موسوعة التفسير

سورةُ الفَجْرِ
الآيات (15-20)

ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ

غريب الكلمات:

فَقَدَرَ: أي: ضيَّق، فلم يُكْثِرْ مالَه، ولم يُوَسِّعْ عليه، يقال: قَدَرْتُ عليه الشَّيءَ: ضيَّقْتُه، كأنَّما جعَلْته بقَدرٍ، وقُدِر عليه الرِّزقُ، أي: أُعْطِيَ ذلك بقَدْرٍ يَسِيرٍ، وأصلُ (قدر): يدُلُّ على مَبْلَغِ الشَّيءِ وكُنْهِه ونِهايَتِه [73] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 527)، ((تفسير ابن جرير)) (24/376)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/62)، ((البسيط)) للواحدي (23/509)، ((المفردات)) للراغب (ص: 659). .
وَلَا تَحَاضُّونَ: أي: لا يَحُضُّ بعضُكم بعضًا، وأصْلُه: تَتَحاضُّونَ، فحَذَف إحدَى التَّاءيْنِ، وأصلُ (حضض) هنا: البَعْثُ على الشَّيءِ [74] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/261)، ((تفسير ابن جرير)) (24/378)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/13)، ((تفسير الشوكاني)) (5/534). .
التُّرَاثَ: أي: الميراثَ، وهو: أن يكونَ الشَّيءُ لقَومٍ ثمَّ يَصيرَ إلى آخَرينَ بنَسَبٍ أو سَبَبٍ [75] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 527)، ((تفسير ابن جرير)) (24/380)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/105)، ((المفردات)) للراغب (ص: 863)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 451)، ((تفسير القرطبي)) (20/53)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 462)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 318). .
لَمًّا: أي: مجتَمِعًا شَديدًا، وهو أن يأكُلَ نَصيبَه ونَصيبَ غَيرِه، واللَّمُّ: الجَمعُ الشَّديدُ، مِن قولِكَ: لَمَمتُ الطَّعامُ لَمًّا: إذا أكَلْتَه جَميعًا. والآكلُ اللَّمُّ: الَّذي يأكُلُ كُلَّ شَيءٍ يَجِدُه، لا يَسألُ عنه: أحلالٌ هو أمْ حرامٌ، ويأكُلُ الَّذي له ولغَيرِه، وأصلُ (لمم): يدُلُّ على اجْتِماعٍ ومُقارَبةٍ ومُضامَّةٍ [76] يُنظَر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/197)، ((تفسير البغوي)) (8/422)، ((تفسير القرطبي)) (20/53). .
جَمًّا: أي: كثيرًا، وأصلُ (جمم): يدُلُّ على كَثرةِ الشَّيءِ واجتِماعِه [77] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 527)، ((تفسير ابن جرير)) (24/382)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 178)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/419)، ((المفردات)) للراغب (ص: 200)، ((تفسير القرطبي)) (20/54)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 357). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مبيِّنًا حالَ الإنسانِ عندَ اليُسرِ والعُسرِ، والغِنى والفَقرِ: فأمَّا الإنسانُ إذا اختبَرَه رَبُّه بالغِنى، فأكرَمَه بسَعةِ الرِّزقِ، وجعَلَه مُنعَّمًا مُترَفًا؛ فيقولُ جاهِلًا بأنَّ اللهَ يمتَحِنُه: رَبِّي أكرَمَني بذلك! وأمَّا إذا اختبَرَ اللهُ الإنسانَ بالفَقْرِ، فضَيَّقَ عليه رِزْقَه؛ فيَقولُ مُتضَجِّرًا جاهِلًا بأنَّ اللهَ يمتَحِنُه: رَبِّي أذَلَّني بذلك!
ثمَّ يقولُ سُبحانَه ردًّا على قولِ الإنسانِ في هذينِ الحالَينِ، ومبيِّنًا ما هو أشنَعُ منه: ليس الأمرُ كما يَظُنُّ الإنسانُ أنَّ إغناءَه إكرامٌ له مِنَ اللهِ، وإفقارَه إهانةٌ من اللهِ، بل لا تُكرِمونَ -أيُّها النَّاسُ- اليتيمَ؛ فتُحسِنوا إليه، ولا يَحُثُّ بَعضُكم بعضًا على إطعامِ المِسكينِ، وتأكُلونَ الميراثَ أكلًا شديدًا، فتأخُذونَ منه نصيبَ غَيرِكم مِنَ النِّساءِ والصِّغارِ، وتُحِبُّونَ المالَ حُبًّا كثيرًا مُفرِطًا!

تفسير الآيات:

فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكر سُبحانَه أنَّ عادةَ هؤلاء الفِرَقِ كانت الطُّغيانَ، وذكَرَ أنَّ عادةَ الرَّبِّ سُبحانَه فيمَن تولَّى وكَفَر أنَّه يُعَذِّبُه -كما هدَّد به آخِرَ السُّورةِ السَّابِقةِ-، ودَلَّ على ذلك بما شُوهِدَ في الأُمَمِ، وعَلَّل ذلك بأنَّه لا يَغفُلُ؛ ذَكَر عادةَ الإنسانِ مِن حيثُ هو مِن غيرِ تَقييدٍ بهؤلاء الفِرَقِ عِندَ الابتلاءِ في حالَيِ السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ؛ فقال مُشيرًا إلى جوابِ ما كانت الكُفَّارُ تَقولُه مِن أنَّهم آثَرُ عِندَ اللهِ مِنَ المُسلِمينَ؛ فلا يُساعِدُ عليهم في الدُّنيا، وكذا تَقَلُّلُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم مِنَ الدُّنْيا [78] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/32). :
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15).
أي: فأمَّا الإنسانُ إذا اختبَرَه رَبُّه بالغِنى، فأكرَمَه بسَعةِ الرِّزقِ، وجعَلَه مُنعَّمًا مُترَفًا؛ فيقولُ جاهِلًا بأنَّ اللهَ يمتَحِنُه: رَبِّي أكرَمَني بذلك؛ ظنًّا منه أنَّ إكرامَ اللهِ في الدُّنيا وإنعامَه عليه دليلٌ على كرامتِه عِندَه [79] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/376)، ((تفسير القرطبي)) (20/51)، ((تفسير ابن كثير)) (8/398)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/33)، ((تفسير السعدي)) (ص: 923)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 196). قال ابنُ عطيَّة: (ذَكَر اللهُ تعالى في هذه الآيةِ ما كانت قُرَيشٌ تقولُه تَستَدِلُّ به على إكرامِ اللهِ تعالى وإهانتِه لعَبدِه؛ وذلك أنَّهم كانوا يَرونَ أنَّ مَن عندَه الغِنى والثَّروةُ والأولادُ فهو المُكرَمُ، وبضِدِّه المُهانُ، ومِن حيثُ كان هذا المقطَعُ غالِبًا على كثيرينَ مِنَ الكُفَّارِ جاء التَّوبيخُ في هذه الآيةِ لاسمِ الجِنسِ؛ إذ يقَعُ بعضُ المؤمِنينَ في شَيءٍ مِن هذا المَنزَعِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/479). وقال السعدي: (يخبِرُ تعالى عن طبيعةِ الإنسانِ مِن حيثُ هو، وأنَّه جاهِلٌ ظالمٌ، لا عِلْمَ له بالعواقِبِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 923). وقال ابنُ القَيِّمِ: (فالإنسانُ مِن حيثُ هو عارٍ عن كُلِّ خَيرٍ مِنَ العِلمِ النَّافِعِ والعَمَلِ الصَّالحِ، وإنَّما اللهُ سُبحانَه هو الَّذي يُكمِلُه بذلك ويُعْطيه إيَّاه، وليس له ذلك مِن نَفْسِه، بل ليس له مِن نَفْسِه إلَّا الجَهْلُ المُضادُّ للعِلْمِ، والظُّلْمُ المُضادُّ للعَدْلِ، وكُلُّ عِلمٍ وعَدْلٍ وخَيرٍ فيه فمِن رَبِّه لا مِن نَفْسِه). ((عدة الصابرين)) (ص: 192). !
وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16).
أي: وأمَّا إذا اختبَرَ اللهُ الإنسانَ بالفَقْرِ، فضَيَّقَ عليه رِزْقَه؛ فيَقولُ مُتضَجِّرًا جاهِلًا بأنَّ اللهَ يمتَحِنُه: رَبِّي أذَلَّني بذلك [80] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/376)، ((تفسير القرطبي)) (20/51)، ((تفسير ابن كثير)) (8/398)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/33، 34)، ((تفسير السعدي)) (ص: 923). !
كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا حكى تعالى مِن أقوالِهم تلك الشُّبهةَ، فكأنَّه قال: بل لهم فِعلٌ هو شَرٌّ مِن هذا القَولِ، وهو أنَّ اللهَ تعالى يُكرِمُهم بكثرةِ المالِ، فلا يُؤَدُّونَ ما يَلزَمُهم فيه مِن إكرامِ اليتيمِ [81] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/157). !
كَلَّا.
أي: ليس الأمرُ كما يَظُنُّ الإنسانُ أنَّ إغناءَه إكرامٌ له مِنَ اللهِ، وإفقارَه إهانةٌ؛ فاللهُ يُغْني من يَشاءُ ولو كان كافِرًا، ويُفقِرُ مَن يشاءُ ولو كان مُؤمِنًا؛ ابتِلاءً منه لعبادِه بالغِنى والفَقْرِ بمُقتَضى حِكمتِه فيهم، وهو إنَّما يُكرِمُ بطاعتِه، ويُهينُ بمَعصيتِه [82] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/483)، ((تفسير القرطبي)) (20/52)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/53) و(22/447)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/101)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 155)، ((تفسير ابن كثير)) (8/398)، ((تفسير السعدي)) (ص: 924)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 197). قال ابن تيميَّةَ: (بل قد يُوسِّعُ عليه رِزْقَه إملاءً واستِدراجًا، وقد يَقْدِرُ عليه رِزْقَه حمايةً وصِيانةً له، وضِيقُ الرِّزقِ على عَبدٍ مِن أهلِ الدِّينِ قد يكونُ لِما له مِن ذُنوبٍ وخطايا). ((مجموع الفتاوى)) (16/53). وقال ابن القيِّم: (أي: ليس الأمرُ كما يقولُ الإنسانُ، بل قد أَبتلي بنعمتي، وأُنعِمُ ببَلائي!). ((عدة الصابرين)) (ص: 160). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/34). .
كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13] .
بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ.
أي: أنتم -أيُّها النَّاسُ- مَن تَستهينونَ بأمرِ اللهِ فتَعصُونَه، فلا تُكرِمونَ اليتيمَ الَّذي فقَدَ أباه دونَ سِنِّ البُلوغِ؛ فتَسُدُّوا حاجتَه، وتُحسِنوا إليه ولا تَظلِموه شيئًا [83] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/484)، ((تفسير القرطبي)) (20/52)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/35)، ((تفسير السعدي)) (ص: 924)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/332)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 197). .
كما قال تبارك وتعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ [النساء: 36] .
وقال سُبحانَه وتعالى: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [الإسراء: 34] .
وقال عزَّ وجَلَّ: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ [الضحى: 9] .
وقال تبارك وتعالى: فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ [الماعون: 2] .
وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18).
أي: ولا يَحُثُّ بَعضُكم بعضًا على إطعامِ المِسكينِ [84] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/378)، ((تفسير القرطبي)) (20/52)، ((تفسير ابن كثير)) (8/399)، ((تفسير السعدي)) (ص: 924). .
كما قال الله تبارك وتعالى: وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [الإسراء: 26] .
وقال سُبحانَه: وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الماعون: 3] .
وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا دَلَّ على حُبِّ الدُّنيا بأمرٍ خارجيٍّ؛ دَلَّ عليه بأمرٍ في الإنسانِ؛ فقال تعالى [85] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/36). :
وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19).
أي: وتأكُلونَ الميراثَ أكلًا شديدًا لا تَترُكونَ منه شَيئًا، فتأخُذونَ منه نصيبَ غَيرِكم مِنَ النِّساءِ والصِّغارِ [86] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/379)، ((تفسير القرطبي)) (20/53)، ((تفسير ابن كثير)) (8/399)، ((تفسير السعدي)) (ص: 924)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/334). !
وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20).
أي: وتُحِبُّونَ المالَ حُبًّا كثيرًا مُفرِطًا، فتَحرِصونَ على جَمْعِه واقتنائِه، فلا تُنفِقونَه في الخَيرِ [87] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/382)، ((الوسيط)) للواحدي (4/484)، ((تفسير الزمخشري)) (4/751)، ((تفسير ابن كثير)) (8/399)، ((تفسير السعدي)) (ص: 924)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/334). .
كما قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ [آل عمران: 14] .
وقال سُبحانَه: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ [القيامة: 20-21] .
وقال تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى: 16-17] .
وقال الله سبحانه وتعالى: الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ [الهمزة: 2-3] .
وقال تبارك وتعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: 8] .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ أنَّ المتنعِّمَ لا ينبغي أن يَغفُلَ عن العاقبةِ؛ فالأمورُ بخواتيمِها، والفقيرُ والمحتاجُ لا ينبغي أن يَغفُلَ عمَّا لله عليه مِن النِّعَمِ الَّتي لا حَدَّ لها؛ مِن سلامةِ البَدَنِ والعَقلِ والدِّينِ، ودَفعِ الآفاتِ والآلامِ الَّتي لا حَدَّ لها ولا حَصْرَ؛ فلا ينبغي أن يقضيَ على نَفْسِه بالإهانةِ مُطلقًا [88] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/155). !
2- قولُه تعالى: فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ذمٌّ لِمَن يَقولُ: رَبِّي أَكْرَمَنِ؛ لأنَّه يقولُ ذلك مُفتخِرًا به على غيرِه، ومُستدِلًّا به على عُلوِّ مَنزلتِه في الآخرةِ، ومُعتقِدًا استحقاقَ ذلك على ربِّه، وأمَّا إذا قاله على وَجْهِ الشُّكرِ، والتَّحدُّثِ بنِعمةِ اللهِ تعالى، فليس بمَذمومٍ، بلْ مَمدوحٌ [89] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 611). .
3- في قَولِه تعالى: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ إشارةٌ إلى أنَّه يجِبُ على الإنسانِ أنْ يَتَبَصَّرَ، فيَقولَ مثلًا: لماذا أعطاني اللهُ المالَ؟ ماذا يريدُ منِّي؟ يريدُ منِّي أنْ أشكرَ، لماذا ابتلاني اللهُ بالفقرِ، بالمرضِ وما أَشْبَهَ ذلك؟ يريدُ منِّي أنْ أصبرَ. فلْيَكُنْ مُحاسِبًا لنَفْسِه؛ حتَّى لا يكونَ مِثْلَ حالِ الإنسانِ المبنيَّةِ على الجَهلِ والظُّلمِ؛ ولهذا قال تعالى: كَلَّا يعني: لم يُعْطِك ما أعطاك إكرامًا لك لأنَّك مُستَحِقٌّ، ولكنَّه تَفَضُّلٌ منه، ولم يُهِنْك حينَ قَدَرَ عليك رِزْقَه، بل هذا مُقتَضى حِكمتِه وعَدْلِه [90] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 197). .
4- في قَولِه تعالى: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ أنَّ لشأنِ اللهِ في مُعامَلتِه النَّاسَ في هذا العالَمِ أسرارًا وعِلَلًا لا يُحاطُ بها، وأنَّ أهلَ الجَهالةِ بمَعزِلٍ عن إدراكِ سِرِّها بأقيسةٍ وَهميَّةٍ، والاستنادِ لمألوفاتٍ عاديَّةٍ، وأنَّ الأَولى لهم أن يتطَلَّبوا الحقائِقَ مِن دلائِلِها العَقليَّةِ، وأن يَعرِفوا مرادَ اللهِ مِن وَحيِه إلى رُسُلِه، وأن يَحذَروا مِن أن يَحيدوا بالأدِلَّةِ عن مَدلولِها، وأن يَستَنتِجوا الفُروعَ مِن غيرِ أُصولِها، وأمَّا أهلُ العِلمِ فهم يَضعونَ الأشياءَ مَواضِعَها، ويتوسَّمونَ التَّوسُّمَ المستَنِدَ إلى الهَدْيِ، ولا يَخلِطونَ ولا يَخبِطونَ [91] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/331). .
5- في قَولِه تعالى: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ تعليمٌ ألَّا نَنظُرَ إلى ظواهِرِ الأُمورِ دونَ بَواطِنِها، وإلى الجُسْمانيَّاتِ الحِسِّيَّةِ دونَ ما وراءَها مِن مَعانٍ عَقليَّةٍ، بل نَعبُرُ مِنَ الظَّواهِرِ إلى البواطِنِ، وننظُرُ مِنَ المحسوسِ إلى المعقولِ، ونجعَلُ حواسَّنا خادِمةً لعُقولِنا، ونجعَلُ عُقولَنا هي المتصَرِّفةَ الحاكِمةَ بالنَّظَرِ والتَّفكيرِ، وكما في قَولِه تبارك وتعالى: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [المائدة: 100] ، فلا يَنظُرُ إلى بَهرجةِ الكَثرةِ، ولكِنْ إلى حقيقةِ وحالةِ الشَّيءِ الكثيرِ، فيَعتَبِرُ بحَسَبِهما، وأنَّه لا يجوزُ أن نغتَرَّ بالمالِ والقُوَّةِ والجاهِ وأنواعِ النَّعيمِ إذا سِيقَت إلينا، فنَحسَبَ أنَّها هي نَفْسُ الكرامةِ الرَّبَّانيَّةِ الَّتي دُعِينا إلى العَمَلِ لنَيْلِها، بل إنَّما نَعُدُّها كذلك إذا كان معها التَّوفيقُ إلى شُكرِها بالقيامِ بحُقوقِها، وصَرْفِها في وُجوهِها، ولا نغتَرَّ بحالةِ الضِّيقِ والعُسْرِ والضَّعفِ، فنَحسَبَ أنَّها إهانةٌ مِنَ اللهِ لصاحِبِها، بل علينا أن ننظُرَ إلى ما معها من صَبرٍ ورجاءٍ وبِرٍّ، أو ضَجَرٍ ويأسٍ وفُجورٍ، فنَعلَمَ حينَئذٍ أنَّها مع الأُولى للتَّمحيصِ والتَّثَبُّتِ، ومع الأخيرةِ للزَّجرِ والعِقابِ بعَدْلٍ وحِكمةٍ مِن أحكَمِ الحاكِمينَ [92] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 164). .
6- في قَولِه تعالى: وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ لم يقُلْ: «فأهانَه» مَوضِعَ «قَدَرَ عليه»؛ تعليمًا للأدَبِ معه سُبحانَه وتعالى، وصَونًا لأهلِ اللهِ عن هذه العِبارةِ؛ لأنَّ أكثَرَهم مُضَيَّقٌ عليه في دُنياه، ولأنَّ تَرْكَ الإكرامِ لا يَنحَصِرُ في كونِه إهانةً [93] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/33). ويُنظر أيضًا: ((تفسير أبي حيان)) (10/474). !
7- وُقوفُ هِمَّةِ العَبدِ عندَ مُرادِ نَفْسِه فقط: مِن ضَعفِ الهِمَّةِ؛ ولهذا لامَهم اللهُ على عدمِ اهتِمامِهم بأحوالِ الخَلْقِ المحتاجِينَ، فقال تعالى: كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [94] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 924). .
8- في قَولِه تبارك وتعالى: كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ إشارةٌ إلى أنَّه ينبغي لنا أنْ نُكْرِمَ الأيتامَ، وأنْ يَحُضَّ بعضُنا بعضًا على إطعامِ المساكينِ؛ لأنَّهم في حاجةٍ، واللهُ تعالى في عَونِ العَبدِ ما كان العَبدُ في عَونِ أخيه [95] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 198). .
9- في قَولِه تبارك وتعالى: كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ أنَّ الفَقرَ والغِنى ابتِلاءٌ مِنَ اللهِ لعَبْدِه؛ فليس كلُّ مَن أعطاه ووسَّعَ عليه فقد أكرَمَه، ولا كُلُّ مَن ضَيَّق عليه وقَتَّرَ عليه الرِّزقَ فقد أهانه، والإكرامُ أن يُكرَمَ العَبدُ بطاعةِ اللهِ ومحبَّتِه ومَعرفتِه، والإهانةُ أن يَسلُبَه ذلك، ولا يَقَعُ التَّفاضُلُ بالغِنى والفَقْرِ، بل بالتَّقوى [96] يُنظر: ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزآبادي (4/208). .
10- قال تعالى: كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا فبَيَّن حقيقةَ فِتنةِ المالِ إيجابًا وسَلْبًا، جمعًا وبَذْلًا؛ فبدَأَ بأقبَحِ الوُجوهِ مِنَ الإمساكِ؛ مِن عَدَمِ إكرامِ اليَتيمِ مَهيضِ الجَناحِ، مَكسورِ الخاطِرِ، والتَّقاعُسِ عن إطعامِ المسكينِ خالي اليَدِ، جائِعِ البَطنِ، ساكِنِ الحَرَكةِ، وهذان الجانِبانِ أهَمُّ مُهِمَّاتِ بَذْلِ المالِ، وهم يُمسِكونَ عنها! وقد بَيَّن تعالى أنَّ هذا الجانِبَ هو اقتِحامُ العَقَبةِ عند الشِّدَّةِ، في قَولِه تعالى في سُورةِ «البَلَدِ»: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد: 11 - 16] .
ومِن الجانِبِ الآخَرِ: وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا أي: الميراثَ، فلا يُعطُونَ النِّسوةَ، وهنَّ ضعيفاتُ الشَّخصيَّةِ، أحوَجُ إلى مالِ مُورِّثِهنَّ، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا حتَّى استعبَدَكم وألهاكم التكاثُرُ فيه.
وهنا لَفتُ نَظَرٍ للفَريقَينِ؛ فمَن أُعطِيَ منهم لا ينبغي له أن يُغفِلَ طُرُقَ البَذلِ الهامَّةَ، ومَن مُنِعَ لا ينبغي له أن يَستَشرِفَ إلى ما لا ينبغي له [97] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/526). .
11- في قَولِه تعالى: وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا ذَمُّ جَمعِ المالِ مِن غَيرِ حِلِّه [98] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 288). .
12- قوله تعالى: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا هذا ذَمٌّ للحِرْصِ على المالِ وشِدَّةِ الرَّغبةِ فيه [99] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/481). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه سبحانه وتعالى: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ إلى قَولِه: كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ سؤالٌ: كيف ذمَّ سُبحانَه مَن يقولُ: رَبِّي أَكْرَمَنِ مع أنَّه صادِقٌ فيه؛ لِقَولِه تعالى: فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ، ومع أنَّه متحَدِّثٌ بالنِّعمةِ، وهو مأمورٌ بالتحَدُّثِ بها؛ لِقَولِه تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 11] ؟!
الجوابُ مِن أوجُهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ المذموم هو أن يقولَ ذلك مفتَخِرًا، ومعتَقِدًا استِحقاقَه ذلك، كما في قَولِه تعالى: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص: 78] ، أمَّا الممدوحُ فهو أن يقولَه على وَجهِ الشُّكرِ والتَّحَدُّثِ بنِعمةِ اللهِ تعالى [100] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 611). ، فلا تَنافيَ بيْن إثباتِ إكرامِ اللهِ تعالى الإنسانَ بقَولِه: فَأَكْرَمَهُ وبيْن إبطالِ ذلك بقَولِه: كَلَّا؛ لأنَّ الإبطالَ وارِدٌ على ما قَصَده الإنسانُ بقَولِه: رَبِّي أَكْرَمَنِ أنَّ ما ناله مِن النِّعمةِ عَلامةٌ على رِضا اللهِ عنه [101] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/331). .
الثَّاني: أن ينساقَ الإنكارُ والذَّمُّ إلى قَولِه: رَبِّي أَهَانَنِ يعني: أنَّه إذا تُفُضِّلَ عليه بالخَيرِ وأُكرِمَ به اعتَرَف بتفَضُّلِ اللهِ وإكرامِه، وإذا لم يُتفضَّلْ عليه سَمَّى تَرْكَ التَّفَضُّلِ هوانًا، وليس بهوانٍ [102] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/750). .
الثَّالثُ: أن اللَّفظَ الَّذي أَخْبَرَ اللهُ به وإن كان مِثْلَ اللَّفظِ الَّذي أنكَرَه اللهُ مِن كلامِ المبتلَى! لكنَّ المعنى مختلِفٌ؛ فإنَّ المبتلَى اعتقدَ أنَّ هذه كرامةٌ مطلَقةٌ، وهي النِّعمةُ الَّتي يَقْصِدُ بها أنَّ النِّعَمَ إكرامٌ له، والإنعامَ بنعمةٍ لا يكونُ سببًا لعَذابٍ أعظمَ منها، وليس الأمرُ كذلك، بلِ اللهُ تعالى ابتلاه بها ابتلاءً لِيتبيَّنَ أيُطيعُه فيها أم يَعصيه، مع عِلْمِه بما سيكونُ مِن الأمْرَينِ، لكِنَّ العلمَ بما سيكونُ شيءٌ، وكونُ الشَّيءِ والعِلمُ به شَيءٌ، وأمَّا قولُه تعالى: فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فإنَّه تكريمٌ بما فيه مِن اللَّذَّاتِ؛ ولهذا قَرَنَه بقَولِه: وَنَعَّمَهُ؛ ولهذا كانت خوارقُ العاداتِ الَّتي تُسَمِّيها العامَّةُ كرامةً ليست عندَ أهلِ التَّحقيقِ كرامةً مطلقًا، بل في الحقيقةِ الكرامةُ هي لزومُ الاستقامةِ، وهي طاعةُ اللهِ، وإنَّما تلك الخوارِقُ هي ممَّا يَبتلي اللهُ به عبدَه، فإنْ أطاعَه بها رَفَعَه، وإنْ عصاه بها خَفَضَه، وإنْ كانت مِن آثارِ طاعةٍ أُخرى، كما قال تعالى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا [الجن: 16-17] ، وإذا كان في النِّعمةِ والكرامةِ هذان الوَجهانِ فهي مِن بابِ الأمرِ والشَّرعِ نعمةٌ يجِبُ الشُّكرُ عليها، وفي بابِ الحقيقةِ القَدَرِيَّةِ لم تكُنْ للفاجرِ إلَّا فِتنةً ومِحنةً استوجبَ بمَعصيةِ اللهِ فيها العَذابَ [103] يُنظر: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (2/352). .
2- في قَولِه تعالى: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ سُؤالٌ: كيف سَمَّى اللهُ تعالى بَسْطَ الرِّزقِ وتَقديرَه ابتِلاءً؟!
الجوابُ: لأنَّ كُلَّ واحدٍ منهما اختبارٌ للعَبدِ؛ فإذا بَسَطَ له فقد اختبَرَ حالَه: أيَشكُرُ أم يَكفُرُ؟ وإذا قَدَر عليه فقد اختبَرَ حالَه: أيَصبِرُ أم يَجزَعُ؟ فالحِكمةُ فيهما واحِدةٌ، ونحوُه قَولُه تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [104] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/156). [الأنبياء: 35] .
3- في قَولِه تعالى: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ قال: «كَلَّا»، وهذا فيه زجرٌ وتنبيهٌ؛ زجرٌ عن مِثْلِ هذا القَولِ، وتنبيهٌ على ما يُخبَرُ به ويُؤمَرُ به بَعْدَه؛ وذلك أنَّه ليس كلُّ مَن حَصَلَ له نِعَمٌ دُنيويةٌ تُعَدُّ كرامةً يكونُ اللهُ عزَّ وجَلَّ مُكرِمًا له بها، ولا كلُّ مَن قُدِرَ عليه ذلك يكونُ مُهِينًا له بذلك، بل هو سُبحانَه يَبتلي عبدَه بالسَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ؛ فقد يُعْطي النِّعَمَ الدُّنيويَّةَ لِمَن لا يُحِبُّه ولا هو كَريمٌ عندَه؛ لِيَستدرِجَه بذلك، وقد يَحمي منها مَن يُحِبُّه ويُواليه؛ لئلَّا تَنْقُصَ بذلك مَرتبتُه عندَه، أو يَقَعَ بسَبَبِها فيما يَكرَهُه منه [105] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/301). .
4- قال تعالى: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ اعلَمْ أنَّ مِن ضَلالِ أهلِ الشِّركِ ومِن فِتنةِ الشَّيطانِ لبَعضِ جَهَلةِ المؤمِنينَ أن يُخَيِّلَ إليهم ما يحصُلُ لأحدٍ بجَعْلِ اللهِ مِن ارتباطِ المسَبَّباتِ بأسبابِها والمعلولاتِ بعِلَلِها، فيَضَعوا ما يصادِفُ نَفعَ أحَدِهم مِن الحوادِثِ مَوضِعَ كَرامةٍ مِنَ اللهِ للَّذي صادَفَتْه منافِعُ ذلك؛ تحكيمًا للشَّاهيةِ، ومحبَّةً للنَّفسِ، ورَجمًا بالغَيبِ، وافتياتًا على اللهِ، وإذا صادَفَ أحَدَهم مِن الحوادِثِ ما جَلَب له ضَرًّا تَخَيَّلَه بأوهامِه انتقامًا مِنَ اللهِ قَصَدَه به؛ تشاؤمًا منهم، فهؤلاء الَّذين زَعَموا ما نالهم مِن نِعمةِ اللهِ إكرامًا مِنَ اللهِ لهم: ليسوا أهلًا لكَرامةِ اللهِ، وهؤلاء الَّذين توَهَّموا ما صادَفهم مِن فُتورِ الرِّزقِ إهانةً مِنَ اللهِ لهم: ليسوا بأحَطَّ عندَ اللهِ مِن الَّذين زعَموا أنَّ اللهَ أكرَمَهم بما هم فيه مِن نِعمةٍ. فذلك الاعتقادُ أوجَبَ تَغَلغُلَ أهلِ الشِّركِ في إشراكِهم، وصَرْفَ أنظارِهم عن التَّدَبُّرِ فيما يخالِفُ ذلك، ورُبَّما جَرَّت الوساوِسُ الشَّيطانيَّةُ فِتنةً مِن ذلك لبَعضِ ضُعَفاءِ الإيمانِ وقِصارِ الأنظارِ، والجُهَّالِ بالعَقيدةِ الحَقِّ [106] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/327). .
5- (أمَّا) كَلمةُ تَفصيلٍ، ولا يَجِيءُ إلَّا مُتعدِّدًا، ومِن شَرطِ مَدخولِها التَّوازُنُ بيْن الفقرتينِ والتَّقابُلُ بيْنَهما؛ فإنْ كان بعْدَ الأُولى اسمًا، فالواجبُ بعْدَ الثَّانيةِ الاسمُ، نحْوُ قولِك: أمَّا الكافرُ فكَفورٌ، وأمَّا المؤمنُ فشَكورٌ، وإنْ كان شَرطًا فشَرطًا، نحْو قولِك: أمَّا إذا أحسَنتَ إلى زَيدٍ فهو مُحسِنٌ إليك، وأمَّا إذا أسَأْتَ إليه فهو مُسيءٌ إليك، وجاء هنا الاسمُ بعْدَ الأُولى فَأَمَّا الْإِنْسَانُ، والشَّرطُ بعْدَ الثَّانيةِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ، فلا تَوازُنَ بيْنَهما.
والجوابُ عن هذا: أنَّ الموازنةَ حاصلةٌ؛ لأنَّ (أمَّا) التَّفصيليَّةَ تَقْتضي أنْ يكونَ مَدخولُها مُبتدأً، وخبرُها مقيَّدًا بالفاءِ، و(إذا) هاهنا لَيست بشَرْطٍ، بلْ هي ظَرفٌ، وفَيَقُولُ خبَرُ المبتدأِ، ودُخولُ الفاءِ لتَضمُّنِ (أمَّا) معْنى الشَّرطِ، فيُقدَّرُ في قولِه: وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ مُبتدأٌ، فتَقديرُ الكلامِ: وأمَّا هو إذا ما ابتَلاهُ ربُّه [107] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/749، 750)، ((تفسير البيضاوي)) (5/310)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/427)، ((تفسير أبي حيان)) (10/473). .
6- في قَولِه تبارك وتعالى: كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ أنَّ المسكينَ حَظُّه الإطعامُ ودَفْعُ حاجتِه، أمَّا اليتيمُ فالإكرامُ؛ فإنْ كان غنيًّا فإنَّه يُكرِمُه لِيُتْمِه، ولا يُطْعَمُ لِغَناه، وإنْ كان اليتيمُ فقيرًا فإنَّه يُكرَمُ ليُتمِه ويُطعَمُ لفَقْرِه [108] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/89). .
7- في قَولِه تعالى: طَعَامِ الْمِسْكِينِ في إضافِة الطَّعامِ إلى المسكينِ إشارةٌ إلى أنَّه شَريكٌ للغَنيِّ في مالِه بقَدْرِ الزَّكاةِ [109] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/35). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ
- الفاءُ في فَأَمَّا الْإِنْسَانُ رابطةٌ بيْن الكلامَينِ، ومُؤذِنةٌ بالبَونِ بيْن الأمْرينِ المُتنافيَينِ؛ وذلك أنَّه تعالَى يَطلُبُ مِن العِبادِ الطَّاعةَ والعِبادةَ، وهو بالمِرصادِ كالمُترقِّبِ الَّذي لا يَفوتُه شَيءٌ مِن أعمالِ عِبادِه، فيُحاسِبُهم على النَّقيرِ والقِطميرِ ويُجازيهم عليها، والإنسانُ غافلٌ مُولَعٌ بالتَّلهِّي، ومُنغمِسٌ في أُمورِ العاجلةِ؛ إنْ أصابَه نَصيبٌ مِن الدُّنيا اطمَأنَّ إليه، وإنْ جاوَزَه حظٌّ منها ضَجِرَ وقَنِطَ [110] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/749)، ((تفسير البيضاوي)) (5/310)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/426)، ((تفسير أبي حيان)) (10/473)، ((تفسير أبي السعود)) (9/ 156)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/474). ؛ فدلَّت الفاءُ في قولِه: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ على أنَّ الكلامَ الواقعَ بعْدَها مُتَّصلٌ بما قبْلَها ومُتفرِّعٌ عليه لا مَحالةَ؛ وذلك أنَّ الكلامَ السَّابقَ اشتَمَلَ على وصْفِ ما كانت تَتمتَّعُ به الأُمَمُ المُمثَّلُ بها ممَّا أنعَمَ اللهُ عليها به مِن النِّعَمِ، وهُمْ لاهُونَ عن دَعوةِ رُسلِ اللهِ، ومُعرِضون عن طلَبِ مَرضاةِ ربِّهم، مُقتحِمون المَناكرَ الَّتي نُهُوا عنها، بَطِرون بالنِّعمةِ، مُعجَبون بعَظَمتِهم، فعُقِّبَ ذِكرُ ما كانوا عليه وما جازاهُم اللهُ به عليه مِن عَذابٍ في الدُّنيا؛ باستخلاصِ العِبرةِ؛ ففاءُ التَّفريعُ مُرتبطةٌ بجُملةِ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر: 14] بما فيها مِن العُمومِ الَّذي اقتضاهُ كَونُها تَذْييلًا، والمعْنى: هذا شأْنُ ربِّك الجاري على وَفْقِ عِلمِه وحِكمتِه، فأمَّا الإنسانُ الكافرُ فيَتوهَّمُ خِلافَ ذلك؛ إذ يَحسَبُ ما يَنالُه مِن نِعمةٍ وسَعةٍ في الدُّنيا تَكريمًا مِن اللهِ له، وما يَنالُه مِن ضِيقِ عَيشٍ إهانةً أهانَه اللهُ بها، وهذا التَّوهُّمُ يَستلزِمُ ظَنَّهم أفعالَ اللهِ تعالَى جاريةً على غيرِ حِكمةٍ، فأعْلَمَ اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمؤمنينَ بالحقيقةِ الحقِّ، ونبَّهَهم لتَجنُّبِ تَخليطِ الدَّلائلِ الدَّقيقةِ السَّاميةِ، وتَجنُّبِ تَحكيمِ الواهمةِ والشَّاهيةِ، وذكَّرَهم بأنَّ الأحوالَ الدُّنيويَّةَ أعراضٌ زائلةٌ ومُتفاوِتةُ الطُّولِ والقِصَرِ، وفي ذلك كلِّه إبطالٌ لمُعتقَدِ أهلِ الشِّركِ وضَلالِهم الَّذي كان غالبًا على أهْلِ الجاهليَّةِ [111] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/324، 325). .
- والمرادُ بالإنسانِ هنا الجِنسُ، وتَعريفُه تَعريفُ الجِنسِ، فيَستغرِقُ أفرادَ الجِنسِ، ولكنَّه استغراقٌ عُرْفيٌ مُرادٌ به النَّاسُ المشرِكون؛ لأنَّهم الغالبُ على النَّاسِ المُتحدَّثِ عنهم؛ فلَمَّا كان هذا غالبًا على الكفَّارِ، جاء التَّوبيخُ في هذه الآيةِ باسمِ الجِنسِ؛ إذ يقَعُ بعضُ المؤمنينَ في شَيءٍ مِن هذا المَنزعِ! وقيل: أُريدَ إنسانٌ مُعيَّنٌ [112] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/479)، ((تفسير أبي حيان)) (10/473)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/326، 327). .
- قولُه: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ خبَرٌ للمُبتدأِ الَّذي هُوَ الْإِنْسَانُ، وجِيءَ بالفاءِ لِما في (أمَّا) مِن مَعْنى الشَّرطِ، والظَّرفُ المتوسِّطُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ على نِيَّةِ التَّأخيرِ، كأنَّه قيلَ: فأمَّا الإنسانُ فيَقولُ: ربِّي أكْرَمَنِ وَقتَ ابتلائِه بالإنعامِ، وإنَّما تَقديمُه للإيذانِ مِن أوَّلِ الأمرِ بأنَّ الإكرامَ والتَّنعيمَ بطَريقِ الابتلاءِ؛ ليتَّضِحَ اختلالُ قولِه المَحكيِّ [113] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/310)، ((تفسير أبي السعود)) (9/156). .
- وحرْفُ (أمَّا) يُفيدُ تَفصيلًا في الغالبِ، أي: يدُلُّ على تَقابُلٍ بيْن شَيئينِ مِن ذَواتٍ وأحوالٍ؛ ولذلك قد تكرَّرَ في الكَلامِ -فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ ... وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ ...-؛ فليس التَّفصيلُ المُستفادُ منها بمعْنى تَبيينِ مُجمَلٍ قبْلَها، بلْ هو تَفصيلٌ وتَقابُلٌ وتَوازُنٌ، وهو ضرْبٌ مِن ضُروبِ التَّفصيلِ الَّذي تَأتي له (أمَّا)، فارتباطُ التَّفصيلِ بالكلامِ السَّابقِ مُستفادٌ مِن الفاءِ الدَّاخلةِ على (أمَّا)، فالمُفصَّلُ هنا أحوالُ الإنسانِ الجاهلِ؛ فُصِّلَت إلى حالِه في الخفْضِ والدَّعةِ، وحالِه في الضَّنكِ والشِّدَّةِ، فالتَّوازُنُ بيْن الحالينِ المُعبَّرِ عنهما بالظَّرفَينِ في قولِه: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ إلخ، وقولِه: وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، وهذا التَّفصيلُ ليس مِن قَبيلِ تَبيينِ المُجمَلِ، ولكنَّه تَمييزٌ وفصْلٌ بيْن شَيئينِ، أو أشياءَ تَشتبِهُ أو تَختلِطُ [114] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/328، 329). .
- ومعْنى فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ أعطاهُ بقَدْرٍ مَحدودٍ، ومنه التَّقتيرُ، وكلُّ ذلك كِنايةٌ عن القِلَّةِ [115] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/330). .
- قولُه: فَقَدَرَ قُرِئَ بالتَّخفيفِ والتَّشديدِ [116] قرأ أبو جَعفرٍ وابنُ عامِرٍ بتَشديدِ الدَّالِ، وقرأ الباقونَ بتَخْفيفِها. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/400). ، وهما بمعنًى واحدٍ بمعنى ضَيَّقَ، وفي قراءةِ التَّشديدِ مُبالَغةٌ [117] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/474)، ((تفسير الألوسي)) (15/341). .
- واقتصارُ الآيةِ على تَقتيرِ الرِّزقِ في مُقابَلةِ النِّعمةِ دُونَ غيرِ ذلك مِن العِلَلِ والآفاتِ؛ لأنَّ غالبَ أحوالِ المشركين المُتحدَّثِ عنهم صِحَّةُ المزاجِ وقُوَّةُ الأبدانِ، فلا يَهلِكون إلَّا بقتْلٍ أو هَرَمٍ فيهم وفي ذَوِيهم، وقد عُرِفَ هذا الاعتقادُ الضَّالُّ مِن كَلامِ أهلِ الجاهليَّةِ، وجَعَلوا هذا الغُرورَ مِقياسًا لمراتبِ النَّاسِ؛ فجَعَلوا أصحابَ الكَمالِ أهلَ المظاهرِ الفاخرةِ، ووَصَموا بالنَّقصِ أهلَ الخَصاصةِ وضُعفاءَ النَّاسِ؛ فنَبَّهَ اللهُ على خَطأِ اعتقادِهِم بمُناسَبةِ ذِكرِ مُماثِلِه ممَّا اعتَقَدَه الأُمَمُ قبْلَهم الَّذي كان مُوجِبًا صَبَّ العذابِ عليهم، وأعلَمَهم أنَّ أحوالَ الدُّنيا لا تُتَّخَذُ أصلًا في اعتبارِ الجزاءِ على العمَلِ، وأنَّ الجزاءَ المُطَّرِدَ هو جَزاءُ يومِ القيامةِ [118] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/325، 326). .
- وجُملتَا فَيَقُولُ في الموضعينِ جَوابانِ لـ(أمَّا) الأُولى والثَّانيةِ، أي: يطَّرِدُ قولُ الإنسانِ هذه المقالةَ كلَّما حَصَلَت له نِعمةٌ، وكلَّما حَصَلَ له تَقتيرُ رِزقٍ؛ فأُوثِرَ الفِعلُ المضارعُ في الجوابينِ؛ لإفادةِ تَكرُّرِ ذلك القولِ وتَجدُّدِه كلَّما حصَلَ مَضمونُ الشَّرطينِ [119] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/330، 331). .
- وتَقديمُ رَبِّي على فِعلِ أَكْرَمَنِ وفِعلِ أَهَانَنِ دُونَ أنْ يقولَ: أكرَمَني ربِّي أو أهانَني ربِّي؛ لقصْدِ تَقَوِّي الحُكمِ، أي: يقولُ ذلك جازمًا به غيرَ مُتردِّدٍ [120] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/330). قال القِنَّوجيُّ: (قُرِئَ بإثباتِ الياءِ في أَكْرَمَنِ وأَهَانَنِ وصلًا، وحَذْفِها وَقفًا، وقُرئَ بإثباتِها فيهما، وقُرئَ بحَذْفِها في الوَصْلِ والوَقْفِ اتِّباعًا لرَسمِ المصحَفِ ومُوافَقةً لرُؤوسِ الآيِ، والأصلُ إثباتُها؛ لأنَّها اسمٌ). ((تفسير القنوجي)) (15/227). ويُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/182، 190، 191)، ((تفسير الشوكاني)) (5/534). وقال الزَّجَّاجُ: (وما حُذِفَ مِن هذه الياءاتِ نَحْوُ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمران: 20] لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [الإسراء: 62] ، ونَحوُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ فهو على ضَربَينِ مع النُّونِ؛ فإذا كان رأسَ آيةٍ فأهلُ اللُّغةِ يُسَمُّونَ أواخِرَ الآيِ الفواصِلَ، فيُجيزون حَذْفَ الياءاتِ كما يُجيزونَه في قوافي الشِّعرِ... فإذا لم يكُنْ آخِرَ قافيةٍ أو آخِرَ آيةٍ، فالأكثَرُ إثباتُ الياءِ، وحَذْفُها جَيِّدٌ بالِغٌ أيضًا بخاصَّةٍ مع النُّوناتِ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (1/389). .
2- قولُه تعالَى: كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا
- قولُه: كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ كَلَّا زجْرٌ للإنسانِ عن قولِه: رَبِّي أَكْرَمَنِ عندَ حُصولِ النِّعمةِ، وقولِه: رَبِّي أَهَانَنِ عندَما يَنالُه تَقتيرٌ؛ فهو ردْعٌ عن اعتقادِ ذلك، فمَناطُ الرَّدعِ كِلَا القولَينِ، وهذا ردْعٌ مُجمَلٌ لم يَتعرَّضِ القرآنُ لتَبيينِه؛ اكتفاءً بتَذييلِ أحوالِ الأُمَمِ الثَّلاثِ في نِعمتِهم بقولِه: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر: 14] بعْدَ قولِه: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ [121] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/750، 751)، ((تفسير البيضاوي)) (5/310)، ((تفسير أبي حيان)) (10/474)، ((تفسير أبي السعود)) (9/156)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/331، 332)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/475). [الفجر: 13] .
- و(بَلْ) إضرابٌ انتقاليٌّ، والمناسَبةُ بيْن الغرَضَينِ المُنتقَلِ منه والمُنتقَلِ إليه مُناسبةُ المُقابَلةِ لمَضمونِ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ مِن جِهةِ ما تَوهَّموه أنَّ نِعمةَ مالِهم وسَعةَ عَيشِهم تَكريمٌ مِن اللهِ لهم، فنَبَّهَهم اللهُ على أنَّهم إنْ أكرَمَهُم اللهُ، فإنَّهم لمْ يُكرِموا عَبيدَه شُحًّا بالنِّعمةِ؛ إذ حَرَموا أهلَ الحاجةِ مِن فُضولِ أموالِهِم، وإذ يَستزيدون مِن المالِ ما لا يَحتاجون إليه، وذلك دحْضٌ لتَفخُّرِهم بالكرَمِ والبذْلِ؛ فجُملةُ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ استئنافٌ كما يَقتضيهُ الإضرابُ، فهو إمَّا استئنافُ ابتداءِ كَلامٍ، وإمَّا اعتراضٌ بيْن كَلَّا وأختِها [122] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/750، 751)، ((تفسير البيضاوي)) (5/310، 311)، ((تفسير أبي السعود)) (9/156)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/332)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/475). .
- وفي قوله: كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ الْتفاتٌ إلى الخِطابِ؛ للإيذانِ باقتضاءِ مُلاحظةِ جِنايتِه السَّابقةِ لمُشافهتِه بالتَّوبيخِ تَشديدًا للتَّقريعِ، وتَأكيدًا للتَّشنيعِ. والجمْعُ باعتبارِ مَعْنى الإنسانِ؛ إذِ المرادُ هو الجنسُ [123] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/156، 157). .
- وتَعريفُ اليَتيمِ هنا للجِنسِ، أي: لا تُكرِمون اليَتامَى، وكذلك تَعريفُ المسكينِ [124] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/333). .
- ونفْيُ الحَضِّ على طَعامِ المسكينِ نفْيٌ لإطعامِهِ بطَريقِ الأَوْلى، وهي دَلالةُ فَحوى الخِطابِ [125] فَحْوَى الخِطابِ -ويُسمَّى تنبيهَ الخطابِ، ومفهومَ الموافقةِ-: هو إثباتُ حُكمِ المنطوقِ به للمَسكوتِ عنه بطريقِ الأَولَى، كقولِه تعالَى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء: 23] ، فيه تنبيهٌ على النَّهيِ عن ضربِهما وسَبِّهما؛ لأنَّ الضَّربَ والسَّبَّ أعظَمُ مِن التَّافيفِ، وكذلك قولُه تعالَى: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران: 75]، فيه تنبيهٌ على أنَّه يُؤدِّي ما كان دونَ القِنطارِ، ففي هذه الآيةِ نَبَّه بالأعلَى على الأدنَى، وفي الآيةِ الأُولى نَبَّه بالأدنَى على الأعلَى. يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (1/233)، ((تقريب الوصول إلي علم الأصول)) لابن جُزَي (ص: 163). ، أي: لقِلَّةِ الاكتراثِ بالمساكينِ لا يَنفَعونهم ولو نفْعَ وَساطةٍ، بلْهَ أنْ يَنفَعوهم بالبَذْلِ مِن أموالِهِم [126] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/333). .
- وقد حصَلَ في هذِه الآيةِ احتباكٌ [127] الاحْتِبَاك: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لِدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخِرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القُرآنِ وعناصِرِ إعجازِه، وهو مِن ألْطفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ؛ لأنَّهم لَمَّا نُفِيَ إكرامُهم اليتيمَ، وقُوبِلَ بنفْيِ أنْ يَحُضُّوا على طَعامِ المسكينِ؛ عُلِمَ أنَّهم لا يَحُضُّون على إكرامِ أيتامِهِم، أي: لا يَحُضُّون أولياءَ الأيتامِ على ذلك، وعُلِمَ أنَّهم لا يُطعِمونَ المساكينَ مِن أموالِهِم. ويجوزُ أنْ يكونَ الحَضُّ على الطَّعامِ كِنايةً عن الإطعامِ؛ لأنَّ مَن يحُضُّ على فِعلِ شَيءٍ يكونُ راغبًا في التَّلبُّسِ به، فإذا تَمكَّنَ أنْ يَفعَلَه فَعَلَه [128] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/333). .
- و(لا تُكرِمون، ولا تَحاضُّون، وتَأكُلون، وتُحبُّون) على الخِطابِ بطَريقةِ الالْتفاتِ مِن الغَيبةِ في قولِه: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ الآياتِ؛ لقصْدِ مُواجهتِهِم بالتَّوبيخِ، وهو بالمُواجَهةِ أوقَعُ منه بالغَيبةِ [129] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/333). .
- قولُه: تَحَاضُّونَ أصْلُه: تَتحاضُّون، فحُذِفَت إحْدى التَّاءينِ اختصارًا للتَّخفيفِ [130] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/334). .
- والأكلُ: مُعبَّرٌ به عن الانتِفاعِ بالشَّيءِ انتفاعًا لا يُبْقي منه شَيئًا، ولعلَّ هذا التَّعبيرَ مِن مُبتكراتِ القُرآنِ [131] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/334). .
- وأشْعَرَ قولُه: وَتَأْكُلُونَ بأنَّ المرادَ التُّراثُ الَّذي لا حقَّ لهم فيه، ومنه يَظهَرُ وجْهُ إيثارِ لَفظِ التُّرَاثَ دونَ أنْ يُقالَ: (وتَأكُلون المالَ)؛ لأنَّ التُّراثَ مالٌ مات صاحبُه، وأكْلُه يَقْتضي أنْ يَستحِقَّ ذلك المالَ عاجزٌ عن الذَّبِّ عن مالِه لصِغَرٍ أو أُنوثةٍ [132] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/334). .
- وتَعريفُ التُّرَاثَ عِوَضٌ عن المضافِ إليه، أي: تُراثَ اليَتامَى [133] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/334). .
- قولُه: أَكْلًا لَمًّا اللَّمُّ: الجمْعُ، ووَصْفُ الأكلُ به وصْفٌ بالمصدرِ للمُبالَغةِ [134] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/334). .
- قولُه: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا الجَمُّ: الكثيرُ، أي: حُبًّا كَثيرًا، ووَصْفُ الحُبِّ بالكثرةِ مُرادٌ به الشِّدَّةُ؛ لأنَّ الحُبَّ معنًى مِن المعاني النَّفْسيَّةِ لا يُوصَفُ بالكثرةِ الَّتي هي وَفرةُ عدَدِ أفرادِ الجِنسِ، فالجَمُّ مُعبَّرٌ به عن معْنى القَويِّ الشَّديدِ، أي: حُبًّا مُفرِطًا، وذلك مَحلُّ ذمِّ حُبِّ المالِ؛ لأنَّ إفراطَ حُبِّه يُوقِعُ في الحِرصِ على اكتِسابِه بالوَسائلِ غيرِ الحقِّ؛ كالغصْبِ والاختلاسِ، والسَّرقةِ وأكْلِ الأماناتِ [135] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/334). .