موسوعة التفسير

سورةُ التَّغابُنِ
الآيات (1-4)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ

غريب الكلمات:

بِذَاتِ الصُّدُورِ: أي: بالضَّمائِرِ والنِّيَّاتِ والأسرارِ؛ خَيرِها وشَرِّها؛ لأنَّها في الصُّدورِ، تَحُلُّها وتُصاحِبُها، وذاتُ: صاحبةُ، مؤنَّثُ (ذو) بمعنى صاحبٍ، وقيل: بحقيقةِ ما في الصُّدورِ، وذاتُ الشَّيءِ: نفْسُه وحَقيقتُه [4] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (6/100)، ((الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة)) لابن القيم (4/1383، 1384)، ((المصباح المنير)) للفيومي (1/212)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 148)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/25) و(23/342). قال ابنُ القَيِّم: (قَولُه تعالى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ليس المرادُ به عليمًا بمُجَرَّدِ الصُّدورِ؛ فإنَّ هذا ليس فيه كَبيرُ أمرٍ، وهو بمنزلةِ أن يُقالَ: عَليمٌ بالرُّؤوسِ والظُّهورِ والأيدي والأرجُلِ، وإنَّما المرادُ به: عليمٌ بما تُضمِرُه الصُّدورُ مِن خَيرٍ وشَرٍّ، أي: بالأسرارِ الَّتي في الصُّدورِ، وصاحِبةِ الصُّدورِ؛ فأضافها إليها بلَفظٍ يَعُمُّ جميعَ ما في الصُّدورِ مِن خَيرٍ وشَرٍّ). ((الصواعق المرسلة)) (4/1384). .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بالإخبارِ بأنَّه يُنزِّهُه تعالى عن النَّقائِصِ والعُيوبِ جَميعُ ما في السَّمَواتِ وما في الأرضِ، وله وَحْدَه المُلْكُ التَّامُّ، وله الحَمدُ، وهو على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ.
ثمَّ يُبيِّنُ سبحانَه أقسامَ خَلْقِه في هذه الحياةِ، فيقولُ: هو الَّذي أوجَدَكم مِنَ العَدَمِ -أيُّها النَّاسُ- فمِنكم كافِرٌ، ومنكم مؤمِنٌ، واللهُ بَصيرٌ بجميعِ أعمالِكم.
ثمَّ يقولُ تعالى: خَلَق اللهُ السَّمَواتِ والأرضَ بالعَدلِ والحِكمةِ، وصوَّركم فأحسَنَ صُوَرَكم وأشكالَكم، وإليه مَرجِعُ جَميعِ العِبادِ.
ثمَّ يبيِّنُ الله تعالى شُمولَ عِلمِه لكلِّ شيءٍ، فيقولُ: يَعلَمُ سُبحانَه جميعَ ما في السَّمواتِ والأرضِ، ويَعلَمُ ما تُسِرُّونَه مِنَ الأقوالِ والأعمالِ، وما تُظهِرونَه، واللهُ عليمٌ بما في قُلوبِ عِبادِه.

تفسير الآيات:

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1).
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ.
أي: يُنزِّهُ اللهَ تعالى عن النَّقائِصِ والعُيوبِ جَميعُ ما في السَّمَواتِ، وجَميعُ ما في الأرضِ مِن مخلوقاتِه [5] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/280)، ((تفسير السعدي)) (ص: 866)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/259). وتسبيحُ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ تسبيحٌ حقيقيٌّ بلِسانِ المقالِ، وأيضًا بلِسانِ الحالِ. يُنظر ما تقدَّم في تفسير سورة (الإسراء) الآية (44)، وأوَّل سورة (الحديد). .
لَهُ الْمُلْكُ.
أي: للهِ وَحْدَه المُلْكُ التَّامُّ المُطلَقُ في الدُّنيا والآخِرةِ، فهو مُتصَرِّفٌ في جميعِ خَلْقِه، ماضٍ فيهم حُكْمُه، نافِذٌ فيهم أمْرُه [6] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/5)، ((تفسير ابن كثير)) (8/135)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/100)، ((تفسير السعدي)) (ص: 866). .
وَلَهُ الْحَمْدُ.
أي: هو وَحْدَه المحيطُ بصِفاتِ الكَمالِ، وهو المُستَحِقُّ دونَ غَيرِه للثَّناءِ على كَمالِ صِفاتِه وأفعالِه، وما يَخلُقُه ويُقَدِّرُه ويَحكُمُ به سُبحانَه [7] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/5)، ((تفسير ابن كثير)) (8/135)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/101)، ((تفسير السعدي)) (ص: 866)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/261). .
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أي: واللهُ ذو قُدرةٍ تامَّةٍ شامِلةٍ على فِعلِ ما يشاءُ، بلا مُمانَعةٍ ولا مُدافَعةٍ، لا يُعجِزُه شَيءٌ سُبحانَه [8] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/5)، ((تفسير ابن كثير)) (8/135)، ((تفسير السعدي)) (ص: 866). .
ثمَّ ذكَر الله تعالى بعضَ مقدوراتِه، فقال [9] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (28/119). :
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2).
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ.
أي: اللهُ هو الَّذي أوجَدَكم مِنَ العَدَمِ -أيُّها النَّاسُ- فمِنكم الكافِرُ الجاحِدُ، ومنكم المؤمِنُ المصَدِّقُ [10] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/5)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/179)، ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (8/496). قال السمعاني: (قولُه تعالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ قال عليُّ بنُ أبي طَلْحةَ الوالِبيُّ: خلَقَكم كفَّارًا وخلَقَكم مُؤمنينَ، قاله ابنُ عبَّاسٍ... والقولُ الثَّاني في الآيةِ أنَّ مَعناها: فمِنكم كافرٌ بأنَّ اللهَ خلَقَه، ومنكم مؤمنٌ ومنكم فاسقٌ. والمعروفُ هو القولُ الأوَّلُ). ((تفسير السمعاني)) (5/448، 449). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ -أنَّ المعنى: خَلَقكم كُفَّارًا ومُؤمِنينَ-: الزَّجَّاجُ، والواحدي، وابن كثير، والسعدي، والشنقيطي. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/179)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1102)، ((تفسير ابن كثير)) (8/135)، ((تفسير السعدي)) (ص: 866)، ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/195). ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/ 103-105). قال ابن جُزَي: (فالإيمانُ والكفرُ على هذا هو ما قضى اللهُ على كلِّ واحدٍ). ((تفسير ابن جزي)) (2/380). وقال ابنُ كثير: (أي: هو الخالِقُ لكم على هذه الصِّفةِ، وأراد منكم ذلك، فلا بُدَّ مِن وُجودِ مُؤمِنٍ وكافِرٍ). ((تفسير ابن كثير)) (8/135). ويُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 866). قيل: الفاء في فَمِنْكُمْ تفصيليَّةٌ؛ فما بعدَ الفاءِ تفصيلٌ لقولِه: خَلَقَكُمْ، حيث قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، ثمَّ شرَع في البيانِ وقال: فَمِنْكُمْ كَافِرٌ أي: مُقَدَّرٌ كُفرُه، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ مُقدَّرٌ إيمانُه. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/217)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (8/549) و(15/ 447). قال الألوسي: (لأنَّ كَوْنَ بعضِهم أو بعضٍ منهم كافرًا، وكونَ بعضِهم أو بعضٍ منهم مؤمنًا مرادٌ منه، فالفاءُ مِثلُها في قولِه تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ [النور: 45] إلخ، فيكونُ الكفرُ والإيمانُ في ضِمنِ الخَلقِ، وهو الَّذي تؤيِّدُه الأخبارُ الصَّحيحةُ، كخبَرِ البُخاريِّ «3208» ومسلمٍ «2643» والتِّرمذيِّ «2137» وأبي داودَ «4708» عن ابنِ مسعودٍ قال: حدَّثَنا رسولُ الله صلَّى الله تعالى عليه وسلَّم -وهو الصَّادقُ المصدوقُ-: «إنَّ خَلْقَ أحَدِكم يُجمَعُ في بَطنِ أُمِّه أربعينَ يومًا...» الحديثَ). ((تفسير الألوسي)) (14/315). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ في الجملةِ: ابنُ جرير، وابنُ جُزَي، وجوَّزه الزَّجَّاجُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/5)، ((تفسير ابن جزي)) (2/380)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/179). قال ابن جرير: فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ يقولُ: فمنكم كافرٌ بخالِقه وأنَّه خلَقه. وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ يقولُ: ومنكم مُصَدِّقٌ به، موقنٌ أنَّه خالقُه وبارئُه). ((تفسير ابن جرير)) (23/5). وقال ابن جزي: (الَّذِي خَلَقَكُمْ فكان يجبُ على كلِّ واحدٍ منكم الإيمانُ به، لكنْ مِنكم مَن كفَر ومِنكم مَن آمَنَ، فالكفرُ والإيمانُ على هذا هو مِن اكتسابِ العبدِ...؛ لأنَّ عطْفَه على خَلَقَكُمْ بالفاءِ يَقتضي أنَّ الكفرَ والإيمانَ واقِعانِ بعدَ الخِلْقةِ، لا في أصلِ الخِلقةِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/380). قيل: الفاءُ على هذا للتَّرتيبِ، كاللَّامِ في قولِه تعالى: فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [القصص: 8] ، وهي كالفاءِ في قولِه تعالى: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد: 26] ، وليست للتَّفصيلِ. يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/446)، ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (8/202)، ((تفسير الألوسي)) (14/315). .
كما قال تعالى: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ [الأعراف: 30] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: حدَّثَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -وهو الصَّادِقُ المصدوقُ-: ((إنَّ أحَدَكم يُجمَعُ خَلْقُه في بَطنِ أمِّه أربعينَ يَومًا، ثمَّ يكونُ عَلَقةً مِثلَ ذلك، ثمَّ يَكونُ مُضغةً مِثلَ ذلك، ثمَّ يَبعَثُ اللهُ مَلَكًا فيُؤمَرُ بأربَعِ كَلِماتٍ، ويُقالُ له: اكتُبْ عَمَلَه، ورِزْقَه، وأجَلَه، وشَقيٌّ أو سعيدٌ، ثمَّ يَنفُخُ فيه الرُّوحَ؛ فإنَّ الرَّجُلَ منكم لَيَعمَلُ حتَّى ما يكونُ بيْنَه وبيْنَ الجنَّةِ إلَّا ذِراعٌ، فيَسبِقُ عليه كِتابُه، فيَعمَلُ بعَمَلِ أهلِ النَّارِ، ويَعمَلُ حتَّى ما يكونُ بيْنَه وبيْنَ النَّارِ إلَّا ذِراعٌ، فيَسبِقُ عليه الكِتابُ، فيَعمَلُ بعَمَلِ أهلِ الجنَّةِ )) [11] رواه البخاريُّ (3208) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (2643). .
وعن عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((كُنَّا في جِنازةٍ في بَقيعِ الغَرْقَدِ، فأتانا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقَعَد وقعَدْنا حَوْلَه، ومعه مِخْصَرةٌ [12] المِخْصَرةُ: ما يَختَصِرُه الإنسانُ بيَدِه فيُمسِكُه مِن عَصًا، أو عُكَّازةٍ، أو مِقْرَعةٍ، أو قَضيبٍ، وقد يَتَّكئُ عليه. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/36). ، فنَكَّسَ [13] نَكَّسَ: أي: خَفَض رأسَه وطأطأ إلى الأرضِ على هيئةِ المهمومِ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (16/195). فجَعَلَ يَنكُتُ [14] يَنكُتُ: أي: يَخُطُّ بها خَطًّا يَسيرًا مرَّةً بعدَ مرَّةٍ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (16/195). بمِخْصَرتِه، ثمَّ قال: ما مِنْكم مِن أحدٍ، ما مِن نَفْسٍ مَنفُوسةٍ إلَّا وقد كَتَب اللهُ مَكانَها مِنَ الجنَّةِ والنَّارِ، وإلَّا وقد كُتِبَت شَقيَّةً أو سعيدةً! فقال رجُلٌ: يا رَسولَ اللهِ، أفلا نَمكُثُ على كِتابِنا، ونَدَعُ العَمَلَ؟! فقال: مَن كان مِن أهلِ السَّعادةِ فسيَصيرُ إلى عَمَلِ أهلِ السَّعادةِ، ومَن كان مِن أهلِ الشَّقاوةِ فسيَصيرُ إلى عَمَلِ أهلِ الشَّقاوةِ، اعمَلوا فكُلٌّ مُيَسَّرٌ؛ أمَّا أهلُ السَّعادةِ فيُيَسَّرونَ لعَمَلِ أهلِ السَّعادةِ، وأمَّا أهلُ الشَّقاوةِ فيُيَسَّرونَ لعمَلِ أهلِ الشَّقاوةِ، ثمَّ قَرَأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل: 5 - 10] )) [15] رواه البخاريُّ (1362)، ومسلمٌ (2647) واللَّفظُ له. .
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
أي: واللهُ الَّذي خلَقَكم بَصيرٌ بجميعِ أعمالِكم؛ خَيرِها وشَرِّها، يَراها ويَعلَمُها، لا يَخْفى عليه شَيءٌ منها، وسيُجازيكم عليها [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/5)، ((تفسير الشوكاني)) (5/281). قال ابنُ كثير: (هو البَصيرُ بمَن يَستَحِقُّ الهِدايةَ مِمَّن يَستَحِقُّ الضَّلالَ، وهو شَهيدٌ على أعمالِ عِبادِه، وسيَجزيهم بها أتمَّ الجَزاءِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/135). .
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى خَلْقَ الإنسانِ المكَلَّفِ المأمورِ المنْهيِّ؛ ذكَرَ خَلْقَ باقي المخلوقاتِ [17] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 866). .
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ.
أي: خَلَق اللهُ السَّمَواتِ والأرضَ بالعَدلِ والحِكمةِ، ولم يَخلُقْهما باطِلًا ولا عَبَثًا [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/6)، ((تفسير ابن كثير)) (8/135)، ((تفسير السعدي)) (ص: 866)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/264، 265). قيل: المعنى: خلَقَهما بالعَدلِ والإنصافِ. وممَّن ذهب إليه: ابنُ جرير، ومكِّي، والسمعاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/6)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7499)، ((تفسير السمعاني)) (5/449). وقيل: المعنى: خلَقَهما بالحِكمةِ. وممَّن ذهب إليه: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والزمخشريُّ، والبيضاوي، والشوكاني، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/351)، ((تفسير الزمخشري)) (4/546)، ((تفسير البيضاوي)) (5/217)، ((تفسير الشوكاني)) (5/281)، ((تفسير السعدي)) (ص: 866). وممَّن جمَع بيْنَ المعنيينِ: ابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/135). وقيل: المعنى: خلَقَهما حقًّا يَقينًا لا رَيبَ فيه. وممَّن ذهب إليه: القرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/134). وقيل: معنى بِالْحَقِّ أي: بالأمرِ الَّذي يُطابِقُه الواقِعُ لا زائِدًا عنه ولا ناقِصًا، بل جاء الواقِعُ منها مُطابِقًا لِما أراد سواءً، لا كما يريدُ أحَدُنا الشَّيءَ فإذا أوجَدَه لم يكُنْ على وَفْقِ مُرادِه. قاله البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) (20/106، 107). والباءُ قيل: هي بمعنى اللَّامِ، أي: خلَق ذلك لإظهارِ الحقِّ، وهو أن يَجزيَ المُحسِنَ بإحسانِه، والمُسيءَ بإساءتِه. وقيل: الباءُ للمُلابَسةِ، أي: خلَق ذلك خلْقًا مُلابِسًا للحقِّ. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/281)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/264). .
كما قال تعالى: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 191] .
وقال سُبحانَه: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص: 27] .
وقال تبارك وتعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الدخان: 38، 39].
وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ.
أي: وصوَّركم اللهُ فأحسَنَ أشكالَكم، وتخطيطَ خِلقَتِكم، فصِرْتُم ذَوِي شَكلٍ جَميلٍ، ومَنظَرٍ بَهِيٍّ [19] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/6)، ((تفسير ابن كثير)) (8/135)، ((تفسير الشوكاني)) (5/281)، ((تفسير السعدي)) (ص: 866)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/265). قيل: المرادُ: عُمومُ النَّاسِ. وممَّن ذهب إلى هذا: ابنُ جريرٍ، وهو ظاهِرُ اختيارِ ابنِ كَثيرٍ، واستَظهَرَه الشَّوكانيُّ، وذهب إليه السعديُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: المصادر السَّابقة. وقيل المرادُ: آدَمُ عليه السَّلامُ؛ حيث خلقَه اللهُ تعالى بيَدِه كرامةً له. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/134). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/7). .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار: 6 - 8].
وقال سُبحانَه: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 4] .
وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ.
أي: وإلى اللهِ وَحْدَه مَرجِعُ جَميعِ عِبادِه بعْدَ مَوتِهم [20] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/7)، ((تفسير الرازي)) (30/552)، ((تفسير القرطبي)) (18/134)، ((تفسير ابن كثير)) (8/136)، ((تفسير السعدي)) (ص: 866)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/266). .
يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا تقَرَّر بما مضى إحاطةُ قُدرةِ اللهِ تعالى بما دَلَّ على ذلك مِن إبداعِه للخَلْقِ على هذا الوَجهِ المُحكَمِ، وشَهِدَ البُرهانُ القاطِعُ بأنَّ ذلك صُنعُه وَحْدَه، لا فِعْلَ فيه لطبيعةٍ ولا غَيرِها- دَلَّ على أنَّ ذلك بسَبَبِ شُمولِ عِلْمِه؛ إشارةً إلى أنَّ مَن لم يكُنْ تامَّ العِلمِ فهو ناقِصُ القُدرةِ، فقال [21] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/109). :
يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: يَعلَمُ اللهُ جميعَ ما في السَّمواتِ والأرضِ، فلا يَخفَى عليه شَيءٌ مِن خَلْقِه [22] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/7)، ((تفسير القرطبي)) (18/134)، ((تفسير ابن كثير)) (8/136)، ((تفسير السعدي)) (ص: 866). .
وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ.
أي: ويَعلَمُ اللهُ ما تُسِرُّونَه فيما بَيْنَكم مِنَ الأقوالِ والأعمالِ، وما تُظهِرونَه منها [23] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/7)، ((تفسير السمرقندي)) (3/455)، ((تفسير الألوسي)) (14/317). .
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ.
أي: واللهُ بالِغُ العِلمِ بما في قُلوبِ عِبادِه مِن نيَّاتٍ ومَقاصِدَ، وخَبايا وأسرارٍ، لا يَخفَى عليه شيءٌ مِن ذلك [24] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/7)، ((تفسير البيضاوي)) (5/217)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/110)، ((تفسير السعدي)) (ص: 866). قال الألوسي في نظيرِ هذه الآيةِ مِن سورةِ هودٍ [آية: 5]: (والمرادُ بذاتِ الصُّدورِ: الأسرارُ المُستَكِنَّةُ فيها، أو القلوبُ الَّتي في الصُّدورِ، ... أي إنَّه تعالى مُبالِغٌ في الإحاطةِ بمُضمَراتِ جميعِ النَّاسِ وأسرارِهم، أو بالقلوبِ وأحوالِها، فلا يَخفى عليه سِرٌّ مِن أسرارِها، فكيف يَخفى عليه ما يُسِرُّونَ وما يُعلِنونَ؟!). ((تفسير الألوسي)) (6/198). وقال الرازي في نظيرِ هذه الآيةِ مِن سورةِ آلِ عِمْرانَ [آية: 154]: (ذاتُ الصُّدورِ هي الأشياءُ الموجودةُ في الصُّدورِ، وهي الأسرارُ والضَّمائرُ، وهي ذاتُ الصُّدورِ؛ لأنَّها حالَّةٌ فيها، مُصاحِبةٌ لها، وصاحبُ الشَّيءِ ذُوه، وصاحِبَتُه ذاتُه). ((تفسير الرازي)) (9/397). وقال ابن جرير: (يقولُ جلَّ ثناؤُه: واللهُ ذو عِلمٍ بضمائرِ صُدورِ عِبادِه، وما تَنطوي عليه نُفوسُهم الَّذي هو أخفى مِن السِّرِّ، لا يَعزُبُ عنه شَيءٌ مِن ذلك. يقولُ تعالى ذِكْرُه لِعِبادِه: احذَروا أن تُسِرُّوا غيرَ الَّذي تُعلِنون، أو تُضْمِروا في أنفُسِكم غيرَ ما تُبْدُونه؛ فإنَّ ربَّكم لا يَخفى عليه مِن ذلك شيءٌ، وهو مُحْصٍ جميعَه، وحافِظٌ عليكم كلَّه). ((تفسير ابن جرير)) (23/7). .

الفوائد التربوية:

1- قال اللهُ تعالى: يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ نَبَّه بعِلْمِه ما في السَّمَواتِ والأرضِ، ثمَّ بعِلْمِه ما يُسِرُّه العِبادُ ويُعلِنونَه، ثمَّ بعِلْمِه ذواتِ الصُّدورِ: أنَّ شَيئًا مِنَ الكُلِّيَّاتِ والجُزئيَّاتِ غَيرُ خافٍ عليه، ولا عازِبٍ عنه؛ فحَقُّه أن يُتَّقى ويُحذَرَ، ولا يُجتَرَأَ على شَيءٍ مِمَّا يُخالِفُ رِضاه [25] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/547). .
2- قَولُ الله تعالى: يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أي: بما فيها مِنَ الأسرارِ الطَّيِّبةِ، والخبايا الخَبيثةِ، والنِّيَّاتِ الصَّالِحةِ، والمقاصِدِ الفاسِدةِ، فإذا كان عليمًا بذاتِ الصُّدورِ تَعَيَّنَ على العاقِلِ البَصيرِ أن يَحرِصَ على حِفظِ باطِنِه مِنَ الأخلاقِ الرَّذيلةِ، ويَجتَهِدَ في اتِّصافِه بالأخلاقِ الجَميلةِ [26] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 866). .
3- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إثباتُ عِلْمِ اللهِ بما في القُلوبِ، ويَتفرَّعُ على هذه الفائدةِ: التَّحذيرُ مِن إضمارِ ما لا يَرضى به اللهُ؛ لأنَّك إذا أَضْمَرْتَ ما لم يَرْضَ به اللهُ فسوف يُحاسِبُك عليه، وإنْ كان لا يبدو للنَّاسِ. فعلى المرءِ أنْ يُحاسِبَ نفْسَه دائمًا، ويَنظُرَ ما في قلْبِه: هل في قلْبِه الخيرُ، وإرادةُ ما يُرضي اللهَ، أو غيرُ ذلك، فعليه أنْ يُطهِّرَ قلبَه [27] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/340). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال تعالى: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وإنَّ كثيرًا ممَّن يكونُ له المُلكُ والغِنَى لا يكونُ محمودًا، بل يكونُ مذمومًا؛ إذِ الحمدُ يتضمَّنُ الإخبارَ عن المحمودِ بمَحاسنِه المحبوبةِ، فيتضَمَّنُ إخبارًا بمَحاسِنِ المحبوبِ محبَّةً له، وكثيرٌ ممَّن له نصيبٌ مِن الحَمدِ والمحبَّةِ يكونُ فيه عَجزٌ وضَعْفٌ وذُلٌّ يُنافي العظَمةَ والغِنى والمُلْكَ؛ فالأوَّلُ يُهابُ ويُخافُ ولا يُحَبُّ، وهذا يُحَبُّ ويُحْمَدُ، ولا يُهابُ ولا يُخافُ! والكمالُ اجتِماعُ الوَصفَينِ [28] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (5/229). .
2- قولُه تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يدُلُّ على أنَّه خَلَق الكافِرَ كافِرًا، والمؤمِنَ مُؤمِنًا، وهذا مُتَّفَقٌ عليه بيْنَ الصَّحابةِ، وجميعِ أهلِ السُّنَّةِ [29] يُنظر: ((أحكام أهل الذمة)) لابن القيم (2/1029). ، فالله تعالى ذَكَر أنَّه خَلَق العِبادَ، وجَعَل منهم المؤمِنَ والكافِرَ، فإيمانُهم وكُفرُهم كُلُّه بقَضاءِ اللهِ وقَدَرِه، وهو الَّذي شاء ذلك منهم، بأنْ جَعَل لهم قُدرةً وإرادةً، بها يتمَكَّنونَ مِن كُلِّ ما يُريدونَ مِن الأمرِ والنَّهيِ [30] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 866). .
3- أنَّه لا بُدَّ لبني آدَمَ مِن الاختِلافِ، وهذا هو الواقِعُ، وقد دَلَّت عليه آياتٌ كَثيرةٌ، مِثلُ قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [31] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/478). ، وفيه حِكمةُ اللهِ عزَّ وجلَّ في جَعْلِ الخلْقِ يَنقَسِمونَ إلى قِسمَينِ؛ فلولا هذا الانقِسامُ ما ظَهَر فَضْلُ الإيمانِ، ولا شُرِعَ الجهادُ ولا الأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن المنكرِ، ولا أُرسِلَتِ الرُّسُلُ، لكنَّ حِكمةَ اللهِ اقتَضَتْ أنْ يكونَ النَّاسُ قِسمَينِ [32] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/564). .
4- قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وقال: حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران: 179] ، فقسمَ الله سبحانَه النَّاسَ قِسمَينِ، ولم يَذكُرْ قِسمًا ثالثًا، وليس فيه دليلٌ على مَذهَبِ الخوارجِ الَّذين يقولونَ: إنَّ النَّاسَ إمَّا مُؤمِنٌ أو كافِرٌ، ولا يمكنُ لأحدٍ أن يَجمَعَ بيْن الإيمانِ والكفرِ؛ لأنَّ المؤمنَ إذا لم يَفعَلْ ما يَخرُجُ به مِن الإيمانِ فإنَّه لا يَصدُقُ عليه وَصفُ الخبيثِ على سَبيلِ الإطلاقِ، بل هو مِن قِسْمِ الطَّيِّبِ، لكِنَّ فيه خُبثًا، وهذا الطِّيبُ غَلَبَ على خُبْثِه، كما أنَّ الكافرَ وإنْ فَعَلَ ما يُحمَدُ عليه كالبِرِّ والجُودِ، والشَّجاعةِ وطَلاقةِ الوَجهِ، وما أَشْبهَ ذلك، هذه خِصالُ إيمانٍ، لكِنَّ خُبْثَه أعظمُ مِن هذه الخِصالِ، فهو مِن قِسْمِ الخُبَثاءِ وليس مِن قِسْمِ الطَّيِّبينَ. إذَن نقولُ: هؤلاء المؤمِنونَ الَّذين عِندَهم صفاتُ كُفْرٍ: مِن قِسْمِ الطَّيِّبِ الَّذي فيه خُبْثٌ، لكِنَّ طِيبَه يَغلِبُ على خُبْثِه، والكُفَّارُ الَّذين فيهم خِصالٌ مِن الطِّيبِ: مِن قِسْمِ الخَبيثِ، لكنَّ الطِّيبَ الَّذي فيهم قدِ انْغَمَرَ في جانبِ الخُبثِ، وعلى هذا فليس هناك قِسْمٌ ثالثٌ، بل هما قِسمانِ [33] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/476، 477). مِن أُصولِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ أنَّه قد يَجتمِعُ في العبدِ بعضُ شُعَبِ الإيمانِ، وبعضُ شُعَبِ الكفرِ أو النِّفاقِ الَّتي لا تُنافي أصْلَ الإيمانِ وحقيقتَه، خِلافًا لِطَوائفِ أهلِ الأهواءِ مِن الخَوارجِ والمُعتزِلةِ والجَهميَّةِ والمُرجئةِ. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/353)، ((الإيمان الأوسط)) لابن تيمية (ص: 398)، ((الصلاة وأحكام تاركها)) لابن القيم (ص: 60). .
5- قَولُ الله تعالى: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ فيه سُؤالٌ: قد كان مِن أفرادِ هذا النَّوعِ مَن كان مُشَوَّهَ الصُّورةِ، سَمِجَ الخِلْقةِ، فكيف أحسَنَ صُوَرَهم؟
الجوابُ: أنَّ الحُسنَ كغَيرِه مِن المعاني؛ على طَبَقاتٍ ومراتِبَ؛ فلانحطاطِ بَعضِ الصُّوَرِ عن مراتِبِ ما فَوقَها انحِطاطًا بَيِّنًا، وإضافتِها إلى المُوفي عليها لا تُستملَحُ، وإلَّا فهي داخِلٌ في حَيِّزِ الحُسنِ غَيرُ خارجٍ عن حَدِّه [34] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/547)، ((تفسير الرازي)) (30/553). . وقد جعَلَهم أحسَنَ الحيوانِ كُلِّه وأبهاه، بدليلِ أنَّ الإنسانَ لا يتمَنَّى أن تكونَ صُورتُه على خِلافِ ما يرَى من سائِرِ الصُّوَرِ، ومِن حُسْنِ صُورتِه أنَّه خُلِقَ مُنتَصِبًا غيرَ مُنكَبٍّ، كما قال عزَّ وجَلَّ: فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 4] [35] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/547، 548). ، فصُورةُ الإنسانِ مُستوفيةً الحُسنَ مُتماثِلةً فيه، لا يَعتوِرُها مِن فَظاعةِ بَعضِ أجزائِها ونُقصانِ الانتفاعِ بها ما يُناكِدُ مَحاسِنَ سائرِها، بخِلافِ مَحاسِنِ أحاسِنِ الحيوانِ مِن الدَّوابِّ والطَّيرِ والحِيتانِ؛ مِن مشْيٍ على أربعٍ، مع انتكاسِ الرَّأسِ غالبًا، أو زحْفٍ، أو وَثْبٍ في المشْيِ في البعضِ، ولا تَعْتَوِرُ الإنسانَ نقائصُ في صُورتِه إلَّا مِن عوارِضَ تَعْرِضُ في مُدَّةِ تكوينِه، أو مِن عوارِضَ تَعْرِضُ له في مُدَّةِ حياتِه، فتُشوِّهُ بعضَ محاسِنِ الصُّوَرِ، فلا يُعَدُّ ذلك مِن أصلِ تصويرِ الإنسانِ، على أنَّ ذلكَ مع نُدرتِه لا يُعَدُّ فظاعةً، ولكنَّه نَقْصٌ نِسبيٌّ في المحاسنِ [36] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/546)، ((تفسير أبي حيان)) (10/188)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/265)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/106، 107). .
6- في قَولِه تعالى: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ تحريمُ التَّصويرِ؛ فإنَّ مَن صَوَّرَ فقد نازعَ اللهَ تعالى فيما هو مِن اختِصاصِه -وهو الخَلْقُ-؛ ولهذا جاء في الحَديثِ أنه يُقالُ للمُصَوِّرِينَ يومَ القيامةِ: ((أَحيُوا ما خَلَقْتُم )) [37] أخرجه البخاريُّ (2105)، ومسلمٌ (2107) مِن حديثِ عائشةَ رضيَ الله عنها. ، وهذا هو الصَّحيحُ: أنَّ التَّصويرَ حرامٌ، بل هو مِن كبائرِ الذُّنوبِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لَعَنَ فاعِلَه [38] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 440). وحديثُ لعنِ النبيِّ لفاعِلِ التَّصويرِ أخرجه البخاريُّ (5347) مِن حديثِ أبي جُحَيْفةَ وَهْبِ بنِ عبدِ الله السُّوَائيِّ رضيَ الله عنه. أمَّا صُوَرُ غَيرِ ذاتِ الأرْواحِ -كالشَّجَرِ ونَحوِه- فهي مباحةٌ، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّةِ، والمالكيَّةِ، والشافعيَّةِ، والحنابلةِ. يُنظر: ((البناية)) للعيني (2/458)، ((الشرح الكبير)) للدردير (2/337)، ((روضة الطالبين)) للنووي (7/335)، ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (1/280). وأمَّا الصُّوَرُ المُجَسِّمةُ لذواتِ الأرواحِ (التماثيل) فهي محرَّمةٌ بالإجماعِ، وممن نقَلَ الإجماعَ على ذلك: ابنُ العربيِّ. يُنظر: ((المسالك في شرح موطأ مالك)) لابن العربي (7/522)، ويُنظر: ((عارضة الأحوذي)) (7/253)، ((فتح الباري)) لابن حجر (10/388)، ((مواهب الجليل)) للحَطَّاب (2/264). أمَّا الصُّوَرُ التي ليس لها ظِلٌّ -إذا كانت ذاتَ رُوحٍ، كصورِ الحَيوانِ- فهي محرَّمةٌ، وهذا مذهَبُ الجُمهورِ: الحَنَفيَّةِ، والشَّافعيَّةِ، والحَنابِلةِ. يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نُجيم (2/29)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (3/247)، ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (1/280). أمَّا التَّصويرُ بالآلةِ (الكاميرا)، فهذا موضعُ خلافٍ بينَ المتأخرينَ؛ فمِنهم مَن منَعه، ومنهم مَن أجازه. يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (2/253). .
7- قال اللهُ تعالى: يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ذَكَر تعالى عِلْمَه بما في السَّمَواتِ والأرضِ، فعَمَّ عِظامَ المخلوقاتِ، ثمَّ تدَرَّجَ القَولُ إلى أخفَى مِن ذلك، وهو جميعُ ما يَقولُه النَّاسُ في سِرٍّ وفي عَلَنٍ، ثمَّ تدَرَّج إلى ما هو أخفَى، وهو ما يَهجِسُ بالخواطِرِ [39] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/318). .
8- قولُه تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ فيه دليلٌ على أنَّه تعالى يَعلَمُ الأشياءَ قبْلَ وُجودِها الخارجيِّ، وهذا ممَّا لا يُنكِرُه أحدٌ سِوى شِرْذِمةٍ مِن المُعتزِلةِ [40] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (6/198). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
- لَمَّا كان جُلُّ ما اشتمَلَتْ عليه هذِه السُّورةُ الكريمةُ إبطالَ إشراكِ المُشرِكينَ وزجْرَهُم عن دِينِ الإشراكِ بأَسْرِه، وعن تَفاريعِه، الَّتي أعظَمُها إنكارُهمُ البعثَ، وتكذيبُهمُ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتكذيبُ القرآنِ، وتلك أصولُ ضَلالِهم؛ ابتُدِئَتِ السُّورةُ بالإعلانِ بضلالِهِمْ وكُفرانِهمُ المُنعِمَ عليهم؛ فإنَّ ما في السَّمواتِ والأرضِ يُسبِّحُ للهِ تعالَى عن النَّقائصِ، فالمعنى: يُسبِّحُ للهِ ما في السَّمواتِ والأرضِ وأنتم بخِلافِ ذلك، وهذا يُفيدُ ابتِداءً تقريرَ تَنزيهِ اللهِ تعالَى وقوَّةِ سُلطانِه؛ لِيَزدادَ الَّذينَ آمَنوا إيمانًا، ويكونَ لهم تعليمًا وامتِنانًا، ويُفِيدُ ثانيًا بطريقِ الكِنايةِ تعريضًا بالمُشرِكينَ الَّذينَ لم يُنزِّهوهُ ولا وقَّروهُ، فنسَبوا إليه شُركاءَ [41] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/260). .
- وجِيءَ بفِعلِ التَّسبيحِ مُضارِعًا يُسَبِّحُ؛ للدَّلالةِ على تجدُّدِ ذلك التَّسبيحِ ودوامِه، وجِيءَ بفِعلِ التَّسبيحِ في فواتِحِ سُوَرِ (الحديدِ) و(الحشرِ) و(الصَّفِّ) بصِيغةِ الماضي؛ للدَّلالةِ على أنَّ التَّسبيحَ قد استقَرَّ في قديمِ الأزمانِ، فحصَلَ مِن هذا التَّفنُّنِ في فَواتحِ هذه السُّوَرِ كِلا المَعنيَينِ. وما في هاتِهِ السُّورةِ مِنَ المُناسَبةِ بيْنَ تجدُّدِ التَّسبيحِ، والأمْرِ بالعفوِ عن ذَوِي القُرْبى، والأمْرِ بالتَّقْوَى بقَدْرِ الاستِطاعةِ، والسَّمعِ والطاعةِ؛ لكَيْ لا يَكتفيَ المُؤمِنونَ بحُصولِ إيمانِهم، لِيَجتَهِدوا في تعزيزِه بالأعمالِ الصَّالحةِ [42] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/260). .
- وإعادةُ (ما) الموصولةِ في قولِه: وَمَا فِي الْأَرْضِ؛ لقَصْدِ التَّوكيدِ اللَّفظيِّ [43] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/260). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ كرَّرَ (ما) في افتتاحِ السُّورةِ في قولِه: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وترَكَ ذلك في قولِه: يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، ثمَّ كرَّر (ما) في قولِه: وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّه لَمَّا كان تَسبيحُ ما في السَّمواتِ على خِلافِ تَسبيحِ ما في الأرضِ كَثرةً وقِلَّةً، وبُعدًا وقُربًا مِن المعصيةِ والطَّاعةِ؛ أُعِيدَت لَفظةُ (ما) لهذا الاختِلافِ. وكذلك لَفظُ مَا تُسِرُّونَ فإنَّه مُخالِفٌ لـ وَمَا تُعْلِنُونَ غايةَ المخالَفةِ، فلمْ يَصلُحْ إلَّا بإعادةِ (ما). ولم تكرَّرْ (ما) معَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ لأنَّ الكلَّ بالإضافةِ إلى عِلمِ الله سبحانَه جِنسٌ واحدٌ، لا يخفَى عليه شىءٌ [44] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1278-1280)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 237)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/475)، ((بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز)) للفيروزابادي (1/467، 468)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 567). ويُنظر وجْهُ التَّعبيرِ بـ (ما) دونَ (مَن) في تفسيرِ سورةِ الجمعةِ (ص: 239). .
- وجُملةُ لَهُ الْمُلْكُ اسِتئنافٌ واقعٌ موقِعَ التَّعليلِ والتَّسبُّبِ لمضمونِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ؛ فإنَّ مُلابَسةَ جميعِ الموجوداتِ لدَلائلِ تَنزيهِ اللهِ تعالَى عن الشُّركاءِ وعن النَّقائصِ لا مُقْتضى لها إلَّا انفِرادُه بتَملُّكِها وإيجادِها وما فيها مِنَ الاحتياجِ إليه، وتصَرُّفِه فيها تصرُّفَ المالِكِ المُتفرِّدِ في مُلكِه [45] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/260، 261). .
- وفي قولِه: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ قُدِّمَ الخبرُ في الجُملتَينِ -الَّذي هو الجارُّ والمجرورُ (له)- لإفادةِ تَخصيصِه بالمُسنَدِ إليه؛ لِيَدُلَّ بتَقدُّمِهما على معنَى اختِصاصِ المُلكِ والحَمدِ باللهِ عزَّ وجلَّ؛ وذلك لأنَّ المُلكَ على الحَقيقةِ له؛ لأنَّه مُبدئُ كلِّ شيءٍ ومُبدِعُه، والقائمُ به المُهيمِنُ عليه، وكذلك الحمدُ؛ لأنَّ أصولَ النِّعمِ وفُروعَها منه، وأمَّا مُلكُ غيرِه فتسليطٌ منه، وحمدُه اعتدادٌ بأنَّ نِعمةَ اللهِ تعالَى جرَتْ على يدِه، وهو قَصْرٌ ادِّعائيٌّ [46] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زَيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). مبنيٌّ على عدمِ الاعتِدادِ بما لغَيرِ اللهِ مِن مُلْكٍ؛ لنَقصِه، بخِلافِ مُلْكِه تعالَى؛ فهو المَلِكُ المُطلَقُ الدَّاخلُ في سُلطانِه كلُّ ذي مُلْكٍ [47] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/545)، ((تفسير البيضاوي)) (5/217)، ((تفسير أبي حيان)) (10/188)، ((تفسير أبي السعود)) (8/255)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/261)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/106). .
- ومضمونُ جُملةِ وَلَهُ الْحَمْدُ سَببٌ لتسبيحِ اللهِ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ؛ إذِ التَّسبيحُ مِنَ الحمدِ، فلا جَرَمَ أنْ كانَ حَمْدُ ذَوِي الإدراكِ مُختصًّا به تعالَى؛ إذْ هو الموصوفُ بالجَميلِ الاختياريِّ المُطلَقِ، فهو الحقيقُ بالحَمدِ والتَّسبيحِ، فهذا القَصْرُ ادِّعائيٌّ؛ لعدمِ الاعتدادِ بحَمْدِ غَيرِه؛ لنُقصانِ كمالاتِهِم، وإذا أُرِيدَ بالحمدِ ما يَشملُ الشُّكرَ أو يُفْضِي إليه -وهو مُقْتضى المقامِ مِن تَسفيهِ أحلامِ المُشرِكينَ في عبادتِهم غَيرَه- فالشُّكرُ أيضًا مقصورٌ عليه تعالَى؛ لأنَّه المُنعِمُ الحقُّ بنِعَمٍ لا قِبَلَ لغَيرِه بإسدائِها، وهو المُفيضُ على المُنعِمينَ ما يُنعِمونَ به في الظَّاهِرِ [48] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/545)، ((تفسير البيضاوي)) (5/217)، ((تفسير أبي حيان)) (10/188)، ((تفسير أبي السعود)) (8/255)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/261)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/106). .
- وجُملةُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ معطوفةٌ على اللَّتَيْنِ قَبْلَها، وهي بمنزلةِ التَّذييلِ لهُما، والتَّبيينِ لوجْهِ القَصرَيْنِ فيهما؛ فإنَّ القَديرَ على كلِّ شيءٍ هو صاحِبُ المُلْكِ الحقِّ، وهو المُختَصُّ بالحمدِ الحقِّ [49] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/261). .
- وهو تَذييلٌ فيه وعدٌ للشَّاكرينَ، ووعيدٌ وترهيبٌ للمُشرِكينَ [50] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/261). .
- والاقتِصارُ على ذِكْرِ وصْفِ قَدِيرٌ هنا؛ لأنَّ المخلوقاتِ الَّتي تُسبِّحُ اللهَ دالَّةٌ على صِفةِ القُدرةِ أوَّلًا؛ لأنَّ مَن يُشاهِدُ المخلوقاتِ يَعلَمُ أنَّ خالقَها قادرٌ [51] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/261). .
2- قولُه تعالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ هذا تقريرٌ لِمَا أفادَهُ قولُه: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [التغابن: 1] ، وتخلُّصٌ للمَقصودِ مِنه على وجهِ التَّصريحِ بأنَّ الَّذينَ أشرَكوا باللهِ قد كفَروا بنعمتِه وبخَلْقِهم، زِيادةً على جَحْدِهم دَلائلَ تنزُّهِه تعالَى عن النَّقصِ الَّذي اعتقَدوهُ له؛ ولذلك قدَّمَ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ على وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ؛ لأنَّ الشِّقَّ الأوَّلَ هو المقصودُ بهذا الكلامِ تعريضًا وتصريحًا، وهو الأهمُّ في هذا المقامِ، كما يُشيرُ إليه قولُه: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ [التغابن: 5] . وقيل: قُدِّمَ ذِكْرُ الكافرِ؛ لأنَّه الأغلَبُ عليهم، والأكثرُ فيهم، ومعَ كثرتِه هو الأضعَفُ؛ لأنَّ الله تعالى ليس معه بمعونتِه، وإلَّا لأعدَم الصِّنفَ الآخَرَ. وقيل: قُدِّم العدوُّ إشارةً إلى أنَّه عالمٌ به، وقادرٌ عليه، وما كان منه شيءٌ إلَّا بإرادتِه [52] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/546)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/104)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/262). .
- قولُه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ أفادَ تَعريفُ الجزأَيْنِ مِن جُملةِ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ قَصْرَ صِفةِ الخالقيَّةِ على اللهِ تعالَى، وهو قَصْرٌ حقيقيٌّ [53] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زَيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). قُصِدَ به الإشارةُ بالكِنايةِ بالرَّدِّ على المُشرِكينَ؛ إذْ عَمَدوا إلى عبادةِ أصنامٍ يَعلمونَ أنَّها لم تَخلُقْهم، فما كانتْ مُستحِقَّةً لأنْ تُعبَدَ؛ لأنَّ العبادةَ شُكرٌ [54] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/262). .
- والفاءُ في فَمِنْكُمْ كَافِرٌ عاطفةٌ على جملةِ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، وليستْ عاطفةً على فعلِ خَلَقَكُمْ، وهي للتَّفريعُ في الوُقوعِ دونَ تسبُّبٍ، ومِثلُ هذا التفريعُ يَستَتبِعُ التَّعجيبَ مِن جَرْيِ أحوالِ بعضِ النَّاسِ على غَيرِ ما يَقتضيهِ الطَّبعُ، فجُملةُ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ هي المقصودُ مِنَ التَّفريعِ، وهو تَفريعٌ في الحصولِ [55] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/262). .
- وجُملةُ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ تَتميمٌ [56] التَّتميم: مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو الإتيانُ بكلمةٍ أو كلامٍ مُتمِّمٍ للمقصودِ، أو لزِيادةٍ حَسنةٍ، بحيثُ إذا طُرِحَ من الكلام نقَصَ معناه في ذاتِه، أو في صِفاتِه. أو: هو الإتيانُ في كلامٍ لا يُوهِمُ غيرَ المرادِ بفَضلةٍ تُفيدُ نُكتةً. أو: هو إردافُ الكلامِ بكَلمةٍ تَرفعُ عنه اللَّبسَ، وتُقرِّبُه للفَهمِ. ومِن أمثلةِ التَّتميمِ قولُه تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النساء: 124] ؛ فقوله: وَهُوَ مُؤْمِنٌ تتميمٌ في غايةِ الحُسنِ. ومنه قولُه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [البقرة: 206] ؛ وذلك أنَّ العِزَّةَ محمودةٌ ومذمومةٌ، فلمَّا قال: بِالْإِثْمِ اتَّضحَ المعنى وتَمَّ، وتبيَّن أنَّها العزَّةُ المذمومةُ المُؤثَّمُ صاحِبُها. يُنظر:  ((تحرير التَّحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 127)، ((التِّبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 217)، ((تفسير أبي حيان)) (1/120) و(2/332، 333)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدِّين درويش (1/44)، ((مفاتيح التَّفسير)) لأحمد سعد الخطيب (1/240، 241). وتَنويهٌ بشأنِ أهلِ الإيمانِ، ومُضادَّةِ حالِهم لحالِ أهلِ الكُفرِ، ومُقابَلةِ الحالِ بالحالِ [57] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/262). .
- قولُه: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ تَتميمٌ، واحتِراسٌ [58] الاحتراس: هو التَّحرُّزُ مِن الشَّيءِ والتَّحفُّظُ منه، وهو نوعٌ مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو أن يكونَ الكلامُ محتملًا لشَيءٍ بعيدٍ، فيُؤتى بكلامٍ يَدفعُ ذلك الاحتمالَ. أو الإتيانُ في كلامٍ يوهِمُ خلافَ المقصودِ بما يَدفَعُ ذلك الوهمَ، ويُسمِّيه بعضُهم: التَّكميلَ. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 245)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (3/208)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/64)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/251)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 49). الفَرقُ بيْنَ الاحتِراسِ والتَّتميمِ: أنَّ الاحتِراسَ يجبُ أنْ يكونَ لرَفْعِ إيهامِ خِلافِ المقصودِ، وأمَّا التَّتميمُ فإنَّه يكونُ في كلامٍ لا يُوهِمُ خِلافَ المقصودِ؛ فالنِّسبةُ بيْنَهما إذَنْ هي التَّبايُنُ. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 245)، ((خِزانة الأدب)) لابن حِجَّة الحَمَوي (2/ 486)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (1/50). ، واستطرادٌ [59] الاستطراد: خروجُ المتكلِّمِ مِن الغرضِ الَّذي كان يتكلَّمُ فيه إلى غيرِه لِمُناسَبةٍ بيْنَهما، ثمَّ ترْكُه والعودةُ إلى ما كان فيه، كأنَّ المتكلِّمَ لم يَقصِدْه، وإنَّما عرَض عُروضًا. يُنظر: ((خزانة الأدب)) لابن حِجَّة الحموي (1/102)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/373، 374)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 115). ؛ فهو تَتميمٌ لِمَا يُكمِلُ المقصودَ مِن تَقسيمِهم إلى فريقَينِ لإبداءِ الفرْقِ بيْنَ الفريقَينِ في الخَيرِ والشَّرِّ، وهو عليمٌ بذلك، وعليمٌ بأنَّه يقَعُ- وليس اللهُ مغلوبًا على وُقوعِه، ولكنَّ حِكمتَه وعِلمَه اقتضَيَا ذلك، وهو احتراسٌ مِن أنْ يُتَوَهَّمَ مِن تقسيمِهم إلى فريقَينِ أنَّ ذلك رِضًا بالحالَينِ، كما حُكِيَ عن المُشرِكينَ: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [الزخرف: 20] ، وهو استِطرادٌ بطريقِ الكِنايةِ به عن الوعدِ والوَعيدِ [60] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/262، 263). .
- والآياتُ واردةٌ لبَيانِ عَظَمةِ اللهِ في مُلكِه ومَلكوتِه؛ فلمَّا أثبَتَ تعالَى لِذاتِه الأقدسِ التَّنزيهَ، وأنَّ كلَّ شَيءٍ يُنزِّهُه ويُقدِّسُه عمَّا لا يَليقُ بجَلالِه، ثمَّ خصَّ لها صِفةَ المالكيَّةِ على الإطلاقِ، وخصَّ أنَّ لها كلَّ كمالٍ وجَمالٍ، ومنه كلُّ نِعمةٍ وإفضالٍ، وهو خالقُ كلِّ مُهتدٍ وضالٍّ، ونظَمَ دليلَ الآفاقِ مع دَليلِ الأنفُسِ، وبيَّن أنَّ إليه المصيرَ والمآلَ؛ خَتَمَها بإثباتِ عِلمِ اللهِ الشَّاملِ للكلِّيَّاتِ والجزئيَّاتِ، وكرَّرَه تكريرًا، وأكَّدَه توكيدًا، وكان ذِكْرُ العِلمِ في قولِه: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ استطرادًا لذِكْرِ الخَلْقِ وتفصيلِه، ولإثباتِ القضاءِ والقدَرِ [61] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/547)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/451، 452). .
3- قولُه تعالَى: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ
- قولُه: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ استِئنافٌ بيانيٌّ ناشئٌ عن قولِه: فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن: 2] ، يُبيِّنُ أنَّ انقِسامَهم إلى قِسمَيِ الكافِرينَ والمُؤمِنينَ نشَأَ عن حيادِ فريقٍ مِنَ النَّاسِ عن الحقِّ الَّذي أُقِيمَ عليه خَلْقُ السَّمواتِ والأرضِ؛ لأنَّ الحقَّ أنْ يُؤمِنَ النَّاسُ بوُجودِ خالِقِهم، وبأنَّه واحدٌ، وأنْ يُفرِدوهُ بالعبادةِ، فذلك الَّذي أرادَهُ اللهُ مِن خَلْقِهم؛ فمَن حادَ عن الإيمانِ، ومالَ إلى الكفرِ فقدْ حادَ عن الحقِّ والفِطرةِ [62] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/264). .
- وقولُه: بِالْحَقِّ مُعترِضٌ بيْنَ جُملةِ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وجُملةِ وَصَوَّرَكُمْ، وفيه إيماءٌ إلى إثباتِ البعثِ والجزاءِ؛ لأنَّ قولَه: بِالْحَقِّ مُتعلِّقٌ بفِعلِ خَلَقَ تعلُّقَ المُلابَسةِ المُفادَ بالباءِ، أي: خَلقًا مُلابِسًا للحقِّ، والحقُّ ضدُّ الباطلِ، ألَا تَرَى إلى قولِه تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران: 190] ، إلى قولِه: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا [آل عمران: 191] ؟ والباطلُ ما صَدَقه هُنالِكَ هو العبَثُ؛ لقولِهِ تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ [الدخان: 38، 39]، فتعيَّنَ أنَّ ما صَدَق الحقِّ في قولِه: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أنَّه ضِدُّ العبَثِ والإهمالِ. ومُلابَسةُ الحقِّ لخَلْقِ السَّمواتِ والأرضِ يَلزَمُ أنْ تكونَ مُلابَسةً عامَّةً مُطَّرِدةً؛ لأنَّه لو اختَلَّتْ مُلابَسةُ حالٍ مِن أحوالِ مخلوقاتِ السَّمواتِ للحقِّ، لَكانَ ناقضًا لمعنى مُلابَسةِ خَلْقِها للحقِّ، فكان نفْيُ البعثِ للجزاءِ على أعمالِ المخلوقاتِ مُوجِبًا اختلالَ تلك المُلابَسةِ في بعضِ الأحوالِ. وتخلُّفُ الجزاءِ عن الأعمالِ في الدُّنيا مُشاهَدٌ؛ إذْ كثيرًا ما نَرى الصَّالِحينَ في كَرْبٍ، ونَرى أهلَ الفسادِ في نِعمةٍ، فلَوْ كانت هذه الحياةُ الدُّنيا قُصارى حياةِ المُكلَّفينَ، لَكانَ كثيرٌ مِن أهلِ الصَّلاحِ غَيرَ لاقٍ جزاءً على صلاحِه، وانقلَبَ أكثرُ أهلِ الفسادِ مُتمتِّعًا بإرضاءِ خَباثةِ نفْسِه ونَوالِ مُشتهَياتِه، فكان خَلْقُ كِلا هذَينِ الفريقَينِ غَيرَ مُلابِسٍ للحقِّ بالمعنى المُرادِ! ولزِيادةِ الإيقاظِ لهذا الإيمانِ عُطِفَ عليه قولُه: وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [التغابن: 3]، وكلُّ ذلك توطِئةٌ لما سيردُ بعدَه مِن قولِه تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [التغابن: 7] الآيةَ [63] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/264، 265). .
- وفي قولِه: بِالْحَقِّ رمْزٌ إلى الجزاءِ، وهو وعيدٌ ووعدٌ [64] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/265). .
- وفي قولِه: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ إلى آخِرِه إظهارٌ أيضًا لعَظَمةِ اللهِ في مَلَكوتِه [65] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/265). .
- قولُه: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ إدماجُ [66] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه تعالى بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). امتِنانٍ على النَّاسِ، وتَعديدٌ للنِّعمةِ في حُسْنِ الخِلقةِ، وبأنَّهم معَ ما خُلِقوا عليه مِن مُلابَسةِ الحقِّ على وجْهِ الإجمالِ، وذلك مِنَ الكمالِ، وهو ما اقتضَتْه الحِكمةُ الإلهيَّةُ، فقَدْ خُلِقوا في أحسَنِ تقويمٍ [67] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/546)، ((تفسير أبي حيان)) (10/188)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/265)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/106، 107). .
- قولُه: وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ عُطِفَ على جُملةِ وَصَوَّرَكُمْ؛ لأنَّ التَّصويرَ يَقْتَضي الإيجادَ؛ فأُعْقِبَ بالتَّذكيرِ بأنَّ بَعْدَ هذا الإيجادِ فَناءً، ثمَّ بَعْثًا للجزاءِ [68] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/266). .
- وقولُه: وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ لا إلى غيرِه استِقْلالًا أو اشتِراكًا، وقيل: تَقديمُ وَإِلَيْهِ للرِّعايةِ على الفاصِلةِ، مع إفادةِ الاهتمامِ بتَعلُّقِ ذلك المصيرِ بتَصرُّفِ اللهِ المحضِ، وليس مُرادًا بالتَّقديمِ قَصْرٌ؛ لأنَّ المُشرِكينَ لا يُصدِّقونَ بهذا المصيرِ مِن أصلِه، بَلْهَ أنْ يَدَّعُوا أنَّه مَصيرٌ إلى غَيرِه حتَّى يُرَدَّ عليهم بالقَصْرِ [69] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/ 255)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/266). .
4- قولُه تعالَى: يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
- كانوا يَنفُونَ الحشرَ بعِلَّةِ أنَّه إذا تفرَّقَتْ أجزاءُ الجسدِ لا يُمكِنُ جمْعُها، ولا يُحاطُ بها؛ فكان قولُه: يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ دحْضًا لشُبهتِهم، أي: إنَّ الَّذي يَعلَمُ ما في السَّمواتِ والأرضِ لا يُعجِزُه تفرُّقُ أجزاءِ البدنِ إذا أراد جمْعَها، والَّذي يَعلَمُ السِّرَّ في نفْسِ الإنسانِ -والسِّرُّ أدقُّ وأخْفَى مِن ذرَّاتِ الأجسادِ المُتفرِّقةِ- لا تَخْفى عليه مَواقِعُ تلك الأجزاءِ الدَّقيقةِ، فالمقصودُ هو قولُه: وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ كما يَقتضيهِ الاقتصارُ عليه في تَذييلِه بقولِه: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، ولم يَذكُرْ أنَّه عليمٌ بأعمالِ الجوارحِ؛ لأنَّ الخِطابَ للمُشرِكينَ في مكَّةَ على الرَّاجِحِ، وذلك قبْلَ ظهورِ المُنافِقينَ؛ فلَمْ يكُنْ قولُه: وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ تهديدًا على ما يُبطِنُه النَّاسُ مِنَ الكفرِ. وأمَّا عطْفُ وَمَا تُعْلِنُونَ فتتميمٌ للتَّذكيرِ بعُمومِ تعلُّقِ عِلمِه تعالَى بالأعمالِ. وتضمَّنَ قولُه: وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَعيدًا ووعدًا ناظِرَيْنِ إلى قولِه: فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن: 2] ، فكانت الجُملةُ لذلك شَديدةَ الاتِّصالِ بجُملةِ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [70] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/266، 267). [التغابن: 2] .
- وإعادةُ فِعلِ (يَعْلَمُ)؛ للتَّنبيهِ على العنايةِ بهذا التَّعلُّقِ الخاصِّ للعِلمِ الإلهيِّ بعْدَ ذِكْرِ تَعلُّقِه العامِّ في قولِه: يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ تَنبيهًا على الوعيدِ والوعدِ بوَجْهٍ خاصٍّ [71] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/267). .
- قوله: وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ، أي: ما تُسِرُّونَه في أنفُسِكم وفيما بَيْنَكم، وما تُظهِرونَه مِنَ الأمورِ، والتَّصريحُ به مع اندراجِه فيما قَبْلَه؛ لأنَّه الَّذي يَدورُ عليه الجزاءُ؛ ففيهِ تأكيدٌ للوعدِ والوعيدِ، وتَشديدٌ لهما [72] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/256). .
- وجُملةُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ اعتِراضٌ تذييليٌّ مُقرِّرٌ لِمَا قَبْلَه مِن شُمولِ عِلمِه تعالَى لسِرِّهم وعلَنِهم، أي: هو محيطٌ بجميعِ المُضمَراتِ المُستكِنَّةِ في صُدورِ النَّاسِ؛ بحيثُ لا تُفارِقُها أصلًا، فكيفَ يَخْفَى عليه ما يُسِرُّونَه وما يُعلِنونَه [73] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/217)، ((تفسير أبي السعود)) (8/256)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/267). ؟!
- وإظهارُ الجَلالةِ في قولِه: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ؛ للإشعارِ بعِلَّةِ الحُكمِ، وتأكيدِ استِقلالِ الجُملةِ [74] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/256). .
- وتَقديمُ تَقريرِ القُدرةِ في قولِه: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التغابن: 1] على العِلمِ؛ لأنَّ دَلالةَ المخلوقاتِ على قدرتِه بالذَّاتِ، وعلى عِلمِه بما فيها مِنَ الإتقانِ والاختصاصِ ببعضِ الأنحاءِ [75] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/217)، ((تفسير أبي السعود)) (8/256). .
- و(ذاتِ الصُّدورِ) قيل: هي صِفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ، نُزِّلَتْ مَنزِلةَ مَوصوفِها، أي: صاحباتِ الصُّدورِ، أي: المكتومةِ فيها، والتَّقديرُ: بالنِّيَّاتِ والخواطرِ ذاتِ الصُّدورِ [76] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/267). .
وقيل: قولُه: بِذَاتِ الصُّدُورِ أي: بما في القلوبِ الَّتي في الصُّدورِ مِن الضَّمائرِ الخفيَّةِ، ووُصِفَت بذلك؛ لأنَّها لتمكُّنِها مِن الصُّدورِ جُعِلت كأنَّها مالِكةٌ لها، فـ (ذاتُ) بمعنى صاحبة، لا بمعنى ذاتِ الشَّيءِ ونفْسِه، وعُبِّر بذاتِ الصُّدورِ دونَ ذاتِ القُلوبِ مع أنَّ التَّعبيرَ الثَّانيَ أَولى بها؛ لأنَّ القلوبَ محلُّها بلا واسِطةٍ، ومَحَلِّيَّةُ الصُّدورِ لها بحسَبِ الظَّاهِرِ بواسِطةِ القلوبِ؛ لأنَّ (ذاتَ الصُّدورِ) بمعنى الأشياءِ الَّتي لا تَكادُ تُفارِقُ الصُّدورَ لِكَونِها حالَّةً فيها بل تُلازِمُها وتُصاحِبُها أشملُ مِن (ذاتِ القلوبِ)؛ لِصِدْقِ الأُولى على الأسرارِ الَّتي في القلوبِ، وعلى القلوبِ أنفُسِها؛ لأنَّ كُلًّا مِن هذَينِ الأمْرَينِ مُلازِمٌ للصُّدورِ باعتِبارِ كَونِه حالًّا فيها دونَ الثَّانيةِ؛ لأنَّها لا تَصدُقُ إلَّا على الأسرارِ؛ لأنَّها الحالَّةُ فيها دونَ الصُّدورِ، فحينَئذٍ يُمكِنُ أن يُرادَ مِن ذاتِ الصُّدورِ هذا المعنى الشَّاملُ، ويكونُ التَّعبيرُ بها لذلك. والتَّعبيرُ بالجملةِ الاسميَّةِ؛ للإشارةِ إلى أنَّه سُبحانَه لم يَزَلْ عالِمًا بذلك [77] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (2/310). .
- وقد ابتَدَأَ الله تعالى بالعِلمِ الشَّاملِ للعالَمِ كلِّه، ثُمَّ بخاصِّ العِبادِ مِن سِرِّهم وإعلانِهم، ثُمَّ ما خَصَّ مِنه، وهو ما تَنْطوي عليه صُدورُهم مِن خَفِيِّ الأشياءِ وكامِنِها، وهذا كلُّه في معنى الوعيدِ؛ إذْ هو تعالَى المُجازِي على جميعِ ذلكَ بالثَّوابِ والعِقابِ [78] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/189). .