موسوعة الأخلاق والسلوك

وسائِلُ اكتسابِ الأخلاقِ


1- تصحيحُ العقيدةِ
إنَّ العَقيدةَ تَنعَكِسُ ولا بُدَّ على أخلاقِ مُعتَقِدِها؛ فالطَّريقُ لتَصحيحِ الأخلاقِ هو تَصحيحُ العَقيدةِ (فالسُّلوكُ ثَمَرةٌ لِما يَحمِلُه الإنسانُ من مُعتَقَدٍ، وما يَدينُ به من دينٍ، والانحِرافُ في السُّلوكِ ناتِجٌ عن خَللٍ في المُعتَقدِ، فالعَقيدةُ هي السُّنَّةُ، وهي الإيمانُ الجازِمُ باللهِ تعالى، وبما يَجِبُ له منَ التَّوحيدِ والإيمانِ بمَلائِكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه، واليَومِ الآخِرِ، والقدَرِ خَيرِه وشَرِّه، وبما يَتَفرَّعُ عن هذه الأصولِ، ويَلحَقُ بها ممَّا هو من أصولِ الإيمانِ، وأكمَلُ المُؤمنينَ إيمانًا أحسَنُهم أخلاقًا؛ فإذا صَحَّتِ العَقيدةُ حَسُنَتِ الأخلاقُ تَبَعًا لذلك؛ فالعَقيدةُ الصَّحيحةُ: عَقيدةُ السَّلفِ، عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ التي تَحمِلُ صاحِبَها على مَكارِمِ الأخلاقِ، وتَردَعُه عن مَساوِئِها.
كما قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أكمَلُ المُؤمنينَ إيمانًا أحسَنُهم خُلُقًا)) [59]رواه أبو داود (4682) واللفظ له، والترمذي (1162)، وأحمد (7402) مطولًا من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (479)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (2)، وابن تيمية في ((الإيمان)) (328)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4682). .
وقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أكمَلُ المُؤمنينَ أحسَنُهم خُلُقًا، وخيارُكُم خيارُكُم لنِسائِهم)) [60]رواه أبو داود (4682) مختصرًا، والترمذي (1162)، وأحمد (7402) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (479)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (2)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1162)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (1162). . وقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ أكمَلَ المُؤمنينَ إيمانًا أحسَنُهم خُلُقًا، وإنَّ حُسنَ الخُلُقِ ليَبلُغُ دَرَجةَ الصَّومِ والصَّلاةِ)) [61]رواه البزار (7445)، وأبو يعلى (4166)، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (2210) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه ابن تيمية في ((الإيمان)) (328)، والألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1590)، ووثَّق رجالَه الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/63)، والبوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (6/19). والحَديثُ رويَ بلفظٍ مُقارِبٍ عن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:((ما من شَيءٍ يوضَعُ في الميزانِ أثقَلُ من حُسنِ الخُلُقِ، وإنَّ صاحِبَ حُسنِ الخُلُقِ ليَبلُغُ به دَرَجةَ صاحِبِ الصَّومِ والصَّلاةِ)). رواه أبو داود (4799)، وأحمد (27496) مختصرًا، والترمذي (2003) واللفظ له. صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (481)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2003)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (1041)، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (27496). ) [62]((موسوعة الأخلاق)) لخالد الخراز (ص: 58). .
2- العِباداتُ:
إنَّ (العِباداتِ التي شُرِعَت في الإسلامِ واعتُبِرَت أركانًا في الإيمانِ به ليست طُقوسًا مُبهَمةً في النَّوعِ الذي يَربُطُ الإنسانَ بالغُيوبِ المَجهولةِ، ويُكَلِّفُه بأداءِ أعمالٍ غامِضةٍ، وحَرَكاتٍ لا مَعنى لها، كَلَّا، كَلَّا؛ فالفرائِضُ التي ألزَمَ الإسلامُ بها كُلَّ مُنتَسِبٍ إليه هي تَمارينُ مُتَكَرِّرةٌ لتَعويدِ المَرءِ أن يَحيا بأخلاقٍ صَحيحةٍ، وأن يَظَلَّ مُستَمسِكًا بهذه الأخلاقِ مَهما تَغَيَّرَت أمامَه الحَياةُ.
والقُرآنُ الكَريمُ والسُّنَّةُ المُطَهَّرةُ يَكشِفانِ -بوُضوحٍ- عن هذه الحَقائِقِ.
فالصَّلاةُ الواجِبةُ عِندَما أمرَ اللَّهُ بها أبانَ الحِكمةَ من إقامَتِها، وقال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ [العنكبوت: 45] .
فالابتِعادُ عنِ الرَّذائِل والتَّطهيرُ من سوءِ القَولِ وسوءِ العَمَلِ، هو حَقيقةُ الصَّلاةِ...
والزَّكاةُ المَفروضةُ ليست ضَريبةً تُؤخَذُ منَ الجُيوب بل هي -أوَّلًا- غَرسٌ لمَشاعِرِ الحَنانِ والرَّأفةِ، وتَوطيدٌ لعلاقاتِ التَّعارُفِ والأُلفةِ بَين شَتَّى الطَّبَقاتِ.
وقد نَصَّ القُرآنُ على الغايةِ من إخراجِ الزَّكاةِ بقَولِه: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا [التوبة: 103] .
فتَنظيفُ النَّفسِ من أدرانِ النَّقصِ والتَّسامي بالمُجتَمَعِ إلى مُستَوًى أنبَلَ هو الحِكمةُ الأولى.
وكَذلك شَرَعَ الإسلامُ الصَّومَ فلم يَنظُرْ إليه على أنَّه حِرمانٌ مُؤَقَّتٌ من بَعضِ الأطعِمةِ والأشرِبةِ، بَل اعتَبَرَه خُطوةً إلى حِرمانِ النَّفسِ دائِمًا من شَهَواتِها المَحظورةِ ونَزَواتها المَنكورةِ.
وإقرارًا لهذا المَعنى قال الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن لم يَدَعْ قَولَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليس للَّهِ حاجةٌ في أن يَدَعَ طَعامَه وشَرابَه)) [63]أخرجه البخاري (1903) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وقد يَحسَبُ الإنسانُ أنَّ السَّفرَ إلى البقاعِ المُقدَّسةِ الذي كُلِّف به المُستَطيعُ واعتُبِرَ من فرائِضِ الإسلامِ على بَعضِ أتباعهِ؛ يَحسَبُ الإنسانُ هذا السَّفرَ رِحلةً مُجَرَّدةً عنِ المَعاني الخُلُقيَّةِ، ومِثلًا لما قد تَحتَويه الأديانُ أحيانًا من تعبُّداتٍ غَيبيَّةٍ. وهذا خَطَأٌ؛ إذ يَقولُ اللهُ تعالى -في الحَديثِ عن هذه الشَّعيرةِ-: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [الحج: 197]) [64]((خلق المسلم)) لمحمد الغزالي (ص: 9). .
3- الارتباطُ بالقرآنِ الكريمِ:
لا شَكَّ أنَّ القُرآنَ كِتابُ هِدايةٍ ومَنهَجُ حَياةٍ، ولا شَكَّ أنَّ الارتِباطَ به قِراءةً وتَدَبُّرًا وعَمَلًا من أعظَمِ الوسائِلِ لتَحقيقِ الهدايةِ والحَياةِ الكَريمةِ والأخلاقِ الفاضِلةِ؛ قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء: 9] .
وقال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] .
وقال سُبحانَه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57] .
قال ابنُ كَثيرٍ: (مَّوعِظةٌ: زاجِرٌ عنِ الفواحِشِ، وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، أي: منَ الشُّبَهِ والشُّكوكِ، وهو إزالةُ ما فيها من رِجسٍ ودَنَسٍ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ، أي: مُحَصِّلٌ لها الهدايةَ والرَّحمةَ منَ اللهِ تعالى، وإنَّما ذلك للمُؤمنينَ به والمُصَدِّقينَ الموقِنينَ) [65]((تفسير ابن كثير)) (4/210). .
وقال جَلَّ ثناؤه: وَنَزَّلْنَا علَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89] .
قال السَّعديُّ: (يَستَضيئونَ به في ظُلُماتِ الكُفرِ والبِدَعِ، والأهواءِ المُرْديةِ، ويَعرِفونَ به الحَقائِقَ، ويهتَدونَ به إلى الصِّراطِ المُستَقيمِ) [66]((تفسير الكريم المنان)) (ص: 708). .
وقال الشِّنقيطيُّ: (هذه الآيةُ الكَريمةُ أجمَل اللَّهُ جَلَّ وعلا فيها جَميعَ ما في القُرآنِ منَ الهُدى إلى خَيرِ طَريقٍ وأعدَلِها وأصوَبِها، فلو تَتَبَّعْنا تَفصيلَها على وَجهِ الكَمالِ لأتَينا على جَميعِ القُرآنِ العَظيمِ؛ لشُمولِها لجَميعِ ما فيه منَ الهدى إلى خَيرِ الدُّنيا والآخِرةِ) [67]((أضواء البيان)) (3/409). .
وكم في هذا الكتابِ العظيمِ من توجيهٍ وهدايةٍ، فقال سُبحانَه: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ علَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ علَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ [البقرة: 231] .
فالقُرآنُ الكَريمُ اشتَمَل على الأمثالِ والقِصَصِ والعِبَرِ هدايةً لخَيرَي الدُّنيا والآخِرةِ.
فأمَّا الأمثالُ القُرآنيَّةُ فمن أفضَلِ الوسائِلِ لغَرسِ القِيَمِ الإسلاميَّةِ وتَهذيبِ النُّفوسِ والأفكارِ، وتَغييرِ السُّلوكِ والاعتِبارِ، ومن خِلالِها يُعيدُ المَرءُ تَرتيبَ نَفسِه بالتَّفكيرِ والإمعانِ، والعَمَلِ على إصلاحِ النَّفسِ وتَربيَتِها.
وأمَّا القَصَصُ القُرآنيُّ فله أثَرٌ بالغٌ في نَفسِ القارِئِ والسَّامِعِ، تَهفو لها النُّفوسُ، وتَطمَئِنُّ بها القُلوبُ، وتَسمو بها الأرواحُ، فيها منَ السِّحرِ الأخَّاذِ للسَّمعِ والفُؤادِ، وفيها منَ الفوائِدِ والعِبَرِ والدُّروسِ والإرشادِ والدَّلالاتِ لمَن أمعنَ النَّظَرَ، وألقى السَّمعَ وهو شَهيدٌ.
قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ علَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [يوسف: 2-3] ) [68]((موسوعة الأخلاق)) لخالد الخراز (113- 116). .
4- التَّدريبُ العَمَليُّ والرِّياضةُ النَّفسيَّةُ
(إنَّ التَّدريبَ العَمَليَّ والمُمارَسةَ التَّطبيقيَّةَ ولو مَعَ التَّكَلُّفِ في أوَّلِ الأمرِ، وقَسرَ النَّفسِ على غَيرِ ما تَهوى: منَ الأمورِ التي تَكسِبُ النَّفسَ الإنسانيَّةَ العادةَ السُّلوكيَّةَ، طال الزَّمَنُ أو قَصُرَ.
والعادةُ لها تَغَلغُلٌ في النَّفسِ يَجعَلُها أمرًا مُحَبَّبًا، وحينَ تَتَمَكَّنُ في النَّفسِ تَكونُ بمَثابةِ الخُلُقِ الفِطريِّ، وحينَ تَصِلُ العادةُ إلى هذه المَرحَلةِ تَكونُ خُلُقًا مُكتَسَبًا، ولو لم تَكُنْ في الأصلِ الفِطريِّ أمرًا مَوجودًا.
وقد عَرَفنا أنَّ في النَّفسِ الإنسانيَّةِ استِعدادًا فِطريًّا لاكتِسابِ مِقدارٍ ما من كُلِّ فضيلةٍ خُلُقيَّةٍ، وبمِقدارِ ما لدى الإنسانِ من هذا الاستِعدادِ تَكونُ مسؤوليَّتُه، ولو لم يَكُنْ لدى النُّفوسِ الإنسانيَّةِ هذا الاستِعدادُ لكان منَ العَبَثِ اتِّخاذُ أيَّةِ مُحاولةٍ لتَقويمِ أخلاقِ النَّاسِ. والقَواعِدُ التَّربَويَّةُ المُستَمَدَّةُ منَ الواقِعِ التَّجريبيِّ تُثبِتُ وُجودَ هذا الاستِعدادِ، واعتِمادًا عليه يَعمَلُ المُرَبُّونَ على تَهذيبِ أخلاقِ الأجيالِ التي يُشرِفونَ على تَربيَتِها، وقد ورَدَ في الأثَرِ: (العِلمُ بالتَّعلُّمِ، والحِلمُ بالتَّحَلُّمِ) [69]أخرجه ابن أبي الدنيا في ((الحلم)) (47)، والبيهقي في ((المدخل إلى السنن)) (385)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (47/176). صحَّح إسناده الألباني في ((العلم)) لأبي خيثمة (114) وقال: وله شاهدٌ. والحديثُ رُوِيَ مرفوعًا، لكن ذكر الدارقطني في ((العلل)) (1085) أنَّ ما رُوِيَ عن أبي الدَّرداءِ موقوفًا هو المحفوظُ. .
وثَبَتَ أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ومَن يَستَعفِفْ يُعِفَّه اللَّهَ، ومَن يَستَغنِ يُغنِه اللهُ، ومَن يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْه اللهُ)) [70]رواه مطولًا البخاري (1469)، ومسلم (1053) واللَّفظُ له، من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. .
فقد رَوى البُخاريُّ ومُسلِمٌ عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ أنَّ ناسًا منَ الأنصارِ سَألوا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأعطاهم، ثمَّ سَألوه فأعطاهم، حتَّى إذا نَفِدَ ما عِندَه قال: ((ما يَكُنْ عِندي من خَيرٍ فلن أدَّخِرَه عنكم، ومَن يَستَعفِفْ يُعِفَّه اللَّهُ، ومَن يَستَغنِ يُغنِه اللهُ، ومَن يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْه اللهُ، وما أعطيَ أحَدٌ عَطاءً خَيرًا وأوسَعَ منَ الصَّبرِ)) [71]أخرجه البخاري (1469)، ومسلم (1053) واللفظ له. .
وضَرَبَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَثَلًا دَلَّ فيه على أنَّ التَّدريبَ العَمَليَّ ولو مَعَ التَّكَلُّفِ يَكسِبُ العادةَ الخُلُقيَّةَ حتَّى يَصيرَ الإنسانُ مِعطاءً غَيرَ بَخيلٍ، ولو لم يَكُنْ كَذلك أوَّلَ الأمرِ.
رَوى البُخاريُّ ومُسلِمٌ عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((مَثَلُ البَخيلِ والمُنفِقِ كمَثَلِ رَجُلينِ عليهما جُبَّتانِ [72] جُبَّتانِ: الجُبَّةُ ثوبٌ مخصوصٌ، وهي ما قُطِع من الثِّيابِ، ويروى جُنَّتانِ: أي: دِرعانِ. ينظر: ((شرح النووي على مسلم)) (7/108)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 96) (3/ 306). من حديدٍ من ثُدِيِّهما إلى تراقيهما [73]تراقِيهما: التَّراقي جمع تَرْقُوةٍ، والتَّرْقُوتانِ هما العظمانِ المُشرِفانِ بينَ ثُغرةِ النَّحرِ والعاتِقِ. ينظر: ((عمدة القاري)) للعيني (8/308). ، فأمَّا المُنفِقُ فلا يُنفِقُ إلَّا سَبَغَت أو وفَرَت على جِلدِه، حتَّى تُخفيَ بَنانَه، وتَعفوَ أثَرَه، وأمَّا البَخيلُ فلا يُريدُ أن يُنفِقَ شَيئًا إلَّا لزِقَت كُلُّ حَلقةٍ مَكانَها، فهو يوسِّعُها ولا تَتَّسِعُ)) [74]أخرجه البخاري (1443) واللفظ له، ومسلم (1021). .
فدَلَّ هذا الحَديثُ على أنَّ المُنفِقَ والبَخيلَ كانا في أوَّلِ الأمرِ مُتَساويَينِ في مِقدارِ الدِّرعَينِ.
أمَّا المُنفِقُ فقد رَبَتَ دِرعُه بالإنفاقِ حتَّى غَطَّت جِسمَه كُلَّه، بخِلافِ البَخيلِ الذي لم يُدَرِّبْ نَفسَه على الإنفاقِ، فإنَّ نَفسَه تَكُزُّ [75]أي: تنقَبِضُ، والكَزازةُ: الانقباضُ واليُبسُ. ينظر: ((مختار الصحاح)) لزين الدين الرازي (ص: 269). ، واللَّهُ يُضَيِّقُ عليه من وراءِ ذلك، فيَكونُ البُخلُ خُلُقًا مُتَمَكِّنًا من نَفسِه مُسَيطِرًا عليها.
ومن ذلك نَفهَمُ أمرَينِ: فِطريَّةَ الخُلُقِ، وقابليَّتَه للتَّعديلِ بالمُمارَسةِ والتَّدريبِ العَمَليِّ. إنَّ المُنفِقَ كان أوَّلَ الأمرِ كالبَخيل يُشبهانِ لابِسَي دِرعَينِ من حَديدٍ مُتَساويَينِ، ويَبدو أنَّ الدِّرعَ مِثالٌ لِما يَضغَطُ على الصَّدرِ عِندَ إرادةِ النَّفقةِ، فمَن يَتَدَرَّبُ على البَذلِ تَنفتِحُ نَفسُه كما يَتَّسِعُ الدِّرعُ فلا يَكونُ له ضَغطٌ، وأمَّا من يَعتادُ الإمساكَ فيَشتَدُّ ضاغِطُ البُخلِ على صَدرِه، فهو يُحِسُّ بالضِّيقِ الشَّديدِ كُلَّما أرادَ البَذلَ، ومَعَ مُرورِ الزَّمَنِ يَتَصَلَّبُ هذا الضَّاغِطُ.
واعتِمادًا على وُجودِ الاستِعدادِ الفِطريِّ لاكتِسابِ الخُلُقِ ورَدَتِ الأوامِرُ الدِّينيَّةُ بفضائِلِ الأخلاقِ، وورَدَتِ النَّواهي الدِّينيَّةُ عن رَذائِلِ الأخلاقِ.
ولكِن منَ المُلاحَظِ أنَّه قد يَبدَأُ التَّخَلُّقُ بخُلُقٍ ما عَمَلًا شاقًّا على النَّفسِ، إذا لم يَكُنْ في أصلِ طَبيعَتِها الفِطريَّةِ، ولكِنَّه بتَدريبِ النَّفسِ عليه وبالتَّمَرُّسِ والمِرانِ يُصبحُ سَجيَّةً ثابتةً يَندَفِعُ الإنسانُ إلى مُمارَسةِ ظَواهِرِها اندِفاعًا ذاتيًّا دونَ أن يَجِدَ أيَّةَ مَشَقَّةٍ أو مُعارَضةٍ أو عَقَبةٍ من داخِلِ نَفسِه، ولئِن وجَدَ شَيئًا من ذلك فإنَّ دافِعَ الخُلُقِ المُكتَسَبِ يَظَلُّ هو الدَّافِعَ الأغلَبَ، بشَرطِ أن يَكونَ التَّخَلُّقُ قد تحَوَّل فِعلًا إلى خُلُقٍ مُكتَسَبٍ.
وليس التَّدريبُ النَّفسيُّ ببَعيدِ الشَّبَهِ عنِ التَّدريبِ الجَسَديِّ، الذي يُكتَسَبُ به المَهاراتُ العَمَليَّةُ الجَسَديَّةُ) [76]((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبد الرحمن حبنكة الميداني (1/197). .
قال الغَزاليُّ: (فمَن أرادَ مَثَلًا أن يُحَصِّلَ لنَفسِه خُلُقَ الجودِ فطَريقُه أن يَتَكَلَّفَ تَعاطيَ فِعلِ الجَوادِ، وهو بَذلُ المالِ، فلا يَزالُ يُطالِبُ نَفسَه ويواظِبُ عليه تَكَلُّفًا مُجاهدًا نَفسَه فيه حتَّى يَصيرَ ذلك طَبعًا له، ويَتَيَسَّرَ عليه فيَصيرَ به جَوادًا، وكَذا من أرادَ أن يُحصِّلَ لنَفسِه خُلُقَ التَّواضُعِ وقد غَلبَ عليه الكِبرُ، فطَريقُه أن يواظِبَ على أفعالِ المُتَواضِعينَ مُدَّةً مَديدةً، وهو فيها مُجاهِدٌ نَفسَه ومُتَكَلِّفٌ إلى أن يَصيرَ ذلك خُلُقًا له وطَبعًا فيَتَيَسَّرَ عليه. وجَميعُ الأخلاقِ المَحمودةِ شَرعًا تَحصُلُ بهذا الطَّريقِ، وغايَتُه أن يَصيرَ الفِعلُ الصَّادِرُ منه لذيذًا؛ فالسَّخيُّ هو الذي يَستَلذُّ بَذلَ المالِ الذي يَبذُلُه دونَ الذي يَبذُلُه عن كَراهةٍ، والمُتَواضِعُ هو الذي يَستَلذُّ التَّواضُعَ، ولن ترسَخَ الأخلاقُ الدِّينيَّةُ في النَّفسِ ما لم تَتَعَوَّدِ النَّفسُ جَميعَ العاداتِ الحَسَنةِ، وما لم تَترُكْ جَميعَ الأفعالِ السَّيِّئةِ، وما لم تواظِبْ عليه مواظَبةَ من يَشتاقُ إلى الأفعالِ الجَميلةِ ويَتَنَعَّمُ بها، ويَكرَهُ الأفعالَ القَبيحةَ ويَتَألَّمُ بها) [77]((إحياء علوم الدين)) (3/ 58). .
5- التَّفكُّرُ في الآثارِ المُتَرَتِّبةِ على حُسنِ الخُلُقِ:
(على المَرءِ أن يَستَذكِرَ دائِمًا ويَحتَسِبَ ثَوابَ حُسنِ الخُلُقِ.
عنِ النَّوَّاسِ بنِ سَمعانَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سَألتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ البرِّ والإثمِ؟ فقال: ((البِرُّ حُسنُ الخُلُقِ، والإثمُ ما حاكَ في صَدرِك وكَرِهتَ أن يَطَّلِعَ عليه النَّاسُ)) [78]أخرجه مسلم (2553). .
وعن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أثقَلُ شَيءٍ في الميزانِ حُسنُ الخُلُقِ)) [79]رواه أبو داود (4799)، وأحمد (27496) باختلاف يسير، والترمذي (2003) مطولًا باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (481)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4799)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (1041)، وصحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (27496). .
وعن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ أكمَلَ المُؤمنينَ إيمانًا أحسَنُهم خُلُقًا، وإنَّ حُسنَ الخُلُقِ ليَبلُغُ دَرَجةَ الصَّومِ والصَّلاةِ)) [80]رواه البزار (7445)، وأبو يعلى (4166)، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (2210) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه ابنُ تيمية في ((الإيمان)) (328)، والألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1590)، ووثَّق رجالَه الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/63)، والبوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (6/19). والحَديثُ رويَ بلفظٍ مُقارِبٍ عن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سَمِعَتِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((ما من شَيءٍ يوضَعُ في الميزانِ أثقَل من حُسنِ الخُلُقِ وإنَّ صاحِبَ حُسنِ الخُلُقِ ليُبلِّغ به دَرَجة صاحِب الصَّومِ والصَّلاة)). رواه أبو داود (4799)، وأحمد (27496) مختصرًا، والترمذي (2003) واللفظ له. صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (481)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2003)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (1041)، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (27496). ) [81]((موسوعة الأخلاق)) لخالد الخراز (ص: 69). .
6- النَّظَرُ في عواقِبِ سُوءِ الخُلُقِ:
(وذلك بتَأمُّلِ ما يَجلِبُه سوءُ الخُلُقِ منَ الأسَفِ الدَّائِمِ، والهَمِّ المُلازِمِ، والحَسرةِ والنَّدامةِ، والبِغضةِ في قُلوبِ الخَلقِ؛ فذلك يَدعو المَرءَ إلى أن يَقصُرَ عن مَساوِئِ الأخلاقِ، ويَنبَعِثَ إلى مَحاسِنِها.
قال ابنُ القَيِّمِ: (ومن عُقوباتِها أي: المَعاصي وسوءِ الأخلاقِ سُقوطُ الجاهِ والمَنزِلةِ والكَرامةِ عِندَ اللهِ وعِندَ خَلقِه؛ فإنَّ أكرَمَ الخَلقِ عِندَ اللهِ أتقاهم، وأقرَبَهم منه مَنزِلةً أطوَعُهم له، وعلى قدرِ طاعةِ العَبدِ له تَكونُ مَنزِلتُه عِندَه، فإذا عَصاه وخالف أمرَه سَقَطَ من عَينِه، فأسقَطَه من قُلوبِ عِبادِه، وإذا لم يَبقَ له جاهٌ عِندَ الخَلقِ وهانَ عليهم، عامَلوه على حَسَبِ ذلك، فعاشَ بَينَهم أسوأَ عَيشٍ: خامِلَ الذِّكرِ، ساقِطَ القَدرِ، زَريَّ الحالِ، لا حُرمةَ له، فلا فرَحَ له ولا سُرورَ؛ فإنَّ خُمولَ الذِّكْرِ وسُقوطَ القَدرِ والجاهِ يَجلِبُ كُلَّ غَمٍّ وهَمٍّ وحُزنٍ، ولا سُرورَ مَعَه ولا فرَحَ، وأينَ هذا الألمُ من لذَّةِ المَعصيةِ؟! ومِن أعظَمِ نِعَمِ اللهِ على العَبدِ: أن يَرفعَ له بَينَ العالَمينَ ذِكرَه، ويُعلِيَ له قَدْرَه) [82]((الجواب الكافي)) (ص: 126). .
... وليس هذا فحَسبُ، بَل تَأمَّلْ ما يَقولُ ابنُ القَيِّمِ أيضًا: (ومِن عُقوباتِها: أنَّها تَسلُبُ صاحِبَها أسماءَ المَدحِ والشَّرَفِ، وتَكسوه أسماءَ الذَّمِّ والصَّغارِ؛ فتَسلُبُه اسمَ المُؤمنِ، والبَرِّ، والمُحسِنِ، والمُتَّقي، والمُطيعِ، والمُنيبِ، والوليِّ، والوَرِعِ، والصَّالحِ، والعابِدِ، والخائِفِ، والأوَّابِ، والطَّيِّبِ، والمرضيِّ، ونَحوِها.
وتَكسوه اسمَ الفاجِرِ، والعاصي، والمُخالفِ، والمُسيءِ، والمُفسِدِ، والسَّارِقِ، والكاذِبِ، والخائِنِ، والغادِرِ وأمثالِها) [83]((الجواب الكافي)) (ص: 126). .
وتَأمَّلْ عاقِبةَ هذه المَرأةِ التي كانت تَصومُ النَّهارَ وتَقومُ اللَّيلَ، ولكِنَّها سَيِّئةُ الخُلُقِ في مُعامَلتِها مَعَ جيرانِها.
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قيل للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ فُلانةَ تَقومُ اللَّيلَ وتَصومُ النَّهارَ، وتَفعلُ وتَصدَّقُ، وتُؤذي جيرانَها بلسانِها؟ فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا خَيرَ فيها، هي من أهلِ النَّارِ. قالوا: وفُلانةُ تُصَلِّي المَكتوبةَ وتَصدَّقُ بأثوارٍ [84]الأثوارُ: قِطَعٌ من الأقطِ، وهو لَبَنٌ جامِدٌ مُستحجَرٌ. ينظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (1/228). ، ولا تُؤذي أحَدًا. فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هي من أهلِ الجَنَّةِ)) [85]رواه أحمد (9675)، وابن حبان (5764)، والحاكم (7304). صحَّحه ابنُ حبان، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (2560)، وصحَّح إسناده الحاكم، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/321)، والبوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (5/490). .
وعن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ من أحَبِّكُم إليَّ وأقرَبِكُم منِّي مَجلِسًا يَومَ القيامةِ أحاسِنَكُم أخلاقًا، وإنَّ من أبغَضِكُم إليَّ وأبعَدِكُم منِّي يَومَ القيامةِ الثَّرثارون والمُتَشَدِّقونَ والمُتَفَيهِقونَ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، قد عَلِمنا الثَّرثارينَ والمُتَشَدِّقينَ، فما المُتَفيهِقونَ؟ قال: المُتَكَبِّرونَ [86] رواه الترمذي (2018). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2018)، وقال الترمذي: حسنٌ غريبٌ، وحسَّن إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((رياض الصالحين)) (1738). )) [87] ((موسوعة الأخلاق)) لخالد الخراز (ص: 70). .
7- الأمرُ بالمَعروفِ والنَّهيُ عنِ المُنكَرِ، والتَّواصي بالحَقِّ
(القُرآنُ الكَريمُ يوصي ويَفرِضُ ضَرورةَ التَّذكيرِ، والأمرِ بالمَعروفِ، والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ، والتَّواصي بالحَقِّ والصَّبرِ، يَقولُ سُبحانَه وتعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55]، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران: 110] .
وإنَّ التَّذكيرَ والأمرَ بالمَعروفِ والنَّهيَ عنِ المُنكَرِ والتَّواصيَ من أساليبِ التَّربيةِ الإسلاميَّةِ التي بَدَت خِلالَ أحاديثِ المُرَبِّي الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفي طَريقةِ التَّواصي دَعوةُ كُلِّ مُسلمٍ إلى أن يَكونَ مُرَبِّيًا يُعَلِّمُ أخاه المُسلمَ. والتَّذكيرُ بالخَيرِ والحَقِّ والدَّعوةُ إليهما، والتَّنبيهُ إلى الشَّرِّ والضَّرَرِ والنَّهيُ عنهما: هو من صَميمِ الأساليبِ التَّربَويَّةِ الإسلاميَّةِ لتَنميةِ القِيَمِ والأخلاقِ الإسلاميَّةِ في نَفسِ المُسلمِ، وفي الحَديثِ الشَّريفِ أنَّ أبا ذَرٍّ لمَّا بَلغَه مَبعَثُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لأخيه: اركَبْ إلى هذا الوادي فاسمَعْ من قَولِه، فرَجَعَ فقال: "رَأيته يَأمُرُ بمَكارِمِ الأخلاقِ" [88] أخرجه البخاري (3861)، ومسلم (2474) مطولًا من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. [89] ((نضرة النعيم)) (1/140). .
8- عُلُوُّ الهِمَّةِ:
فعُلوُّ الهمَّةِ يَستَلزِمُ الجِدَّ، والتَّرَفُّعَ عنِ الدَّنايا، ومُحَقَّراتِ الأمورِ.
عن سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ كَريمٌ يُحِبُّ الكَرَمَ ومَعاليَ الأخلاقِ، ويُبغِضُ سَفسافَها)) [90] رواه الطبراني (6/181) (5928) باختلاف يسير، والحاكم (152)، والبيهقي (21300) واللفظ لهما. صحَّحه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1801)، وصحَّحه بشواهده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح السنة)) (3503)، وصحَّح إسنادَه الحاكم، والعراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/302). .
وسَفسَافهُا: أي: حَقيرُها ورَديئُها. وشَرَفُ النَّفسِ أن يَصونَها عنِ الدَّنايا، والهمَّةُ العاليةُ لا تَزالُ بصاحِبها تَزجُرُه عن مَواقِفِ الذُّلِّ، واكتِسابِ الرَّذائِلِ، وحِرمانِ الفضائِلِ، حتَّى تَرفعَه من أدنى دَرَكاتِ الحَضيضِ إلى أعلى مَقاماتِ المجدِ والسُّؤدُدِ.
قال ابنُ القَيِّمِ في الفوائِدِ: (فمَن علت هَمَّته وخَشَعَت نَفسُه اتَّصَف بكُلِّ خُلُقٍ جَميلٍ، ومَن دَنَت هَمَّتُه وطَغَت نَفسُه اتَّصَف بكُلِّ خُلُقٍ رَذيلٍ) [91]((الفوائد)) (ص: 144). .
وقال أيضًا: (فالنُّفوسُ الشَّريفةُ لا تَرضى منَ الأشياءِ إلَّا بأعلاها وأفضَلِها وأحمَدِها عاقِبةً، والنُّفوسُ الدَّنيئةُ تَحومُ حَولَ الدَّناءاتِ، وتَقَعُ عليها كما يَقَعُ الذُّبابُ على الأقذارِ؛ فالنُّفوسُ العليَّةُ لا تَرضى بالظُّلمِ، ولا بالفواحِشِ، ولا بالسَّرِقةِ ولا بالخيانةِ؛ لأنَّها أكبَرُ من ذلك وأجَلُّ، والنُّفوسُ المَهينةُ الحَقيرةُ الخَسيسةُ بالضِّدِّ من ذلك) [92]((الفوائد)) (ص: 177). .
فإذا حَرَصَ المَرءُ على اكتِسابِ الفضائِلِ، وألزَمَ نَفسَه على التَّخَلُّقِ بالمَحاسِنِ، ولم يَرضَ من مَنقَبةٍ إلَّا بأعلاها، ولم يَقِفْ عِندَ فضيلةٍ إلَّا وطَلب الزِّيادةَ عليها؛ نال مَكارِمَ الأخلاقِ [93]((موسوعة الأخلاق)) لخالد الخراز (ص: 72). .
9- الصَّبرُ:
قال ابنُ قَيِّمِ الجَوزيَّةِ رَحِمَه اللَّهُ: (حُسنُ الخُلُقِ يَقومُ على أربَعةِ أركانٍ، لا يُتَصَوَّرُ قيامُ ساقِه إلَّا عليها: الصَّبرُ، والعِفَّةُ، والشَّجاعةُ، والعَدلُ) [94]((مدارج السالكين)) (2/294). .
وقال: (وهو على ثَلاثةِ أنواعٍ: صَبرٌ باللهِ، وصَبرٌ للَّهِ، وصَبرٌ مَعَ اللهِ.
فالأوَّلُ: صَبرُ الاستِعانة به، ورُؤيَتُه أنَّه هو المُصَبِّرُ، وأنَّ صَبرَ العَبدِ برَبِّه لا بنَفسِه، كما قال تعالى: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل: 127] .
والثَّاني: الصَّبرُ للَّهِ، وهو أن يَكونَ الباعِثُ له على الصَّبرِ مَحَبَّةَ اللهِ، وإرادةَ وجهِه، والتَّقَرُّبَ إليه لا لإظهارِ قوَّةِ النَّفسِ، والاستِحمادِ إلى الخَلقِ.
الثَّالثُ: الصَّبرُ مَعَ اللهِ، وهو دَوَرانُ العَبدِ مَعَ مُرادِ اللهِ الدِّينيِّ منه، ومَعَ أحكامِه الدِّينيَّةِ، صابرًا نَفسَه مَعَها، سائِرًا بسَيرِها.. أينَ ما تَوجَّهَت رَكائِبُها) [95]((مدارج السالكين)) (2/156). .
وقال الماوَرْديُّ: (وليس لمَن قَلَّ صَبرُه على طاعةِ اللهِ تعالى حَظٌّ من بِرٍّ، ولا نَصيبٌ من صَلاحٍ، ومَن لم يَرَ لنَفسِه صَبرًا يَكسِبُها ثَوابًا، ويَدفعُ عنها عِقابًا، كان مَعَ سوءِ الاختيارِ بَعيدًا منَ الرَّشادِ، حَقيقًا بالضَّلالِ) [96]((أدب الدنيا والدين)) (ص: 454). .
(وعلى العاقِلِ احتِسابُ الأجرِ عِندَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فهذا الأمرُ من أعظَمِ ما يُعينُ على اكتِسابِ الأخلاقِ الفاضِلةِ، وتَحَمُّلِ أذى النَّاسِ؛ فإذا أيقَنَ المُسلِمُ أنَّ اللهَ سَيَجزيه على حُسنِ خُلُقِه ومُجاهَدتِه سيهونُ عليه ما يَلقاه في ذلك السَّبيلِ؛ قال تعالى: وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 96] ، وقال سُبحانَه: وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان: 12] ) [97]((موسوعة الأخلاق)) لخالد الخراز (ص: 76). .
10- الموعِظةُ والنُّصحُ:
(التَّربيةُ بالوَعظِ لها دَورُها الهامُّ في غَرسِ القِيَمِ الإسلاميَّةِ بمَيادينِها المُختَلفةِ، وهي قد تَكونُ في صورةٍ مُباشِرةٍ على شَكلِ نَصائِحَ، فالإنسانُ "قد يُصغي ويَرغَبُ في سَماعِ النُّصحِ من مُحِبِّيه وناصِحيه، فالنُّصحُ والوَعظُ يُصبحُ في هذه الحالةِ ذا تَأثيرٍ بَليغٍ في نَفسِ المُخاطَبِ" [98]((نحو توحيد الفكر التربوي في العالم الإسلامي)) لمحمد فاضل الجمالي (ص: 111). .
والقُرآنُ الكَريمُ زاخِرٌ بالمَواعِظِيَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ  [يونس: 57] ، إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ [النساء: 58] .
وفي الحَديثِ الشَّريفِ عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((المَرءُ على دينِ خَليلِه [99]الخليلُ: الصَّدِيقُ، والخُلَّةُ بالضَّمِّ: الصَّداقةُ والمحبَّةُ التي تخلَّلت القَلبَ فصارت خِلالَه: أي: في باطِنِه. ينظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/ 72). ؛ فليَنظُرْ أحَدُكُم من يُخالِلُ)) [100]رواه أبو داود (4833)، والتِّرمذي (2378)، وأحمد (8417) واللفظ له. صحَّحه ابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (6/306)، وحسَّنه ابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (151)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4833)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (1288)، وقال الترمذي: حسنٌ غريبٌ. .
والمَوعِظةُ المُؤَثِّرةُ تَفتَحُ طَريقَها إلى النَّفسِ مُباشَرةً؛ ممَّا يُؤَثِّرُ في تَغييرِ سُلوكِ الفردِ، وإكسابِه الصِّفاتِ المَرغوبَ فيها، وكَمالَ الخُلُقِ: عنِ ابنِ عَبَّاسٍ: "أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَرَجَ ومَعَه بلالٌ، فظَنَّ أنَّه لم يُسمِعِ النِّساءَ، فوعظَهنَّ وأمرَهنَّ بالصَّدَقةِ، فجَعلتِ المَرأةُ تُلقِي القُرطَ [101] القُرْطُ: نوعٌ من حُلِيِّ الأذُنِ. ينظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) (4/ 41). والخاتمَ، وبلالٌ يأخُذُ في طَرَفِ ثَوبِه)) [102] أخرجه البخاري (98) واللفظ له، ومسلم (884). .
وفي المَواعِظِ القُرآنيَّةِ نلحَظُ أسلوبًا تَربَويًّا رائِعًا: يَبغي كَمالَ الإنسانِ، بحَيثُ يَجِبُ أن يَتَمَثَّلَها المُعلِّمُ والمُتَعلِّمُ؛ إذ هي صادِرةٌ عن حِكمةٍ، وليس عن هَوًى، والمِثالُ على ذلك نَأخُذُ خُلاصةً من عِظةِ لُقمانَ لابنِه، التي تَهدُفُ إلى:
أ- أن يَكونَ اللَّهُ هو مَصدَرَ السُّلوكِ، بمَعنى إيمانِ الإنسانِ به، واتِّباعِ شَريعَتِه، وذلك هو مُحَدِّدُ سُلوكِ الإنسانِ، وهو الهَدَفُ والغايةُ لسُلوكِه، بمَعنى أن يَكونَ مُخلِصًا للَّهِ، وذلك عن طَريقِ عَدَمِ الإشراكِ باللهِ، والشُّكرِ له.
ب- أن يَكونَ السُّلوكُ كما حَدَّدَته المَوعِظةُ في قَصدٍ واعتِدالٍ في كُلِّ شَيءٍ، فلا مُغالاةَ ولا تَفريطَ، إنَّما تَوسُّطٌ واعتِدالٌ، وهذا يَعكِسُ هَدَفَ التَّربيةِ الإسلاميَّةِ السُّلوكيَّةِ: أنَّها تُنشِئُ إنسانًا مُعتَدِلًا في سُلوكِه وفي عَقيدَتِه.
وهكذا يَبدو دَورُ الوعظِ كَوسيلةٍ في التَّربيةِ الإسلاميَّةِ، تَصلُحُ في مَيدانِ التَّربيةِ الخُلُقيَّةِ، كما هي في مَيدانِ التَّربيةِ الاجتِماعيَّةِ والعَقليَّةِ وباقي المَيادينِ الإسلاميَّةِ) [103] ((نضرة النعيم)) (1/142). .
11- التَّواصي بحُسنِ الخُلُقِ:
(وذلك ببَثِّ فضائِلِ حُسنِ الخُلُقِ، وبالتَّحذيرِ من مَساوِئِ الأخلاقِ، وبنُصحِ المُبتَلَينَ بسوءِ الخُلُقِ، وبتَشجيعِ حَسَني الأخلاقِ، فحُسنُ الخُلُقِ منَ الحَقِّ، واللهُ سُبحانَه يَقولُ: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 3] ...
والرِّبحُ الحَقيقيُّ للمُسلمِ أن يَكونَ له ناصِحونَ يَنصَحونَه، ويوصونَه بالخَيرِ والاستِقامةِ، فإذا حَسُنَت أخلاقُ المُسلمِ، كَثُرَ مُصافوه، وأحَبَّه النَّاسُ.
قال المُناويُّ: (أنتَ مِرآةُ أخيك يُبصِرُ حالَه فيك، وهو مِرآةٌ لك تُبصِرُ حالَك فيه) [104] ((فيض القدير)) (6/ 252). .
قال الخَوارِزميُّ:
لا تَصحَبِ الكَسلانَ في حالاتِه
كَم صالحٍ بفسادِ آخَرَ يَفسُدُ
عَدوى البَليدِ إلى الجَليدِ سَريعةٌ
كالجَمرِ يوضَعُ في الرَّمادِ فيُخمَدُ) [105] ((موسوعة الأخلاق)) لخالد الخراز (ص: 77). .
12- أن يتَّخِذَ النَّاسَ مرآةً لنَفسِه:
إنَّ العاقِلَ يَنبَغي أن يَنظُرَ لغَيرِه ويَجعَلَهم مِرآةً لنَفسِه، فكُلُّ ما كَرِهَه ونَفرَ عنه من قَولٍ أو فِعلٍ أو خُلُقٍ، فليَتَجَنَّبْه، وما أحَبَّه من ذلك واستَحسَنَه فليَفعَلْه.
قال ابنُ حَزمٍ: (لكُلِّ شَيءٍ فائِدةٌ، ولقدِ انتَفعتُ بمَحْكِ أهلِ الجَهلِ مَنفعةً عَظيمةً، وهي أنَّه تَوقَّدَ طَبعي، واحتَدَمَ خاطِري، وحَميَ فِكري، وتَهَيَّج نَشاطي، فكان ذلك سَبَبًا إلى تَواليفَ عَظيمةِ المَنفعةِ، ولولا استِثارَتُهم ساكِني، واقتِداحُهم كامِني، ما انبَعَثتُ لتلك التَّواليفِ) [106] ((الأخلاق والسير)) لابن حزم (ص: 128). .
(قال الشَّاعِرُ:
إنَّ السَّعيدَ له من غَيرِه عِظةٌ
وفي التَّجارِبِ تَحكيمٌ ومُعتَبَرُ
وقال الطَّاهِرُ بنُ الحُسَينِ:
إذا أعجَبَتك خِصالُ امرِئٍ
فكُنْه يَكُنْ منك ما يُعجِبُك
فليس على المَجدِ والمُكرُماتِ
إذا جِئتَها حاجِبٌ يَحجُبُك) [107] ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص: 561) بتصرف. .
13- القُدوةُ الحَسَنةُ:
(تَعني القُدوةُ هنا أن يَكونَ المُرَبِّي أوِ الدَّاعي مِثالًا يُحتَذى به في أفعالِه وتَصَرُّفاتِه، وقد أشادَ القُرآنُ الكَريمُ بهذه الوسيلةِ، فقال عَزَّ مِن قائِلٍ: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الممتحنة: 4] ، وقد كان المُصطَفى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -ولا يَزالُ- قُدوةً للمُسلمينَ جَميعًا، والقُدوةُ الحَسَنةُ التي يُحَقِّقُها الدَّاعي بسيرَتِه الطَّيِّبةِ هي في الحَقيقةِ دَعوةٌ عَمَليَّةٌ للإسلامِ بكُلِّ ما يَحمِلُه من مَبادِئَ وقيَمٍ تَدعو إلى الخَيرِ، وتَحُثُّ على الفضيلةِ.
ولأثَرِ القُدوةِ في عَمَليَّةِ التَّربيةِ -وخاصَّةً في مَجالِ الاتِّجاهاتِ والقِيَمِ- كان الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو قُدوةَ المُسلمينَ طِبقًا لما نَصَّ عليه القُرآنُ الكَريمُ، وقدِ استَطاعَ بفضلِ تلك القُدوةِ أن يُحمِّلَ مُعاصِريه قيَمَ الإسلامِ وتَعاليمَه وأحكامَه، لا بالأقوالِ فقَط وإنَّما بالسُّلوكِ الواقِعيِّ الحَيِّ، وقد حَرَصوا على تَتَبُّعِ صِفاتِه وحَرَكاتِه، ورَصدِها والعَمَلِ بها، وما ذلك إلَّا حِرصًا منهم على تَمَثُّلِ أفعالِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لقد كان المَثَلَ الأعلى لهم.
وقد تَمَثَّلَت في الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صِفاتٌ جَليلةٌ جَعلت منه قُدوةً بالفِعلِ) [108] ((نضرة النعيم)) (1/143). .
(والقُدوةُ الحَسَنةُ هي المِثالُ الواقِعيُّ للسُّلوكِ الخُلُقيِّ الأمثَلِ، وهذا المِثالُ الواقِعيُّ قد يَكونُ مِثالًا حِسِّيًّا مُشاهَدًا مَلموسًا يُقتَدى به، وقد يَكونُ مِثالًا حاضِرًا في الذِّهنِ بأخبارِه وسِيَرِه، وصورةً مُرتَسِمةً في النَّفسِ بما أُثِرَ عنه من سِيَرٍ وقِصَصٍ، وأنباءٍ من أقوالٍ أو أفعالٍ.
والقُدوةُ الحَسَنةُ تَكونُ للأفرادِ على صِفةِ أفرادٍ مِثاليِّينَ مُمتازينَ، وتَكونُ للجَماعاتِ على صِفةِ جَماعاتٍ مِثاليَّةٍ مُمتازةٍ... ووجَّهَ القُرآنُ الكَريمُ بصَراحةٍ تامَّةٍ إلى القُدوةِ الحَسَنةِ، فقال اللهُ تعالى في سورةِ (الأحزابِ):
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21] .
ففي هذا النَّصِّ إرشادٌ عَظيمٌ منَ اللهِ تَبارَكَ وتعالى للمُؤمنينَ أن يَجعلوا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قُدوةً حَسَنةً لهم، يَقتَدونَ به في أعمالِه وأقوالِه وأخلاقِه، وكُلِّ جُزئيَّاتِ سُلوكِه في الحَياةِ؛ فهو خَيرُ قُدوةٍ يَقتَدي بها الأفرادُ العاديُّونَ، والأفرادُ الطَّامِحونَ لبُلوغِ الكَمالِ الإنسانيِّ في السُّلوكِ.
وجَعل اللهُ الذينَ آمَنوا مَعَه وصَدَّقوا، وأخلصوا واستَقاموا أمثِلةً رائِعةً يُقتَدى بها في مُعظَمِ الفضائِلِ الفرديَّةِ والاجتِماعيَّةِ.
ولئِنِ انتَقَل الرَّسولُ صَلواتُ اللهِ عليه إلى جِوارِ رَبِّه، فإنَّ سيرَتَه التي تَحتَوي على جُزئيَّاتِ سُلوكِه ماثِلةٌ لنا.
وفيما بَلغَنا من تَراجِمِ أصحابِه رِضوانُ اللهِ عليهم ما يَكفي لتَجسيدِ القُدوةِ الحَسَنةِ للمُجتَمَعِ المُسلمِ.
ثمَّ إنَّ كُلَّ عَصرٍ منَ العُصورِ من بَعدِهم لا يَخلو من وُجودِ طائِفةٍ من أمَّةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَصلُحُ لأن تَكونَ قُدوةً حَسَنةً، قَلَّت هذه الطَّائِفةُ أو كَثُرَت؛ فقد بَشَّرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلك في قَولِه: ((لا تَزالُ طائِفةٌ من أمَّتي يُقاتِلونَ على الحَقِّ ظاهرينَ على من ناوأهم، حتَّى يُقاتِلَ آخِرهمُ المَسيحَ الدَّجَّالَ)) [109] رواه أبو داود (2484)، وأحمد (19920) من حديثِ عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الحاكم في ((المستدرك)) (2392) وقال: على شرط مسلم، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2484)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (1030) وقال: على شرط مسلم، وصحَّح إسنادَه الطبري في ((مسند عمر)) (2/824)، وشعيب الأرناؤوط على شرط مسلم في تخريج ((مسند أحمد)) (19920). .
ورَوى مُسلِمٌ عن جابرٍ قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَزالُ طائِفةٌ من أمَّتي يُقاتِلونَ على الحَقِّ ظاهرينَ إلى يَومِ القيامةِ)) [110] أخرجه مسلم (156) مطولًا. .
ورَوى البُخاريُّ ومُسلِمٌ عن مُعاويةَ قال: سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((لا يَزالُ من أمَّتي أمَّةٌ قائِمةٌ بأمرِ اللَّهِ، لا يَضُرُّهم من خَذَلهم ولا من خالفَهم حتَّى يَأتيَهم أمرُ اللهِ وهم على ذلك)) [111] أخرجه البخاري (3641) واللفظ له، ومسلم (1037) باختلاف يسير. .
فلا يَخلو عَصرٌ من عُصورِ الأمَّةِ المُحَمَّديَّةِ من طائِفةٍ صالحةٍ تَصلُحُ لأن تَكونَ في عَصرِها قُدوةً حَسَنةً للأفرادِ) [112] ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن حبنكة الميداني (1/203). .
14- مُصاحَبةُ الأخيارِ، وأهلِ الأخلاقِ الفاضِلةِ [113] ((موسوعة الأخلاق)) لخالد الخراز (ص: 80). :
فالمَرءُ مُولَعٌ بمُحاكاةِ مَن حَوله، شَديدُ التَّأثُّرِ بمَن يُصاحِبُه، ومُجالسَتُهم تَكسِبُ المَرءَ الصَّلاحَ والتَّقوى، والاستِنكافُ عنهم تَنكُّبٌ عنِ الصِّراطِ المُستَقيمِ.
قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119] .
وقال تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ علَى الْأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان: 63] .
وعن أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَثَلُ الجَليسِ الصَّالحِ والجَليسِ السُّوءِ كمَثَلِ صاحِبِ المِسكِ وكِيرِ الحَدَّادِ، لا يَعدَمُك من صاحِبِ المِسكِ: إمَّا تَشتَريه، أو تَجِدُ ريحَه، وكيرُ الحَدَّادِ يُحرِقُ بَدَنَك أو ثَوبَك، أو تَجِدُ منه ريحًا خَبيثةً)) [114] أخرجه البخاري (2101). .
قال أبو حاتِمٍ: (العاقِلُ يَلزَمُ صُحبةَ الأخيارِ، ويُفارِقُ صُحبةَ الأشرارِ؛ لأنَّ مَودَّةَ الأخيارِ سَريعٌ اتِّصالُها، بَطيءٌ انقِطاعُها، ومَودَّةَ الأشرارِ سَريعٌ انقِطاعُها، بَطيءٌ اتِّصالُها، وصُحبةُ الأشرارِ سوءُ الظَّنِّ بالأخيارِ، ومَن خادَنَ الأشرارَ لم يَسلَمْ منَ الدُّخولِ في جَملتِهم؛ فالواجِبُ على العاقِلِ أن يَجتَنِبَ أهلَ الرَّيبِ لئَلَّا يَكونَ مُريبًا، فكَما أنَّ صُحبةَ الأخيارِ تورِثُ الخَيرَ، كَذلك صُحبةُ الأشرارِ تورِثُ الشَّرَّ) [115] ((روضة العقلاء)) (ص: 80). .
قال الشَّاعِرُ:
عليك بإخوانِ الثِّقاتِ فإنَّهم
قَليلٌ فصِلْهم دونَ من كُنتَ تَصحَبُ
ونَفسَك أكرِمْها وصُنْها فإنَّها
مَتى ما تُجالِس سِفلةَ النَّاسِ تَغضَبُ
فالصَّداقةُ المَتينةُ والصُّحبةُ الصَّالحةُ لا تَحُلُّ في نَفسٍ إلَّا هَذَّبَت أخلاقَها الذَّميمةَ. فإذا كان الأمرُ كذلك فما أحرى بذلك اللُّبِّ أن يَبحَثَ عن إخوانٍ ثِقاتٍ؛ حتَّى يُعينوه على كُلِّ خَيرٍ، ويَقصُروه عن كُلِّ شَرٍّ.
قال ابنُ الجَوزيِّ: (ما رَأيتُ أكثَرَ أذًى للمُؤمنِ من مُخالطةِ من لا يَصلُحُ؛ فإنَّ الطَّبعَ يَسرِقُ؛ فإنْ لم يَتَشَبَّهْ بهم ولم يَسرِقْ منهم فتَرَ عن عَمَلِه) [116] ((صيد الخاطر)) (ص: 425). .
وقال أبو جَعفرٍ أحمَدُ بنُ ليونَ التَّجيبيُّ:
أنتَ في النَّاسِ تُقاسُ
بالذي اختَرتَ خَليلَا
فاصحَبِ الأخيارَ تَعلو
وتَنَلْ ذِكرًا جَميلَا [117] ((نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب)) للمقري (5/ 553).
وقيل: إنَّما سُمِّيَ الصَّديقُ صَديقًا لصِدقِه، والعَدوُّ عَدوًّا لعَدْوِه عليك [118] ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص: 161). .
15- الغَمسُ في البيئاتِ الصَّالحةِ:
(ومن وسائِلِ اكتِسابِ الأخلاقِ الفاضِلةِ الغَمسُ في البيئاتِ الصَّالحةِ؛ وذلك لأنَّ من طَبيعةِ الإنسانِ أن يَكتَسِبَ منَ البيئةِ التي يَنغَمِسُ فيها ويَتَعايَشُ مَعَها ما لدَيها من أخلاقٍ وعاداتٍ وتَقاليدَ وأنواعِ سُلوكٍ، عن طَريقِ السِّرايةِ والمُحاكاةِ والتَّقليدِ، وبذلك تَتِمُّ العَدوى النَّافِعةُ أوِ الضَّارَّةُ، وفي الحِكَمِ السَّائِرةِ: أنَّ الطَّبعَ للطَّبعِ يَسرِقُ...
ويُمكِنُ تَلخيصُ التَّأثيرِ الجَماعيِّ على الفردِ بالعناصِرِ التَّاليةِ:
- السِّرايةُ التي تَفعلُ فِعلَها العَميقَ في كيانِ الإنسانِ، وهي من خَصائِصِ الاجتِماعِ، وكُلَّما كَبُرَ المُجتَمَعُ كان تَأثيرُه على الفردِ الذي يَنخَرِطُ فيه أكثَرَ.
- القوَّةُ المَعنَويَّةُ الجَماعيَّةُ التي يَخشى الأفرادُ عُقوباتِها المادِّيَّةَ والمَعنَويَّةَ، ويَرجونَ مَثوباتِها المادِّيَّةَ والمَعنَويَّةَ.
- جاذِبيَّةُ الجَماعةِ لعُنصُرِ التَّقليدِ والمُحاكاةِ الذي يوجَدُ عِندَ الأفرادِ.
- عُنصُرُ المُنافَسةِ، وهو من خَصائِصِ الجَماعةِ.
- رَغبةُ الأفرادِ بتَقديرِ الآخَرينَ ومَحَبَّتِهم له، وهذا الدَّافِعُ لا يَتَحَرَّكُ إلَّا في وسَطِ الجَماعةِ، فاستِغلالُه من خَصائِصِ الجَماعةِ.
هذا وقوَّةُ الجَماعةِ الخَيِّرةِ يوجَدُ نَظيرُها في الجَماعةِ الشِّرِّيرةِ الخَبيثةِ، يُضافُ إليها مَيلُ النَّفسِ بفِطرَتِها إلى الأهواءِ والشَّهَواتِ التي تُرافِقُ رَذائِلَ الأخلاقِ وقَبائِحَ الأفعالِ، لا سيَّما إذا كان مُخالِطُ الأشرارِ غِرًّا صَغيرًا غَيرَ مُضَرَّسٍ [119] أي: مُجَرِّبٍ. ينظر: ((تاج العروس)) للزبيدي (16/ 185). في الحَياةِ، وسُلطانُ الغَرائِزِ والأهواءِ فيه أقوى من سُلطانِ العَقلِ والوِجدانِ والضَّميرِ) [120] ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبد الرحمن حبنكة الميداني (1/203). .
16- الاختِلافُ إلى أهلِ الحِلمِ والفَضلِ وذوي المروءاتِ:
(فإذا اختَلف المَرءُ إلى هؤلاء، وأكثَرَ من لقائِهم وزيارَتِهم تَخَلَّقَ بأخلاقِهم، وقَبَس من سَمتِهم ونورِهم.
أ- يُروى أنَّ الأحنَفَ بنَ قَيسٍ قال: (كُنَّا نَختَلفُ إلى قَيسِ بنِ عاصِمٍ نَتَعلَّمُ منه الحِلمَ كما نَتَعلَّمُ الفِقهَ).
ب- كان أصحابُ عَبدِ اللَّهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه يَرحَلونَ إليه، فيَنظُرونَ إلى سَمتِه وهَدْيه ودَلِّه، قال: فيَتَشَبَّهونَ به [121] ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلام (3/383). .
ج- قال مالِكٌ: قال ابنُ سِيرينَ: كانوا يَتَعلَّمونَ الهَديَ كما يَتَعلَّمونَ العِلمَ. قال: وبَعَثَ ابنُ سِيرينَ رَجُلًا فنَظَرَ كَيف هَديُ القاسِمِ -هو ابنُ مُحَمَّدِ بنِ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ- وحالُه [122] ((الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)) للخطيب البغدادي (1/79). .
د- قال القاضي أبو يَعلى: رَوى أبو الحُسَينِ بنُ المُنادي بسَنَدِه إلى الحُسَينِ بنِ إسماعيلَ قال: سَمِعتُ أبي يَقولُ: كُنَّا نَجتَمِعُ في مَجلسِ الإمامِ أحمَدَ زُهاءً على خَمسةِ آلافٍ أو يَزيدونَ، أقَلُّ مِن خَمسمِائةٍ يَكتُبونَ، والباقي يَتَعلَّمونَ منه حُسنَ الأدَبِ، وحُسنَ السَّمتِ [123] ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/9). .
هـ- قال إبراهيمُ بنُ حَبيبِ بنِ الشَّهيدِ لابنِه: يا بُنَيَّ، إيتِ الفُقَهاءَ والعُلماءَ، وتَعلَّمْ منهم، وخُذْ من أدَبِهم وأخلاقِهم وهَدْيِهم؛ فإنَّ ذاكَ أحَبُّ إليَّ لك من كَثيرٍ منَ الحَديثِ [124] ((الجامع)) للخطيب (1/80). .
و- وقال الأعمَشُ: كانوا يَأتونَ همَّامَ بنَ الحارِث يَتَعلَّمونَ من هَدْيِه وسَمتِه) [125] ((موسوعة الأخلاق)) لخالد الخراز (ص: 81). .
17- الضَّغطُ الاجتِماعيُّ من قِبَلِ المجتَمَعِ الإسلاميِّ:
(ضِمنَ مَجموعةِ الوسائِلِ التي اعتَمَدَ عليها الإسلامُ في تَقويمِ الأفرادِ وإصلاحِهم، وإلزامِهم بكَمالِ السُّلوكِ وفضائِلِ الأخلاقِ، اعتَمَدَ على المُجتَمَعِ الإسلاميِّ السَّويِّ؛ وذلك لِما للمُجتَمَعِ من سُلطةٍ مَعنَويَّةٍ فعَّالةٍ ومُؤَثِّرةٍ على نُفوسِ الأفرادِ.
وتَرجِعُ هذه السُّلطةُ المَعنَويَّةُ إلى أنَّ الفردَ جُزءٌ منَ المُجتَمَعِ الذي يَعيشُ فيه، وله من مُجتَمَعِه مَصالحُ كَثيرةٌ مادِّيَّةٌ ونَفسيَّةٌ.
وبما أنَّ الإنسانَ كائِنٌ اجتِماعيٌّ، ولا يَستَطيعُ أن يَعيشَ عَيشًا سَويًّا سَليمًا إلَّا ضِمنَ مُجتَمَعٍ منَ النَّاسِ، كان ارتِباطُه بالمُجتَمَعِ نابعًا من حاجتِه إليه، والحاجةُ لشَيءٍ ذي إرادةٍ تَجعلُ لهذا الشَّيءِ سُلطانًا على من كان بحاجةٍ إليه؛ إذ هو لا يُحَقِّقُ هذه الحاجةَ من نَفسِه ما لم يَكُنْ راضيًا، عِندَئِذٍ يَسعى ذو الحاجةِ إلى تَحقيقِ رِضاه حتَّى يَنالَ منه حاجَتَه.
ومنَ الحاجاتِ النَّفسيَّةِ المُرتَبطةِ بالمُجتَمَعِ حاجةُ الإنسانِ إلى التَّقديرِ؛ ولذلك يَكدَحُ كَثيرٌ منَ الكادِحينَ؛ ليَظفروا بتَقديرِ النَّاسِ لهم وثَنائِهم عليهم، ويَمنَعُ كَثيرٌ منَ النَّاسِ أنفُسَهم من شَهَواتٍ مُلحَّةٍ، وأهواءٍ يَتَطَلَّعونَ إليها؛ مَخافةَ أن يَنظُرَ النَّاسُ إليهم بازدِراءٍ واحتِقارٍ، أو مَخافةَ أن يُعاقِبوهم بالهَجرِ والقَطيعةِ، أو بالتَّلويمِ والتَّثريبِ والمَذَمَّةِ، وما ذلك إلَّا من شُعورِ الفردِ بحاجَتِه إلى التَّقديرِ، وبحاجَتِه إلى المُحافظةِ على كَرامةِ نَفسِه بَينَ النَّاسِ، وهذا هو الذي يَجعلُ للمُجتَمَعِ سُلطانًا على أفرادِه.
يُضافُ إلى ذلك أسبابُ التَّأثيرِ الجَماعيِّ على الفردِ،... وإذِ اتَّخَذَ الإسلامُ -ضِمنَ وسائِلِه لإلزامِ الأفرادِ بالمنهَجِ الأخلاقيِّ الذي رَسَمَه للنَّاسِ- وسيلةَ الضَّغطِ الاجتِماعيِّ الذي يُمارِسُه المُجتَمَعُ الإسلاميُّ؛ فقد عَمِل بالتَّربيةِ الفرديَّةِ النَّبَويَّةِ وبالتَّربيةِ الجَماعيَّةِ على تَكوينِ المُجتَمَعِ الإسلاميِّ الأوَّلِ، ثمَّ جَعَل من هذا المُجتَمَعِ رَقيبًا على أفرادِه، وحارِسًا ساهرًا، ومُحاسِبًا عادِلًا، ومُعاقِبًا بأنواعٍ شَتَّى من أنواعِ العِقابِ المَعنَويِّ، ومُؤَنِّبًا وناصِحًا، وآمِرًا بالمَعروفِ وناهيًا عنِ المُنكَرِ.
فمن شَأنِ هذا المُجتَمَعِ أن يُمليَ على من يَنشَأُ فيه أو يَنخَرِطُ فيه فضائِلَ الأخلاقِ، ومَحاسِنَ السُّلوكِ، بصِفةٍ عَمَليَّةٍ فعَّالةٍ...) [126] ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن حبنكة الميداني (1/205). .
18- إدامةُ النَّظَرِ في السِّيرةِ النَّبَويَّةِ:
(فالسِّيرةُ النَّبَويَّةُ تَضَعُ بَينَ يَدَي قارِئِها أعظَمَ صورةٍ عَرَفَتها الإنسانيَّةُ، وأكمَلَ هَديٍ وخُلُقٍ في حَياةِ البَشَريَّةِ.
قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21] .
قال ابنُ حَزمٍ: (مَن أرادَ خَيرَ الآخِرةِ وحِكمةَ الدُّنيا، وعَدلَ السِّيرةِ، والاحتِواءَ على مَحاسِنِ الأخلاقِ كُلِّها، واستِحقاقَ الفضائِلِ بأسرِها؛ فليَقتَدِ بمُحَمَّدٍ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وليستَعمِلْ أخلاقَه وسِيرَه ما أمكَنَه، أعانَنا اللَّهُ على الائتِساءِ به بمَنِّه. آمينَ) [127] ((الأخلاق والسير)) لابن حزم (ص: 91). .
وبدِراسةِ السِّيرةِ النَّبَويَّةِ يَتِمُّ حُسنُ الاقتِداءِ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم...
ومَعرِفةُ شَمائِلِه... تُنَبِّهُ الإنسانَ على مَكارِمِ الأخلاقِ، وتُذَكِّرُه بفضلِها، وتُعينُه على اكتِسابِها، والشَّمائِلُ: جَمعُ شِمالٍ، وهي السَّجايا والأخلاقُ التي كان عليها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [128] ((موسوعة الأخلاق)) لخالد الخراز (ص: 87). .
19- النَّظَرُ في سِيَرِ الصَّحابةِ الكِرامِ، وأهلِ الفَضلِ والحِلمِ:
(السَّلَفُ الصَّالحُ أعلامُ الهدى، ومَصابيحُ الدُّجى، وهمُ الذينَ ورِثوا عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هَدْيَه وسَمتَه وخُلُقَه؛ فالنَّظَرُ في سِيَرِهم والاطِّلاعُ على أحوالِهم يَبعَثُ على التَّأسِّي بهم، والاقتِداءِ بهَديِهم مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ علَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب: 23] .
إنَّ الإحاطةَ بتَراجِمِ أعيانِ الأمَّةِ مَطلوبةٌ، ولذَوي المَعارِفِ مَحبوبةٌ؛ ففي مُدارَسةِ أخبارِهم شِفاءٌ للعليلِ، وفي مُطالعةِ أيَّامِهم إرواءٌ للغَليلِ.
فأيُّ خَصلةِ خَيرٍ لم يَسبِقوا إليها؟! وأيُّ خُطَّةِ رُشدٍ لم يَستَولوا عليها؟! تاللهِ لقد ورَدوا رَأسَ الماءِ من عَينِ الحَياةِ عَذبًا صافيًا زُلالًا، وأيَّدوا قَواعِدَ الإسلامِ، فلم يَدَعوا لأحَدٍ بَعدَهم مَقالًا [129] ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/15). .
واعلَمْ تَحقيقًا أنَّ أعلمَ أهلِ الزَّمانِ وأقرَبَهم إلى الحَقِّ أشَبَهُهم بالصَّحابةِ وأعرَفُهم بطَريقِ الصَّحابةِ؛ فمنهم أُخِذ الدِّينُ؛ ولذلك قال عليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه: "خَيرُنا أتبَعُنا لهذا الدِّينِ" [130] ((الدر النضيد في أدب المفيد والمستفيد)) للإمام بدر الدين الغزي العامري (ص: 138). .
قال النَّاظِمُ:
فتَشَبَّهوا إن لم تَكونوا مِثْلَهم
إنَّ التَّشَبُّهَ بالكِرامِ فَلاحُ
وكَذلك قِراءةُ سِيَرِ التَّابعينَ ومَن جاءَ بَعدَهم في تَراجِمِهم ممَّا يُحَرِّكُ العَزيمةَ على اكتِسابِ المَعالي ومَكارِمِ الأخلاقِ؛ ذلك أنَّ حَياةَ أولئِكَ تَتَمَثَّلُ أمامَ القارِئِ، وتوحي إليه بالاقتِداءِ بهم، والسَّيرِ على منوالِهم.
وجَديرٌ بمَن لازَمَ العُلماءَ بالفِعلِ أوِ العِلمِ أن يَتَّصِفَ بما اتَّصَفوا به، وهكذا مَن أمعنَ النَّظَرَ في سيرَتِهم أفادَ منهم، وهكذا كان شَأنُ السَّلفِ الصَّالحِ؛ فأوَّلُ ذلك مُلازَمةُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأخذُهم بأقوالِه وأفعالِه، واعتِمادُهم على ما يَرِدُ منه كائِنًا ما كان، وعلى أيِّ وَجهٍ صَدَر... وإنَّما ذلك بكَثرةِ المُلازَمةِ، وشِدَّةِ المُثابَرةِ... وصارَ مِثلُ ذلك أصلًا لمَن بَعدَهم؛ فالتَزَمَ التَّابعونَ في الصَّحابةِ سيرَتَهم مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ففَقِهوا، ونالوا ذِروةَ الكَمالِ في العُلومِ الشَّرعيَّةِ، والأخلاقِ العليَّةِ) [131] ((موسوعة الأخلاق)) لخالد الخراز (ص: 88). .
20- سُلطانُ الدَّولةِ الإسلاميَّةِ:
(للسُّلطةِ المادِّيَّةِ التي تُمارِسُها الدَّولةُ الإسلاميَّةُ أثَرٌ فعَّالٌ في إلزامِ الأفرادِ والجَماعاتِ بالمنهجِ الأخلاقيِّ الذي رَسَمَه الإسلامُ للنَّاسِ، وفي تَربيةِ نُفوسِهم وقُلوبِهم على الفضائِلِ الأخلاقيَّةِ.
ولذلك كان من مُهمَّاتِ الدَّولةِ الإسلاميَّةِ ضَبطُ انتِظامِ الأفرادِ والجَماعاتِ في نِظامِ الأخلاقِ الإسلاميَّةِ، بما تُوليه من رَقابةٍ يَقِظةٍ، وحِراسةٍ ساهِرةٍ، ومُحاسَبةٍ للمُنحَرِفينَ، وتَشجيعٍ للسَّابقينَ، وتَوجيهٍ وتَربيةٍ، وبناءٍ وصيانةٍ.
ولذلك كان من مُهمَّاتِ الدَّولةِ الإسلاميَّةِ وضعُ الأنظِمةِ المُختَلِفةِ المُرَغِّبةِ بالتِزامِ المنهجِ الأخلاقيِّ الرَّبَّانيِّ، والرَّادِعةِ عن مُخالفتِه، واتِّخاذِ مُختَلِفِ الوسائِلِ النَّافِعةِ التَّوجيهيَّةِ والتَّربَويَّةِ لحِمايةِ الأخلاقِ وصيانَتِها.
ورُبَّما كان وازِعُ السُّلطةِ الإداريَّةِ هذا أقوى وازِعٍ لإلزامِ الجَماهيرِ بسُلوكِ السَّبيلِ الأقومِ، وقد جاءَ في الأثَرِ: "إنَّ اللهَ ليَزَعُ بالسُّلطانِ ما لا يَزَعُ بالقُرآنِ [132] أي: يكُفُّ عن ارتكابِ العظائِمِ مخافةَ السُّلطانِ ما لا يكُفُّه مخافةُ القرآنِ ومخافةُ اللهِ تعالى. ينظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (5/180). ") [133] ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن حبنكة الميداني (1/208). .

انظر أيضا: