موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّاني: مِن معالِمِ منهَجِ السُّلوكِ والأخلاقِ عِندَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: مُوافَقةُ النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ لَفظًا ومعنًى


مِن مَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ التَّأدُّبُ مع المُصطَلحاتِ الشَّرعيَّةِ الدِّينيَّةِ، والتَّمسُّكُ بألفاظِها ومعانيها، وتحقيقُ حُدودِها وتعريفاتِها عِلمًا وعَمَلًا، وهناك مَن وافَق النُّصوصَ في المعنى دونَ اللَّفظِ كالباطنيَّةِ، وصِنْفٌ آخَرُ خالَف النُّصوصَ لفظًا ومعنًى كالملاحِدةِ [181] يُنظر: ((منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد)) لعثمان حسن (2/692). .
وقد أثنى اللهُ تعالى على من عَرَف حُدودَ ما أنزَلَ اللهُ عزَّ وجَلَّ على رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وذمَّ مَن جَهِلَها، فقال سُبحانَه: الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [التوبة: 97] .
قال ابنُ تيميَّةَ: (الألفاظُ التي جاء بها الكِتابُ والسُّنَّةُ علينا أن نتَّبِعَ ما دلَّت عليه، مِثلُ لَفظِ الإيمانِ والبِرِّ، والتَّقوى والصِّدقِ، والعَدلِ والإحسانِ والصَّبرِ، والشُّكرِ والتَّوكُّلِ، والخَوفِ والرَّجاءِ، والحُبِّ للهِ، والطَّاعةِ للهِ وللرَّسولِ، وبِرِّ الوالِدَينِ، والوَفاءِ بالعَهدِ، ونحوِ ذلك ممَّا يتضَمَّنُ ذِكْرَ ما أحبَّه اللهُ ورسولُه من القَلبِ والبَدنِ؛ فهذه الأمورُ التي يحبُّها اللهُ ورسولُه هي الطَّريقُ الموصِلُ إلى اللهِ، مع تَرْكِ ما نهى اللهُ عنه ورسولُه؛ كالكُفرِ والنِّفاقِ والكَذِبِ، والإثمِ والعُدوانِ، والظُّلمِ والجَزَعِ والهَلَعِ، والشِّركِ والبُخلِ والجُبنِ، وقَسوةِ القَلبِ والغَدرِ وقطيعةِ الرَّحِمِ، ونحوِ ذلك؛ فعلى كُلِّ مُسلمٍ أن ينظُرَ فيما أمَرَ اللهُ به ورسولُه فيَفعَلَه، وما نهى اللهُ عنه ورسولَه فيَترُكَه، هذا هو طريقُ اللهِ وسبيلُه ودينُه الصِّراطُ المُستقيمُ) [182] ((مجموع الفتاوى)) (11/25). .
وقال أيضًا: (الألفاظُ الشَّرعيَّةُ لها حُرمةٌ، ومن تمامِ العِلمِ أن يَبحَثَ عن مرادِ رسولِه بها ليُثبِتَ ما أثبته، ويَنفيَ ما نفاه من المعاني؛ فإنَّه يجِبُ علينا أن نُصَدِّقَه في كُلِّ ما أخبَرَ، ونُطيعَه في كُلِّ ما أوجبَ وأمَر) [183] ((مجموع الفتاوى)) (12/133، 114). .
وقال ابنُ القَيِّمِ عن معرفةِ منازِلِ العُبوديَّةِ وحُدودِها ومراتِبِها: (معرفةُ ذلك من تمامِ مَعرفةِ حُدودِ ما أنزل اللهُ على رسولِه، وقد وصَف اللهُ تعالى من لم يَعرِفْها بالجَهلِ والنِّفاقِ، فقال تعالى: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 97] ، فبمعرفةِ حدودِها درايةً والقيامِ بها رعايةً يَستَكمِلُ العبدُ الإيمانَ، ويكونُ من أهلِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [184] ((مدارج السالكين)) (1/140). .
وقال أيضًا: (مِن أشرَفِ العُلومِ وأنفَعِها علمُ الحدودِ، ولا سِيَّما حدودِ المشروعِ؛ المأمورِ والمنهيِّ، ولا يخرُجُ منها ما هو داخِلٌ فيها... وأعدَلُ النَّاسِ من قام بحُدودِ الأخلاقِ والأعمالِ والمشروعاتِ مَعرفةً وفِعلًا) [185] ((الفوائد)) (ص: 133) باختصارٍ يسيرٍ. .
إنَّ تحقيقَ معنى الأمورِ السُّلوكيَّةِ، والعِلمَ بحُدودِها وضوابطِها الشَّرعيَّةِ: هو السَّبَبُ في تمييزِ تلك الأمورِ المشروعةِ من غيرِها؛ فكثيرًا ما يشتَبِهُ الزُّهدُ الشَّرعيُّ مَثَلًا بالكَسَلِ والعَجزِ والبَطالةِ عن الأوامِرِ الشَّرعيَّةِ، وكثيرًا ما يشتَبِهُ التَّوكُّلُ بالتَّواكُلِ والإضاعةِ.
وكما أنَّه تُوجَدُ ألفاظٌ مُجمَلةٌ في بابِ الاعتقادِ لم تَرِدْ في الكتابِ ولا في السُّنَّةِ بنَفيٍ ولا إثباتٍ، كالجِسْمِ والحَيِّزِ والجوهَرِ، فكذلك في بابِ السُّلوكِ توجَدُ ألفاظٌ مجمَلةٌ، كالتَّصوُّفِ والفَناءِ والفَقرِ ونحوِه؛ فأصحابُ الطُّرُقِ الصُّوفيَّةِ أحدثوا ألفاظًا مجمَلةً في السُّلوكِ [186] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/437)، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (1/238). .
وقد تقَرَّر أنَّ مَوقِفَ السَّلَفِ الصَّالحِ من الألفاظِ المجمَلةِ هو التَّفصيلُ، فلا يُطلِقون نَفْيَها ولا إثباتَها إلَّا بالاستفسارِ عن المقصودِ منها؛ فهم ينظُرون في مقصودِ قائِلِها، فإن كان معنًى صحيحًا قُبِل، وإن كان معنًى باطلًا لم يُقبَلْ، لكِنْ ينبغي التَّعبيرُ عن المعاني الصَّحيحةِ بألفاظِ النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ دونَ الألفاظِ المجمَلةِ إلَّا عِندَ الحاجةِ، مع ذِكرِ قرائِنَ تُبَيِّنُ المرادَ، مِثلُ أن يكونَ الخِطابُ مع مَن لا يفهَمُ المقصودَ إنْ لم يخاطَبْ بها [187] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/37) (5/299)، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (1/260، 261). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (أمَّا الألفاظُ التي ليست في الكِتابِ والسُّنَّةِ ولا اتَّفَق السَّلَفُ على نَفْيِها أو إثباتِها، فهذه ليس على أحَدٍ أن يُوافِقَ مَن نفاها أو أثبَتَها حتَّى يَستفسِرَ عن مُرادِه؛ فإن أراد بها معنًى يوافِقُ خَبَرَ الرَّسولِ، أَقَرَّ به، وإن أراد بها معنًى يخالِفُ خَبَرَ الرَّسولِ، أنكَرَه. ثمَّ التعبيرُ عن تلك المعاني إن كان في ألفاظِه اشتِباهٌ أو إجمالٌ، عَبَّرَ بغيرها، أو بَيَّن مرادَه بها، بحيث يحصُلُ تعريفُ الحَقِّ بالوَجهِ الشَّرعيِّ؛ فإنَّ كثيرًا مِن نزاعِ النَّاسِ سَبَبُه ألفاظٌ مُجمَلةٌ) [188] ((مجموع الفتاوى)) (12/114). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (اعلَمْ أنَّ في لسانِ القَومِ من الاستعاراتِ، وإطلاقِ العامِّ وإرادةِ الخاصِّ، وإطلاقِ اللَّفظِ وإرادةِ إشارتِه دونَ حقيقةِ معناه- ما ليس في لسانِ أحدٍ من الطَّوائِفِ غيرِهم؛ ولهذا يقولون: نحن أصحابُ إشارةٍ لا أصحابُ عبارةٍ، وقد يُطلِقون العبارةَ التي يُطلِقُها المُلحِدُ، ويريدون بها معنًى لا فسادَ فيه، وصار هذا سببًا لفتنةِ طائفتَينِ تعلَّقوا عليهم بظاهِرِ عباراتِهم، فبَدَّعوهم وضَلَّلوهم، وطائفةٌ نَظَروا إلى مقاصِدِهم ومَغْزاهم، فصَوَّبوا تلك العباراتِ، وصَحَّحوا تلك الإشاراتِ؛ فطالِبُ الحَقِّ يَقبَلُه ممَّن كان، ويَرُدُّ ما خالفه على مَن كان) [189] ((مدارج السالكين)) (3/ 309). ويُنظر: ((الاعتصام)) للشاطبي (1/265-269). .
وقال الشَّاطبيُّ: (وأمَّا الكلامُ في دقائِقِ التَّصوُّفِ فليس ببِدعةٍ بإطلاقٍ، ولا هو ممَّا صَحَّ بالدَّليلِ بإطلاقٍ، بل الأمرُ ينقَسِمُ، ولفظُ التَّصوُّفِ لا بُدَّ مِن شَرحِه أوَّلًا حتى يَقَعَ الحُكمُ على أمرٍ مفهومٍ؛ لأنَّه أمرٌ مُجمَلٌ عِندَ هؤلاء المتأخِّرين) [190] ((الاعتصام)) (1/ 265). .

انظر أيضا: