، جَمَعوا بَينَ كَتمِ الحَقِّ وعَدَمِ النُّطقِ به، وإظهارِ الباطِلِ والدَّعوةِ إليه، أليس هذا أعظَمَ الظُّلمِ؟! بَلى واللهِ، وسَيُعاقِبُهم عليه أشَدَّ العُقوبةِ) [4589] ((تيسير الكريم الرحمن)) (69). .
5- الإعراضُ عن آياتِ اللهِ بتَعطيلِ أحكامِها:
 قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف: 57] .
قال ابنُ كثيرٍ: (يقولُ تعالى: وأيُّ عِبادِ اللهِ أظلمُ مِمَّن ذُكِّرَ بآياتِ اللهِ فأعرَضَ عنها، أي: تَناساها وأعرَضَ عنها، ولم يُصغِ لها، ولا ألقى إليها بالًا) [4590] ((تفسير القرآن العظيم)) (5/172). .
6- الكذِبُ على اللهِ:
قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 144] .
 قال ابنُ جَريرٍ في تَفسيرِ هذه الآيةِ: (يقولُ: فمَن أشَدُّ ظُلمًا لنَفسِه، وأبعَدُ عن الحَقِّ مِمَّن تَخرَّصَ على اللهِ قِيلَ الكَذِبِ، وأضاف إليه تَحريمَ ما لم يُحرِّمْ، وتَحليلَ ما لم يُحَلِّلْ) [4591] ((جامع البيان)) (12/189). .
ثانيًا: ظُلمُ العِبادِ بَعضِهم لبَعضٍ
 وظُلمُ العِبادِ بَعضِهم لبَعضٍ أنواعٌ، وهو أشهَرُ أنواعِ الظُّلمِ وأكثَرُها.
 قال سُفيانُ الثَّوريُّ: (إن لقيتَ اللهَ تعالى بسَبعينَ ذَنبًا فيما بَينَك وبَينَ اللهِ تعالى أهونُ عليك مِن أن تَلقاه بذَنبٍ واحِدٍ فيما بَينَك وبَينَ العِبادِ) [4592] ((تنبيه الغافلين)) للسمرقندي (ص: 380). . ويُمكِنُ تَقسيمُه إلى ظُلمٍ قَوليٍّ، وظُلمٍ فِعليٍّ:
مِن صُوَرِ الظُّلمِ القَوليِّ:
التَّعَرُّضُ إلى النَّاسِ بالغِيبةِ والنَّميمةِ، والسِّبابِ والشَّتمِ، والاحتِقارِ، والتَّنابُزِ بالألقابِ، والسُّخريَّةِ والاستِهزاءِ، والقَذفِ،... ونحوِ ذلك.
مِن صُوَرِ الظُّلمِ الفِعليِّ:
1- القَتلُ بغَيرِ حَقٍّ:
قال تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا [الإسراء: 33] .
قال السَّعديُّ في تَفسيرِ قَولِه تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ. (وهي: النَّفسُ المُسلمةُ مِن ذَكَرٍ وأُنثى، صَغيرٍ وكبيرٍ، برٍّ وفاجِرٍ، والكافِرةُ التي قد عُصِمَت بالعَهدِ والميثاقِ إِلَّا بِالْحَقِّ كالزَّاني المُحصَنِ، والنَّفسِ بالنَّفسِ، والتَّارِكِ لدينِه المُفارِقِ للجَماعةِ... وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا أي: بغَيرِ حَقٍّ فَقَدْ جَعَلْنَا لَوَلِيِّهِ وهو أقرَبُ عَصَباتِه وورَثَتِه إليه سُلْطَانًا أي: حُجَّةً ظاهرةً على القِصاصِ مِن القاتِل) [4593] ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (69). .
2- أخذُ أرضِ الغَيرِ أو شَيءٍ منها:
 قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من أخَذَ شِبرًا من الأرضِ ظُلمًا؛ فإنَّه يُطَوَّقُه يومَ القيامةِ من سَبعِ أرَضينَ)) [4594] رواه البخاري (3198)، ومسلم (1610) من حديثِ سعيدِ بنِ زيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وفي هذا الحَديثِ (التَّحذيرُ الشَّديدُ من السَّطوِ على أرضِ الغَيرِ، وأخذِ شَيءٍ منها ظُلمًا، والوعيدُ الشَّديدُ لمَن فعَل ذلك بالخَسفِ به يومَ القيامةِ) [4595] ((منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري)) (4/150). .
3- الظُّلمُ في مُحيطِ الأُسرةِ:
 ومنه:
- ظُلمُ الأولادِ للوالدَينِ بالعُقوقِ.
- ظُلمُ الأزواجِ لزَوجاتِهم في حَقِّهنَّ، سَواءٌ كان صَداقًا أو نَفقةً أو كِسوةً.
- ظُلمُ الزَّوجاتِ لأزواجِهنَّ بتَقصيرِهنَّ في حَقِّهم، وتَنَكُّرِ فَضلِهم.
- ظُلمُ البَناتِ بعَضْلِهنَّ عن الزَّواجِ؛ قال تعالى: وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء: 19] .
 (العَضْلُ: التَّضييقُ والمَنعُ والشِّدَّةُ... والمَعنى: لا يحِلُّ لكم إرثُ النِّساءِ ولا عَضْلُهنَّ، أي: ولا التَّضييقُ عليهنَّ؛ لأجْلِ أن تَذهَبوا ببَعضِ ما آتَيتُموهنَّ، أي: أعطيتُموهنَّ من ميراثٍ أو صَداقٍ أو غَيرِ ذلك. والخِطابُ لمَجموعِ المُؤمنينَ لتَكافُلِهم، فيصدُقُ بما أعطَوه للنِّساءِ من ميراثٍ ومَهرِ زَواجٍ، وغَيرِ ذلك، وجَعَلَه بَعضُهم للأزواجِ، وبَعضُهم للورَثةِ، وكُلٌّ منهم كان يَعضِلُ النِّساءَ) [4596] ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (4/372). .
- الدُّعاءُ على الأولادِ، والقَسوةُ في التَّعامُلِ مَعَهم.
- تَفضيلُ بَعضِ الأولادِ على بَعضٍ في العَطيَّةِ: عن النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((سألَت أمِّي أبي بعضَ الموهبةِ لي مِن مالِه، ثُمَّ بدا له، فوهَبها لي، فقالت: لا أرضى حتَّى تُشهِدَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخذ بيدي وأنا غلامٌ، فأتى بي النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إنَّ أمَّه بنتَ رَواحةَ سألَتني بعضَ الموهبةِ لهذا، قال: ألك ولدٌ سِواه؟ قال: نعَم، قال: فأُراه قال: لا تُشهِدْني على جَورٍ، في رِوايةٍ: لا أشهَدُ على جَورٍ)) [4597] رواه البخاري (2650) واللفظ له، ومسلم (1689). .
4- ظُلمُ أصحاب الوِلاياتِ والمَناصِب، ومنه:
 - نَبذُ كِتابِ اللهِ وتَحكيمُ القَوانينِ الوضعيَّةِ.
- عَدَمُ إعطاءِ الرَّعيَّةِ حُقوقَهم.
 - تَقديمُ شَخصٍ في وظيفةٍ ما، وهناك من هو أكفأُ منه وأقدَرُ على العَمَلِ.
5- ظُلمُ العُمَّالِ: ومنه:
 - أن يعمَلَ له عَمَلًا ولا يُعطيَه أجرَه: عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ((قال اللهُ تعالى: ثَلاثةٌ أنا خَصمُهم يومَ القيامةِ: رَجُلٌ أعطى بي ثُمَّ غَدَرَ، ورَجُلٌ باعَ حُرًّا فأكل ثَمَنَه، ورَجُلٌ استَأجَرَ أجيرًا فاستَوفى منه ولم يُعطِه أجرَه)) [4598] رواه البخاري (2270). .
- أن يبخَسَه حُقوقَه أو أن يُؤَخِّرَها عن وقتِها.
 - تَكليفُه بأُمورٍ غَيرِ ما اتَّفقَ عليها مَعَه، أو بأُمورٍ لم تَجرِ العادةُ بتَكليفِه بها: قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إخوانُكم خَوَلُكم، جَعلَهم اللهُ تَحتَ أيديكم، فمَن كان أخوه تَحتَ يدِه فليُطعِمْه مِمَّا يأكُلُ، وليُلبِسْه مِمَّا يَلبَسُ، ولا تُكلِّفوهم ما يَغلِبُهم، فإن كَلَّفتُموهم فأعينوهم)) [4599] رواه مطولًا البخاري (30) واللفظ له، ومسلم (1661). .
6- أكلُ مالِ الغَيرِ بغَيرِ حَقٍّ: وهو أنواعٌ
 ومنه:
أ- أكلُ أموالِ النَّاسِ بالباطِلِ: قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء: 29 - 30] .
 (يُنادي اللهُ تعالى عِبادَه المُؤمنينَ بعُنوانِ الإيمانِ، فيقولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. وينهاهم عن أكلِ أموالِهم بَينَهم بالباطِلِ بالسَّرِقةِ أو الغِشِّ أو القِمارِ أو الرِّبا، وما إلى ذلك من وُجوهِ التَّحريمِ العَديدةِ، فيقولُ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل، أي: بغَيرِ عِوضٍ مُباحٍ، أو طِيبِ نَفسٍ، ثُمَّ يستَثني ما كان حاصِلًا عن تِجارةٍ قائِمةٍ على مَبدَأِ التَّراضي بَينَ البَيِّعينِ؛ لحَديثِ: ... ((البَيِّعانِ بالخيارِ ما لم يتَفرَّقا)) [4600] أخرجه مسلم (1532). . فقال تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ، فلا بَأسَ بأكلِه؛ فإنَّه حَلالٌ لكم. هذا ما تَضَمَّنَته الآيةُ كما قد تَضَمَّنَت حُرمةَ قَتلِ المُؤمنينَ لبَعضِهم بَعضًا، فقال تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ.
والنَّهيُ شامِلٌ لقَتلِ الإنسانِ نَفسَه وقَتلِه أخاه المُسلمَ؛ لأنَّ المُسلمينَ كجِسمٍ واحِدٍ، فالذي يقتُلُ مُسلمًا منهم كأنَّما قَتَل نَفسَه، وعلَّل تعالى هذا التَّحريمَ لنا، فقال: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا؛ فلذا حَرَّمَ عليكم قَتلَ بَعضِكم بَعضًا.
هذا ما تَضَمَّنَته الآيةُ الأولى، أمَّا الآيةُ الثَّانيةُ فقد تَضَمَّنَت وعيدًا شَديدًا بالإصلاءِ بالنَّارِ والإحراقِ فيها كُلَّ من يقتُلُ مُؤمنًا عُدوانًا وظُلمًا، أي: بالعَمدِ والإصرارِ والظُّلمِ المَحضِ، فقال تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أي: القَتلَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ أي: الإصلاءُ والإحراقُ في النَّارِ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا؛ لكَمالِ قُدرَتِه بهذا العَذابِ؛ إذ لا يستَطيعُ أن يدفعَ ذلك عن نَفسِه بحالٍ من الأحوالِ) [4601] ((أيسر التفاسير)) للجزائري (1/466، 467). .
ب- أكلُ أموالِ الضُّعَفاءِ كاليتامى:
 قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء: 10] .
يقولُ الفخرُ الرَّازيُّ: (اعلَمْ أنَّه تعالى أكَّدَ الوعيدَ في أكلِ مالِ اليتيمِ ظُلمًا، وقد كثُرَ الوعيدُ في هذه الآياتِ مَرَّةً بَعدَ أُخرى على من يفعلُ ذلك، كقَولِه:  وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [النساء: 2] وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا [النساء: 9] ، ثُمَّ ذَكرَ بَعدَها هذه الآيةَ مُفرَدةً في وعيدِ من يأكُلُ أموالهم، وذلك كُلُّه رَحمةٌ من الله تعالى باليتامى؛ لأنَّهم لكمالِ ضَعفِهم وعَجزِهم استَحَقُّوا من اللهِ مَزيدَ العِنايةِ والكرامةِ، وما أشَدَّ دَلالةَ هذا الوعيدِ على سَعةِ رَحمَتِه وكثرةِ عَفوِه وفضلِه! لأنَّ اليتامى لمَّا بَلغوا في الضَّعفِ إلى الغايةِ القُصوى بَلغَت عِنايةُ اللهِ بهم إلى الغايةِ القُصوى) [4602] ((مفاتيح الغيب)) للرازي (9/506). .
وعن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (إيَّاكم ودَعوةَ المَظلومِ، ودَعوةَ اليتيمِ؛ فإنَّهما تَسريانِ باللَّيلِ والنَّاسُ نيامٌ) [4603] أخرجه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 221). .
وقال: (إنَّ أبغَضَ النَّاسِ إليَّ أن أظلِمَه من لا يستَعينُ عليَّ إلَّا اللهَ) [4604] أخرجه ابن سعد في ((الطبقات الكبير)) (4/ 356). .
ج- الرِّبا:
 قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء: 160 - 161] .
 (ما زال السِّياقُ في اليهودِ من أهلِ الكِتابِ يُبَيِّنُ جَرائِمَهم ويكشِفُ السِّتارَ عن عَظائِمِ ذُنوبِهم؛ ففي الآيةِ الأولى سَجَّل عليهم الظُّلمَ العَظيمَ الذي به استَوجَبوا عِقابَ اللهِ تعالى حَيثُ حَرَّمَ عليهم طَيِّباتٍ كثيرةً كانت حَلالًا لهم، كما سَجَّل عليهم أقبَحَ الجَرائِمِ، وهي صَدُّهم أنفُسَهم وصَدُّ غَيرِهم عن سَبيلِ اللهِ تعالى، وذلك بجُحودِهم الحَقَّ وتَحريفِهم كلامَ اللهِ، وقَبولِهم الرِّشوةَ في إبطالِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ. هذا ما تَضَمَّنَته الآيةُ الأولى، أمَّا الثَّانيةُ فقد تَضَمَّنَت تَسجيلَ جَرائِمَ أُخرى على اليهودِ، وهي أوَّلًا: استِباحَتُهم للرِّبا وهو حَرامٌ، وقد نُهُوا عنه، وثانيًا: أكلُهم أموالَ النَّاسِ بالباطِلِ، كالرِّشوةِ والفتاوى الباطِلةِ التي كانوا يأكُلونَ بها. وأمَّا قَولُه تعالى في خِتامِ الآيةِ: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا فهو زيادةٌ على عِقابِهم به في الدُّنيا، أعَدَّ لمَن كَفرَ منهم وماتَ على كُفرِه عَذابًا أليمًا موجِعًا يُعَذَّبونَ به يومَ القيامةِ) [4605] ((مفاتيح الغيب)) للرازي (1/573). .
د- الرِّشوةُ:
 قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لعنَ رَسولُ اللهِ الرَّاشيَ والمُرتَشيَ)) [4606] رواه أبو داود (3580)، والترمذي (1337) واللفظ لهما، وابن ماجه (2313) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه الترمذي، وابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (3/548)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3580)، وحسَّنه البغوي في ((شرح السنة)) (5/330). .
يقولُ المُناويُّ: (الرِّشوةُ على تَبديلِ أحكامِ اللهِ إنَّما هي خَصلةٌ نَشَأت من اليهودِ المُستَحِقِّينَ اللَّعنةَ، فإذا سَرَتِ الخَصلتانِ إلى أهلِ الإسلامِ استَحَقُّوا من اللَّعنِ ما استَحَقَّه اليهودُ) [4607] ((فيض القدير)) (5/268). .
ه- الغِشُّ في المُعامَلاتِ:
قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن غَشَّنا فليس منَّا)) [4608] رواه مسلم (101) مطوَّلًا من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
قال المُناويُّ مُعلِّقًا على هذا الحَديثِ: (أي: ليس على منهاجِنا؛ لأنَّ وصفَ المُصطَفى صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم وطَريقَتَه الزُّهدُ في الدُّنيا والرَّغبةِ فيها، وعَدَمُ الشَّرَهِ والطَّمَعِ الباعِثَينِ على الغِشِّ) [4609] ((فيض القدير)) (6/186). .
ويقولُ ابن حجر الهيتمي: (ليتَأمَّلِ الغَشَّاشُ بخُصوصِه قَولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "مَن غَشَّنا فليس منَّا"، يَعلَمْ أنَّ أمرَ الغِشِّ عَظيمٌ، وأنَّ عاقِبَتَه وخيمةٌ جِدًّا؛ فإنَّه رُبَّما أدَّت إلى الخُروجِ عن الإسلامِ، والعياذُ باللهِ تعالى، فإنَّ الغالبَ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يقولُ ليس منَّا إلَّا في شَيءٍ قَبيحٍ جِدًّا يُؤَدِّي بصاحِبِه إلى أمرٍ خَطيرٍ، ويُخشى منه الكُفرُ، فإنَّ لمَن يُعَرِّضُ دينَه إلى زَوالٍ، ويسمَعُ قَولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "مَن غَشَّ فليس منَّا"، ولا ينتَهي عن الغِشِّ إيثارًا لمَحَبَّةِ الدُّنيا على الدِّينِ ورِضًا بسُلوكِ سَبيلِ الضَّالِّين) [4610] ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) (1/401). .
و- التَّطفيفُ في المكيالِ والميزانِ
قال تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [الأنعام: 152] .
 قوله: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ (أي: بالعدلِ والوفاءِ التَّامِّ، فإذا اجتَهَدْتُم في ذلك، فـ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أي: بقدرِ ما تسعُه، ولا تضيقُ عنه. فمَن حرَص على الإيفاءِ في الكيلِ والوزنِ، ثمَّ حصَل منه تقصيرٌ لم يُفرِّطْ فيه، ولم يَعْلَمْه، فإنَّ اللهَ عفوٌّ غفورٌ) [4611] ((تفسير السعدي)) (ص: 280). .
وقال تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [الإسراء: 35] .
قوله: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ أي: مِن غيرِ تَطْفيفٍ، ولا تَبْخسوا النَّاسَ أشياءَهم. وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ أي: الميزانِ. الْمُسْتَقِيمِ أي: الذي لا اعوجاجَ فيه، ولا انحرافَ، ولا اضطرابَ. ذَلِكَ خَيْرٌ أي: لكم في معاشِكم ومعادِكم؛ ولهذا قال: وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي: مآلًا ومنقلبًا في آخرتِكم [4612] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/74). .
وقال تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين: 1 - 3] .
وفي هذه الآيةِ تحذيرٌ للمسلمينَ مِن التَّساهُلِ في التَّطفيفِ -إذ كان وجودُه فاشيًا في المدينةِ في أوَّلِ هجرتِهم- وذمٌّ للمشركينَ مِن أهلِ المدينةِ وأهلِ مكَّةَ. وحسبُهم أنَّ التطفيفَ يجمعُ ظلمًا واختلاسًا ولُؤْمًا [4613] ((تفسير ابن عاشور)) (30/ 192). .
ز- المَيسِرُ:
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة:90-91] .
ح- الغُلولُ:
قال تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ [آل عمران: 161] .
(الغُلولُ هو: الكِتمانُ من الغَنيمةِ، والخيانةُ في كُلِّ مالٍ يتَولَّاه الإنسانُ، وهو مُحرَّمٌ إجماعًا، بل هو من الكبائِرِ، كما تَدُلُّ عليه هذه الآيةُ الكريمةُ وغَيرُها من النُّصوصِ، فأخبَرَ اللهُ تعالى أنَّه ما ينبَغي ولا يليقُ بنَبيٍّ أن يَغُلَّ؛ لأنَّ الغُلولَ -كما عَلِمتَ- من أعظَمِ الذُّنوبِ وأشَرِّ العُيوبِ.... ثُمَّ ذَكرَ الوعيدَ على من غَلَّ، فقال: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامةِ أي: يأتِ به حامِلَه على ظَهرِه، حَيوانًا كان أو مَتاعًا، أو غَيرَ ذلك؛ ليُعَذَّبَ به يومَ القيامةِ، ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ الغالُّ وغَيرُه، كُلٌّ يُوفَّى أجرَه ووِزرَه على مِقدارِ كَسْبِه، ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ أي: لا يُزادُ في سَيِّئاتِهم، ولا يُهضَمونَ شَيئًا من حَسَناتِهم) [4614] ((تيسير الكريم الرحمن)) السعدي (ص: 155). .
ط- الهدايا التي تُهدى للمُوَظَّفِ بسَبَبِ وَظيفتِه:
عن أبي حُمَيدٍ السَّاعِديِّ قال: ((استَعملَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَجُلًا على صَدَقاتِ بَني سُلَيمٍ يُدعى ابنَ اللُّتَبيَّةِ، فلمَّا جاءَ حاسَبَه، قال: هذا مالُكم وهذا هَدِيَّةٌ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فهَلَّا جَلَستَ في بَيتِ أبيك وأُمِّك حتَّى تأتيَك هَدِيَّتُك إن كُنتَ صادِقًا! ثُمَّ خَطَبَنا فحَمِدَ اللهَ وأثنى عليه، ثُمَّ قال: أمَّا بَعدُ؛ فإنِّي أستَعمِلُ الرَّجُلَ منكم على العَمَلِ ممَّا ولَّاني اللهُ، فيَأتي فيَقولُ: هذا مالُكم وهذا هَديَّةٌ أُهدِيَت لي، أفلا جَلَسَ في بَيتِ أبيه وأُمِّه حتَّى تَأتيَه هَدِيَّتُه؟! واللهِ لا يَأخُذُ أحَدٌ منكم شَيئًا بغيرِ حَقِّه إلَّا لَقِيَ اللهَ يَحمِلُه يَومَ القِيامةِ، فلَأَعرِفَنَّ أحَدًا منكم لَقِيَ اللهَ يَحمِلُ بَعيرًا له رُغاءٌ [4615] الرُّغاءُ: صوتُ البعيرِ. يُنظَر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/240)، ((شرح النووي على مسلم)) (12/216). ، أو بقَرةً لها خُوارٌ [4616] الخُوارُ: صوتُ البقَرِ. يُنظَر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/87). ، أو شاةٌ تَيعَرُ [4617] تَيعَرُ: أي: تصيحُ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (5/301). . ثُمَّ رَفَعَ يَدَيه حتَّى رُئِيَ بَياضُ إبْطَيه، يقولُ: اللَّهُمَّ هل بَلَّغتُ، بَصْرَ عَيْني وسَمْعَ أُذُني)) [4618] رواه البخاري (6979) واللفظ له، ومسلم (1832). .

انظر أيضا: