موسوعة التفسير

سُورةُ الماعُونِ
الآيات (1-7)

ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ

غريب الكلمات:

بِالدِّينِ: أي: بالجزاءِ والحسابِ، يُقالُ: دِنْتُه بما صَنَع، أي: جازَيْتُه، وأصلُ (دين): جِنْسٌ مِن الانْقِيادِ، والذُّلِّ [4] يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (1/23)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 38)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/319)، ((البسيط)) للواحدي (23/298)، ((المفردات)) للراغب (ص: 323). .
يَدُعُّ: أي: يَدفَعُ بشِدَّةٍ، والدَّعُّ في اللُّغةِ: الدَّفعُ في قَسوةٍ وعُنفٍ، وأصلُ (دعع): يدُلُّ على دَفعٍ [5] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 540)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 527)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/257)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 471)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 478). .
يَحُضُّ: أي: يَحُثُّ ويأمُرُ، والحَضُّ: الحَثُّ، وهو أن تَطلُبَ مِن غَيرِك فِعلًا بتأكيدٍ، وتُلِحُّ في ذلك الطَّلبِ، وأصلُ ‌‌(حضض): يدُلُّ على البَعْثِ على الشَّيءِ [6] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/13)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/139) و(30/566). .
فَوَيْلٌ: أي: عَذابٌ وهَلاكٌ. وقيلَ: وَيلٌ: وادٍ في جَهنَّمَ [7] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/163)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 478)، ((المفردات)) للراغب (ص: 888). .
سَاهُونَ: أي: لاهُون مُتشاغِلونَ، وأصلُ ‌‌(سهو): يدُلُّ على الغَفْلةِ والسُّكونِ [8] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/107)، ((البسيط)) للواحدي (24/358). .
يُرَاءُونَ: أي: لا يُريدونَ اللهَ بأعمالِهم، يُقالُ: راءى فُلانٌ يُرائي، وفَعَل ذلك رِئاءَ النَّاسِ: وهو أن يَفعَلَ شَيئًا لِيَراه النَّاسُ [9] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/473)، ((البسيط)) للواحدي (24/360). .
الْمَاعُونَ: أي: كُلَّ ما يُستعانُ به ويُنتَفَعُ به، كالفأسِ والدَّلْوِ ونَحوِهما مِن مَتاعِ البَيتِ اليَسيرِ، والماعونُ: فاعُولٌ مِنَ المَعْنِ: وهو الشَّيءُ القَليلُ [10] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 540)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 430)، ((البسيط)) للواحدي (24/366)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 471)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 478). .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ مخاطِبًا نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بقَولِه سُبحانَه: أرأَيْتَ -يا محمَّدُ- الَّذي يُكذِّبُ بوُقوعِ الجَزاءِ يومَ القيامةِ؟ فذلك مِن صِفَتِه أنَّه يَدفَعُ اليتيمَ بشِدَّةٍ وعُنفٍ، ولا يُكرِمُه، ولا يَحُثُّ الآخَرينَ على إطعامِ المِسكينِ!
ثمَّ قال الله تعالَى متوَعِّدًا: فعَذابٌ وهَلاكٌ للمُصَلِّينَ الَّذين هم عن صَلاتِهم لاهُون مُتشاغِلونَ، فيُؤخِّرونَها حتَّى يَخرُجَ وقتُها، ويُخِلُّونَ بشُروطِها وأرَكانِها وواجِباتِها، الَّذين هم يُراؤُونَ النَّاسَ بصَلاتِهم؛ طَلَبًا لثَناءٍ، أو رجاءً لنَفعٍ، ويَمنَعونَ النَّاسَ مِنَ الانتفاعِ بما لديهم، ممَّا لا يَتضَرَّرونَ ببَذْلِه.

تفسير الآيات:

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1).
أي: أرأيتَ -يا محمَّدُ- الَّذي يُكذِّبُ بوُقوعِ الجَزاءِ ثوابًا وعِقابًا يومَ القيامةِ، فهو لا يُطيعُ اللهَ بفِعلِ أوامِرِه واجتنابِ نواهيه [11] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/657)، ((الوسيط)) للواحدي (4/558)، ((تفسير الرازي)) (32/302)، ((تفسير ابن كثير)) (8/493)، ((تفسير السعدي)) (ص: 935). ممَّن ذهَبَ في الجُملةِ إلى المعنى المَذكورِ للدِّينِ: ابنُ جَريرٍ، والواحِديُّ، وابنُ كَثيرٍ، والسعديُّ، ونسَبَه الرَّازيُّ إلى أكثَرِ المُفَسِّرينَ. يُنظر: المصادِرُ السَّابِقةُ. وممَّن قال مِن السَّلفِ بأنَّ المُرادَ بالدِّينِ هنا: الحِسابُ والجَزاءُ: ابنُ عبَّاسٍ في رِوايةٍ عنه، وعِكْرِمةُ، ومُجاهِدٌ، وابنُ جُرَيْجٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/657)، ((تفسير الماوردي)) (6/350)، ((البسيط)) للواحدي (24/356)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/495). وقد جَوَّزَ البَيْضاويُّ والقاسِميُّ أن يكونَ المُرادُ بالدِّينِ: الإسْلامَ. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/341)، ((تفسير القاسمي)) (9/552). قال الشوكاني: (قِيل: الرُّؤْيةُ: هي البصَرِيَّةُ، فيَتَعَدَّى إلى مفعولٍ واحدٍ، وهو الموصولُ، أي: أأبصرْتَ المُكَذِّبَ. وقيلَ: إنَّها بمعنَى أخبِرْني فيتَعَدَّى إلى اثنيْنِ. الثَّاني محذوفٌ، أيْ: مَنْ هو). ((تفسير الشوكاني)) (5/611). وقال أيضًا: (الخِطابُ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو لكُلِّ مَن يَصلُحُ له). ((تفسير الشوكاني)) (5/611). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 326). ؟
فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2).
أي: فذلك مِن صِفَتِه أنَّه يدفَعُ اليتيمَ بشِدَّةٍ وعُنفٍ، ولا يُكرِمُه [12] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/658)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/278)، ((تفسير السعدي)) (ص: 935). قال ابنُ عطيَّةَ: (أي: ارقُبْ فيه هذه الخِلالَ السَّيِّئةَ تَجِدْها، ودَعُّ اليَتيمِ: دَفْعُه بعُنفٍ، وذلك إمَّا أن يكونَ المعنى: عن إطعامِه والإحسانِ إليه، وإمَّا أن يكونَ: عن حَقِّه ومالِه، فهذا أشَدُّ). ((تفسير ابن عطية)) (5/527). وممَّن ذهَبَ إلى المعنى الأوَّلِ: السعديُّ، وابنُ عاشورٍ، وابنُ عُثَيْمينَ. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 935)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/566)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 326). وممَّن قال بنَحوِ هذا القَولِ مِن السَّلفِ: مُجاهِدٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/658). وممَّن ذهَبَ إلى المعنى الثَّاني: ابنُ جَريرٍ، والزَّجَّاجُ، والسَّمَرْقَنْديُّ، والواحِديُّ، وابنُ كَثيرٍ، والشَّوْكانيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/658)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/ 367)، ((تفسير السمرقندي)) (3/625)، ((الوسيط)) للواحدي (4/558)، ((تفسير ابن كثير)) (8/493)، ((تفسير الشوكاني)) (5/611). وممَّن قال بنَحوِ هذا القَولِ مِن السَّلَفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وقَتادةُ، والضَّحَّاكُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/658)، ((تفسير الماوردي)) (6/351). .
كما قال تعالى: كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ [الفجر: 17] .
وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3).
أي: ولا يَحُثُّ الآخَرينَ على إطعامِ المِسكينِ المحتاجِ للطَّعامِ [13] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/659)، ((الوسيط)) للواحدي (4/558)، ((تفسير ابن عطية)) (5/527)، ((تفسير البيضاوي)) (5/341)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 327). قال الشوكاني: (وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ أي: لا يَحُضُّ نَفْسَه ولا أهْلَه ولا غيرَهم على ذلك؛ بُخلًا بالمالِ، أو تكذيبًا بالجَزاءِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/611). .
كما قال تعالى: وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الفجر: 18] .
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ أوَّلًا عَمودَ الكفْرِ -وهو التَّكذيبُ بالدِّينِ-؛ ذَكَرَ ما يَترتَّبُ عليه ممَّا يَتعلَّقُ بالخالِقِ، وهو عِبادتُه بالصَّلاةِ [14] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/552). .
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5).
أي: فعَذابٌ وهَلاكٌ للمُصَلِّينَ الَّذين هم عن صَلاتِهم لاهُون مُتشاغِلونَ؛ فلا يُحافِظونَ على أدائِها في أوقاتِها، إنَّما يُؤخِّرونَها حتَّى يَخرُجَ الوقتُ، ويُخِلُّونَ بشُروطِها وأركانِها وواجِباتِها [15] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/659، 663)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/428)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/281). قال الواحِديُّ: (قال أكثَرُ المُفَسِّرينَ: معنى «عنها ساهونَ»، أي: يَغفُلوا عنها حتَّى يَذهَبَ وَقْتُها. وهو قَولُ سَعدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ، ومُقاتِلٍ، والحسَنِ؛ قالوا: السَّهْوُ عنها تَضْييعُ وَقْتِها حتَّى يَفوتَ). ((البسيط)) (24/358). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/871). وقال ابنُ القَيِّمِ: (قد فَسَّرَ أصحابُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ السَّهْوَ عنها بأنَّه: تَأخيرُها عن وَقْتِها، كما ثبَتَ ذلك عن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ). ((الصلاة وأحكام تاركها)) (ص: 72). وذكَرَ في مَوضِعٍ آخَرَ أنَّ السَّهوَ إمَّا عن الوَقتِ، وإمَّا عن الحُضورِ الواجِبِ والخُشوعِ، وصَوَّبَ أنَّه يَعُمُّ النَّوعَينِ. يُنظر: ((مدارج السالكين)) (1/524). قال ابنُ تيميَّةَ: (قال: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، فأثبَتَ لهم صَلاةً، وجعَلَهم ساهينَ عنها، فعُلِمَ أنَّهم كانوا يُصَلُّونَ مع السَّهوِ عنها، وقد قال طائِفةٌ مِن السَّلفِ: بل هو السَّهوُ عمَّا يجِبُ فيها، مِثلُ تَركِ الطُمَأْنينةِ، وكِلا المَعْنيَينِ حَقٌّ، والآيةُ تَتناوَلُ هذا وهذا). ((مجموع الفتاوى)) (15/234). ويُنظر أيضًا: ((مجموع الفتاوى)) (22/24). وقال ابنُ جَريرٍ: (أَوْلى الأقوالِ في ذلك عِندي بالصَّوابِ بقَولِه: سَاهُونَ: لاهُونَ، يَتغافَلونَ عنها؛ وفي اللَّهوِ عنها والتَّشاغُلِ بغَيْرِها، تَضْييعُها أحيانًا، وتَضْييعُ وَقْتِها أخرى. وإذا كان ذلك كذلك صَحَّ بذلك قَولُ مَن قال: عُنِيَ بذلك تَرْكُ وَقْتِها، وقَولُ مَن قال: عُنِيَ به تَرْكُها؛ لِما ذَكَرْتُ قبلُ مِن أنَّ في السَّهوِ عنها المَعانيَ الَّتي ذَكَرْتُ). ((تفسير ابن جرير)) (24/663). وقال ابنُ كَثيرٍ: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، قال ابنُ عبَّاسٍ وغيرُه: يَعني: المُنافِقينَ، الَّذين يُصَلُّونَ في العَلانيَةِ ولا يُصَلُّونَ في السِّرِّ؛ ولهذا قال: لِلْمُصَلِّينَ أي: الَّذين هُم مِن أهْلِ الصَّلاةِ وقد الْتَزَموا بها، ثمَّ هم عنها ساهونَ؛ إمَّا عن فِعْلِها بالكُلِّيَّةِ، كما قالَه ابنُ عبَّاسٍ، وإمَّا عن فِعْلِها في الوقتِ المُقَدَّرِ لها شَرْعًا، فيُخرِجُها عن وَقْتِها بالكُلِّيَّةِ، كما قالَه مَسْروقٌ، وأبو الضُّحى...، وإمَّا عن وَقْتِها الأوَّلِ فيُؤَخِّرُونَها إلى آخِرِه دائِمًا أو غالِبًا. وإمَّا عن أدائِها بأرْكانِها وشُروطِها على الوَجْهِ المَأْمورِ به. وإمَّا عن الخُشوعِ فيها، والتَّدَبُّرِ لِمَعانيها؛ فاللَّفظُ يَشملُ هذا كلَّه، ولكلِّ مَن اتَّصَفَ بشَيءٍ مِن ذلك قِسْطٌ مِن هذه الآيةِ. ومَن اتَّصَفَ بجَميعِ ذلك فقدْ تَمَّ نَصيبُه مِنها، وكَمَلَ له النِّفاقُ العَمَليُّ). ((تفسير ابن كثير)) (8/493). .
كما قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 142] .
وقال سُبحانَه: وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة: 54] .
وقال عزَّ وجَلَّ: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم: 59] .
الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6).
أي: الَّذين هم يُراؤُونَ النَّاسَ بصَلاتِهم إذا صَلَّوا أمامَهم، فلا يُصَلُّونَ إخلاصًا للهِ تعالى، ورغبةً في ثَوابِه، ورهبةً مِن عِقابِه، وإنَّما يُصَلُّونَها لِيَراهم المؤمِنونَ؛ طَلَبًا لثَناءٍ، أو رجاءً لنَفعٍ [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/664)، ((تفسير القرطبي)) (20/212)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/281، 282)، ((تفسير السعدي)) (ص: 935)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 328). .
وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا شَرَح أمْرَ الصَّلاةِ؛ أعقَبَه بذِكرِ الصِّلاتِ [17] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/305). . فلمَّا بيَّن حالَهم معَ الخالقِ؛ بيَّن حالَهم معَ المخلوقينَ، وأنَّهم لا أحْسَنوا عِبادةَ رَبِّهم، ولا أحْسَنوا إلى خَلْقِه.
وأيضًا فإنَّه بيَّن أنَّ مَن هو بتلك الصِّفةِ يَغلِبُ عليه الشُّحُّ [18] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/595). .
وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7).
أي: ويَمنَعونَ النَّاسَ مِنَ الانْتِفاعِ بما لَدَيهم، ممَّا لا يَتَضَرَّرونَ ببَذْلِه، فلا يُعينونَهم بإعارتِه [19] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/665، 678)، ((أحكام القرآن)) للجصاص (3/643)، ((الوسيط)) للواحدي (4/558)، ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (2/699)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/282)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 329). قال الواحِديُّ: (أكثَرُ المُفَسِّرينَ على أنَّ الماعونَ: اسْمٌ لِما يَتَعاوَرُه النَّاسُ بَيْنَهم مِن الدَّلْوِ، والفَأسِ، والقِدْرِ، وما لا يُمنَعُ، كالماءِ والمِلْحِ). ((الوسيط)) (4/558). وقال ابنُ القَيِّمِ: (الماعونُ: اسْمٌ جامِعٌ لجَميعِ ما يُنتفَعُ به، فذكَرَ بعضُ السَّلفِ هذا للسَّائلِ تَمثيلًا وتَنبيهًا بالأَدْنى على الأعلى، فإذا كان الوَيْلُ لِمَن منَعَ هذا، فكيف بمَن منَعَ ما الحاجةُ إليه أَعظَمُ؟! وإذا كان العبدُ يُسألُ عن شُكرِ الماءِ البارِدِ، فكيف بما هو أعظَمُ نَعيمًا منه؟!). ((الصواعق المرسلة)) (2/699). وقال السعديُّ: (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ أي: يَمنَعونَ إعْطاءَ الشَّيءِ الَّذي لا يَضُرُّ إعْطاؤُه على وَجْهِ العارِيَّةِ، أو الهِبةِ، كالإناءِ، والدَّلْوِ، والفَأسِ، ونَحوِ ذلك ممَّا جَرَتِ العادةُ ببَذْلِه والسَّماحةِ به). ((تفسير السعدي)) (ص: 935). وعن علِيٍّ رَضيَ اللهُ عنه قال: (الْمَاعُونَ: مَنْعُ الزَّكاةِ والفَأسِ والدَّلْوِ والقِدْرِ). أخرَجه ابنُ جَريرٍ في ((تفسيره)) (24/677). وقال ابنُ كَثيرٍ بعْدَ أن ذكَرَ أقوالَ السَّلفِ في الماعونِ: (وقال عِكْرِمةُ: رأسُ الماعونِ زكاةُ المالِ، وأدْناه: المُنْخُلُ والدَّلْوُ والإبْرةُ. رواه ابنُ أبي حاتِمٍ. وهذا الَّذي قالَه عِكْرِمةُ حسَنٌ؛ فإنَّه يَشملُ الأقوالَ كلَّها، وتَرجِعُ كلُّها إلى شيءٍ واحِدٍ، وهو تَرْكُ المُعاوَنةِ بمالٍ أو مَنْفَعةٍ). ((تفسير ابن كثير)) (8/497). .

الفوائد التربوية:

1- قال اللهُ تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ يجبُ على المرءِ أنْ يَنظُرَ في نفْسِه: هل هو ممنِ اتَّصَفَ بهذه الصِّفاتِ أو لا؟ إنْ كان ممَّنِ اتَّصَفَ بهذه الصِّفاتِ -قد أضاع الصَّلاةَ، وسَهَا عنها، ومَنَعَ الخيرَ عن الغيرِ- فلْيَتُبْ ولْيَرجِعْ إلى اللهِ، وإلَّا فلْيَبشُرْ بالوَيلِ -والعياذُ باللهِ-، وإنْ كان قد تَنَزَّهَ عن ذلك فلْيَبشُرْ بالخيرِ، والقرآنُ الكريمُ ليس المقصودُ منه أنْ يَتلوَه الإنسانُ لِيَتعَبَّدَ للهِ تعالى بتلاوتِه فقط، المقصودُ أنْ يَتَأَدَّبَ به؛ ولهذا قالتْ عائشةُ رضيَ اللهُ عنها: ((فإنَّ خُلُقَ نَبيِّ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان القرآنَ )) [20] أخرجه مسلم (746). ، خُلُقُه يعني أخلاقَه الَّتي يَتخَلَّقُ بها يأخُذُها مِن القُرآنِ الكريمِ [21] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 329). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فيه الحَثُّ على إكرامِ اليتيمِ والمساكينِ، والتَّحضيضِ على ذلك [22] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 935). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ فيه مُراعاةُ الصَّلاةِ، والمحافظةُ عليها وعلى الإخلاصِ فيها وفي جميعِ الأعمالِ [23] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 935). .
4- إخْلاصُ الدِّينِ هو أصْلُ دينِ الإسْلامِ؛ ولِذلك ذَمَّ اللهُ الرِّياءَ في مِثلِ قَولِه: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ [النساء: 142] إلى غيرِ ذلك [24] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (18/257). ويُنظر أيضًا: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 299). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ فيه الحَثُّ على فِعلِ المعروفِ، وبَذْلِ الأموالِ الخفيفةِ، كعاريَّةِ الإناءِ والدَّلوِ والكتابِ، ونحوِ ذلك؛ لأنَّ اللهَ ذَمَّ مَن لم يفعَلْ ذلك [25] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 935). .
6- في قَولِه تعالى: وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ الحَثُّ على العاريَّةِ [26] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 299). ، فإذا احتاج قَومٌ مِن إنسانٍ إلى أنْ يُعِيرَهم دَلوًا يَستقُونَ به، أو قِدْرًا يَطبُخون فيها، أو فأسًا يَحفِرون به؛ فإنَّه يجبُ بدَلالةِ الآيةِ بَذْلُه مجَّانًا، إذا كان صاحبُها مُستغنيًا عن تلك المنفعةِ وعِوَضِها [27] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/98). قال ابن عثيمين: (ومَنْعُ الماعونِ يَنقسِمُ إلى قِسمَينِ: القِسمُ الأوَّلُ: قِسمٌ يأثَمُ به الإنسانُ. القِسمُ الثَّاني: قِسمٌ لا يأثمُ به، لكن يَفوتُه الخيرُ. فما وجَب بَذْلُه فإنَّ الإنسانَ يأثمُ بمَنعِه، وما لم يجِبْ بَذْلُه فإنَّ الإنسانَ لا يأثمُ بمَنعِه، لكن يَفوتُه الخيرُ. مِثالُ ذلك: إنسانٌ جاءه رجلٌ مضطرٌّ يقولُ: أعطني ماءً أشربُه، فإن لم أشرَبْ متُّ، فبَذْلُ الإناءِ له واجبٌ، يأثمُ بتَركِه الإنسانُ). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 329). .
7- المُؤمنُ له الإخلاصُ والإحسانُ، والفاجِرُ له الكُفرُ والبُخلُ، وقد ذَمَّ اللهُ سُبحانَه هَذينِ الخُلُقينِ المُهلِكَينِ في غيرِ مَوضعٍ مِن كِتابِه، كقولِه: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ، والرِّياءُ ضِدُّ الإخلاصِ، ومَنْعُ الماعونِ ضِدُّ الإحسانِ [28] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 82). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تبارك وتعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فيه سُؤالٌ: لِمَ خَصَّ المكَذِّبينَ بيَومِ الدِّينِ بمَنْ يَرتكِبُ هذين الأمْرَيِن: دَعَّ اليَتيمِ، وعدَمَ الحَضِّ على إطعامِ المِسكينِ؟
الجوابُ: أنَّهما نَموذَجانِ ومِثالانَ فقط [29] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (9/114). ، واقتَصَر عليهما لا على معنى: أنَّ الصَّادِرَ عَمَّن يُكَذِّبُ بالدِّينِ ليس إلَّا ذلك؛ لأنَّا نَعلَمُ أنَّ المكَذِّبَ بالدِّينِ لا يقتَصِرُ على هذينِ، بل على سَبيلِ التَّمثيلِ، كأنَّه تعالى ذكَرَ في كُلِّ واحدٍ مِن القِسمَينِ مِثالًا واحِدًا؛ تنبيهًا بذِكْرِه على سائِرِ القبائِحِ، أو مِن أجْلِ أنَّ هاتَينِ الخَصلتينِ كما أنَّهما قبيحانِ مُنكَرانِ بحَسَبِ الشَّرعِ، فهما أيضًا مُستنكَرانِ بحسَبِ المروءةِ والإنسانيَّةِ [30] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/302). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ذَكَر اللهُ تعالى في تعريفِ مَن يُكَذِّبُ بالدِّينِ وَصفَينِ: أحَدُهما مِن بابِ الأفعالِ، وهو قَولُه: فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، والثَّاني مِن بابِ التُّروكِ، وهو قَولُه: وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، والفاءُ في قَولِه فَذَلِكَ للسَّببيَّةِ، أي: لَمَّا كان كافِرًا مُكَذِّبًا كان كُفرُه سَبَبًا لدَعِّ اليتيمِ [31] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/302). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فيه سُؤالٌ: أليس قد لا يحُضُّ المرءُ في كثيرٍ مِن الأحوالِ، ولا يكونُ آثِمًا؟
الجوابُ: لأنَّ غَيرَه يَنوبُ مَنابَه، أو لأنَّه لا يُقبَلُ قَولُه، أو لمفَسدةٍ أُخرى يتوقَّعُها، أمَّا هاهنا فذَكَر أنَّه لا يَفعَلُ ذلك إلَّا لأنَّه مُكَذِّبٌ بالدِّينِ [32] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/303). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فيه سُؤالٌ: لِمَ لَمْ يقلْ: (ولا يُطعِمُ المِسكينَ)؟
الجوابُ: إذا مَنَع اليَتيمَ حَقَّه، فكيف يُطعِمُ المِسكينَ مِن مالِ نَفْسِه؟! بل هو بخيلٌ مِن مالِ غَيرِه، وهذا هو النِّهايةُ في الخِسَّةِ، فلَأنْ يكونَ بخيلًا بمالِ نَفْسِه أَولى، وضِدُّه في مَدحِ المؤمنينَ: وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [البلد: 17] ، وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [33] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/303). [العصر: 3] .
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ في إضافةِ (طعام) إلى (المسكينِ) دليلٌ على أنَّه يَستَحِقُّه [34] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/552). .
6- قَولُه تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، وقولُه عزَّ وجلَّ: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم: 59] ، وقَولُه: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة: 238] هذه الآياتُ تَقتضي ذَمَّ مَن تَرَكَ شيئًا مِن واجباتِ الصَّلاةِ وإنْ كان في الظَّاهرِ مُصَلِّيًا، مِثلُ أنْ يَترُكَ الوقتَ الواجبَ، أو يَترُكَ تكميلَ الشَّرائطِ والأركانِ مِن الأعمالِ الظَّاهرةِ والباطنةِ [35] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (22/571). .
7- قَولُ اللهِ تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ فيه سُؤالٌ: كيف توعَّدَ اللهُ السَّاهيَ عن الصَّلاةِ، مع أنَّه غيرُ مُؤاخَذٍ بالسَّهوِ؟
الجوابُ: المرادُ بالسَّهوِ هنا: التَّغافُلُ والتَّكاسُلُ عن أدائِها، وقِلَّةُ الالتِفاتِ إليها، وذلك فِعلُ المنافِقينَ أو الفَسَقةِ مِنَ المُسلِمينَ، لا ما يتَّفِقُ فيها مِن السَّهْوِ بالوَسوَسةِ أو حديثِ النَّفْسِ ممَّا لا صُنعَ للعَبدِ فيه [36] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 629). . وقد فَرَّق العُلَماءُ بيْن السَّهْوِ في الشَّيءِ والسَّهْوِ عن الشَّيءِ؛ فالسَّهْو في الشَّيءِ ليس بمذمومٍ، بخلافِ السَّهْوِ عن الشَّيءِ؛ فإنَّه مذمومٌ؛ ولذا قال اللهُ عزَّ وجلَّ ذامًّا السَّاهِينَ عن الصَّلاةِ: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ؛ وذلك لأنَّ السَّهْوَ في الشَّيءِ تَرْكٌ له مِن غيرِ قصْدٍ، والسَّهْوُ عن الشَّيءِ تَرْكٌ له مع القَصدِ [37] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (14/13). . وقد ورد عن عَطاءِ بنِ دينارٍ، أنَّه قالَ: (الحمدُ للَّهِ الَّذي قالَ: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، ولم يقُلْ: في صَلاتِهم) [38] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/664)، ((تفسير الثعلبي)) (10/305). .
8- في قَولِه تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ أنَّه ليس السَّهْوُ عنها تَرْكَها، وإلَّا لم يَكونوا مُصَلِّينَ، وإنَّما هو السَّهْوُ عن واجبِها؛ إمَّا عن الوَقتِ، وإمَّا عن الحُضورِ والخُشوعِ، والصَّوابُ أنَّه يَعُمُّ النَّوعَينِ؛ فإنَّه سُبحانَه أثبَتَ لهم صلاةً، ووَصَفَهم بالسَّهْوِ عنها؛ فهو السَّهْوُ عن وقْتِها الواجِبِ، أو عن إخلاصِها وحُضورِها الواجِبِ؛ ولذلك وَصَفَهم بالرِّياءِ، ولو كان السَّهْوُ سَهْوَ تَرْكٍ لَمَا كان هناك رِياءٌ [39] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/524). !

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تبارك وتعالَى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ
- قولُه: أَرَأَيْتَ الاستِفهامُ مُستعمَلٌ في تَشويقِ السَّامعِ إلى مَعرفةِ مَن سِيقَ لهُ الكلامُ، والتَّعجيبِ مِن حالِ المُكذِّبين بالجَزاءِ، وما أورَثَهم التَّكذيبُ مِن سُوءِ الصَّنيعِ؛ فالتَّعجيبُ مِن تَكذيبِهم بالدِّينِ وما تَفرَّعَ عليه مِن دَعِّ اليَتيمِ، وعدَمِ الحَضِّ على طَعامِ المسكينِ، وقد صِيغَ هذا التَّعجيبُ في نظْمٍ مُشوِّقٍ؛ لأنَّ الاستِفهامَ عن رُؤيةِ مَن ثَبَتَت له صِلةُ المَوصولِ يذهبُ بذِهنِ السَّامعِ مَذاهبَ شتَّى مِن تَعرُّفِ المَقصدِ بهذا الاستِفهامِ؛ فإنَّ التَّكذيبَ بالدِّينِ شائعٌ فيهم؛ فلا يكونُ مَثارًا للتَّعجُّبِ، فيَترقَّبُ السَّامعُ ماذا يَرِدُ بعْدَه؟ وهو قولُه: فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ [40] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/804)، ((تفسير البيضاوي)) (5/341)، ((تفسير أبي السعود)) (9/203)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/564). .
- يجوزُ أنْ تكونَ أَرَأَيْتَ هي الَّتي بمعْنى أخْبِرْني، فتَتعدَّى لاثنَينِ؛ أحدُهما الَّذِي، والآخَرُ مَحذوفٌ، تَقديرُه: أليس مُستحِقًّا عَذابَ اللهِ؟ أو: مَن هو؟ ويَجوزُ أنْ تكونَ مِن رُؤيةِ البصَرِ، فلا يكونُ في الكلامِ حذْفٌ؛ فالرُّؤيةُ البَصريَّةُ يَتعدَّى فِعلُها إلى مَفعولٍ واحدٍ؛ فإنَّ المُكذِّبينَ بالدِّينِ مَعروفونَ، وأعمالُهم مَشهورةٌ، فنُزِّلَت شُهرتُهم بذلك مَنزلةَ الأمْرِ المُبصَرِ المُشاهَدِ. وهَمزةُ الاستفهامِ تدُلُّ على التَّقريرِ والتَّفهيمِ؛ ليَتذكَّرَ السَّامعُ مَن يَعرِفُه بهذه الصِّفةِ [41] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/552)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/565). .
- قولُه: فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ الفاءُ لعطْفِ الصِّفةِ الثَّانيةِ على الأُولى أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ؛ لإفادةِ تَسبُّبِ مَجموعِ الصِّفتينِ في الحُكْمِ المَقصودِ مِن الكلامِ، وذلك شَأنُها في عطْفِ الصِّفاتِ إذا كان مَوصوفُها واحدًا؛ فمَعْنى الآيةِ: عطْفُ صِفتَيْ دَعِّ اليَتيمِ وعَدَمِ إطعامِ المِسكينِ على جُرْمِ التَّكذيبِ بالدِّينِ، وهذا يُفيدُ تَشويهَ إنكارِ البَعثِ بما يَنشَأُ عن إنكارِه مِن المَذامِّ ومِن مُخالَفةٍ للحقِّ، ومُنافاةٍ لِما تَقتضيهِ الحِكمةُ مِن التَّكليفِ، وفي ذلك كِنايةٌ عن تَحذيرِ المسلمينَ مِن الاقترابِ مِن إحْدى هاتَينِ الصِّفتينِ بأنَّهما مِن صِفاتِ الَّذين لا يُؤمِنون بالجَزاءِ [42] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/564، 565). .
وقيل: الفاءُ هي الفَصيحةُ؛ لأنَّها جَوابُ شرْطٍ مُقدَّرٍ، والتَّقديرُ: هَلْ عرَفْتَ الَّذي يُكذِّبُ بالجزاءِ أو بالإسلامِ؟ فإنْ لم تَعرِفْه، أو إنْ أردتَ أنْ تَعرِفَه؛ فهو الَّذي يَدفَعُ اليَتيمَ دفْعًا عَنيفًا، ويَزجُرُه زَجْرًا قَبيحًا، ولا يَحُضُّ على طَعامِ المِسكينِ؛ لعدَمِ اعتقادِه بالجزاءِ؛ ولذلك رتَّبَ الجُملةَ على يُكَذِّبُ بالفاءِ [43] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/804)، ((تفسير البيضاوي)) (5/341)، ((تفسير أبي السعود)) (9/203)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/593). .
- وفي إقحامِ اسمِ الإشارةِ واسمِ المَوصولِ بعْدَ الفاءِ -في قَولِه: فَذَلِكَ الَّذِي-: زِيادةُ تَشويقٍ؛ حتَّى تَقرَعَ الصِّلةُ سَمْعَ السَّامعِ، فتَتمكَّنَ منه كَمالَ تَمكُّنٍ [44] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/564). .
أو وُضِع اسمُ الإشارةِ المُتعرِّضُ لوَصْفِ المُشارِ إليهِ مَوضعَ الضَّميرِ؛ للإشعارِ بعِلَّةِ الحُكمِ، والتَّنبيهِ بِما فيه مِن معْنى البُعدِ على بُعدِ مَنزلتِه في الشَّرِّ والفسادِ [45] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/203). .
- وأيضًا الإشارةُ إلى الَّذي يُكذِّبُ بالدِّينِ باسمِ الإشارةِ (ذلك)؛ لتَمييزِه أكمَلَ تَمييزٍ حتَّى يَتبصَّرَ السَّامعُ فيه وفي صِفَتِه، أو لتَنزيلِه مَنزِلةَ الظَّاهرِ الواضحِ بحيث يُشارُ إليه [46] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/564). .
- وجِيءَ في يُكَذِّبُ، ويَدُعُّ، ويَحُضُّ بصِيغةِ المُضارعِ؛ لإفادةِ تَكرُّرِ ذلك منه ودَوامِه، وهذا إيذانٌ بأنَّ الإيمانَ بالبَعثِ والجزاءِ هو الوازِعُ الحقُّ الَّذي يَغرِسُ في النَّفْسِ جُذورَ الإقبالِ على الأعمالِ الصَّالحةِ حتَّى يَصيرَ ذلك لها خُلقًا إذا شَبَّتْ عليه، فزَكَتْ وانساقَتْ إلى الخيرِ بدُونِ كُلفةٍ، ولا احتياجٍ إلى آمِرٍ، ولا إلى مَخافةٍ ممَّن يُقيمُ عليه العُقوباتِ، حتَّى إذا اخْتَلى بنَفْسِه وأَمِنَ الرُّقباءَ جاء بالفَحشاءِ والأعمالِ النَّكراءِ [47] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/565). .
- وكُنِّيَ بنَفْيِ الحضِّ عن نفْيِ الإطعامِ؛ لأنَّ الَّذي يَشُحُّ بالحضِّ على الإطعامِ هو بالإطعامِ أشَحُّ [48] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/552)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/566). .
2- قَولُه تعالَى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ
- قولُه: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الفاءُ إمَّا لرَبْطِ ما بعْدَها بشَرْطٍ مَحذوفٍ، كأنَّه قيلَ: إذا كان ما ذُكِرَ مِن عدَمِ المبالاةِ باليتيمِ والمسكينِ مِن دَلائلِ التَّكذيبِ بالدِّينِ، ومُوجِباتِ الذَّمِّ والتَّوبيخِ؛ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. وإمَّا لتَرتيبِ الدُّعاءِ عليهم بالوَيلِ على ما ذُكِرَ مِن قَبائحِهم؛ فمَوقعُ الفاءِ صَريحٌ في اتِّصالِ ما بعْدَها بما قبْلَها مِن الكلامِ على معْنى التَّفريعِ والتَّرتُّبِ والتَّسبُّبِ [49] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/804، 805)، ((تفسير أبي السعود)) (9/204)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/566، 567)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/593). .
- قولُه: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ صِفةٌ للمُصَلِّينَ مُقيِّدةٌ لحُكمِ المَوصوفِ؛ فإنَّ الويلَ للمُصلِّي السَّاهي عن صَلاتِه لا للمُصلِّي على الإطلاقِ، فيكونُ قولُه: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ تَرشيحًا للتَّهكُّمِ الواقعِ في إطلاقِ وَصْفِ المُصلِّينَ عليهم [50] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/567). . وذلك على أنَّ وَصْفَهم بـ (الْمُصَلِّينَ) المرادُ عَدَمُه، أي: الَّذِينَ لا يُصَلُّونَ.
- وعُدِّيَ سَاهُونَ بحرْفِ عَنْ؛ لإفادةِ أنَّهم تَجاوَزوا إقامةَ صَلاتِهم وتَرَكوها [51] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/567). . فمعنى (عن): أنَّهم ساهونَ عنها سَهْوَ تَركٍ لها، وقِلَّةِ التِفاتٍ إليها، وذلك فِعلُ المنافِقينَ أو الفَسَقةِ مِن المسلِمينَ [52] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/805)، ((تفسير الشربيني)) (4/594). . وذلك على قولٍ.
- ومَفعولُ (يَمنَعون) الأوَّلُ مَحذوفٌ، أي: النَّاسَ أو الطَّالبينَ، والْمَاعُونَ مَفعولُه الثَّاني [53] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/594). .
- وتَقديمُ المُسنَدِ إليه على الخبَرِ الفِعليِّ في قَولِه: هُمْ يُرَاءُونَ لتَقويةِ الحكْمِ، أي: تَأكيدِه [54] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/568). .
- قولُه: وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ هذا ذمٌّ لهم بمُنْتهى البُخلِ [55] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/554)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/568). .
- وفي قَولِه: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ كُرِّرَ الَّذِينَ هُمْ ولم يُقتصَرْ على مرَّةٍ واحدةٍ؛ لامتناعِ عطْفِ الفِعلِ على الاسمِ، ولم يُقَلْ: (الَّذين همْ يَمنَعون)؛ لأنَّه فِعلٌ، فحَسُنَ عطْفُ الفِعلِ على الفعلِ [56] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 255)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/546). .