موسوعة التفسير

سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (90 - 93)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ

غريب الكلمات:

الْمَيْسِرُ: القِمار؛ مِن قولهم: يَسَرَ، إذا ضَرَب بالقِداحِ، وأصلُ (يسر): يَدُلُّ على انْفِتاحِ شَيءٍ وخِفَّتِه [1644] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 145)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/410)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/156). .
الْأَنْصَابُ: جمْع نُصُب، وهو: حَجرٌ أو صَنمٌ يَذبحون عندَه، أو يُنصَبُ للعبادةِ، وأصل (نصب): يدلُّ على إقامةِ شيءٍ، وإهدافٍ في استواءٍ [1645] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 140، 486)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (13/43)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/434)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 78)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 147). .
الْأَزْلَامُ: أي: القِداحُ التي كانوا يَضربون بها، ثم يعملون بما يخرجُ فيها مِن أمرٍ أو نهيٍ، أو التي يَضربون بها على الميسرِ، أو هي سِهامُ العَرَب، مفردها: زلَم [1646] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 141)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 55)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/18)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 79)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 148)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 82). .
رِجْسٌ: أي: قذَرٌ مُنْتِن، وأصل (رجس): يدلُّ على اختلاطٍ [1647] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 145)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/490)، ((المفردات)) للراغب (ص: 342)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 199). .
الشَّيْطَانِ: إبليسَ؛ وكلُّ عاتٍ مُتمرِّدٍ مِن الجنِّ والإنسِ والدوابِّ: شيطانٌ، وأصلُه من (شطَن) إذا تباعَد؛ وذلك لبُعدِه عن الخيرِ أو رَحمةِ اللهِ تعالى. وقيل: أصله مِن (شَيَط) إذا احترَق [1648] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/184، 234)، ((المفردات)) للراغب (ص: 454)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 51). .
يَصُدَّكُمْ: أي: يَصرِفَكم ويَمنعَكم، والصدُّ: الإعراضُ والعدولُ، ويُطلَق أيضًا على الانصرافِ عن الشيءِ والامتناعِ عنه، وأصل (صدد): صرَف ومنَع [1649] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/282)، ((المفردات)) للراغب (ص: 477). .
جُنَاحٌ: إثمٌ؛ سُمِّي الإثمُ بذلك لِمَيلِه عن طريقِ الحقِّ؛ فأصل (جنح): مال وتَعدَّى [1650] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 66)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/484)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 98). .

المعنى الإجمالي:

يُبيِّنُ اللهُ تعالى لعبادِه المؤمنين أنَّ الخَمْرَ والقِمار، وما يُنصَب لعبادةِ غيرِ الله، والقِدَاحَ التي يُضرَب بها؛ ليُعملَ بما يخرجُ فيها مِن أمرٍ أو نهْيٍ، ويُعرف عن طريقِها ما قُسِم للإنسانِ مِن خيرٍ أو شرٍّ؛ هذه الأربعةُ أمورٌ مستقذَرةٌ ينأى عنها العُقلاءُ، وتَعافُها النُّفوس؛ فهي مِن تزيينِ الشيطان، فيجبُ عليهم الابتعادُ عنها واجتنابُها؛ حتى يُفلحوا؛ فالشيطانُ الرجيمُ يُريد بتَزْيينِه هذه المُنكَرَاتِ أن يُوقِعَ بينهم العداءَ والتباغُضَ، ويثيرَ في نفوسِهم الأحقادَ؛ بسببِ تعاطي الخمرِ والقِمار، فإنَّ مَن سَكِر، اختلَّ عقلُه، فربَّما تسلَّط على أذَى النَّاس في أنفسِهم وأموالِهم، وربَّما بلَغ به ذلك إلى القتلِ، ومَن قامَرَ فربَّما خَسِر مالَه، فلم يبقَ له شيءٌ، فيشتد حِقْدُه على مَن أخَذ مالَه. كما يريدُ الشيطانُ أيضًا أن يَصدَّهم عن ذِكْرِ الله وعن الصَّلاة، إذا تبيَّن لهم هذا فهلَّا انتَهَوْا عن تلك الأمورِ المستقبَحةِ.
ثم يأمرُ اللهُ عِبادَه المؤمنين أن يُطيعوه جلَّ وعلا، ويُطيعوا رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأن يَحذَروا مِن المخالَفةِ لأمْرِ اللهِ ورسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلام، فإنْ أعْرَضوا عن الطَّاعةِ فلْيَعلموا أنَّما على الرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ البلاغُ عن الله تعالى، وأمَّا عقوبةُ مَن تولَّى وحسابُه فعلى الله عزَّ وجلَّ وَحْدَه.
ثم يُبَيِّنُ تعالى أنَّه ليس على الذين آمنوا وعَمِلوا الصالحاتِ إثمٌ فيما شَرِبوا وأكَلوا ممَّا حرَّم الله تعالى إذا فَعَلوا ذلك قَبل نُزولِ تحريمِه أو قَبْل مَعْرِفَتِهم بتحريمِه، إذا ما اجتنَبوا ما حرَّمَ اللهُ، وآمَنوا به، وعمِلوا الصالحاتِ، ثم استمرُّوا على اجتنابِ ما حرَّم تعالى، وعلى الإيمانِ به، ثم استمرُّوا على اجتنابِ ما حرَّم اللهُ تعالى؛ حتى بَلَغوا مَرتبةَ الإحسانِ، واللهُ تعالى يحبُّ المحسنينَ في عِبادتِه، والذين يُحسِنون إلى عِبادِه.

تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أحلَّ اللهُ عزَّ وجلَّ الطيِّباتِ حرَّم الخبائثَ الْمُفْضيةَ إلى مفاسدَ؛ ولَمَّا كان الخمرُ والميسِرُ مِن جملةِ الأُمورِ المستطابةِ في جاهليَّتهم؛ بيَّن أنَّهما غيرُ داخِلَينِ في المحلَّلات، والميْسِرُ كان وسيلة للكسْبِ والأكْل؛  فكانتْ هذه الآيةُ كالاحتراسِ عمَّا قد يُساءُ تأويلُه مِن قَوْلِه سبحانه: لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [1651] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (12/66)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/21). ، فقال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ.
أي: يا أيُّها المؤمنونَ، إنَّ الخمرَ والقِمارَ وما نُصِبَ لعبادةِ غيرِ الله تعالى، والأزلامَ التي يُسْتَقْسَم بها، كما كانتِ العربُ في جاهليَّتِها يَتعاطَون ذلك، وهي عبارةٌ عن قِداح ثلاثةٍ، مكتوبٌ على أحدِها: «افْعَل»، وعلى الآخَر: «لا تفعل»، والثَّالث ليس عليه شيءٌ، وقِيل: كان يُكتَب على الواحدِ منها: «أَمَرني ربِّي»، وعلى الآخَر: «نَهاني ربِّي»، والثالث ليس عليه شيءٌ، فإذا أجالَها فطَلَع السَّهمُ الآمِرُ فَعَلَه، أو النَّاهي ترَكَه، وإنْ طلَعَ الفارغُ أعاد الاستقسامَ، حتى يَخرُجَ أحدُ القَدَحينِ الآخَرَينِ فيَعملَ به [1652] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/72، 655-656)، ((تفسير ابن كثير)) (3/178)، ((تفسير السعدي)) (ص: 243)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/328-329). واختار ابنُ جرير أنَّ المراد بالأنصاب: الأنصابُ التي يُذبح عندها. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/655)، .
رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ.
أي: إنَّ تلك الأشياءَ ما هي إلا خُبثٌ ونَتَنٌ وأمورٌ مُستقذَرَة، يَنبغي أن تَعافَها النُّفوسُ، وهي مِن تزيينِ الشيطان، ووحْيِه إليكم؛ ليُرغِّبَكم في إتيانِها وتعاطيها [1653] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/656)، ((تفسير السعدي)) (ص: 243)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/426)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/329). واختلف أهلُ العلمِ في هل الخمر نجسةٌ نجاسةً عينيَّة أو لا. يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/426-428)، ((مختصر فقه الطهارة)) (ص: 143). .
فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
أي: فابْتَعِدوا عن هذا الرِّجْس؛ كيما تَظْفَروا بما تَطلُبون، وتَنجوا ممَّا تَرهَبُون [1654] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/656)، ((تفسير ابن كثير)) (3/179)، ((تفسير السعدي)) (ص: 243)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/330). .
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى باجتنابِ الخمرِ والميسرِ، عقَّب بذِكر نوعينِ من المفسدةِ التي تترتَّبُ على تعاطيها وارتكابها: الأول: ما يتعلَّق بالدُّنيا، وهو قوله: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، والثاني ما يَتعلَّق بالدِّين وهو قولُه تعالى: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ [1655] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (12/424). .
سَببُ النُّزولِ:
عن مُصعَبِ بنِ سَعدٍ، عن أبيه، أنَّه قال: أتيتُ على نفرٍ مِنَ الأنصارِ والمهاجرينَ، فقالوا: تعالَ نُطْعِمْك، ونَسْقِك خمرًا، وذلك قبل أنْ تُحرَّم الخمرُ، قال: فأتيتُهم في حَشٍّ- والحَشُّ البُستانُ - فإذا رأسُ جَزورٍ مشويٌّ عندهم، وزِقٌّ مِن خَمْر، قال: فأكلتُ وشَرِبْتُ معهم، قال: فذكرتُ الأنصارَ والمهاجرينَ عندهم، فقُلْتُ: المهاجرون خيرٌ من الأنصارِ، قال فأخَذَ رجلٌ أحدَ لَحْيَيِ الرَّأْسِ فضَربَني به، فجرَح بأنفي، فأتيتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأخبرتُه، فأنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ فيَّ- يعني: نفْسَه - شأنَ الخمرِ: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [1656] رواه مسلم (1748). [المائدة: 90] .
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ.
أي: إنَّما يُريدُ لكم الشيطانُ- عن طَريقِ شُربِ الخمرِ وتَعاطِي القِمار- أن يُعاديَ بعضُكم بعضًا بأفعالِهم، ويُبغضَ بعضُكم بعضًا بقلوبِهم، فيُشتِّت أمرَكم بعد تأليفِ الله تعالى بين قلوبِكم [1657] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/656-657)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/457)، ((تفسير السعدي)) (ص: 243)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/330-331). .
وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ.
أي: ويُريدُ الشيطانُ أنْ يَصرِفَكم بغَلَبةِ هذه الخمرِ على عُقولِكم، وباشتغالِكم بهذا الميسِرِ عن ذِكرِ الله تعالى بألسِنَتِكم وجوارحِكم وقُلوبِكم، وعن الصَّلاةِ التي بها فلاحُكم [1658] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/657)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/457-458)، ((تفسير السعدي)) (ص: 243)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/331-333). .
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ.
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بَيَّن تعالى اشتمالَ شُرْبِ الخمرِ واللَّعِب بالميسرِ على هذه المفاسِدِ العظيمةِ في الدِّين [1659] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (12/425). ، قال تعالى:
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ.
أي: فهلْ تَمتنِعون عن تِلك القبائحِ بعدَ هذا البيانِ الجليِّ والموعظةِ البليغة [1660] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/657، 663)، ((تفسير السعدي)) (ص: 243)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/333). ؟
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا كان الخَمْرُ والميسرُ مألوفًا لهم، محبوبًا عندهم، وكان تركُ المألوفِ أمَرَّ مِن ضَرْبِ السُّيوف؛ أكَّد دعوتَهم إلى اجتنابِه، مُحذِّرًا من المخالفةِ بقولِه [1661] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/294). :
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا.
أي: وأطيعوا اللهَ تعالى، وأطيعوا رسولَه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بفِعلِ الأوامرِ، واجتنابِ النَّواهي؛ ومِن ذلك اجتنابُ تلك القَبائحِ، واحذروا من مَعصيةِ اللهِ تعالى، ومَعْصِيةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [1662] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/663)، ((تفسير السعدي)) (ص: 243)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/354-355). .
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ.
أي: فإنْ أنتم أعرضتُم عن طاعةِ الله تعالى وطاعةِ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فاعْلَموا إذنْ أنَّه ليس على مَن أرسَلْناه إليكم سِوى إبلاغِكم رسالةَ ربِّكم بجَلاءٍ ووُضُوحٍ، وأمَّا إيقاعُ العقابِ بكم إذا تولَّيْتم عنها، فعلى الله تعالى وحْدَه [1663] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/663-664)، ((تفسير السعدي)) (ص: 243)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/355-356).   .
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93).
سَببُ النُّزول:
عن أنسٍ رضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كنتُ ساقِيَ القومِ في مَنزلِ أبي طَلحةَ، وكان خمرُهم يومئذٍ الفَضيخَ [1664] الفَضِيخ: هو شرابٌ يُتَّخذ من البُسْرِ المَفضوخ- أي: المَشْدوخ- وحْدَه، من غيرِ أن تمسَّه النار. ينظر: ((الصحاح)) للجوهري (1/429)، ((النهاية)) لابن الأثير (3/453). فأمَر رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مناديًا يُنادي: ألَا إنَّ الخمرَ قد حُرِّمت، قال: فقال لي أبو طَلحةَ: اخرُجْ فأهرِقْها. فخرَجْتُ فهَرَقْتُها فجرَتْ في سِكَكِ المدينةِ، فقال بعضُ القَوْمِ: قد قُتِل قومٌ وهي في بُطونِهم؛ فأنزَلَ اللهُ: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا الآيَةَ)) [1665] رواه البخاريُّ (2464) واللفظ له، ومسلم (1980). .
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا.
أي: ليس على المؤمنينِ الذين يَعملون الأعمالَ الصالحة؛ إثمٌ فيما شَرِبوا وأَكَلوا ممَّا حرَّمَ الله تعالى قبلَ نُزولِ تحريمِه ومعرفتِه، وذلك كالخمرِ التي كانوا يَشربونها، والقِمارِ الذي كانوا يَتعاطَوْنه [1666] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/664)، ((تفسير السعدي)) (ص: 243)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/365-368). قال مكي: (فهذه الآيةُ نزلت في قولِ الجميعِ فيمَن مات منهم وهو يشربُها، اعلموا أنه لا جناحَ عليهم) ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) (3/1867). .
إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.
أي: يُنفَى عنهم الإثمُ بشَرْط أن يَجتنبوا ما حرَّم اللهُ تعالى، ومِن ذلك ما حرَّمَ عليهم من مَطعوماتٍ، ويُؤمنوا باللهِ تعالى إيمانًا صحيحًا، يَدعوهم إلى اكتسابِ الأعمالِ الصَّالحات [1667] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/664)، ((تفسير السعدي)) (ص: 243)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/369). .
ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا.
أي: ثم استمرُّوا على اجتنابِ ما حُرِّم عليهم، وثَبَتوا واستمرُّوا على الإيمانِ به سبحانه، دون أن يُغيِّروا أو يُبدِّلوا [1668] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/664)، ((تفسير السعدي)) (ص: 243)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/369). .
ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا.
أي: ثمَّ داوَمُوا على اجتنابِ المحرَّماتِ، حتى دعاهم ذلك إلى بُلوغِ الإحسانِ في فِعل الطَّاعاتِ [1669] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/664-665)، ((تفسير السعدي)) (ص: 243)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/369-370). .
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
أي: والله تعالى يحِبُّ المحسنِينَ في عِبادتِه، الذين يَعبُدونه سبحانه كأنَّهم يَرونَه، المحسنِين في نَفْعِ عِبادِه [1670] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/665)، ((تفسير السعدي)) (ص: 243)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/370-373). .

الفوائد التربوية:

1- بَدْؤُه تعالى الكلامَ بهذا الوَصْفِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يدلُّ على أنَّ العملَ به تَصديقًا أو امتثالًا من مقتضياتِ الإيمانِ، كذلك أيضًا: يدلُّ على أنَّ مخالفتَه، أو الشكَّ فيه، أو تكذيبَه منافٍ للإيمانِ؛ إمَّا لأصلِه أو لكمالِه، وثالثًا: أنَّ في هذا إغراءً للمخاطَب، كأنَّه يقول: إنْ كنتَ مؤمنًا فاستمعْ وامتثِلْ [1671] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/327). .
2- يَكفي أنْ يعلمَ المؤمنُ أنَّ شيئًا ما مِن عملِ الشَّيطانِ؛ لينْفِرَ منه حسُّه، وتَشمئزَّ منه نفْسُه، ويَبعُدَ عنه من خوفٍ ويتَّقيَه! فالشيطانُ عدوُّ الإنسانِ القديمُ؛ لذا قال تعالى: رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فتَعاطي هذه المحرَّماتِ بتسويلٍ من الشيطان، فكأنَّ الذي عمِلَها وتعاطاها هو الشَّيطانُ، وفي ذلِك تنفيرٌ لمتعاطيها بأنَّه مَن عَمِلَ عَمَلَ الشيطانِ، فهو شيطانٌ، وذلك ممَّا تأباه النُّفوسُ، ولم يكتفِ بذلك ذمًّا لهذا العَمَل، بل وفي هذه اللَّحظة يَصدُر النَّهيُ مصحوبًا كذلك بالإطماعِ في الفَلاح، وهي لمسةٌ أخرى من لمساتِ الإيحاءِ النفسيِّ العميقِ، فقال: فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [1672] يُنظر:  ((تفسير ابن عاشور)) (7/24). .
3- قَوْلُه تعالى: رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فيه بيانُ أنَّه لا مَعصيةَ أعظمُ وأقبحُ من معصيةٍ تُدنِّس صاحبَها، وتجعلُه من أهل الخُبثِ، وتُوقِعُه في أعمالِ الشَّيطانِ وشِباكه، فينقادُ له كما تنقادُ البهيمةُ الذليلةُ لراعيها، وتَحولُ بين العبدِ وبين فلاحِه، وتُوقِعُ العداوةَ والبغضاءَ بين المؤمنين، وتصدُّ عن ذِكر اللهِ وعن الصَّلاة؟ فهل فوقَ هذه المفاسدِ شيءٌ أكبرُ منها [1673] يُنظر: (تفسير السعدي)) (ص: 243). ؟!
4- فضيلةُ الصَّلاةِ لتَخصيصِها بالذِّكر مِن بين ذِكرِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لِقَوْلِه: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وهذا يدلُّ على شَرَفِها وفَضلِها على غيرِها [1674] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (1/396)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/353). .
5- أنَّ كَلَّ ما صدَّ عن ذِكرِ الله فهو مِن أوامرِ الشَّيطانِ؛ لِقَوْلِه: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وذِكرُ الله تبارك وتعالى يكونُ بالقلبِ واللِّسان والجوارحِ، فكلُّ ما صدَّك عن ذِكرِ اللهِ من هذه الأشياءِ، فهو من أوامِر الشيطانِ وإراداتِه [1675] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/353). .
6- أنَّ كلَّ ما وقَع في قلبك مِن التثاقُل عن الصَّلاة، فاعلمْ أنَّه من الشَّيطانِ، ومرادِ الشيطان؛ لِقَوْلِه: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ [1676] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/353). .
7- في قولِه تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ الحضُّ على ترْكِ هذه الخبائثِ، والإقلاعِ عنها؛ لأنَّ العاقِلَ إذا نظَر إلى بعضِ تِلك المفاسدِ انزجَر عنها وكفَّتْ نفْسُه، ولم يَحتَجْ إلى وعْظٍ كثيرٍ، ولا زجرٍ بليغٍ [1677] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 243). .
8- في قوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ بيانُ أنَّ طاعةَ الله وطاعةَ رسولِه واحدةٌ، فمَن أطاعَ الله فقدْ أطاعَ الرسولَ، ومَن أطاع الرسولَ فقد أطاع اللهَ، وذلك شاملٌ للقِيامِ بما أمَر اللهُ به ورسولُه من الأعمال والأقوالِ، الظاهرةِ والباطِنة، الواجبةِ والمستحبَّةِ، المتعلِّقة بحقوقِ اللهِ وحقوقِ خَلْقِه، والانتهاءِ عمَّا نهى الله ورسولُه عنه كذلك [1678] يُنظر: (((تفسير السعدي)) (ص: 243). .
9- أنَّ تولِّيَ الناسِ عمَّا يدعو إليه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا يضرُّه، ولا يُلامُ عليه؛ لِقَوْلِه: فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ؛ لأنَّه إذا كان ليس عليه إلَّا البلاغُ، فإنَّه لن يضرَّه تولِّيهم ولا يُلام عليه، ويتفرَّع على ذلك: أنَّ الداعيةَ إلى الله في وقتِنا وفيما قبْلَه لا يضرُّه ألَّا يَقبلَ الناسُ منه؛ لأنَّه أدَّى الواجبَ، ويَنبغي أن يُفَرِّحَ نفْسَه بأنَّه أدَّى الواجِبَ، وألَّا يحزنَ بعدم قبولِهم دعوتَه؛ لأنَّ الله تعالى قال للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: 127] ، لكن ربَّما نقول: يحزنُ لعدمِ قَبولِ الشَّريعة، لا لعدمِ قبولِهم منه، والفرقُ بين هذا وهذا واضحٌ [1679] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/361). .
10- وجوبُ الرُّجوعِ إلى قولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لِقَوْلِه: فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، وأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قام بالواجِب، فعلينا- نحن- أن نقومَ بالواجِبِ [1680] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/361). .
11- قَوْلُه تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا، فيه ثناءٌ من الله، وحَمْدٌ لأحوال مَن يتَّصِفون بهذه الصِّفات: الإيمانِ والتقوى والإحسان، وهذا مدعاةٌ لتحرِّيها والاتصافِ بها [1681] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (12/427). .
12- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا القيودُ الشَّديدة في نفْيِ الإثمِ عمَّن أكَل أو شَرِب في مأكولِه ومَشروبِه، والتقوى ذُكرتْ في الآيةِ ثلاثَ مرَّات، والإيمانُ مرَّتين، والإحسانُ مرَّة، قيودٌ شديدة عظيمة؛ فينبغي الحَذَر من أنْ يكون في المطعومِ إثمٌ [1682] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/371). .
13- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا أنَّ مَن أكَلَ حلالًا بكسْبٍ حرامٍ فعليه الإثمُ؛ لأنَّه لم يتَّقِ اللهَ في كسْبِه، ولا بدَّ أن يتَّقيَ اللهَ عزَّ وجلَّ، وإذا كان الشيءُ المحرَّمُ مُعَيَّنًا فيكون الآكِلُ كالكاسِب، مثل: أنْ أعرفَ أنَّ هذه الشَّاةَ التي ذبَحَها إكرامًا لي قد سرقَها من فلانٍ، فهذه حرامٌ عليَّ أنْ آكُلَها [1683] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/372). .
14- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا فضيلةُ الإحسانِ إلى الخَلْق والإحسانِ في عِبادةِ الخالِق؛ فالإحسانُ إلى الخَلْق أن تبذُلَ جاهَك، تبذل مالَك، تبذل خِدمتك، تبذل منفعتَك البدنيَّة، والإحسانُ في عبادة الخالِقِ فسَّره أعلمُ الناسِ بمعناه، وهو النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله: ((أنْ تَعبُدَ اللهَ كأنَّك تراه، فإنْ لم تكُن تراه فإنَّه يَراك )) [1684] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/373). والحديث أخرجه البخاري (50)،  ومسلم (10) من حديث أبي هريرة، وأخرجه مسلم (8) من حديث عمر. .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- أطْلقَ اللهُ عزَّ وجلَّ الإيمانَ في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ولم يَذكُر ما يُؤمَن به؛ لأنَّ ذلك معلومٌ، وقد سأل جِبريلُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عنه؛ أي: عن الإيمانِ، فقال: ((أنْ تُؤمِنَ بالله، وملائكتِه، وكُتُبه، ورُسلِه، واليومِ الآخِر، والقَدَرِ خيرِه وشرِّه )) [1685] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/327). والحديث أخرجه مسلم (8) من حديث عمر رضي الله عنه. .
2- قَوْلُه: إِنَّمَا الْخَمْرُ... يُستفادُ منه تحريمُ الخمرِ مِن أيِّ شيءٍ كان، سواءٌ من العِنب أو مِن الرُّطَب، أو مِن الشَّعير، أو مِن البُرِّ، أو من أيِّ شيءٍ؛ لعمومِ الآيَةِ [1686] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/44)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/333). .
3- قولُه تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ... يُستفادُ من الآيَةِ تحريمُ الميسرِ قليلِه وكثيرِه؛ للعموم، حتى لو كانتِ المغالَبةُ بقِرشٍ واحدٍ، ولو يَسيرًا؛ لأنَّنا نقول: قليلُ الميسرِ الذي لا يُجحِف بمالِ الإنسانِ، ولا يُهتمُّ به، كقليلِ الخمرِ الذي إذا كان قليلًا لم يُسْكِر، وإذا كان كثيرًا أسْكَر، ولا شكَّ أنَّ المغالَبَةَ إذا كانتْ في شيءٍ يسيرٍ تجرُّ إلى المغالبةِ في شيءٍ كثيرٍ، ويُستثنَى من ذلك ما مَصلحتُه أعْلَى مِن مفسَدَتِه، وذلك في ثلاثةِ أشياءَ بَيَّنَها النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّمَ فقال: ((لا سَبَقَ إلَّا في نصْلٍ أو خُفٍّ أو حافِرٍ )) [1687] أخرجه أبو داود (2574)، والترمذيُّ (1700)، والنَّسائيُّ (3585)، وأحمد (10142) من حديث أبي هُرَيرَة رضي الله عنه. حسَّنه التِّرمذي، وقال العُقيليُّ- كما في ((لسان الميزان)) لابن حجر (6/327)-: رواه الناسُ عن ابن أبي ذِئب، عن أبي هُرَيرة، وهو الصَّحيح. واحتجَّ به ابن حزم في ((المحلى)) (7/354)، وصحَّحه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/160)، وصحَّح إسنادَه ابنُ القَطَّان في ((الوهم والإيهام)) (5/382)، وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2574). - السَّبَق بفَتْح الباءِ- هو: العِوَضُ المأخوذِ على السَّبْقِ- بسكون الباء-، والنَّصل: السِّهام، والخُف: البعير، والحافِر: الفرس- وإنَّما استثنى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ ذلك؛ لأنَّ بها يقومُ الجهادُ في سَبيلِ الله الذي به إعلاءُ كلمةِ الله، وهذه مصلحةٌ عظيمةٌ؛ فإذا رُخِّص للنَّاسِ في أخْذ العِوَضِ عليها، كَثُرَ تسابُقُهم فيها [1688] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/335). .
4- قَوْلُه تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فيه نصٌّ صريحٌ في أنَّ كلَّ مُسْكِرٍ حرامٌ؛ وذلك لأنَّه قال بعده: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فرتَّب النَّهيَ عن شُرْب الخمرِ على كونِ الخَمْرِ مشتملةً على تلك المفاسِد، ومِن المعلومِ في بَدائِهِ العقولِ أنَّ تلك المفاسدَ إنَّما تَولَّدتْ مِن كونِها مؤثِّرةً في السُّكْر، وهذا يُفيد القطعَ بأنَّ عِلَّة قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ هي كونُ الخمرِ مُؤثِّرةً في الإسكارِ، وإذا ثبَت هذا وجبَ القطعُ بأنَّ كلَّ مُسكِرٍ حرامٌ [1689] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (12/426). .
5- للقرآنِ الكريمِ طريقةٌ في بيان العِلل؛ فتارةً يَتقدَّم بيانُ العِلَّة، وتارةً يتأخَّر، يعني: إذا ذَكَر الله حُكمًا، وذَكَر له عِلَّةً، فتارةً يَذكُر العِلة قَبلُ ثم يَبني عليها الحُكمَ، وتارةً يَذكُرُ الحُكمَ ثم يأتي بالعِلَّةِ، حسَبَ ما تَقتضيه الحالُ وقرائنُ السِّياقِ، فهنا ذَكَر العِلَّة قبلَ الحُكم، وهي: رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [1690] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/341). .
6- تحريمُ الأصنامِ؛ لقولِه تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ فالأنصابُ: ما يُنصب ليُعبدَ مِن دون الله، وهو يعمُّ كلَّ ما اتُّخِذَ صَنمًا من أيِّ مادةٍ كان؛ لأنَّ الآيةَ مُطلَقةٌ [1691] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة المائدة)) (2/328، 339). .
7- في قولِه تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ حُذِفَ المتعلَّق لإفادةِ العُموم، فلمْ يَخُصَّ سبحانه وتعالى الاجتنابَ بنَوعٍ من أنواعِ الانتفاعِ؛ فيُحمَل على العُموم، ويكون المعنى: اجتَنِبوا بَيعَه، وشُرْبَه، وإهداءَه، وتخليلَه، وهِبتَه، وغيرَ ذلك [1692] يُنظر: ((قواعد التفسير)) للسَّبت (ص: 599). .
8- رحمةُ اللهِ تبارَك وتعالَى بعِبادِه الَّذين خَلَقَهم لعِبادتِه؛ حيثُ حذَّرهم مِن كلِّ ما فيه ضَررٌ؛ لِقَوْلِه: فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [1693] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/349). .
9- إثباتُ الإرادةِ للشَّيطانِ؛ لِقَوْلِه: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ، والله تعالى يقول: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ [البقرة: 34] ، وقد جادَلَ ربَّه عن إرادةٍ [1694] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/350). .
10- في قولِه تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ اقتصرتِ الآيةُ على تبيينِ مفاسِدِ شُرْبِ الخمرِ وتعاطي الميسِر، دون تَبْيينِ ما في عِبادَةِ الأنصابِ والاستقسامِ بالأزلامِ من الفَسادِ؛ وذلك لأنَّ إقلاعَ المسلمينَ عنهما قد تَقرَّر قَبلَ هذه الآيةِ مِن حِين الدُّخولِ في الإسلامِ؛ لأنَّهما من مآثِر عَقائدِ الشِّركِ، ولأنَّه ليس في النُّفوسِ ما يُدافِعُ الوازعَ الشرعيَّ عنهما بخِلافِ الخَمْر والميسِرِ؛ فإنَّ ما فيهما من اللَّذَّات التي تُزجِي بالنُّفوسِ إلى تَعاطيهما قد يُدافِع الوزاعَ الشرعيَّ؛ فلذلك أكَّد النهيَ عنهما أشدَّ ممَّا أكَّد النهيَ عن الأنصابِ والأزلامِ [1695] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/30). .
11- لَمَّا كانتِ العداوةُ قد تزولُ أسبابُها، ذكَر ما يَنشَأُ عنها ممَّا إذا استحكَم تعسَّر، أو تَعذَّر زوالُه، فقال: وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أي: في تعاطيهما؛ لأنَّ الخَمْرَ تُزيل العَقْلَ، فيزول المانعُ من إظهارِ الكامِنِ من الضَّغائن والمحاسَدة، فربَّما أدَّى ذلك إلى حروبٍ طويلةٍ، وأمورٍ مَهولة، والميسِرُ يُذهِبُ المالَ، فيُوجِبُ ذلك الحقدَ على مَن سَلَبه مالَه، ونغَّص عليه أحوالَه [1696] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/293). .
12- كراهةُ اللهِ تبارك وتعالى للعداوةِ والبغضاءِ بين المسلمينَ؛ لأنَّ قولَه: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلى آخِره، فهذا تحذيرٌ ليس بعدَه تحذيرٌ؛ وذلك لأنَّ الله تعالى أمَرَ بالاجتماعِ ونهَى عن التفرُّقِ، فقال جلَّ وعلا: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [1697] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/350). [آل عمران: 103] .
13- في قولِه تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ناسَب العطفُ في وَأَطِيعُوا على معنى قولِه: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؛ إذ تضمَّن هذا معنى الأمْر، وهو قوله (فَانْتَهُوا) [1698] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/359). .
14- أنَّ طاعةَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مستقلَّة، بمعنى: أنَّه إذا أمَرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بشيءٍ، لا نقول: هل يوجدُ في القرآن هذا الأمرُ أو لا يوجد، بل طاعتُه مستقلَّةٌ؛ وجْه ذلك: أنَّه أعادَ الفِعلَ فقال: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، وإعادة الفِعل تدلُّ على أنَّ طاعةَ الرَّسول مستقلَّةٌ، بمعنى: أنَّنا لا نحتاجُ إلى شاهدٍ مِن القرآنِ فيما أمَرَ به الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم [1699] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/357). .
15- أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يمتازُ عن غيرِه بالرِّسالةِ، والرِّسالةُ من أشرفِ الأوصافِ التي يتَّصِفُ بها العبدُ؛ لِقَوْلِه: الرَّسُولَ، ولا شكَّ أنَّ الرسولَ يَفضُل ويَشرُف بحسَبِ منزلةِ مُرسِله [1700] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/357، 358). .
16- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لا يَستطيعُ أنْ يَهدِيَ أحدًا؛ لأنَّه بلَّغَ البلاغَ المبينَ، ومع ذلك حصَلتِ المخالفةُ والتولِّي [1701] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/361). .

بلاغة الآيات:

1- قَوْلُه: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ... فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ
أكَّد تحريمَ الخمرِ والمَيْسِر في هذه الآية الكريمة بأنواعٍ مِن المؤكِّداتِ [1702] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/674-673)، ((تفسير الرازي)) (12/425)، ((تفسير البيضاوي)) (2/141)، ((تفسير أبي السعود)) (3/75-76)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/23)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/53). :
منها: تصديرُ الجملة بقوله: إِنَّمَا، والقصرُ المستفادُ مِنْ قَوْلِه: إِنَّمَا هو قصرُ مَوصوفٍ على صِفةٍ، أي: إنَّ هذه الأربعةَ المذكوراتِ مقصورةٌ على الاتِّصافِ بالرِّجسِ، لا تتجاوزُه إلى غيرِه، وهو قصرٌ ادِّعائيٌّ؛ للمبالغةِ في عدَم الاعتدادِ بما عدَا صِفةَ الرِّجس من صِفات هذه الأربعةِ.
ومنها: أنَّ اللهَ تعالى جَعَل الخمرَ والميسِرَ رجسًا، وكلمةُ الرِّجْس تدلُّ على منتهى القُبح والخبث؛ ولذلك أُطلِقَت على الأوثانِ؛ فهي أسوأُ مفهومًا من كلمةِ الخبيثِ، وقد عُلِم مِن عِدَّة آياتٍ أنَّ اللهَ أحلَّ الطيِّباتِ، وحرَّم الخبائثَ.
ومنها: أنَّه قرَنَهما بالأصنامِ والأزلامِ التي هي مِن أعمالِ الوثنيَّة، وخُرافاتِ الشِّرك، وسمَّاهما رجسًا، وجعَلهما من عملِ الشيطانِ؛ تنبيهًا على أنَّ الاشتغالَ بهما شرٌّ خالصٌ أو غالبٌ، ولِمَا يَنشأُ عنهما من الشُّرور والطُّغيانِ، ولا يكون عَملُ الشيطانِ إلَّا موجِبًا لسَخطِ الرَّحمنِ؛ فالشَّيطان لا يَأتي منه إلَّا الشرُّ البَحْتُ.
ومنها: أنَّه أمَرَ بالاجتِنابِ عن عينِهما، وجَعْلُ الأمْرِ بترَكِهما مِن مادَّة الاجتنابِ أبلغُ مِن التَّرْكِ؛ لأنَّه يُفيدُ الأمرَ بالتَّرْكِ مع البُعدِ عن المتروكِ بأنْ يكونَ التاركُ في جانبٍ بعيدٍ عن جانبِ المتروك؛ وغالِبُ ما جاءَ في القُرآنِ من التَّعبيرِ بالاجتنابِ جاء في الشِّركِ والطَّاغوتِ الذي يَشملُ الشِّركَ والأوثانَ وسائرَ مَصادرِ الطُّغيان، والكبائرِ عامَّةً، وقَولِ الزُّور الذي هُو مِن أكبرِها؛ قال تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج: 30] ، وقال: وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] ، كما قال: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا [الزمر: 17] ، وقال: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النجم: 32] .
ومنها: أنَّه جعَلَ الاجتنابَ من الفَلاح، وإذا كان الاجتنابُ فلاحًا ومرجاةً له، دَلَّ ذلك على أنَّ ارتِكابَهما مِن الخُسرانِ والخَيبةِ، في الدُّنيا والآخِرة.
ومنها: أنَّه ذكَر ما يَنتج منهما مِن الوَبال، وهو وقوعُ التعادِي والتباغُض من أصحابِ الخمر والميسِر، فجعَلَهما مثارًا للعداوةِ والبغضاء، وهما شرُّ المفاسدِ الدُّنيويَّة المتعدِّيةِ إلى أنواعٍ من المعاصِي في الأموالِ والأعراضِ والأنفُس؛ ولذلك سُمِّيتِ الخمرُ أمَّ الخبائثِ وأمَّ الفواحِش.
ومنها: أنَّه جعَلهما صادَّينِ عن ذِكرِ اللهِ وعن الصَّلاةِ، وهما رُوحُ الدِّينِ وعِمادُه، وزادُ المؤمِنِ وعَتادُه.
ومنها: الأمْر بالانتهاءِ عنهما بصِيغة الاستفهامِ المقرونِ بفاءِ السببيَّة فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ.
ولم يُؤكَّدْ تحريمُ شيءٍ في القرآنِ مِثلَ هذا التأكيدِ ولا قريبًا منه؛ وحِكمتُه: شدَّةُ افتتانِ الناسِ بشُربِ الخمرِ، وكذا الميسِرُ، وتأوُّلُهم كلَّ ما يُمكن تطرُّقُ الاحتمالِ إليه من أحكامِ الأديانِ التي تُخالِفُ أهواءَهم، كما أوَّلت اليهودُ أحكامَ التوراةِ في تَحريمِ أكْلِ أمْوالِ النَّاسِ بالباطِلِ كالرِّبا وغيرِه، وكما استحلَّ بعضُ فُسَّاقِ المسلمين شُربَ بَعضِ الخمورِ بتَسميتِها بغيرِ اسمِها؛ إذ قالوا: هذا نَبيذٌ لا يُسكِرُ إلَّا الكثيرُ منه، وقد أحلَّ ما دون القدْرِ المُسْكِرِ منه فلان وفلان، يقولون ذلك فيما هو خمرٌ لا حَظَّ لهم مِن شُرْبِه إلَّا السُّكْرُ.
- وفي قولِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ مناسبةٌ حسنةٌ مِن حيثُ تَرتيبُها في الذِّكرِ؛ فإنَّه لَمَّا كانتِ الخَمرُ غايةً في الحَمْلِ على إتلافِ المال، قرَن بِها ما يَليها في ذلك، وهو القِمار، ولَمَّا كان الميسِرُ مَفسدةَ المالِ، قرَنَ به مفسدةَ الدِّينِ، وهي الأنصابُ، ولَمَّا كان تَعظيمُ الأنصابِ شِركًا جليًّا إنْ عُبِدت، وخفيًّا إنْ ذُبِحَ عليها دون عِبادةٍ، قرَن بها نوعًا من الشِّرك الخفيِّ، وهو الاستقسامُ بالأزلامِ، ثم أمَرَ باجتنابِ الكُلِّ إشارةً وعبارةً على أتمِّ وجْهٍ، فقال: رِجْسٌ، أي: قذَرٌ أهلٌ لأنْ يُبعَدَ عنه بكلِّ اعتبارٍ حتى عن ذِكره، سواء كان عيْنًا أو معنًى، وسواء كانتِ الرجسيَّةُ في الحسِّ أو المعْنَى [1703] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/291). .
2- قَوْلُه: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ خصَّ الْخَمْر وَالْمَيْسِر بإعادةِ الذِّكر، وشرْحِ ما فيهما مِن الوَبالِ، بعدَما جمَعَ الخمرَ والميسرَ مع الأنصابِ والأزلامِ أولًا، ثم أفردَهما آخِرًا؛ تَنبيهًا على أنَّهما المقصودُ بالبيانِ [1704] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/141)، ((تفسير أبي السعود)) (3/76). ، ولأنَّ الخِطابَ مع المؤمنين، وإنَّما نهاهم عمَّا كانوا يَتعاطَوْنه مِن شُرْبِ الخَمرِ واللَّعِب بالميسِر، وذَكَر الأنصابَ والأزلامَ لتأكيدِ تحريمِ الخمرِ والميسِر، وإظهارِ أنَّ هذه الأربعةَ متقاربةٌ في القُبح والمفسَدَة، وأَنَّ ذلك جميعًا من أعمالِ الجاهليَّةِ وأهلِ الشِّرك؛ فوجَبَ اجتنابُه بأسْرِه [1705] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/674)، ((تفسير الرازي)) (12/424). .
3- قَوْلُه: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فيه: تخصيصُ الصَّلاةِ بالإفرادِ مع دُخولها في ذِكْرِ اللهِ؛ للتعظيمِ، والإشعارِ بأنَّ الصادَّ عنها كالصادِّ عن الإيمانِ؛ لأنَّها عمادُه، كأنَّه قيل: وعن الصَّلاةِ خصوصًا [1706] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/674)، ((تفسير البيضاوي)) (2/141)، ((تفسير أبي السعود)) (3/76). .
- وكرَّر الجارَّ في قوله: وَعَنِ الصَّلَاةِ تأكيدًا للأمْرِ، وتغليظًا في التَّحذيرِ [1707] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/294). .
4- قَوْلُه: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ هذا الاستفهامُ مِن أبلغِ ما يُنهَى عنه، كأنَّه قيل: قد تُلِيَ عليكم ما فيهما من المفاسِدِ الدُّنيويَّة والدِّينيَّة التي تُوجِبُ الانتهاءَ؛ فهل أنتم منتهونَ أم باقون على حَالِكم مع عِلْمِكم بتلك المفاسِدِ؟! وهذا استفهامُ ذمٍّ معناه الأمرُ، أي: انْتَهُوا، ومعناه: اتركوا وانتقِلوا عنه إلى غيرِه [1708] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (12/425)، ((تفسير أبي حيان)) (4/359)، ((تفسير أبي السعود)) (3/76). ، فأكَّد النهيَ عنها بأنْ أوْرَدَه بصِيغةِ الاستفهامِ؛ فهو أبلغُ في الزَّجزِ من صِيغةِ الأمْرِ التي هي «انتهُوا» [1709] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/405). .
- وفي هذا الاستفهامِ كِنايةٌ عن التَّحذيرِ مِن انتفاءِ وقوعِ المستَفْهَم عنه، أي: التَّحذيرِ مِن عَدمِ الانتهاءِ [1710] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/22-28). ؛ فقدْ أعْظَمَ التهديدَ بهذا الاستفهامِ والجملةِ الاسميَّةِ الدالَّة على الثَّبات [1711] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/294). .
5- قَوْلُه: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا
فيه تكرارُ قوله: وَأَطِيعُوا على سَبيلِ التأكيدِ [1712] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/359). .
- حُذِفَ المفعولُ مِن كلمةِ وَاحْذَرُوا؛ للتحذيرِ من مَعصيةِ اللهِ ورسولِه، وهو أشدُّ وقعًا من ذِكر مَفعولِها؛ لأنَّه أبلغُ في التَّخويفِ؛ لأنَّ المتكلِّمَ مقتصِرٌ عليها دونَ مُتعلِّقاتها [1713] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/358). .
6- قَوْلُه: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ خبرٌ فيه من الوعيدِ البالغِ ما لا خفاءَ به؛ إذ تضمَّنَ أنَّ العقابَ إنَّما يتولَّاه المرسِلُ لا الرَّسولُ؛ فما كُلِّفَ الرسولُ من الأمْرِ غيرَ التبليغِ [1714] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/359). .
- وقوله: عَلَى رَسُولِنَا في إضافةِ الرسول إلى ضميرِ الجلالة إشارةٌ إلى تعظيمِ جانبِ هذه الرِّسالة، وإقامة لمعذرتِه في التبليغِ بأنَّه رسولٌ من القادِر على كلِّ شيءٍ، فلو شاءَ مُرسِلُه لهدَى المُرسَلَ إليهم، فإذا لم يَهتدوا فليس ذلك لتقصيرٍ من الرسولِ [1715] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/31). .
7- قَوْلُه: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا
فِيمَا طَعِمُوا، أي: في طعمِ الَّذي طَعِموه، ومِن فصاحةِ القُرآن: إيرادُ فِعل طَعِمُوا هنا؛ لأنَّ المرادَ نفيُ التَّبِعَةِ عمَّن شَرِبوا الخمرَ وأكلوا لحمَ الميسرِ قبلَ نزولِ آيَةِ تَحريمهما؛ فإنَّ أصْلَ معنى طعموا أنَّه بمعنى أَكَلوا، و(طَعِم) يأتي بمعنى (ذاق)، كما في قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [البقرة: 249] ، أي: ومَن لم يَذُقْه، بقرينةِ قوله: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ [البقرة: 249] ويُقال: وجدتُ في الماءِ طَعْمَ التراب، ويقال: تَغيَّر طعمُ الماء، أي: أسِنَ، فاسْتُعْمِلَ اللَّفظُ في معنييه، أو هو مِنْ أُسلوبِ التَّغليبِ [1716] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/33). قال محمد رشيد رضا: (لا يمكنُ أن يكونَ (طعم) في القرآنِ بمعنى الشُّربِ مطلقًا، ولا يجوزُ أن يفيدَ هذا المعنَى إلا بالتبعِ لمعنى الأكلِ تغليبًا له، فيُجعل طَعِمُوا هنا بمعنَى أكلوا الميسرَ، وشربوا الخمرَ، كتغليبِ الأكلِ في كلِّ استعمالٍ في مثلِ النَّهي عن أكلِ أموالِ اليتامَى، وأكلِ أموالِ النَّاس بالباطل). ((تفسير المنار))(7/60). .
8- قَوْلُه: إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا فيه: تَكرارُ هذه الجُمل على سبيلِ المبالغةِ والتوكيدِ في هذه الصِّفات، والتأكيدِ والمبالغةِ في الحثِّ على الإيمانِ والتَّقوى، ولا ينافي التأكيدَ العطفُ بـثُمَّ [1717] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/360)، ((تفسير ابن عادل)) (7/511)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/373). ؛ فإنَّ حَرْفَ ثُمَّ الدالَّ على التَّراخي الرُّتبي فيه إيماءٌ إلى الازديادِ في التقوى وآثارِ الإيمان [1718] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/36). ، ويحتمل أنْ يكون هذا التكريرُ باعتبارِ الأوقاتِ الثلاثة، أو باعتبارِ الحالات الثَّلاث: استعمالُ الإنسانِ التقوى والإيمانَ بينه وبين نفْسِه، وبَينَه وبينَ الناس، وبَيْنه وبينَ الله تعالى؛ ولذلك بدَّل بالإيمانِ الإحسانَ في الكرَّة الثالثة؛ إشارةً إلى ما قاله عليه الصَّلاة والسَّلام في تفسيره، أو باعتبارِ المراتبِ الثلاثِ: المبدأ، والوسط، والمنتهَى، أو باعتبار ما يَتَّقي؛ فإنَّه ينبغي أن يترُكَ المحرَّماتِ توقِّيًا من العقاب، والشُّبهاتِ تحرُّزًا عن الوقوعِ في الحرام، وبعضَ المباحات تَحفُّظًا للنَّفْس عن الخِسَّة، وتهذيبًا لها عن دَنسِ الطَّبيعة [1719] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/142)، ((تفسير أبي السعود)) (3/77). .
- قَوْلُه: ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا فيه تقديمُ الاتِّقاءِ على الإيمان؛ إمَّا للاعتناء به، أو لأنَّه الذي يدلُّ على التحريمِ الحادثِ الذي هو المؤمَنُ بِه، وللإشارةِ إلى أنَّ الإيمانَ هو أصلُ التقوى [1720] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/77)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/35). .