موسوعة الفرق

الفصلُ الثَّاني: تأويلُ المُرجِئةِ للنُّصوصِ الشَّرعيَّةِ المُخالِفةِ لقولِهم والرَّدُّ عليهم


أوَّلَ المُرجِئةُ النُّصوصَ التي تُخالِفُ قولَهم في الإيمانِ، وتكلَّفوا في إبطالِ دَلالاتِها، ومِن تلك النُّصوصِ:
1- عن أبي هُرَيرةَ رضِي اللهُ عنه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يزني الزَّاني حينَ يَزني وهو مُؤمِنٌ، ولا يسرِقُ السَّارِقُ حينَ يسرِقُ وهو مُؤمِنٌ، ولا يشرَبُ الخَمرَ حينَ يشرَبُها وهو مُؤمِنٌ )) [571] أخرجه البخاري (6810)، ومسلم (57) باختلافٍ يسيرٍ. .
2- عن أبي هُرَيرةَ رضِي اللهُ عنه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا زنى الرَّجلُ خرَج منه الإيمانُ كان عليه كالظُّلَّةِ، فإذا انقلَع رجَع إليه الإيمانُ )) [572] أخرجه أبو داود (4690) واللَّفظُ له، والترمذي مُعلَّقًا بعد حديث (2625) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4690)، وصحَّح إسنادَه ابن حجر في ((فتح الباري)) (12/62)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4690)، وقال الذهبي في ((الكبائر)) (164): على شرط البخاري ومسلم. .
3- عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضِي اللهُ عنه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((سِبابُ المُسلِمِ فُسوقٌ، وقِتالُه كُفرٌ )) [573] أخرجه البخاري (48)، ومسلم (64). .
4- عن أبي ذَرٍّ رضِي اللهُ عنه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ليس مِن رجُلٍ ادَّعى لغَيرِ أبيه وهو يعلَمُه إلَّا كفَر )) [574] أخرجه البخاري (3508)، ومسلم (61). .
5- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ رضِي اللهُ عنهما: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن حلَف بغَيرِ اللهِ فقد كفَر أو أشرَك )) [575] أخرجه أبو داود (3251)، والترمذي (1535) واللَّفظُ له، وأحمد (6072). صَحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (4358)، والحاكم على شَرطِ الشَّيخَينِ في ((المستدرك)) (7814)، وابن تيمية كما في ((المستدرك على مجموع الفتاوى)) لابن قاسم (1/28)، وابن القيم في ((الوابل الصيب)) (189). .
فقد اختُلِف في معنى هذه النُّصوصِ وأمثالِها بناءً على الاختِلافِ في حقيقةِ الإيمانِ والكُفرِ؛ فذهَب كُلٌّ مِن المُرجِئةِ والخوارِجِ إلى أنَّ الإيمانَ مَرتَبةٌ واحِدةٌ لا يقبَلُ الزِّيادةَ والنُّقصانَ، فكذلك الكُفرُ يكونُ مَرتَبةً واحِدةً تَبعًا لذلك.
وأصلُ مَنهَجِ المُرجِئةِ والخوارِجِ على ما بَينَ مَذهَبَيهما مِن اختِلافٍ وتضادٍّ أنَّ الإيمانَ إذا كان حقيقةً واحِدةً تنتفي بالكُلِّيَّةِ إذا انتفى بعضُها، وتُصبِحُ حقيقةً أخرى، كالعددِ عَشَرةٍ مَثلًا، إذا نقَص منه واحِدٌ، وأصبَح تسعةً، فاختلَفَت حقيقةُ العددِ بتخلُّفِ بعضِه.
وأساسُ شُبهتِهم أنَّهم لم يُفرِّقوا بَينَ ما هو شرطٌ في أصلِ الإيمانِ، كالإيمانِ بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتصديقِه واتِّباعِه، معَ توحيدِ اللهِ تعالى؛ فإنَّه لا يكفي أحدُ هذَينِ الأصلَينِ عن الآخَرِ، وبَينَ ما لا يكونُ شرطًا في أصلِ الإيمانِ، فلا يقتضي تخلُّفُه عَدمَ وُجودِ الإيمانِ بالكُلِّيَّةِ، كالمُرتكِبِ لبعضِ الكبائِرِ؛ فإنَّ إيمانَه ينقُصُ، لكنَّه لا يذهَبُ بالكُلِّيَّةِ.
ومَثلُ الإيمانِ كالشَّجرةِ حينَ يُقطَعُ بعضُ أغصانِها؛ فإنَّها شجرةٌ معَ ذلك النَّقصِ، وقد ضرَبها اللهُ مَثلًا لكلمةِ التَّوحيدِ في قولِه تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [إبراهيم: 24-25] .
ومعَ اتِّفاقِ كُلٍّ مِن المُرجِئةِ والخوارِجِ في أصلِ الشُّبهةِ والمَنهَجِ، فإنَّهم أصبَحوا طرفَي نقيضٍ في معاني النُّصوصِ السَّابِقةِ وأمثالِها.
فأمَّا المُرجِئةُ فألغَت دَلالتَها الشَّرعيَّةَ بالكُلِّيَّةِ، وأمَّا الخوارِجُ فاعتمَدَتها في التَّكفيرِ بالكبيرةِ، وهذا تفصيلٌ لمَنهَجِ المُرجِئةِ في ذلك:
ألغى المُرجِئةُ الدَّلالةَ الشَّرعيَّةَ لتلك النُّصوصِ، وأبقَوها على دَلالتِها اللُّغويَّةِ، فقالوا: المُرادُ بالكُفرِ في هذه النُّصوصِ وأمثالِها كُفرٌ مَجازيٌّ لا كُفرٌ حقيقيٌّ؛ لأنَّه لا يكونُ الكُفرُ حقيقيًّا عندَهم إلَّا إذا ذهَب معَه الإيمانُ بالكُلِّيَّةِ.
وأمَّا الأحاديثُ التي فيها نَفيُ الإيمانِ عمَّن ارتكَب بعضَ الكبائِرِ فقالوا: إنَّ المُرادَ بها النَّهيُ والزَّجرُ، لا الإخبارُ عن انتِفاءِ الإيمانِ، أو إنَّ المُرادَ بها مُجرَّدُ الوعيدِ الذي لا يتضمَّنُ نَفيَ الإيمانِ حقيقةً، وبهذا تنتفي دَلالتُها بالكُلِّيَّةِ؛ لأنَّ النَّهيَ لا يتضمَّنُ الدَّلالةَ على أنَّ مَن ارتكَب تلك الكبائِرَ لا يكونُ مُؤمِنًا، بل يكونُ المعنى على قولِهم: إنَّ مِن شأنِ المُؤمِنِ ألَّا يرتكِب الكبائِرَ، لكنَّ مَن ارتكَبها لا يكونُ بذلك قد نقَص إيمانُه.
وعليه، فالخلافُ بَينَ أهلِ السُّنَّةِ وبَينَ المُرجِئةِ في هذه المسألةِ خلافٌ حقيقيٌّ لا صوريٌّ [576] يُنظر: ((ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة)) لعبد الله القرني (ص:252). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/223، 350-356، 510). .
والحقيقةُ أنَّ أهلَ السُّنَّةِ لا يقولونَ بأنَّ مُرتكِبَ الكبيرةِ قد انتَفى إيمانُه بالكُلِّيَّةِ؛ لأنَّه لو كان كذلك لكان كافِرًا، لكنَّهم لا يُثبِتونَ له وَصفَ الإيمانِ، وإن كان معَه أصلُه، فليس مُرتكِبُ الكبيرةِ عندَهم مُؤمِنًا وإن كان معَه إيمانٌ، بل يقولونَ: هو مُسلِمٌ، ولا يقولونَ: هو مُؤمِنٌ كامِلُ الإيمانِ، خاصَّةً فيما ورَد الدَّليلُ فيه بنَفيِ الإيمانِ، كقولِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَزني الزَّاني حينَ يَزني وهو مُؤمِنٌ )) [577] أخرجه البخاري (6810)، ومسلم (57) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، فمَن قال: إنَّ الزَّانيَ حينَ يَزني يكونُ مُؤمِنًا لا بُدَّ أن يُعارِضَ الحديثَ، فإن قيل: وهل يكفُرُ الزَّاني حينَ يَزني؟
قيل: الإيمانُ المنفيُّ هنا هو الإيمانُ الواجِبُ لا مُطلَقُ الإيمانِ، وهذا مَناطُ النِّزاعِ في القضيَّةِ، فإمَّا أن يَلتزِمَ بأنَّ الزَّانيَ مُؤمِنٌ بإطلاقٍ، وإمَّا أن يُوافِقَ الحديثَ في نَفيِ الإيمانِ عنه، ثُمَّ يُفصِّلُ في المقصودِ بالإيمانِ المنفيِّ، كما هو مَنهَجُ أهلِ السُّنَّةِ في ذلك.
والقولُ بأنَّ الزَّانيَ والسَّارِقَ وشارِبَ الخَمرِ ليسوا مُؤمِنينَ وإن كانوا مُسلِمينَ؛ هو مُقتَضى قولِ جُمهورِ أهلِ السُّنَّةِ الذين يُفرِّقونَ بَينَ الإسلامِ والإيمانِ، وأمَّا مَن يقولُ بالتَّرادُفِ بَينَهما مِن أهلِ السُّنَّةِ فقد يقولونَ: هو مُؤمِنٌ ناقِصُ الإيمانِ، وقد يقولونَ: مُؤمِنٌ بإيمانِه فاسِقٌ بكبيرتِه، ولا يقولونَ: هو مُؤمِنٌ دونَ تقييدٍ كما تقولُه المُرجِئةُ.
وأمَّا تأويلُ الحديثِ على أنَّ معناه النَّهيُ لا الإخبارُ فهو إخراجٌ له عن حقيقةِ دَلالتِه.
وإذا قُبِل منهم هذا التَّأويلُ في مِثلِ هذا الحديثِ، فكيف يتأوَّلونَ مِثلَ قولِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يُؤمِنُ أحدُكم حتَّى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفسِه )) [578] أخرجه البخاري (13) واللَّفظُ له، ومسلم (45) من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. ، ومِثلَ حديثِ: ((واللهِ لا يُؤمِنُ، والله لا يُؤمِنُ، واللهِ لا يُؤمِنُ، قيل: مَن يا رسولَ اللهِ؟ قال: الذي لا يأمَنُ جارُه بوائِقَه )) [579] أخرجه البخاري (6016) بلفظ: " بوايقه" من حديثِ أبي شريح العدوي رَضِيَ اللهُ عنه. ، ونَحوَ ذلك مِن النُّصوصِ الصَّريحةِ القاطِعةِ في الدَّلالةِ على الخبرِ بنَفيِ أن يكونَ مَن فعَل ذلك مُؤمِنًا؟ فالقولُ بأنَّ مَن لم يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفسِه مُؤمِنٌ، أو أنَّ مَن لم يأمَنْ جارُه بوائِقَه مُؤمِنٌ- مُعارِضٌ لظاهِرِ الحديثِ.
وتأوَّلوا مِثلَ هذه الأحاديثِ على أنَّ المُرادَ بها الوعيدُ لا نَفيُ الإيمانِ حقيقةً، وهذا تخريجٌ لا تحتمِلُه تلك النُّصوصُ وأمثالُها، وعلى التَّسليمِ بأنَّ المُرادَ بها الوعيدُ؛ فإنَّ ذلك لا يعني نَفيَ أن تكونَ دالَّةً على نَفيِ الإيمانِ الواجِبِ، وأنَّ مَن ارتكَب تلك المعاصيَ فليس بمُؤمِنٍ بنصِّ الأحاديثِ [580] يُنظر: ((ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة)) لعبد الله القرني (ص:256-258). ويُنظر: ((الإيمان)) لأبي عبيد (ص: 39)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/11) وما بعدها، ((فتح الباري)) (1/ 119)، ((جامع العلوم والحكم)) (1/108-109) كلاهما لابن رجبٍ. .
وقد استشنَع القاسِمُ بنُ سلَّامٍ مِثلَ هذا التَّأويلِ، فقال: (وأمَّا القولُ الثَّاني المحمولُ على التَّغليظِ فمِن أفظَعِ ما تُؤوِّل على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه؛ أن جعَلوا الخبرَ عن اللهِ وعن دينِه وعيدًا لا حقيقةَ له، وهذا يَؤُولُ إلى إبطالِ العِقابِ؛ لأنَّه إن أمكَن ذلك في واحِدٍ منها كان مُمكِنًا في العُقوباتِ كُلِّها) [581] ((الإيمان)) (ص: 43). .
وقال أيضًا: (قولُه: (مَن فعَل كذا وكذا فليس منَّا) لا نرى شيئًا منها يكونُ معناه التَّبرُّؤَ مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولا مِن مِلَّتِه، إنَّما مَذهَبُه عِندَنا: أنَّه ليس مِن المُطيعينَ لنا، ولا مِن المُقتدينَ بنا، ولا مِن المُحافِظينَ على شرائِعِنا...، وأمَّا الآثارُ المرويَّاتُ بذِكرِ الكُفرِ والشِّركِ ووُجوبِهما بالمعاصي، فإنَّ معناها عندَنا ليست تُثبِتُ على أهلِها كُفرًا ولا شِركًا يُزيلانِ الإيمانَ عن صاحِبِه، إنَّما وُجوهُها: أنَّها مِن الأخلاقِ والسُّنَنِ التي عليها الكُفَّارُ والمُشرِكونَ) [582] ((الإيمان)) (ص: 39). .
وقال أيضًا: (المعاصي والذُّنوبُ لا تُزيلُ إيمانًا ولا توجِبُ كُفرًا، ولكنَّها إنَّما تنفي مِن الإيمانِ حقيقتَه وإخلاصَه الذي نعَت اللهُ به أهلَه...، فلمَّا خالَطَت هذه المعاصي هذا الإيمانَ المنعوتَ بغَيرِها، قيل: ليس هذا مِن الشَّرائِطِ التي أخَذها اللهُ على المُؤمِنينَ ولا الأماناتِ التي يُعرَفُ بها أنَّه الإيمانُ، فنفَت عنهم حينَئذٍ حقيقتَه، ولم يَزُلْ عنهم اسمُه، فإن قال قائِلٌ: كيف يجوزُ أن يُقالَ: ليس بمُؤمِنٍ، واسمُ الإيمانِ غَيرُ زائِلٍ عنه؟ قيل: هذا كلامُ العربِ المُستفيضُ عندَنا غَيرُ المُستنكَرِ في إزالةِ العَملِ عن عامِلِه، إذا كان عَملُه على غَيرِ حقيقتِه، ألا ترى أنَّهم يقولونَ للصَّانِعِ إذا كان ليس بمُحكِمٍ لعَملِه: ما صنعْتَ شيئًا، ولا عمِلْتَ عَملًا؟ وإنَّما وقَع معناهم هاهنا على نَفيِ التَّجويدِ، لا على الصَّنعةِ نَفسِها، فهو عندَهم عامِلٌ بالاسمِ، وغَيرُ عامِلٍ في الإتقانِ، حتَّى تكلَّموا به فيما هو أكثَرُ مِن هذا، وذلك كرجُلٍ يعُقُّ أباه، ويبلُغُ منه الأذى، فيُقالُ: ما هو بوَلدٍ، وهُم يعلَمونَ أنَّه ابنُ صُلبِه، ثُمَّ يُقالُ مِثلُه في الأخِ، والزَّوجةِ، والمملوكِ، وإنَّما مَذهَبُهم في هذا: المُزايَلةُ الواجِبةُ عليهم مِن الطَّاعةِ والبِرِّ، وأمَّا النِّكاحُ والرِّقُّ والأنسابُ فعلى ما كانت عليه أماكِنُها وأسماؤُها؛ فكذلك هذه الذُّنوبُ التي يُنفى بها الإيمانُ إنَّما أحبَطَت الحقائِقَ منه الشَّرائِعُ التي هي مِن صِفاتِه، فأمَّا الأسماءُ فعلى ما كانت قَبلَ ذلك، ولا يُقالُ لهم إلَّا مُؤمِنونَ، وبه الحُكمُ عليهم) [583] ((الإيمان)) (ص: 40، 41). .
وقال ابنُ جَريرٍ الطَّبريُّ: (الصَّوابُ مِن القولِ في ذلك عندَنا في معنى قولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَزني الزَّاني حينَ يَزني وهو مُؤمِنٌ ، ولا يسرِقُ حينَ يسرِقُ وهو مُؤمِنٌ، ولا يشرَبُ الخَمرَ حينَ يشرَبُ وهو مُؤمِنٌ)) [584] أخرجه البخاري (6810)، ومسلم (57) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. قولُ مَن قال: يزولُ عنه الاسمُ الذي هو معنى المَدحِ إلى الاسمِ الذي هو بمعنى الذَّمِّ، فيُقالُ له: فاسِقٌ، فاجِرٌ، زانٍ، سارِقٌ؛ وذلك أنَّه لا خلافَ بَينَ جميعِ عُلَماءِ الأمَّةِ أنَّ ذلك مِن أسمائِه، ما لم يظهَرْ منه خُشوعُ التَّوبةِ ممَّا ركِب مِن المعصيةِ، فذلك اسمُه عندَنا حتَّى يزولَ عنه بظُهورِ التَّوبةِ ممَّا ركِب مِن الكبيرةِ، فإن قال لنا قائِلٌ: أفتُزيلُ عنه اسمَ الإيمانِ برُكوبِه ذلك؟ قيل له: نُزيلُه عنه بالإطلاقِ، ونُثبِتُه له بالصِّلةِ والتَّقييدِ.
فإن قال: وكيف تُزيلُه عنه بالإطلاقِ، وتُثبِتُه له بالصِّلةِ والتَّقييدِ؟  
قيل: نقولُ: مُؤمِنٌ باللهِ ورسولِه، مُصدِّقٌ قولًا بما جاء به مُحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا نقولُ مُطلَقًا: هو مُؤمِنٌ؛ إذ كان الإيمانُ عندَنا معرفةً وقولًا وعملًا، فالعارِفُ المُقِرُّ المُخالِفُ عَملًا ما، هو به مُقِرٌّ قولًا غَيرُ مُستحِقٍّ اسمَ الإيمانِ بالإطلاقِ؛ إذْ لم يأتِ بالمعاني التي يستوجِبُ بها ذلك، ولكنَّه قد أتى بمعانٍ يستحِقُّ التَّسميةَ به موصولًا في كلامِ العربِ، ونُسمِّيه بالذي تُسمِّيه به العربُ في كلامِها، ونمنَعُه الآخَرَ الذي تمنَعُه دَلالةُ كتابِ اللهِ، وآثارُ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفِطرةُ العَقلِ) [585] ((تهذيب الاثار)) (2/650). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (قالت المُرجِئةُ: وقولُه: ((مَن غشَّنا فليس منَّا )) [586] أخرجه مسلم (101) مُطَوَّلًا من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، ((مَن حمَل علينا السِّلاحَ فليس منَّا )) [587] أخرجه مسلم (101) مُطَوَّلًا من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، أي: ليس مِثلَنا، أو ليس مِن خِيارِنا، فقيل لهم: فلو لم يغُشَّ ولم يحمِلِ السِّلاحَ، أكان يكونُ مِثلَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ أو كان يكونُ مِن خِيارِهم بمُجرَّدِ هذا الكلامِ؟!
وقالت المُرجِئةُ: نُصوصُ الوعيدِ عامَّةٌ، ومنَّا مَن يُنكِرُ صِيَغَ العُمومِ، ومَن أثبَتها قال: لا يُعلَمُ تناوُلُها لكُلِّ فَردٍ مِن أفرادِ العامِّ، فمَن لم يُعذَّبْ لم يكنِ اللَّفظُ قد شَمِله، فقيل للواقِفةِ منهم: عندَكم يجوزُ ألَّا يحصُلَ الوعيدُ بأحدٍ مِن أهلِ القِبلةِ، فيلزَمُ تعطيلُ نُصوصِ الوعيدِ، ولا تبقى لا خاصَّةً ولا عامَّةً) [588] ((منهاج السنة)) (5/ 293). .
وقال أيضًا: (دينُ اللهِ وَسَطٌ بَينَ الغالي فيه والجافي عنه، ونُصوصُ الكتابِ والسُّنَّةِ معَ اتِّفاقِ سَلفِ الأمَّةِ وأئمَّتِها مُتطابِقةٌ على أنَّ مِن أهلِ الكبائِرِ مَن يُعذَّبُ، وأنَّه لا يبقى في النَّارِ مَن في قلبِه مِثقالُ ذرَّةٍ مِن إيمانٍ) [589] ((مجموع الفتاوى)) (18/191). .
وقال أيضًا: (مِن أهلِ المُرجِئةِ مَن ضاق عَطَنُه لمَّا ناظَره الوعيديَّةُ بعُمومِ آياتِ الوعيدِ وأحاديثِه، فاضطرَّه ذلك إلى أنْ جحَد العُمومَ في اللُّغةِ والشَّرعِ، فكانوا فيما فرُّوا إليه مِن هذا الجَحدِ كالمُستجيرِ مِن الرَّمضاءِ بالنَّارِ، ولو اهتدَوا للجوابِ السَّديدِ للوعيديَّةِ مِن أنَّ الوعيدَ في آيةٍ وإن كان عامًّا مُطلَقًا فقد خُصِّص وقُيِّد في آيةٍ أخرى -جريًا على السَّننِ المُستقيمةِ- أَولى بجوازِ العَفوِ عن المُتوعَّدِ وإن كان مُعيَّنًا؛ تقييدًا للوعيدِ المُطلَقِ) [590] ((مجموع الفتاوى)) (6/441). .
وتوقُّفُ غُلاةِ المُرجِئةِ الواقِفةِ في عُصاةِ المُوحِّدينَ ترُدُّه النُّصوصُ الدَّالَّةُ على قَبولِ اللهِ توبةَ مَن تاب مِن العِبادِ، وكذلك دَلالةُ بعضِ النُّصوصِ على أنَّ مِن العُصاةِ مَن سيدخُلُ النَّارَ قَطعًا، ومنهم مَن يُغفَرُ له.
قال ابنُ تيميَّةَ ردًّا على الواقِفةِ: (في قولِه تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [الزمر: 53-55] قد ذكَرْنا في غَيرِ هذا المَوضِعِ أنَّ هذه الآيةَ في حقِّ التَّائِبينَ، وأمَّا آيةُ النِّساءِ، وهي قولُه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48] ؛ فلا يجوزُ أن تكونَ في حقِّ التَّائِبينَ، كما يقولُه مَن يقولُه مِن المُعتزِلةِ؛ فإنَّ التَّائِبَ مِن الشِّركِ يُغفَرُ له الشِّركُ أيضًا بنُصوصِ القرآنِ، واتِّفاقِ المُسلِمينَ، وهذه الآيةُ فيها تخصيصٌ وتقييدٌ، وتلك الآيةُ فيها تعميمٌ وإطلاقٌ، هذه خُصَّ فيها الشِّركُ بأنَّه لا يغفِرُه، وما عداه لم يجزِمْ بمغفِرتِه، بل علَّقه بالمشيئةِ، فقال: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48] ، وقد ذكَرْنا في غَيرِ مَوضِعٍ أنَّ هذه الآيةَ -يعني آيةَ النِّساءِ- كما ترُدُّ على الوَعيديَّةِ مِن الخوارِجِ والمُعتزِلةِ، فهي ترُدُّ أيضًا على المُرجِئةِ الواقِفيَّةِ الذين يقولونَ: يجوزُ أن يُعذِّبَ كُلَّ فاسِقٍ، فلا يَغفِرَ لأحدٍ، ويجوزُ أن يَغفِرَ للجميعِ؛ فإنَّه قال: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48] ، فأثبَت أنَّ ما دونَ ذلك فهو مغفورٌ، لكن لمَن يشاءُ، فلو كان لا يغفِرُه لأحدٍ بطَل قولُه: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ، ولو كان يغفِرُه لكُلِّ أحدٍ بطَل قولُه: لِمَنْ يَشَاءُ، فلمَّا أثبَت أنَّه يغفِرُ ما دونَ ذلك، وأنَّ المغفِرةَ هي لمَن يشاءُ؛ دلَّ ذلك على وُقوعِ المغفِرةِ العامَّةِ ممَّا دونَ الشِّركِ، لكنَّها لبعضِ النَّاسِ، وحينَئذٍ فمَن غُفِرَ له لم يُعذَّبْ، ومَن لم يُغفَرْ له عُذِّب، وهذا مَذهَبُ الصَّحابةِ والسَّلفِ والأئمَّةِ، وهو القَطعُ بأنَّ بعضَ عُصاةِ الأمَّةِ يدخُلُ النَّارَ، وبعضُهم يُغفَرُ له) [591] ((مجموع الفتاوى)) (16/18). .
وقال أيضًا: (قد تواتَرَت الأحاديثُ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أنَّه يخرُجُ أقوامٌ مِن النَّارِ بَعدَما دخَلوها [592] أخرجه البخاري (7410)، ومسلم (193) من حديثِ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ البخاريِّ: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يَخرُجُ مِنَ النَّارِ مَن قال لا إلَهَ إلَّا اللهُ، وكانَ في قَلبه مِنَ الخيرِ ما يَزِنُ شَعيرةً، ثُمَّ يَخرُجُ مِنَ النَّارِ مَن قال لا إلَهَ إلَّا اللهُ، وكانَ في قَلبه مِنَ الخيرِ ما يَزِنُ بُرَّةً، ثُمَّ يَخرُجُ مِنَ النَّارِ مَن قال لا إلَهَ إلَّا اللهُ، وكانَ في قَلبِه ما يَزِنُ مِنَ الخيرِ ذَرَّةً)). ، وأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يشفَعُ في أقوامٍ دخَلوا النَّارَ [593] أخرجه من طرُقٍ: أبو داود (4739)، والترمذي (2435)، وأحمد (13222) من حديثِ أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عنه؛ بلفظ: ((شفاعتي لأهلِ الكبائِرِ من أمَّتي)). صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (6468)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (228)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4739)، وقال الترمذي: حسَنٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الوَجهِ. ، وهذه الأحاديثُ حُجَّةٌ على الطَّائِفتَينِ:
الوعيديَّةُ الذين يقولونَ: مَن دخَلها مِن أهلِ التَّوحيدِ لم يخرُجْ منها، وعلى المُرجِئةِ الواقِفةِ الذين يقولونَ: لا ندري: هل يدخُلُ مِن أهلِ التَّوحيدِ النَّارَ أحدٌ أم لا؟ كما يقولُ ذلك طوائِفُ مِن الشِّيعةِ، والأشعَريَّةِ، كالقاضي أبي بكرٍ وغَيرِه) [594] ((مجموع الفتاوى)) (7/486). .
وقال أيضًا: (هذا المعنى -خُروجُ المُوحِّدِ مِن النَّارِ- مُستفيضٌ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بل مُتواتِرٌ في أحاديثَ كثيرةٍ مِن الصَّحيحَينِ وغَيرِهما مِن حديثِ أبي سعيدٍ وأبي هُرَيرةِ وغَيرِهما، وفيها الرَّدُّ على طائِفتَينِ:
على الخوارِجِ والمُعتزِلةِ الذين يقولونَ: إنَّ أهلَ التَّوحيدِ يُخَلَّدونَ فيها، وهذه الآيةُ حُجَّةٌ عليهم.
وعلى مَن حُكِي عنه مِن غُلاةِ المُرجِئةِ أنَّه لا يَدخُلُ النَّارَ مِن أهلِ التَّوحيدِ أحدٌ؛ فإنَّ إخبارَه بأنَّ أهلَ التَّوحيدِ يخرُجونَ منها بَعدَ دُخولِها تكذيبٌ لهؤلاء وأولئك.
وفيه ردٌّ على مَن يقولُ: يجوزُ ألَّا يُدخِلَ اللهُ مِن أهلِ التَّوحيدِ أحدًا النَّارَ، كما يقولُه طائِفةٌ مِن المُرجِئةِ الشِّيعةِ، ومُرجِئةِ أهلِ الكلامِ المُنتسِبينَ إلى السُّنَّةِ، وهُم الواقِفةُ مِن أصحابِ أبي الحَسنِ وغَيرِهم، كالقاضي أبي بكرٍ وغَيرِه؛ فإنَّ النُّصوصَ المُتواتِرةَ تقتضي دُخولَ بعضِ أهلِ التَّوحيدِ وخُروجَهم) [595] ((مجموع الفتاوى)) (16/196). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (لا خلافَ بَينَ أهلِ السُّنَّةِ أنَّ اللهَ تعالى أراد مِن العِبادِ القولَ والعَملَ، وأعني بالقولِ: التَّصديقَ بالقلبِ والإقرارَ باللِّسانِ، وهذا الذي يُعنى به عندَ إطلاقِ قولِهم: الإيمانُ قولٌ وعَملٌ، لكنَّ هذا المطلوبَ مِن العِبادِ: هل يشمَلُه اسمُ الإيمانِ؟ أم الإيمانُ أحدُهما، وهو القولُ وَحدَه، والعَملُ مُغايِرٌ له لا يشمَلُه اسمُ الإيمانِ عندَ إفرادِه بالذِّكرِ، وإن أُطلِق عليهما كان مجازًا؟ هذا مَحلُّ النِّزاعِ) [596] ((شرح الطحاوية)) (2/ 463). .
ولكنْ لِيُعلَمْ أنَّ الخِلافَ في هذه المسألةِ ليس في كونِ العَملِ مطلوبًا أم لا، ولا هل يدخُلُ مُرتكِبُ الكبيرةِ تحتَ الوعيدِ أم لا، فكُلُّهم مُتَّفِقونَ على ذلك، وإنَّما الخلافُ في أنَّ مُرتكِب الكبيرةِ: هل هو مُؤمِنٌ أم لا، وما يترتَّبُ على ذلك مِن مسائِلِ الأسماءِ .
فإن قيل: لا خلافَ في الأحكامِ الدُّنيويَّةِ؛ مِن إقامةِ الحُدودِ على مَن يُقامُ عليه الحدُّ مِن مُرتكِبي الكبائِرِ، وفي الأحكامِ الأخرَويَّةِ، مِن أنَّ مُرتكِبَ الكبيرةِ مِن أهلِ الوعيدِ، قيل: نعَم، وهذه مسائِلُ الأحكامِ، وليست مَناطَ النِّزاعِ .
وإنَّما الخلافُ في مسائِلِ الأسماءِ، وهو حقيقيٌّ فيها، فلا يصِحُّ إطلاقُ القولِ بأنَّ الخلافَ في هذه المسألةِ صوريٌّ بَعدَ هذا، ثُمَّ لماذا تُحمَلُ النُّصوصُ التي فيها إطلاقُ الإيمانِ على العَملِ على المجازِ، معَ أنَّها إنَّما تُحمَلُ على الحقيقةِ، ولا مجالَ فيها للمَجازِ؟ [597] يُنظر: ((شرح العقيدة الأصفهانية)) لابن تيمية (ص: 198)، ((ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة)) لعبد الله القرني (ص:259). .
وإنَّ قولَ بعضِ المُرجِئةِ بأنَّ مُرتكِبَ الكبيرةِ لا يدخُلُ النَّارَ: قولٌ باطِلٌ؛ لِما تضافَر مِن الأدلَّةِ التي تُؤكِّدُ بُطلانَه، ولِما يستلزِمُه مِن اللَّوازِمِ الباطِلةِ، والتي منها:
إنكارُ عَدلِ اللهِ تعالى؛ لأنَّهم جعَلوا الظَّالِمينَ والمُجرِمينَ المُنتهِكينَ للحُرُماتِ سواءً معَ البَرَرةِ الأتقياءِ الذين التزَموا شَرعَ اللهِ، وأقرُّوا عَدلَه في الأرضِ، فخالَفوا بذلك النُّصوصَ الصَّريحةَ مِن كتابِ اللهِ، التي تُؤكِّدُ أنَّ اللهَ تعالى لم يجعَلِ الفُسَّاقَ كالمُؤمِنينَ؛ حيثُ قال اللهُ تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية: 21] .
وقال اللهُ سبحانَه: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 28] .
بل إنَّ اللهَ لم يُسوِّ بَينَ الطَّائِفتَينِ مِن المُؤمِنينَ؛ حيثُ فضَّل بعضَهم على بعضٍ بحسَبِ الإيمانِ والعَملِ الذي قدَّموه؛ حيثُ قال اللهُ عزَّ وجلَّ: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد: 10] ، وقال اللهُ تعالى: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [النساء: 95] ، فإذا كان سبحانَه لم يُسوِّ بَينَ المُؤمِنينَ، بل فضَّل بعضَهم على بعضٍ بحسَبِ العَملِ الذي قدَّموه، فكيف يُسوِّي بَينَ المُؤمِنينَ والفُسَّاقِ [598] يُنظر: ((مجلة البحوث الإسلامية)) للرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد (40/ 266). ويُنظر: ((التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع)) للملطي (ص: 44-46). ؟!
قال الآجُرِّيُّ مُبيِّنًا بُطلانَ قولِ المُرجِئةِ: (مَن قال هذا فلقد أعظَم الفِريةَ على اللهِ عزَّ وجلَّ، وأتى بضدِّ الحقِّ، وبما يُنكِرُه جميعُ العُلَماءِ؛ لأنَّ قائِلَ هذه المقالةِ يزعُمُ أنَّ مَن قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ لم تضُرَّه الكبائِرُ أن يعمَلَها، ولا الفواحِشُ أن يرتكِبَها، وأنَّ عندَه أنَّ البارَّ التَّقيَّ الذي لا يُباشِرُ مِن ذلك شيئًا والفاجِرَ يكونانِ سَواءً، هذا مُنكَرٌ؛ قال اللهُ عزَّ وجلَّ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية: 21] ، وقال عزَّ وجلَّ: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 28] ، فقُلْ لقائِلِ هذه المقالةِ النَّكرةِ: يا ضالُّ يا مُضِلُّ، إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لم يُسَوِّ بَينَ الطَّائِفتَينِ مِن المُؤمِنينَ في أعمالِ الصَّالِحاتِ، حتَّى فضَّل بعضَهم على بعضٍ درجاتٍ؛ قال اللهُ عزَّ وجلَّ: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد: 10] ، فوعَدهم اللهُ عزَّ وجلَّ كُلَّهم الحُسنى بَعدَ أن فضَّل بعضَهم على بعضٍ، وقال عزَّ وجلَّ: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً [النساء: 95] ، ثُمَّ قال: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [النساء: 95] ، وكيف يجوزُ لهذا المُلحِدِ في الدِّينِ أن يُسوِّيَ بَينَ إيمانِه وإيمانِ جِبريلَ وميكائيلَ، ويزعُمُ أنَّه مُؤمِنٌ حقًّا؟!) [599] ((الشريعة)) (2/ 689). .
وقد ناقَشهم المَلَطيُّ، وألزَمهم الحُجَّةَ؛ حيثُ قال: (يُقالُ لهم: أخبِرونا: افترَض اللهُ على عِبادِه فرائِضَ فيها أمرٌ ونَهيٌ؟ فإن قالوا: لا، جهِلوا وكابَروا، وإن قالوا: نعَم، قيل لهم: فما تقولونَ فيمَن أدَّى إلى اللهِ ما أُمِر به، وانتهى عمَّا نهاه، أهو كمَن عصاه في أمرِه ونَهيِه؟ فإن قالوا: هما سَواءٌ عندَ اللهِ وعندَنا، جعَلوا المعصيةَ كالطَّاعةِ، والطَّاعةَ كالمعصيةِ، وهذا جَهلٌ وكُفرٌ ممَّن قاله.
وإن قالوا: الطَّاعةُ غَيرُ المعصيةِ، وليس مَن أطاع اللهَ في أمرِه ونَهيِه كمَن عصاه؛ ترَكوا قولَهم، وقالوا بالحقِّ.
ويُقالُ لهم: أخبِرونا عن قولِ اللهِ تبارَك وتعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية: 21] ، وقال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [العنكبوت: 4] ، أهذا شيءٌ قاله على حقيقةِ القولِ أم على المجازِ؟ فإن قالوا: على المجازِ، جعَلوا إخبارَ اللهِ عن وعدِه على المجازِ، وهذا كُفرٌ ممَّن قاله؛ لأنَّ أحدًا لا يتيقَّنُ حينَئذٍ بخَبرِه إذا لم يكنْ له حقيقةٌ وصِحَّةٌ، وإن قالوا: على حقيقةٍ، يُقالُ لهم: أخبَر اللهُ عزَّ وجلَّ أنَّه لا يستوي عندَه الولِيُّ والعَدُوُّ.
ويقالُ لهم: أخبِرونا عمَّن زنا وأتى شيئًا مِن الكبائِرِ: أترَونَ عليه التَّوبةَ أم لا؟ فإن قالوا: لا، بان جَهلُهم، وإن قالوا: نعَم، قيل لهم: لأيِّ شيءٍ يتوبُ؟ فإن قالوا: يقبَلُ اللهُ توبتَه ويغفِرُ ذَنبَه، ترَكوا قولَهم، وجعَلوا لأهلِ المعاصي توبةً وغُفرانًا ممَّا اجتَرَموا.
وإن قالوا: لا يحتاجونَ إلى غُفرانٍ ولا توبةٍ عليهم، خرَجوا مِن دينِ الإسلامِ، وخالَفوا الجماعةَ) [600] ((التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع)) (ص: 44-46). .

انظر أيضا: