موسوعة التفسير

سورةُ التَّغابُنِ
الآيات (5-8)

ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ

غريب الكلمات:

وَبَالَ أَمْرِهِمْ: أي: جزاءَ ذنْبِهم، وعاقِبةَ أمرِهم مِن الشَّرِّ، والوَبالُ: الوَخامةُ وسُوءُ العاقِبةِ، وأصلُ (وبل): يدُلُّ على شِدَّةٍ فِي شَيءٍ، وتجَمُّعٍ [79] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 479)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/82)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 89)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 186)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 949). .

المعنى الإجمالي:

يخبرُ اللهُ تعالى عن الأممِ السَّابقةِ، وما نزَل بهم مِن العذابِ؛ لمخالفتِهم الرُّسلَ وتكذيبِهم بالحقِّ، فيقولُ تعالى: ألم يأتِكم خبَرُ الَّذين كفَروا مِن قَبْلِكم مِنَ الأقوامِ السَّابِقةِ، فذاقَوا عُقوبةَ كُفرِهم، فأهلَكَهم اللهُ في الدُّنيا، ولهم عَذابٌ مُؤلِمٌ في الآخِرةِ؟
ثمَّ يُبيِّنُ سبحانَه الأسبابَ الَّتي أدَّتْ إلى سوءِ عاقِبةِ هذه الأُممِ، فيقولُ: وقَعَ بهم العذابُ بسَبَبِ أنَّه كانت تأتيهم رُسُلُهم بالحُجَجِ الواضِحةِ فكَذَّبوهم بدَعْوى أنَّهم بشَرٌ مِثلُهم، واستبعَدوا أن يَكونوا هُداةً لهم! فكَفَروا، وأعرَضوا عن اتِّباعِ الحَقِّ، واستَغْنى اللهُ عنهم وعن إيمانِهم، واللهُ غنيٌّ عن جميعِ خَلْقِه، محمودٌ في أقوالِه وأفعالِه وصِفاتِه، حامِدٌ لِمَن يَستحِقُّ الحمدَ مِن عبادِه.
ثمَّ يخبرُ تعالى عن عِنادِ الكافِرين، وتكذيبِهم بالبعثِ، فيقولُ: زَعَم الكُفَّارُ كَذِبًا أنَّ اللهَ لن يَبعَثَهم! قُلْ -يا محمَّدُ- لهم: بلى، ورَبِّي لَتُبعَثُنَّ، ثمَّ لَتُخبَرُنَّ يومَ القيامةِ بما عَمِلتُم، وذلك أمرٌ سَهلٌ على الله.
ثمَّ يقولُ تعالى آمِرًا عِبادَه بما يَنفَعُهم يومَ القيامةِ: فآمِنوا باللهِ ورَسولِه والقُرآنِ الَّذي أنزَلْناه، واللهُ خَبيرٌ بجَميعِ أعمالِكم، وسيُجازيكم عليها.

تفسير الآيات:

أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى مِن أوصافِه الكامِلةِ العَظيمةِ ما به يُعرَفُ ويُعبَدُ، ويُبذَلُ الجُهدُ في مَرضاتِه، وتُجتَنَبُ مَساخِطُه؛ أخبَرَ بما فَعَل بالأُمَمِ السَّابِقينَ، والقُرونِ الماضينَ الَّذين لم تزَلْ أنباؤُهم يَتحَدَّثُ بها المتأخِّرونَ، ويُخبِرُ بها الصَّادِقونَ، وأنَّهم حينَ جاءتهم الرُّسُلُ بالحَقِّ كَذَّبوهم وعانَدوهم؛ فأذاقَهم اللهُ وَبالَ أمْرِهم في الدُّنيا، وأخزاهم فيها [80] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 866). .
وأيضًا لَمَّا فرَغَ مِن ذِكرِ بَيانِ العَظَمةِ له سُبحانه؛ جاء بالتَّهديدِ والوعيدِ، وقال [81] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/452). :
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ.
أي: ألم يَأتِكم خَبَرُ الكافِرينَ مِن قَبْلِكم، كقَومِ نُوحٍ وعادٍ وثَمودَ وغَيرِهم [82] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/7)، ((تفسير القرطبي)) (18/134)، ((تفسير ابن كثير)) (8/136)، ((تفسير السعدي)) (ص: 866). قيل: الخِطابُ هنا لمُشرِكي قُرَيشٍ. وممَّن ذهب إلى هذا: ابنُ جرير، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/7)، ((تفسير القرطبي)) (18/134). وممَّن جعَلَه لعُمومِ النَّاسِ: البِقاعي، فقال: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ أي: أيُّها النَّاس، ولا سِيَّما الكُفَّار). ((نظم الدرر)) (20/111). ؟
فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ.
أي: فذاقَ كُفَّارُ الأُمَمِ الماضيةِ عُقوبةَ كُفرِهم، فأهلَكَهم اللهُ في الدُّنيا [83] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/7)، ((تفسير القرطبي)) (18/134)، ((تفسير ابن كثير)) (8/ 136)، ((تفسير الشوكاني)) (5/281)، ((تفسير القاسمي)) (9/243)، ((تفسير السعدي)) (ص: 866). .
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أي: ولهم عَذابٌ مُؤلِمٌ مُوجِعٌ في الآخِرةِ [84] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/7)، ((تفسير القرطبي)) (18/134)، ((تفسير ابن كثير)) (8/136)، ((تفسير السعدي)) (ص: 866)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/268). .
ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى ما أحَلَّه بالَّذين كَفَروا مِن قَبلُ، وأشار إلى القَطْعِ بأنَّه مِن عِندِه باتِّساقِه في خَرْقِه العوائِدَ بالاستئصالِ لِمَن كَذَّب الرُّسُلَ، والتَّنجيةِ لِمَن صَدَّقهم؛ عَلَّله بقَولِه [85] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/112). :
ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا.
أي: ذلك الوَبالُ في الدُّنيا والعذابُ في الآخِرةِ لكُفَّارِ الأُمَمِ الماضيةِ واقِعٌ بسَبَبِ أنَّه كانت تأتيهم رُسُلُهم بالحُجَجِ الواضِحةِ والدَّلائِلِ الباهِرةِ، فكَذَّبوهم واستَكبَروا عن اتِّباعِهم بدَعْوَى أنَّهم بشَرٌ مِثلُهم، واسْتَبْعدوا أنْ يَكونوا هُداةً لهم [86] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/8)، ((تفسير القرطبي)) (18/135)، ((تفسير ابن كثير)) (8/136)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/112، 113)، ((تفسير السعدي)) (ص: 866). !
كما قال تعالى: قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [إبراهيم: 10، 11].
وقال سُبحانَه: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 94].
فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا.
أي: فكَفَروا باللهِ ورُسُلِه، وأعرَضوا عن اتِّباعِ الحَقِّ [87] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/8)، ((تفسير ابن كثير)) (8/136)، ((تفسير السعدي)) (ص: 866). .
وَاسْتَغْنَى اللَّهُ.
أي: واستَغنى اللهُ عنهم وعن إيمانِهم به وبرُسُلِه؛ فليس له حاجةٌ إليهم، ولا يُبالي بهم، ولا يَضُرُّه سُبحانَه كُفرُهم [88] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/8)، ((تفسير ابن كثير)) (8/136)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/114)، ((تفسير السعدي)) (ص: 866). !
وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ.
أي: واللهُ غنيٌّ عن جميعِ خَلْقِه، وغيرُ مُحتاجٍ إليهم ولا إلى عِبادتِهم، وهو محمودٌ في أقوالِه وأفعالِه وأوصافِه، ومحمودٌ مِن كلِّ مخلوقاتِه بلِسانِ المقالِ والحالِ، فله الحَمدُ، وهو أيضًا حامِدٌ لِمَن يَستحِقُّ الحمدَ مِن عبادِه [89] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/8)، ((تفسير السمعاني)) (5/450)، ((تفسير الرازي)) (30/553)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/114، 115)، ((تفسير الشوكاني)) (5/281)، ((تفسير السعدي)) (ص: 866)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/270)، ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (3/340). قال الرازي: (الحميدُ بمعنى المحمودِ، أي: المُستَحِقِّ للحَمدِ بذاتِه، ويكونُ بمعنى الحامِدِ). ((تفسير الرازي)) (30/553). وقال ابن عثيمين: («فَعيل» تأتي بمَعنَى «مفعول»، ومنه قَولُهم: قَتيلٌ بمعنى مقتول، وجَريحٌ بمعنى مجروح، لكنَّها تأتي بمَعنَى «الفاعِلِ» أيضًا؛ مِثلُ عَليمٍ بمَعنى عالِمٍ، عَزيزٍ بمعنى عازٍّ، حكيمٍ بمعنى محُكِمٍ، وهكذا تأتي بهذا المعنى. فإذا كانت تأتي بالوجهَينِ جميعًا، أي: بالفاعِلِ والمَفعولِ؛ فهل الأَوْلى أن نَجعَلَها مَقصورةً على المَفعولِ، أو نَجعَلَها شامِلةً؟ الجوابُ: الأَوْلى أن نَجعلَها شامِلةً؛ فهو عزَّ وجلَّ حميدٌ بمعنى حامدٍ، وبمعنى محمودٍ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 62). .
كما قال تعالى: وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [لقمان: 12] .
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ هذا ضَربٌ ثالِثٌ مِن ضُروبِ كُفرِ المُشرِكينَ المُخاطَبينَ بقَولِه: أَلَمْ يَأْتِكُمْ [التغابن: 5] الآيةَ، وهو كُفرُهم بإنكارِهم البَعثَ والجَزاءَ [90] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/270). .
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا.
أي: ادَّعى الكُفَّارُ كَذِبًا أنَّ اللهَ لن يَبعَثَهم بعدَ مَوتِهم للحِسابِ والجَزاءِ [91] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/9)، ((تفسير القرطبي)) (18/135)، ((تفسير ابن كثير)) (8/ 136)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/115)، ((تفسير السعدي)) (ص: 866). قال القرطبي: (قولُه تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا أي: ظَنُّوا. الزَّعمُ هو القولُ بالظَّنِّ. وقال شُرَيحٌ: لكلِّ شَيءٍ كُنيةٌ، وكنيةُ الكذبِ زعَموا). ((تفسير القرطبي)) (18/135). وقال الراغب: (الزَّعْمُ: حكايةُ قولٍ يكونُ مَظِنَّةً للكذِبِ؛ ولهذا جاء في القرآنِ في كلِّ موضِعٍ ذُمَّ القائلونَ به). ((المفردات في غريب القرآن)) (ص: 380). وقال محمد رشيد رضا: (الزَّعْمُ في أصلِ اللُّغةِ القولُ والدَّعوَى، سواءٌ أكانَ ذلك حَقًّا أمْ باطلًا... لُغَةُ القرآنِ أنَّ الزَّعْمَ يُستعمَلُ في الباطلِ والكذِبِ، وهو يَرُدُّ على الزَّاعِمينَ، ولا يُقِرُّهم على شيءٍ). ((تفسير المنار)) (5/182). وقال النووي: (الزَّعمُ يُطلَقُ على القولِ المُحقَّقِ والكذبِ وعلى المشكوكِ فيه، ويُنزَّلُ في كلِّ موضعٍ على ما يَليقُ به). ((شرح النووي على مسلم)) (5/76). .
قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ.
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لهؤلاء المُنكِرينَ للبَعثِ: بلى، أُقسِمُ برَبِّي لَتُخرَجُنَّ مِن قُبورِكم أحياءً [92] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/9)، ((تفسير القرطبي)) (18/135)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/115، 116)، ((تفسير السعدي)) (ص: 866). .
ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ.
أي: ثمَّ لَتُخبَرُنَّ يومَ القيامةِ بجَميعِ ما عَمِلتُموه في الدُّنيا، وتُجازَونَ عليه [93] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/9)، ((تفسير القرطبي)) (18/135)، ((تفسير ابن كثير)) (8/136)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/272). .
وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ.
أي: وبَعْثُ اللهِ عِبادَه مِن قُبورِهم أحياءً بعْدَ مَوتِهم للحِسابِ والجَزاءِ أمرٌ سَهلٌ عليه [94] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/9)، ((تفسير ابن كثير)) (8/136)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/116)، ((تفسير السعدي)) (ص: 866). .
كما قال الله سبحانه وتعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27] .
فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا تقَرَّر الإيمانُ باللهِ تعالى مِن أنَّه الملِكُ الَّذي له وَحْدَه المُلْكُ، وأشار بما يُشاهَدُ مِن انقِسامِ عَبيدِه إلى مؤمِنٍ وكافرٍ إلى أنَّه لا بُدَّ مِن الأخذِ على يدِ الظَّالمِ منهما، كما هي عادةُ الملوكِ، لا يَسوغُ في الحِكمةِ ولا في العادةِ غَيرُ ذلك، وأخبَرَ أنَّ عِلْمَه محيطٌ لنِسبتِه إلى العُلويَّاتِ والسُّفْليَّاتِ والظَّواهِرِ والبواطِنِ على حَدٍّ سواءٍ- أتْبَعَ ذلك وُجوبَ الإيمانِ برُسُلِه؛ لجَمعِ الكَلِمةِ عليه سُبحانَه، لِنُكمِلَ الحياةَ بإصلاحِ ذاتِ البَينِ؛ لئلَّا يقَعَ الخِلافُ فتَفسُدَ الحياةُ، ووُجوبَ الاعتبارِ بمَن مضَى مِن أُمَمِهم [95] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/111). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى إنكارَ مَن أنكَرَ البَعثَ، وأنَّ ذلك منهم مُوجِبٌ كُفْرَهم باللهِ وآياتِه؛ أمَرَ بما يَعصِمُ مِن الهَلَكةِ والشَّقاءِ، وهو الإيمانُ باللهِ ورَسولِه وكِتابِه [96] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 866). .
وأيضًا لَمَّا بالَغَ في الإخبارِ عن البَعثِ -والاعترافُ بالبَعثِ مِن لوازمِ الإيمانِ-؛ قال [97] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/116). :
فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا.
أي: فآمِنوا باللهِ ورَسولِه، وآمِنوا بالقُرآنِ الَّذي أنزَلْناه؛ تَهتَدوا به مِن ظُلُماتِ الضَّلالِ [98] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/9)، ((تفسير القرطبي)) (18/136)، ((تفسير ابن كثير)) (8/ 137)، ((تفسير السعدي)) (ص: 866). قال ابنُ عاشور: (الفاءُ فَصيحةٌ تُفصِحُ عن شَرطٍ مُقَدَّرٍ، والتَّقديرُ: فإذا عَلِمتُم هذه الحُجَجَ، وتذَكَّرتُم ما حَلَّ بنُظَرائِكم مِن العِقابِ، وما ستُنَبَّؤونَ به مِن أعمالِكم؛ فآمِنوا باللهِ ورَسولِه والقُرآنِ). ((تفسير ابن عاشور)) (28/272). .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [النساء: 174] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ [المائدة: 15] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى: 52] .
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.
أي: واللهُ ذو خِبرةٍ بالِغةٍ تامَّةٍ بجَميعِ أعمالِكم، لا يَخفى عليه شَيءٌ مِن ظَواهِرِها وبَواطِنِها، ونيَّاتِكم فيها، وسيُجازيكم عليها [99] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/9)، ((تفسير القرطبي)) (18/137)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/117، 118)، ((تفسير السعدي)) (ص: 866). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ سَمَّاه اللهُ تعالى نورًا؛ فإنَّ النُّورَ ضِدُّ الظُّلمةِ، وما في الكِتابِ الَّذي أنزَلَه اللهُ مِن الأحكامِ والشَّرائِعِ والأخبارِ أنوارٌ يُهتَدى بها في ظُلُماتِ الجَهلِ المُدْلَهِمَّةِ، ويُمشَى بها في ظُلُماتِ اللَّيلِ البَهيمِ، وما سِوى الاهتداءِ بكِتابِ اللهِ فهي علومٌ ضَرَرُها أكثَرُ مِن نَفعِها، وشَرُّها أكثَرُ مِن خَيرِها، بل لا خَيرَ فيها ولا نَفْعَ، إلَّا ما وافَقَ ما جاءت به الرُّسُلُ [100] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 866). .
2- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ تحذيرُ الإنسانِ مِن المُخالَفةِ؛ لأنَّ هذا يُوجِبُ ألَّا نُخالِفَ اللهَ تعالى، ما دُمْنا نَعلَمُ أنَّه خَبيرٌ بما نَعمَلُ فإنَّه لا يُمكِنُ أنْ نخالِفَ اللهَ عزَّ وجلَّ، مِثلَما لو قال رجلٌ لآخرَ: اذهبْ وأنا أعلَمُ ما تَفعَلُ، فالمرادُ: التَّهديدُ والتَّحذيرُ مِن المُخالَفةِ؛ فكلُّ نَصٍّ يُبَيِّنُ اللهُ تعالى فيه أنَّه يَعلَمُ ما نَعمَلُ، فهو تحذيرٌ لنا مِن مُخالفتِه [101] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 25). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال تعالى: فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا هذه هِدايةُ الدَّلالةِ والإرشادِ بكَلامِه وبعِلمِه، وأمْرِه ونَهيِه، وتَرغيبِه وتَرهيبِه، وأمَّا حُصولُ الهُدى في القَلبِ فهذا لا يَقدِرُ عليه إلَّا اللهُ، باتِّفاقِ المسلمينَ؛ سُنِّيِّهم وقَدَرِيِّهم [102] يُنظر: ((الاستغاثة في الرد على البكري)) لابن تيمية (ص: 214). .
2- قَولُ الله تعالى: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ فيه سُؤالٌ: قَولُه تعالى: فَكَفَرُوا تعميمٌ يُفهَمُ منه التَّوَلِّي، فما الحاجةُ إلى ذِكْرِه؟
الجوابُ: أنَّهم كَفَروا وقالوا: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا، وهذا في معنى الإنكارِ والإعراضِ بالكُلِّيَّةِ، وهذا هو التَّوَلِّي، فكأنَّهم كَفَروا وقالوا قولًا يدُلُّ على التَّوَلِّي؛ فلهذا قال: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا. وقيل: إنَّهم كَفَروا بالرُّسُلِ، وتَوَلَّوا عن البُرهانِ، وأعرَضوا عن الإيمانِ والمَوعِظةِ [103] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/553)، ((تفسير ابن عادل)) (19/128). .
3- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ذو الغِنى الواسِعِ، ومع ذلك فإنَّ غِناه مَقرونٌ بحَمدِه؛ ولهذا قال: غَنِيٌّ حَمِيدٌ، وقال: الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر: 15] ، فهو غنيٌّ يُحمَدُ على غِناه؛ لأنَّه يَجُودُ به على غَيرِه، لكِنَّ بني آدمَ قد يكونُ الإنسانُ منهم غنيًّا ولكِنْ ليس حميدًا، فإذا كان غنيًّا وتَسَلَّطَ بغِناه على غَيرِه، وفَخَر به على النَّاسِ، ولم يَقُمْ بما يَجِبُ عليه؛ صار غنيًّا غيرَ حميدٍ، لكنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ غَنيٌّ حَميدٌ [104] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 133). .
4- في قَولِه تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا أنَّ مُنكِرَ البَعثِ كافِرٌ [105] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 71). .
5- في قَولِه تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ أنَّ الحَلِفَ إذا دَعَتِ الحاجةُ إليه أوِ اقتَضَتْه المصلحةُ، فإنَّه جائزٌ، بل قد يكونُ مَندوبًا إليه [106] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (2/472). .
6- أمَرَ اللهُ تعالى نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُقسِمَ على الجَزاءِ والمَعادِ في ثلاثِ آياتٍ:
الأولى: قولُه تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ.
والثانية: قولُه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ: 3] .
والثالثة: قولُه تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [يونس: 53] ؛ وهذا لأنَّ المَعادَ إنَّما يَعلَمُه عامَّةُ النَّاسِ بإخبارِ الأنبياءِ [107] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 6). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن كثير)) (8/136). .
7- في قَولِه تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ أنَّه يجوزُ للمُفتي والمُناظِرِ أنْ يَحلِفَ على ثُبوتِ الحُكمِ عندَه، وإنْ لم يكُنْ حَلِفُه مُوجِبًا لثُبوتِه عندَ السَّائلِ والمُنازِعِ؛ لِيُشْعِرَ السَّائلَ والمُنازِعَ له أنَّه على ثِقةٍ ويَقينٍ ممَّا قال له، وأنَّه غيرُ شاكٍّ فيه [108] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/126). .
8- قَولُ الله تعالى: قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ فيه سؤالٌ: كيف يُفيدُ القسَمُ في إخبارِه عن البَعثِ، وهم قد أنكَروا رِسالتَه؟
الجوابُ: أنَّهم وإن أنكَروا الرِّسالةَ، لكِنَّهم يَعلَمونَ أنَّه لا يُقدِمُ على القَسَمِ برَبِّه إلَّا أن يكونَ صِدقُ هذا الإخبارِ أظهَرَ مِن الشَّمسِ عِندَه وفي اعتِقادِه، والفائِدةُ في الإخبارِ مع القَسَمِ ليست إلَّا هذا، ثمَّ إنَّه أكَّدَ الخَبرَ باللَّامِ والنُّونِ، فكأنَّه قَسَمٌ بعْدَ قَسَمٍ [109] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/554). .
9- قَولُ الله تعالى: فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا، قال: فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ بطَريقِ الإضافةِ، ولم يَقُلْ: (ونُورِه الَّذي أنزَلْنا) بطَريقِ الإضافةِ، مع أنَّ النُّورَ هاهنا هو القُرآنُ، والقُرآنُ كَلامُه ومُضافٌ إليه؟
الجوابُ: الألِفُ واللَّامُ في النُّورِ بمعنى الإضافةِ، كأنَّه قال: (ورَسولِه ونُورِه الَّذي أنزَلْنا) [110] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/554). .
10- في قَولِه تعالى: فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا رَدٌّ على المُعتَزِلةِ فيما يَزعُمونَ أنَّ الشَّيءَ إذا سُمِّيَ باسمٍ، ثُمَّ سُمِّيَ به غيرُه؛ لَزِمَ أنْ يُشبِهَه بجَميعِ جِهاتِه! وقد سمَّى اللهُ جلَّ جلالُه القُرآنَ هاهنا نورًا، كما سمَّى نفْسَه نورًا [111] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/317). .
11- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ إثباتُ عِلْمِ اللهِ عزَّ وجلَّ بالظَّاهرِ والخَفيِّ؛ فالخبيرُ هو العَليمُ ببَواطنِ الأمورِ، ومَن كان عليمًا ببَواطنِ الأمورِ كان عليمًا بظَواهِرِها مِن بابِ أَولى [112] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (3/158). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
- هو انتقالٌ مِنَ التَّعريضِ الرَّمزيِّ بالوعيدِ الأخرويِّ في قولِه: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [التغابن: 2] ، إلى قولِه: وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [التغابن: 3] ، وقولِه: وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [التغابن: 4] ؛ إلى تَعريضٍ أوضَحَ مِنه بطريقِ الإيماءِ إلى وَعيدٍ لعذابٍ دُنيويٍّ وأخرويٍّ معًا؛ فإنَّ ما يُسمَّى في بابِ الكِنايةِ بالإيماءِ أقلُّ لوازِمَ مِنَ التَّعريضِ والرَّمزِ، فهو أقرَبُ إلى التَّصريحِ. وهذا الإيماءُ بضربِ المَثَلِ بحالِ أُمَمٍ تَلَقَّوْا رُسلَهم بمِثْلِ ما تلقَّى به المُشرِكونَ مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ تَحذيرًا لهم مِن أنْ يحُلَّ بهم مِثلُ ما حلَّ بأولئك، فالجُملةُ ابتدائيَّةٌ؛ لأنَّها عَدٌّ لصِنْفٍ ثانٍ مِن أصنافِ كفرِهم، وهو إنكارُ الرِّسالةِ؛ فالخِطابُ لخُصوصِ الفريقِ الكافرِ، بقَرينةِ قولِه: الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ؛ فهذا الخِطابُ مُوجَّهٌ للمشركينَ الَّذين حالُهم كحالِ مَن لم يَبلُغْهم نَبأُ الَّذين كَفَروا مِثلَ كُفْرِهم، مِثلُ عادٍ وثمودَ ومَدْينَ وقومِ إبراهيمَ [113] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/267، 268). .
- قولُه: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ الاستِفهامُ تَقريريٌّ توبيخيٌّ، وأُتِيَ معه بالجُملةِ مَنفيَّةً؛ تَوسِعةً على المُقرَّرِ إنْ كان يُرِيدُ الإنكارَ، حتَّى إذا أقرَّ لم يَستطِعْ بَعْدَ إقرارِه إنكارًا؛ لأنَّه قد أُعْذِر له مِن قَبْلُ بتَلْقينِه النَّفيَ [114] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/268)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/110). .
- وحُذِفَ ما أُضِيفَ إليه قَبْلُ ونُوِيَ معناهُ، والتَّقديرُ: مِن قَبْلِكم، أي: في الكفرِ، بقرينةِ قولِه: فَمِنْكُمْ كَافِرٌ [التغابن: 2] ، والكافِرونَ يَعلَمونَ أنَّهمُ المقصودُ؛ لأنَّهم مُقدِمونَ على الكفرِ، ومُستمِرُّونَ عليهِ [115] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/268). .
- والذَّوقُ مُعبَّرٌ به عن مُطلَقِ الإحساسِ والوِجدانِ، شُبِّهَ ما حلَّ بهم مِنَ العذابِ بشَيءٍ ذي طعْمٍ كَرِيهٍ يَذوقُه مَن حلَّ به ويبتلِعُه؛ لأنَّ الذَّوقَ باللِّسانِ أشدُّ مِنَ اللَّمسِ باليَدِ أو بالجِلدِ، والمعنى: أحَسُّوا العذابَ في الدُّنيا إحساسًا مَكينًا [116] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/268). .
- قولُه: فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَمْرِهِمْ هو كفرُهُم، وعُبِّرَ عنه بذلكَ؛ للإيذانِ بأنَّه أمْرٌ هائلٌ، وجنايةٌ عظيمةٌ [117] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/256). .
2- قولُه تعالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
- قولُه: ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ... ارتقاءٌ في التَّعريضِ إلى ضرْبٍ مِنه قريبٍ مِنَ الصَّريحِ، وهو المسمَّى في الكنايةِ بالإشارةِ؛ كانت مَقالةُ الَّذينَ مِن قبْلُ مُماثِلةً لمَقالةِ المُخاطَبينَ، فإذا كانت هي سبَبَ ما ذاقوهُ مِنَ الوَبالِ، فيُوشِكُ أنْ يَذوقَ مُماثِلوهم في المقالةِ مِثلَ ذلكَ الوَبالِ، فاسمُ الإشارةِ عائدٌ إلى المذكورِ مِن الوَبالِ والعذابِ الأليمِ، فهذا عَدٌّ لكفْرٍ آخَرَ مِن وُجوهِ كفْرِهم، وهو تَكذيبُهمُ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتكذيبُهم بالقرآنِ؛ فإنَّ القرآنَ بيِّنةٌ مِنَ البيِّناتِ؛ لأنَّه مُعجِزةٌ [118] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/268). .
- قولُه: ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ الباءُ للسَّببِيَّةِ؛ فالجُملةُ في مَوقعِ العِلَّةِ، أي: بِأَنَّهُ بسبَبِ أنَّ الشَّأنَ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ بالمُعجِزاتِ [119] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/217)، ((تفسير أبي السعود)) (8/256)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/269). .
- والضَّميرُ في بِأَنَّهُ ضَميرُ الشَّأنِ؛ لقصْدِ تَهويلِ ما يُفسِّرُ الضَّميرَ، وهو جُملةُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ إلى آخِرِها [120] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/269). .
- والاستِفهامُ في أَبَشَرٌ استِفهامُ إنكارٍ وتَعجُّبٍ وإبطالٍ، فهُمْ أحالوا أنْ يكونَ بشَرٌ مِثلُهم يَهْدُونَ بشَرًا أمثالَهُم، فقالوا على سبيلِ الاستِغرابِ: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا؛ وذلكَ أنَّهم يقولونَ: نحنُ مُتساوُونَ في البشَريَّةِ، فأنَّى يكونُ لهؤلاءِ تَمييزٌ علينا بحيثُ يَصيرونَ هُداةً لنا؟! وهذا مِن جَهلِهِم بمَراتبِ النُّفوسِ البشريَّةِ ومَن يَصطفيهِ اللهُ منها، ويَخلُقُه مُضْطَلِعًا بتبليغِ رسالتِه إلى عِبادِه، وجَهِلوا أنَّه لا يَصلُحُ لإرشادِ النَّاسِ إلَّا مَن هو مِن نَوعِهم، ومِن جَهلِهم أنَّهم أنكَروا أنْ تكونَ الرُّسلُ بشَرًا، ولم يُنكِروا أنْ يكونَ اللهُ حجَرًا! ولَمَّا أحالوا أنْ يكونَ البشَرُ أهلًا لهدايةِ بشَرٍ مِثلِه، جعَلوا ذلكَ كافيًا في إعراضِهم عن قَبولِ القرآنِ والتَّدبُّرِ فيهِ [121] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/547)، ((تفسير البيضاوي)) (5/217)، ((تفسير أبي حيان)) (10/189)، ((تفسير أبي السعود)) (8/256)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/269)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/110). .
- قولُه: فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا، أي: قال كلُّ قومٍ مِن المذكورينَ في حقِّ رسولِهم، وقد أُجمِلَ في الحكايةِ، فأُسنِدَ القولُ إلى جميعِ الأقوامِ [122] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/256). . وأُرِيدَ بالبشَرِ الجِنسُ؛ فوُصِفَ بالجَمعِ [123] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/256)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/269). .
- وتَنكيرُ (بشَرٌ) للنَّوعيَّةِ؛ لأنَّ مَحَطَّ الإنكارِ على كَونِهم يَهدونَهم هو نَوعُ البشريَّةِ [124] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/269). .
- وتَقديمُ المُسنَدِ إليه أَبَشَرٌ على الخبرِ الفعليِّ يَهْدُونَنَا؛ لقَصْدِ تَقَوِّي حُكمِ الإنكارِ، وما قالوا ذلك حتَّى اعتقَدوهُ؛ فلذلك أقدَموا على الكفرِ برُسلِهم؛ إذْ قدِ اعتَقَدوا استِحالةَ إرسالِ اللهِ إيَّاهُم، فجَزَموا بكَذِبِهم في دَعوى الرِّسالةِ؛ فلذلك فُرِّعَ عليهِ: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا [125] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/269). .
- قولُه: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا العطفُ بالفاءِ يدُلُّ على تعقُّبِ كفرِهم مَجيءَ الرُّسلِ بالبيِّناتِ، أي: لم يَنظُروا في تلك البيِّناتِ ولا تأمَّلوها، بل عقَّبوا مَجيئَها بالكفرِ [126] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/189). .
- وقيلَ: الفاءُ في قولِه: فَكَفَرُوا عاطِفةٌ، وتُفيدُ السَّببيَّةَ لا التَّعقيبَ، أي: فكفَروا بسبَبِ هذا القَولِ [127] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/110). .
- وقولُه: وَاسْتَغْنَى السِّينُ والتَّاءُ للمُبالَغةِ، والمعنى: غَنِيَ اللهُ عن إيمانِهم. والواوُ واوُ الحالِ، أي: والحالُ أنَّ اللهَ غنيٌّ عنهم مِن زمنٍ مَضَى؛ فإنَّ غِنَى اللهِ عن إيمانِهم مُقرَّرٌ في الأزَلِ. ويجوزُ أنْ يُرادَ: واستَغْنى اللهُ عن إعادةِ دَعوتِهم؛ لأنَّ فيما أظهَرَ لهم مِنَ البيِّناتِ على أيدي رُسلِهم ما هو كافٍ لحُصولِ التَّصديقِ بدَعوةِ رُسلِهم لولا المُكابَرةُ؛ فلذلك عجَّلَ لهم بالعذابِ، وعلى الوجهَينِ فمُتعلَّقُ (اسْتَغْنَى) مَحذوفٌ دلَّ عليه قولُه: فَكَفَرُوا، وقولُهُ: بِالْبَيِّنَاتِ، والتَّقديرُ: واستَغْنى اللهُ عن إيمانِهِم [128] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/269، 270). . وقيل: أُطلِقَ الاستغناءُ ليَتناولَ كلَّ شيءٍ، ومِن جملتِه إيمانُهم وطاعتُهم [129] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/547). .
- جُملةُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ تَذييلٌ، أي: غنيٌّ عن كلِّ شَيءٍ فيما طلَبَ منهم، حَميدٌ لِمَنِ امْتَثَل وشكَر [130] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/270). .
3- قولُه تعالَى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ
- قولُه: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا هذا ضَرْبٌ ثالثٌ مِن ضُروبِ كفْرِ المُشرِكينَ المُخاطَبينَ بقولِه: أَلَمْ يَأْتِكُمْ [التغابن: 5] إلخ، وهو كفرُهم بإنكارِهمُ البعثَ والجزاءَ، والجملةُ ابتدائيَّةٌ، وهذا الكلامُ مُوجَّهٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ بقرينةِ قولِه: قَالُوا بَلَى، وليس هذا مِنَ الإظهارِ في مَقامِ الإضمارِ، ولا مِنَ الالتفاتِ، بل هو ابتداءُ غرَضٍ مُخاطَبٍ به غَيرُ مَن كانَ الخطابُ جاريًا معهم [131] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/270). .
- واجتلابُ حرفِ لَنْ لتأكيدِ النَّفيِ، فكانوا مُوقِنينَ بانتفاءِ البعثِ؛ ولذلك جِيءَ إبطالُ زعمِهم مؤكَّدًا بالقسَمِ؛ لِيَنْقُضَ نفيَهم بأشَدَّ منه، فأُمِر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يُبلِّغَهم عن اللهِ أنَّ البعثَ واقعٌ، وخاطَبَهم بذلك تسجيلًا عليهم ألَّا يقولوا ما بُلِّغْنا ذلكَ [132] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/271). .
- وحرفُ بَلَى حرفُ جوابٍ للإبطالِ، خاصٌّ بجوابِ الكلامِ المنفيِّ لإبطالِه [133] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/271). .
- قولُه: وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ جملةٌ مُستقِلَّةٌ داخلةٌ تحتَ الأمرِ، واردةٌ لتأكيدِ ما أفادَته كلمةُ (بَلَى) مِن إثباتِ البعثِ، وبيانِ تحقُّقِ أمْرٍ آخَرَ مُتفرِّعٍ عليه، مَنُوطٍ به؛ ففيه تأكيدٌ لتحقُّقِ البعثِ بوجهَيْنِ [134] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/256، 257). .
- وجملة ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ ارتقاءٌ في الإبطالِ. و(ثُمَّ) للتَّراخي الرُّتْبيِّ؛ فإنَّ إنباءَهم بما عمِلوا أهَمُّ مِن إثباتِ البعثِ؛ إذْ هو العِلَّةُ للبعثِ [135] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/272). .
- والإنباءُ: الإخبارُ، وإنباؤُهم بما عمِلوا كنايةٌ عن مُحاسَبتِهم عليه، وجزائِهم عمَّا عمِلوه؛ فإنَّ الجزاءَ يَستلزِمُ عِلمَ المُجازَى بعِملِه الَّذي جُوزِيَ عليهِ، فكان حُصولُ الجزاءِ بمَنزلةِ إخبارِه بما عمِلَه؛ كقولِه تعالى: إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا [لقمان: 23] . وهذا وعيدٌ وتهديدٌ بجزاءٍ سيِّئٍ؛ لأنَّ المَقامَ دليلٌ على أنَّ عملَهم سيِّئٌ، وهو تكذيبُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإنكارُ ما دعاهُمْ إليه [136] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/272). .
- وجُملةُ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ تَذييلٌ، والواوُ اعتراضيَّةٌ [137] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/272). .
- واسمُ الإشارةِ: إمَّا عائدٌ إلى البعثِ المفهومِ مِن لَتُبْعَثُنَّ، وإمَّا عائدٌ إلى معنى المذكورِ مِن مَجموعِ لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ، وأُخبِرَ عنه بـ يَسِيرٌ دونَ أنْ يُقالَ: (واقعٌ)؛ لأنَّ الكلامَ لردِّ إحالتِهم البعثَ بعِلَّةِ أنَّ أجزاءَ الجسدِ تفرَّقَتْ، فيَتعذَّرُ جَمْعُها، فذُكِّروا بأنَّ العسيرَ في مُتعارَفِ النَّاسِ لا يَعْسُرُ على الله، وقد قال في الآيةِ الأُخرى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [138] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/272). [الروم: 27] .
4- قولُه تعالَى: فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
- الفاءُ فصيحةٌ مُفصِحةٌ عن شرْطٍ قد حُذِفَ؛ ثِقةً في ظُهورِه، أي: إذا كان الأمْرُ كذلكَ، أو إذا علِمْتُم هذِه الحُجَجَ، وتذكَّرْتُم ما حَلَّ بنُظرائِكم مِنَ العِقابِ وما ستُنبَّؤونَ به مِن أعمالِكم، فَآَمِنُوا ... [139] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/257)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/273). .
- والمرادُ بالنُّورِ الَّذي أنزَلَ اللهُ: القرآنُ، وُصِفَ بأنَّه نُورٌ؛ لأنَّه أشبَهَ النُّورَ في إيضاحِ المطلوبِ باستقامةِ حُجَّتِه، وبلاغةِ كلامِه، وأشبَهَ النُّورَ في الإرشادِ إلى السُّلوكِ القويمِ، وفي هذا الشَّبهِ الثَّاني تُشارِكُه الكتبُ السَّماويَّةُ [140] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/273). .
- وفي قولِه: الَّذِي أَنْزَلْنَا الْتفاتٌ مِنَ الغَيْبةِ إلى التَّكلُّمِ؛ لزِيادةِ التَّرغيبِ في الإيمانِ بالقُرآنِ؛ تَذكيرًا بأنَّه مُنزَّلٌ مِنَ اللهِ؛ لأنَّ ضَميرَ التَّكلُّمِ أشَدُّ دَلالةً على مَعادِه مِن ضَميرِ الغائبِ، ولتقويةِ داعي المأمورِ، كما أنَّ الالتفاتَ إلى نونِ العظَمةِ لإبرازِ كمالِ العِنايةِ بأمْرِ الإنزالِ [141] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/257)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/273). .
- وإنَّما جُعِلَ الإيمانُ بصِدقِ القُرآنِ داخلًا في حَيِّزِ فاءِ التَّفريعِ؛ لأنَّ ما قبْلَ الفاءِ تضمَّنَ أنَّهم كذَّبوا بالقُرآنِ مِن قولِه: ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا [التغابن: 6] ، كما قال المُشرِكونَ مِن أهلِ مكَّةَ، والإيمانُ بالقُرآنِ يَشملُ الإيمانَ بالبعثِ، فكان قولُه تعالى: وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا شاملًا لِمَا سبَقَ الفاءَ مِن قولِه: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [التغابن: 7] إلخ [142] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/273). .
- جُملةُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ اعتراضٌ تَذييليٌّ لجُملةِ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، مُقرِّرٌ لِما قَبْلَه مِنَ الأمرِ، ويَقتضي وعْدًا إنْ آمَنوا، ووعيدًا إنْ لم يؤمِنوا [143] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/257)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/273). .
- وفي ذِكْرِ اسمِ الجَلالةِ إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لتكونَ الجملةُ مُستقِلَّةً جاريةً مَجْرَى المَثَلِ والكَلِمِ الجوامعِ، ولأنَّ الاسمَ الظَّاهرَ أقوى دَلالةً مِنَ الضميرِ؛ لاستِغنائِه عن تطلُّبِ المَعادِ، وفيه مِن تربيةِ المَهابةِ ما في قولِ الخليفةِ: (أميرُ المُؤمِنينَ يأمُرُكُم بكذا) [144] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/257)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/273). .
- قولُه: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ جِيءَ بصفةِ (الخَبِيرِ) دونَ (البصيرِ)؛ لأنَّ ما يَعمَلونَه مِنه مَحسوساتٌ ومنه غَيرُ محسوساتٍ، كالمُعتقَداتِ، ومِنها الإيمانُ بالبعثِ، فعُلِّقَ بالوَصفِ الدَّالِّ على تعلُّقِ العِلمِ الإلهيِّ بالموجوداتِ كلِّها، بخِلافِ قولِه فيما تقدَّمَ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [التغابن: 2] ؛ فإنَّ لكُفرِ الكافِرينَ وإيمانِ المُؤمِنينَ آثارًا ظاهرةً محسوسةً؛ فعُلِّقَتْ بالوصفِ الدَّالِّ على تعلُّقِ العِلمِ الإلهيِّ بالمحسوساتِ [145] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/273، 274). .
- قولُه: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أصْلُه: (والله خبيرٌ بما تعملون)، وقَدَّمَ المعمولَ بِمَا تَعْمَلُونَ، وهذا الحصرُ إضافيٌّ [146] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زَيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ، والغرضُ منه التَّحذيرُ، فإفادةُ الحصرِ هنا لتمامِ التَّحذيرِ، يعني: كأنْ يُقالَ: لو لَمْ يكُنْ خبيرًا بشيءٍ؛ لَكان خبيرًا بأعمالِكم؛ فاحذَروا المُخالَفةَ [147] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة لقمان)) (ص: 177). .