موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّالِثُ: مِن معالِمِ منهَجِ السُّلوكِ والأخلاقِ عِندَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: الوَسَطيَّةُ


تقدَّم بيانُ أنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ هم الوَسَطُ في أبوابِ الاعتقادِ بَينَ الأُمَمِ الكافِرة والفِرَقِ المنتَسِبةِ للإسلامِ.
وكما أنَّهم وَسَطٌ في الجانِبِ العَقَديِّ، فكذلك هم وَسَطٌ في الجانِبِ السُّلوكيِّ والأخلاقيِّ بَينَ طرَفَيِ الإفراطِ والتَّفريطِ؛ فدِينُ اللهِ الحَقُّ بَينَ الغالي فيه والجافي عنه.
قال ابنُ تيميَّةَ عن أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: (وكذلك في سائرِ أبوابِ السُّنَّةِ هم وَسَطٌ؛ لأنَّهم مُتمَسِّكون بكتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وما اتَّفَق عليه السَّابقون والأوَّلون من المُهاجِرين والأنصارِ والذين اتَّبَعوهم بإحسانٍ) [191] ((مجموع الفتاوى)) (3/375). .
وقال الشَّاطبيُّ مُقَرِّرًا مفهومَ الوَسَطيَّةِ في الدِّينِ: (الشَّريعةُ جاريةٌ في التَّكليفِ بمُقتضاها على الطَّريقِ الوَسَطِ الأعدَلِ، الآخِذِ من الطَّرَفَينِ بقِسطٍ لا مَيلَ فيه، الدَّاخِلِ تحتَ كَسبِ العَبدِ من غيرِ مَشَّقةٍ عليه ولا انحلالٍ، بل هو تكليفٌ جارٍ على موازنةٍ تقتضي في جميعِ المكَلَّفين غايةَ الاعتدالِ... فإن كان التَّشريعُ لأجلِ انحرافِ المُكَلَّفِ، أو وجودِ مَظِنَّةِ انحرافِه عن الوَسَطِ إلى أحَدِ الطَّرَفينِ، كان التَّشريعُ رادًّا إلى الوَسَطِ الأعدَلِ، لكِنْ على وَجهٍ يميلُ فيه إلى الجانِبِ الآخَرِ ليَحصُلَ الاعتدالُ فيه... فإذا نظَرْتَ في كليَّةٍ شرعيَّةٍ فتأمَّلْها تجِدْها حاملةً على التَّوسُّطِ، فإن رأيتَ مَيلًا إلى جهةِ طَرَفٍ من الأطرافِ فذلك في مقابلةِ واقِعٍ أو متوقَّعٍ في الطَّرَفِ الآخَرِ. فطَرَفُ التَّشديدِ -وعامَّةً ما يكونُ في التَّخويفِ والتَّرهيبِ والزَّجرِ- يُؤتى به في مقابلةِ من غَلَب عليه الانحلالُ في الدِّينِ. وطَرَفُ التَّخفيفِ -وعامَّةً ما يكونُ في التَّرجيةِ والتَّرغيبِ والتَّرخيصِ- يؤتى به في مقابلةِ من غلَب عليه الحَرَجُ في التَّشديدِ، فإذا لم يكُنْ هذا ولا ذاك رأيتَ التَّوسُّطَ لائحًا، ومَسلَكَ الاعتدالِ واضحًا، وهو الأصلُ الذي يُرجَعُ إليه. وعلى هذا إذا رأيتَ في النَّقلِ من المتبَرِّعين في الدِّينِ مَن مالَ عن التَّوسُّطِ فاعلَمْ أنَّ ذلك مُراعاةٌ منه لطَرَفٍ واقعٍ أو متوقَّعٍ في الجِهةِ الأُخرى، وعليه يجري النَّظَرُ في الوَرَعِ والزُّهدِ، وأشباهِهما وما قابَلَهما) [192] ((الموافقات)) (2/163 -168) باختصارٍ. .
أمثِلةٌ على وَسَطيَّةِ أهلِ السُّنَّةِ في بابِ السُّلوكِ والأخلاقِ:
1- أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ وَسَطٌ في بابِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ بَينَ الوَعيديَّةِ والمُرجِئةِ.
فالوَعيديَّةُ من الخوارجِ والمُعتَزِلةِ قد يُنكِرون المُنكَرَ، لكِنْ بنَوعٍ من التَّعَدِّي والإفراطِ، فجَوَّزوا الخُروجَ على أئمَّةِ الجَورِ وقِتالَهم؛ ممَّا ترتَّب عليه أنواعٌ من الفَسادِ والمُنكَراتِ أكثَرَ ممَّا أزالوه، وأمَّا المُرجِئةُ فقد تَرَكوا الأمرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المُنكَرِ ظَنًّا منهم أنَّ في ذلك درءًا للفِتنةِ.
قال ابنُ تيميَّةَ: (أهلُ البِدَعِ من الخوارِجِ والمُعتَزِلةِ والشِّيعةِ وغَيرِهم يَرَونَ قتالَ أئمَّةِ الجَورِ، والخُروجَ عليهم إذا فعلوا ما هو ظُلمٌ، أو ما ظنُّوه هم ظُلمًا، ويَرَون ذلك من بابِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ، وآخَرون من المُرجِئةِ وأهلِ الفُجورِ قد يَرَون تَرْكَ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ ظَنًّا أنَّ ذلك من بابِ تَركِ الفِتنةِ، وهؤلاء مُقابِلون لأولئك؛ ولهذا ذكَر الأستاذُ أبو منصورٍ الماتُريديُّ المصنِّفُ في الكلامِ وأصولِ الدِّينِ من الحَنَفيَّةِ الذين وراءَ النَّهرِ ما قابَل به المُعتَزِلةَ في الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ، فذَكَر أنَّ الأمرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المُنكَرِ سَقَط في هذا الزَّمانِ) [193] ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (1/ 177). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (إذا أحاط المرءُ عِلمًا بما أمَر به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الجِهادِ الذي يقومُ به الأُمَراءُ إلى يومِ القيامةِ، وبما نهى عنه من إعانةِ الظَّلَمةِ على ظُلمِهم؛ عَلِم أنَّ الطَّريقةَ الوُسطى -التي هي دينُ الإسلامِ المَحْضُ- جهادُ مَن يستَحِقُّ الجِهادَ، كهؤلاء القَومِ المسؤولِ عنهم أي التَّتارِ، مع كُلِّ أميرٍ وطائفةٍ هي أَولى بالإسلامِ منهم، إذا لم يمكِنْ جِهادُهم إلَّا كذلك، واجتنابُ إعانةِ الطَّائفةِ التي يغزو معها على شَيءٍ من معاصي اللهِ، بل يطيعُهم في طاعةِ اللهِ، ولا يُطيعُهم في معصيةِ اللهِ؛ إذ لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالِقِ.
وهذه طريقةُ خِيارِ هذه الأمَّةِ قديمًا وحديثًا، وهي واجِبةٌ على كُلِّ مُكَلَّفٍ، وهي متوسِّطةٌ بَينَ طريقِ الحَرُوريَّةِ وأمثالِهم ممَّن يَسلُكُ مَسلَكَ الوَرَعِ الفاسدِ النَّاشِئِ عن قِلَّةِ العِلمِ، وبَينَ طريقةِ المُرجِئةِ وأمثالِهم ممَّن يَسلُكُ مَسلَكَ طاعةِ الأُمَراءِ مُطلقًا وإن لم يكونوا أبرارًا) [194] ((مجموع الفتاوى)) (28/58). .
2- أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ وَسَطٌ في بابِ الإخلاصِ بَينَ المُرائِينَ والملامِيَّةِ.
فالمُراؤون يَعمَلون الصَّالحاتِ بقَصدِ رُؤيةِ النَّاسِ لهم وطَلَبِ مَدحِهم وثنائِهم، وأمَّا الملامِيَّةُ فعلى النَّقيضِ من ذلك؛ فهم يَفعَلون ما يُلامون ويُعابون عليه، ويقولون: نحن مُتَّبِعون في الباطِنِ [195] يُنظر لمعرفةِ حالِ الملاميَّةِ: ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 41)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (35/164)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/177، 178)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/178). .
أهلُ السُّنَّةِ يَعمَلون الطَّاعاتِ ابتغاءَ وَجهِ اللهِ تعالى، فإذا ألقى اللهُ لهم الثَّناءَ الحَسنَ في قلوبِ النَّاسِ بذلك، فتلك عاجِلُ بُشرى المؤمِنِ ؛ فعن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه سُئِل عن الرَّجُلِ يَعمَلُ العَمَلَ للهِ مِن الخَيرِ ويحمَدُه النَّاسُ عليه، فقال ((تلك عاجِلُ بُشرى المؤمِنِ )) [196] أخرجه مسلم (2642). .
فمَنهَجُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ الجَمعُ بَينَ صِحَّةِ القَصدِ والإرادةِ، وصلاحِ العَمَلِ وموافقتِه للشَّرعِ؛ تحقيقًا لقَولِ اللهِ تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110] .
3- أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ وَسَطٌ بَينَ المُشتَغِلين بالعباداتِ القَلبيَّةِ فقط كبَعضِ الصُّوفيَّةِ، والمُشتَغِلين بالعِباداتِ الظَّاهِرةِ فحَسْبُ كبَعضِ المُتَفَقِّهين.
فمَنهَجُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ القيامُ بالعباداتِ الظَّاهِرةِ والباطِنةِ معًا.
قال ابنُ تيميَّةَ: (كثُر في المُتَفَقِّهةِ مَن يَنحَرِفُ عن طاعاتِ القَلبِ وعباداتِه؛ مِن الإخلاصِ للهِ، والتَّوكُّلِ عليه، والمحبَّةِ له، والخشيةِ منه، ونحوِ ذلك. وكَثُر في المتفَقِّرةِ والمتصَوِّفةِ من ينحَرِفُ عن الطَّاعاتِ الشَّرعيَّةِ، فلا يبالون إذا حصل لهم توحيدُ القَلبِ وتألُّهُه أن يترُكوا ما أوجبَه اللهُ من الصَّلواتِ، وشَرَعه من أنواعِ القِراءةِ والذِّكرِ والدَّعَواتِ، وأن يتناوَلوا ما حرَّم اللهُ من المطاعِمِ، وأن يتعَبَّدوا بالعباداتِ البِدعيَّةِ من الرَّهبانيَّةِ ونَحوِها، ويعتاضوا بسَماعِ المُكاءِ والتَّصْدِيةِ عن سَماعِ القُرآنِ) [197] ((مجموع الفتاوى)) (2/72) بتصَرُّفٍ يسيرٍ. .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (إنَّ للهِ على العبدِ عُبوديَّتينِ: عُبوديَّةً باطنةً، وعُبوديَّةً ظاهِرةً، فله على قَلبِه عُبوديَّةٌ، وعلى لِسانِه وجوارِحِه عُبوديَّةٌ؛ فقيامُه بصُورةِ العُبوديَّةِ الظَّاهِرةِ مع تَعَرِّيه عن حقيقةِ العُبوديَّةِ الباطِنةِ ممَّا لا يُقَرِّبُه إلى رَبِّه، ولا يُوجِدُ له الثَّوابَ وقَبولَ عمَلِه... ولَمَّا رأى بعضُ أربابِ القُلوبِ طريقةَ هؤلاء أي الفُقَهاءِ، انحرَف عنها إلى أنْ صَرَف هَمَّه إلى عُبوديَّةِ القَلبِ، وعَطَّل عُبوديَّةَ الجوارِحِ، وقال: المقصودُ قيامُ القلبِ بحقيقةِ الخِدمةِ، والجوارِحُ تبَعٌ. والطَّائِفتانِ مُتقابِلتان أعظَمَ تقابُلٍ؛ هؤلاء لا التِفاتَ لهم إلى عُبوديَّةِ جوارِحِهم، ففَسَدت عُبوديَّةُ قلوبِهم، وأولئك لا التِفاتَ لهم إلى عُبوديَّةِ قُلوبِهم، ففَسَدت عُبوديَّةُ جوارِحِهم، والمُؤمِنون العارِفون باللهِ وبأمْرِه قاموا له بحقيقةِ العُبوديَّةِ ظاهِرًا وباطنًا، وقدَّموا قُلوبَهم في الخِدمةِ، وجعَلوا الأعضاءَ تَبَعًا لها، فأقاموا المَلِكَ وجُنودَه في خِدمةِ المعبودِ، وهذا هو حقيقةُ العُبوديَّةِ) [198] ((بدائع الفوائد)) (3/23، 229)، ويُنظر: ((إغاثة اللهفان)) له (1/187). .
4- أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ وَسَطٌ بَينَ أهلِ التَّرَفِ والفُجورِ، وأصحابِ الرَّهبانيَّةِ والتَّشَدُّدِ.
فالمُترَفون المُنعَّمون الذين أسرَفوا على أنفُسِهم، فأضاعوا الصَّلاةَ واتَّبَعوا الشَّهواتِ، وأمَّا المُترَهِّبون فأوقَعَهم في البِدَعِ غُلُوُّهم وتشَدُّدُهم، فحرَّموا ما أحَلَّ اللهُ من الطَّيِّباتِ.
قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [المائدة: 87] .
قال ابنُ تيميَّةَ: (نهى سُبحانَه عن تحريمِ ما أحَلَّ من الطَّيِّباتِ، وعن الاعتداءِ في تناوُلِها، وهو مجاوَزةُ الحَدِّ، وقد فُسِّر الاعتداءُ في الزُّهدِ والعبادةِ بأن يحَرِّموا الحلالَ ويَفعَلوا من العبادةِ ما يَضُرُّهم، فيكونوا قد تجاوزوا الحَدَّ وأسرفوا، وقيل: لا يحمِلَنَّكم أكلُ الطَّيِّباتِ على الإسرافِ وتناوُلِ الحرامِ من أموالِ النَّاسِ؛ فإنَّ آكِلَ الطَّيِّباتِ والشَّهَواتِ المُعتديَ فيها لا بُدَّ أن يَقَعَ في الحرامِ لأجْلِ الإسرافِ في ذلك) [199] ((مجموع الفتاوى)) (14/457). .
وقال اللهُ سُبحانَه: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأعراف: 32] .
قال ابنُ كثيرٍ: (يقولُ تعالى رَدًّا على من حَرَّم شيئًا من المآكِلِ أو المشارِبِ والملابِسِ مِن تلقاءِ نَفسِه من غيرِ شَرعٍ من اللهِ: قُلْ يا محمَّدُ لهؤلاء المُشرِكين الذين يُحَرِّمون ما يُحَرِّمون بآرائِهم الفاسِدةِ وابتِداعِهم: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الآية، أي: هي مخلوقةٌ لِمن آمَن باللهِ وعبَدَه في الحياةِ الدُّنيا، وإن شَرِكَهم فيها الكُفَّارُ حِسًّا في الدُّنيا، فهي لهم خاصَّةً يومَ القيامةِ لا يَشْرَكُهم فيها أحَدٌ من الكُفَّارِ؛ فإنَّ الجنَّةَ مُحَرَّمةٌ على الكافِرين) [200] ((تفسير ابن كثير)) (3/ 408). .

انظر أيضا: