موسوعة الفرق

المَبحَثُ الخامِسُ: مِن معالِمِ مَنهَجِ السُّلوكِ والأخلاقِ عِندَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: مُراعاةُ تَفاوُتِ النَّاسِ في فِعلِ الطَّاعاتِ


مِن معالِمِ السُّلوكِ الشَّرعيِّ: مُراعاةُ تفاوُتِ قُدُراتِ النَّاسِ في فِعلِ الطَّاعاتِ، وذلك بسَبَبِ اختلافِ استعداداتِهم، وتنوُّعِ مواهبِهم ومُيولِهم.
كتَب مالِكُ بنُ أنَسٍ إلى عَبدِ اللهِ العُمَريِّ العابِدِ جوابًا عن كتابِه الذي يحُضُّه فيه على الانفرادِ والعَمَلِ، فقال: (إنَّ اللهَ قَسَّم الأعمالَ كما قَسَّم الأرزاقَ؛ فرُبَّ رجُلٍ فُتِح له في الصَّلاةِ ولم يُفتَحْ له في الصَّومِ، وآخَرُ فُتِح له في الصَّدَقةِ ولم يُفتَحْ له في الصَّومِ، وآخَرُ فُتِح له في الجِهادِ؛ فنَشْرُ العِلمِ من أفضلِ أعمالِ البِرِّ، وقد رَضِيتُ بما فُتِحَ لي فيه، وما أظُنُّ ما أنا فيه بدونِ ما أنت فيه، وأرجو أن يكونَ كِلانا على خَيرٍ وبِرٍّ) [210] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (8/114). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (النَّاسُ يتفاضَلون في هذا البابِ؛ فمنهم مَن يكونُ العِلمُ أيسَرَ عليه مِن الزُّهدِ، ومنهم مَن يكونُ الزُّهدُ أيسَرَ عليه، ومنهم مَن تكونُ العبادةُ أيسَرَ عليه منهما، فالمشروعُ لكُلِّ إنسانٍ أن يفعَلَ ما يَقدِرُ عليه من الخيرِ، كما قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] . وإذا ازدحمَتْ شُعَبُ الإيمانِ قَدَّم ما كان أرضى للهِ وهو عليه أقدَرُ؛ فقد يكونُ على المفضولِ أقدَرَ منه على الفاضِلِ، ويحصُلُ له أفضَلُ ممَّا يحصُلُ من الفاضِلِ؛ فالأفضَلُ لهذا أن يطلُبَ ما هو أنفَعُ له، وهو في حَقِّه أفضَلُ، ولا يَطلُبَ ما هو أفضَلُ مُطلقًا، إذا كان متعَذِّرًا في حَقِّه أو متعَسِّرًا يفوتُه ما هو أفضَلُ له وأنفَعُ) [211] ((مجموع الفتاوى)) (7/651). .
وقال أيضًا: (وأمَّا ما سألْتَ عنه مِن أفضَلِ الأعمالِ بَعدَ الفرائِضِ، فإنَّه يختَلِفُ باختِلافِ النَّاسِ فيما يَقدِرون عليه وما يناسِبُ أوقاتَهم، فلا يمكِنُ فيه جوابٌ جامعٌ مُفَصَّلٌ لكُلِّ أحَدٍ...) [212] ((مجموع الفتاوى)) (10/660). ويُنظر فيه: (24/246). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (المقصودُ أنَّ الطَّريقَ إلى اللهِ تعالى واحِدٌ؛ فإنَّه الحَقُّ المُبينُ، والحَقُّ واحِدٌ، مَرجِعُه إلى واحِدٍ، وأمَّا الباطِلُ والضَّلالُ فلا ينحَصِرُ، بل كُلُّ ما سِواه باطِلٌ، وكُلُّ طريقٍ إلى الباطِلِ فهو باطِلٌ؛ فالباطِلُ متعَدِّدٌ، وطُرُقُه متعَدِّدةٌ، وأمَّا ما يَقَعُ في كلامِ بَعضِ العُلَماءِ أنَّ الطَّريقَ إلى اللهِ متعَدِّدةٌ مُتنَوِّعةٌ، جعَلَها اللهُ كذلك لتنَوُّعِ الاستِعداداتِ واختِلافِها رحمةً منه وفضلًا- فهو صحيحٌ لا يُنافي ما ذكَرْناه من وَحدةِ الطَّريقِ. وكَشْفُ ذلك وإيضاحُه أنَّ الطَّريقَ هي واحِدةٌ جامِعةٌ لكُلِّ ما يُرضي اللهَ، وما يُرضيه متعَدِّدٌ متنَوِّعٌ، فجَميعُ ما يُرضيه طريقٌ واحِدٌ، ومراضِيه مُتعَدِّدةٌ مُتنَوِّعةٌ بحَسَبِ الأزمانِ والأماكِنِ والأشخاصِ والأحوالِ، وكُلُّها طرُقُ مَرضاتِه؛ فهذه التي جعَلَها اللهُ لرحمتِه وحِكمتِه كثيرةً متنَوِّعةً جِدًّا لاختلافِ استِعداداتِ العِبادِ وقَوابلِهم، ولو جعَلَها نوعًا واحدًا مع اختلافِ الأَذهانِ والعُقولِ وقُوَّةِ الاستعداداتِ وضَعْفِها لم يَسلُكْها إلَّا واحِدٌ بَعدَ واحِدٍ، ولكِنْ لَمَّا اختَلَفَت الاستِعداداتُ تنوَّعَت الطُّرُقُ؛ ليَسلُكَ كُلُّ امرئٍ إلى ربِّه طريقًا يقتَضيها استعدادُه وقُوَّتُه وقَبولُه...
وإذا عُلِم هذا فمِن النَّاسِ مَن يكونُ سَيِّدُ عَمَلِه وطريقُه الذي يُعَدُّ سُلوكَه إلى اللهِ طَريقَ العِلمِ والتَّعليمِ، قد وَفَّر عليه زمانَه مبتغيًا به وَجهَ اللهِ، فلا يزالُ كذلك عاكفًا على طريقِ العِلمِ والتَّعليمِ حتى يَصِلَ من تلك الطَّريقِ إلى اللهِ، ويُفتَحَ له فيها الفَتحُ الخاصُّ، أو يموتَ في طريقِ طَلَبِه، فيُرجى له الوصولُ إلى مَطلَبِه بَعدَ مماتِه... ومِن النَّاسِ مَن يكونُ سَيِّدُ عَمَلِه الذِّكرَ وقد جعَله زادَه لِمَعاده ورأسَ مالِه لمآلِه، فمتى فَتَر عنه أو قَصَّر رأى أنَّه قد غُبِن وخَسِر. ومن النَّاسِ من يكونُ سَيِّدُ عَمَلِه وطريقُه الصَّلاةَ، فمتى قَصَّر في وِرْدِه منها أو مضى عليه وَقتٌ وهو غيرُ مشغولٍ بها أو مُستعَدٍّ لها أظلَمَ عليه وقتُه وضاق صدرُه. ومن النَّاسِ مَن يكونُ طريقُه الإحسانَ والنَّفعَ المتعَدِّيَ؛ كقضاءِ الحاجاتِ، وتفريجِ الكُرُباتِ، وإغاثةِ اللَّهفانِ، وأنواعِ الصَّدَقاتِ، قد فُتِح له في هذا وسلَكَ منه طريقًا إلى رَبِّه. ومِن النَّاسِ مَن يكونُ طَريقُه الصَّومَ، فهو متى أفطَرَ تغيَّرَ عليه قَلبُه وساءَت حالُه. ومِن النَّاسِ مَن يكونُ طريقُه تلاوةَ القرآنِ، وهي الغالِبُ على أَوقاتِه، وهي أعظَمُ أورادِه. ومنهم مَن يكونُ طريقُه الأمرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المُنكَرِ، قد فَتَح اللهُ له فيه ونَفَذ منه إلى رَبِّه. ومنهم مَن يكونُ طريقُه الذي نَفَذ فيه الحَجَّ والاعتِمارَ. ومنهم مَن يكونُ طريقُه قَطْعَ العلائِقِ، وتجريدَ الهِمَّةِ، ودوامَ المُراقَبةِ، ومراعاةَ الخواطِرِ، وحِفظَ الأوقاتِ أن تَذهَبَ ضائِعةً. ومنهم جامِعُ المَنفَذِ، السَّالِكُ إلى اللهِ في كُلِّ وادٍ، الواصِلُ إليه من كُلِّ طريقٍ، فهو جَعَلَ وظائِفَ عبوديَّتِه قِبلةَ قَلبِه ونُصبَ عَينِه، يَؤُمُّها أين كانت، ويسيرُ معها حيثُ سارت، قد ضَرَب مع كُلِّ فريقٍ بسَهمٍ، فأين كانت العُبوديَّةُ وجَدْتَه هناك؛ إن كان عِلمٌ وجَدْتَه مع أهلِه، أو جِهادٌ وجَدْتَه في صِفِّ المجاهِدين، أو صلاةٌ وجَدْتَه في القانِتين، أو ذِكرٌ وَجَدْتَه في الذَّاكِرين، أو إحسانٌ ونَفعٌ وجَدْتَه في زُمرةِ المُحْسِنين، أو محَبَّةٌ ومُراقَبةٌ وإنابةٌ إلى اللهِ وجَدْتَه في زُمرةِ المُحِبِّين المُنيبين، يَدِينُ بدِينِ العُبوديَّةِ أنَّى استَقَلَّتْ رَكائِبُها، ويتوَجَّهُ إليها حيثُ استقَرَّت مَضارِبُها، لو قيل له: ما تريدُ من الأعمالِ؟ لقال: أريدُ أن أنفِّذَ أوامِرَ رَبِّي حيثُ كانت وأين كانت) [213] ((طريق الهجرتين)) (ص: 178). ويُنظر: ((مدارج السالكين)) (3/17)، ((الفوائد)) (ص: 38) كلاهما لابنِ القيِّمِ. .




انظر أيضا: