موسوعة التفسير

سورةُ الرَّحْمنِ
الآيات (62-78)

ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ

غريب الكلمات:

وَمِنْ دُونِهِمَا: دُونَ: أقَلُّ، أي: أقَلُّ منهما في المَنزِلةِ والقَدرِ، يُقالُ للقاصِرِ عن الشَّيءِ: دُون، وقيل: (دون) بمعنَى (غير)، ولها مَعانٍ كثيرةٌ، و(دُونَ) قيل: هو مقلوبٌ مِن الدُّنوِّ، وأصل (دون): يدُلُّ على المُداناةِ والمُقارَبةِ [468] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/317)، ((البسيط)) للواحدي (2/247)، ((المفردات)) للراغب (ص: 323)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/272). .
مُدْهَامَّتَانِ: أي: سَوْداوانِ؛ مِن شِدَّةِ الخُضرةِ والرِّيِّ، والأصلُ في ذلك أنَّ الخُضرةَ إذا اشتَدَّت ضَرَبَت إلى السَّوادِ [469] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 442)، ((تفسير ابن جرير)) (22/258)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 450)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/195، 2/308)، ((المفردات)) للراغب (ص: 320)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 385)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 309)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 878). .
نَضَّاخَتَانِ: أي: فوَّارتانِ بالماءِ بقُوَّةٍ، والنَّضْخُ: فَورُ الماءِ مِنَ العَينِ، وهو أكثَرُ مِنَ النَّضْحِ [470] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 443)، ((تفسير ابن جرير)) (22/260)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 469)، ((البسيط)) للواحدي (21/195)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 385)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 309)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 916). .
حُورٌ: جمعُ حوراءَ، وهي: البَيضاءُ، أو: الشَّديدةُ بَياضِ العَينِ الشَّديدةُ سَوادِها [471] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 443)، ((تفسير ابن جرير)) (22/263، 266)، ((المفردات)) للراغب (ص: 673)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 385)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 309)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 716). .
مَقْصُورَاتٌ: أي: مَحبوساتٌ مَستوراتٌ، والقَصرُ: المَنعُ والحَبسُ [472] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 443)، ((أدب الكاتب)) لابن قتيبة (ص: 386)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 426)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/97)، ((المفردات)) للراغب (ص: 673)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 385)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 309)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 716). .
رَفْرَفٍ: أي: ما تدَلَّى مِنَ الأَسِرَّةِ مِن غالي الثِّيابِ والبُسُطِ؛ مِن رَفَّ البَيتُ: إذا تنَعَّمَ وحَسُنَ، جَمعٌ واحِدتُها: رَفرَفةٌ [473] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 443)، ((تفسير ابن جرير)) (22/273)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 242)، ((المفردات)) للراغب (ص: 359)، ((تفسير ابن عطية)) (5/236)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 485). قال الرازي: (إمَّا أنْ يَكونَ أصْلُه مِن رَفَّ الزَّرْعُ إذا بَلَغ مِن نضارَتِه، فيكونَ مُناسِبًا لقولِه تعالَى: مُدْهَامَّتَانِ [الرحمن: 64]، ويكونَ التَّقديرُ أنَّهم مُتَّكِئونَ على الرِّياضِ والثِّيابِ العبقرِيَّةِ. وإمَّا أنْ يكونَ مِن رفرفةِ الطَّائرِ، وهي حَوْمُه في الهواءِ حوْلَ ما يُريدُ النُّزولَ عليه، فيكونَ المعنَى أنَّهم على بُسُطٍ مَرْفوعةٍ، كما قال تعالَى: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ [الواقعة: 34] ، وهذا يدُلُّ على أنَّ قولَه تعالَى: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ [الرحمن: 62] أنَّهما دونَهما في المكانِ، حيثُ رُفِعَتْ فُرُشُهم). ((تفسير الرازي)) (29/381). .
وَعَبْقَرِيٍّ أي: بُسُطٍ ووسائِدَ فائِقةِ الجَمالِ، بديعةِ الصُّنعِ، والعَبقريُّ: نِسبةٌ إلى عَبقَرٍ: اسمُ بلادِ الجِنِّ في مُعتَقَدِ العَرَبِ، فنَسَبوا إليه كُلَّ ما تجاوَزَ العادةَ في الإتقانِ والحُسْنِ [474] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/276)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 339)، ((المفردات)) للراغب (ص: 544)، ((تفسير الزمخشري)) (4/454)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 386)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 309)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/275). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: ومِن دُونِ هاتَينِ الجَنَّتَينِ -اللَّتَينِ تقَدَّمَ ذِكرُهما- في الرُّتبةِ والفَضلِ جَنَّتانِ أُخْرَيانِ؛ فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ؟!
ثمَّ يُفصِّلُ اللهُ سُبحانَه أوصافَ هاتَينِ الجنَّتَينِ، فيقولُ: هاتانِ الجَنَّتانِ مُسْوَدَّتانِ؛ مِن شِدَّةِ خُضرتِهما؛ فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ؟!
وفيهما عَيْنانِ فوَّارتانِ بالماءِ؛ فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ؟!
وفيهما فَواكِهُ ونَخلٌ ورُمَّانٌ؛ فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ؟!
وفِيهنَّ نساءٌ خَيْراتُ الصِّفاتِ والأخلاقِ، حِسانُ الوُجوهِ والأبدانِ؛ فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ؟! وهُنَّ بِيضٌ، شَديدٌ سوادُ أعيُنهِنَّ وبَياضُها، مَحجوباتٌ في بُيوتِ اللُّؤلؤِ المُجَوَّفِ؛ فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ؟! ولم يُجامِعْهنَّ فيَفتَضَّ بَكارتَهُنَّ قبْلَ أزواجِهنَّ أحَدٌ مِنَ الإنسِ أو الجِنِّ؛ فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ؟!
يَتنَعَّمونَ بالاتِّكاءِ على ثيابٍ خَضراءَ فاخِرةٍ مُتدَلِّيةٍ مِن فُرُشِهم، وعلى بُسُطٍ ووسائِدَ بديعةِ الصُّنعِ، حَسَنةِ المَنظَرِ! فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ؟!
ثمَّ يختمُ اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ، فيقولُ: تَبارَكَ اسمُ رَبِّك -يا محمَّدُ- ذي العَظَمةِ والإكرامِ!

تفسير الآيات:

وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان قد عُلِمَ مِمَّا ذُكِرَ أوَّلَ هذا الكلامِ مِنَ الخَوفِ معَ ذِكرِ وَصفِ الإكرامِ، وآخِرَه مِن ذِكرِ الإحسانِ: أنَّ هذا الفَريقَ مُحسِنٌ، وكان مِن المعلومِ أنَّ العامِلينَ طَبَقاتٌ، وأنَّ كُلَّ طَبَقةٍ أجرُها على مِقدارِ أعمالِها؛ اقتضى الحالُ بَيانَ ما أُعِدَّ لِمَن دُونَهم [475] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/187). .
وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62).
أي: ومِن دُونِ الجَنَّتَينِ -اللَّتَينِ تقَدَّمَ ذِكرُهما- جَنَّتانِ أقَلُّ مِنهما رُتبةً وفَضلًا [476] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/253)، ((تفسير القرطبي)) (17/183)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 102 - 104)، ((تفسير ابن كثير)) (7/506، 507)، ((تفسير السعدي)) (ص: 831)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 321). وممَّن ذهب إلى أنَّ قَولَه تعالى: وَمِنْ دُونِهِمَا أي: دُونَهما في الفَضلِ والرُّتبةِ: مقاتلُ بنُ سليمانَ، والواحديُّ، وابن القيِّم، وابن كثير، والبِقاعي، والسعدي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/204)، ((الوسيط)) للواحدي (4/228)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 102، 104)، ((تفسير ابن كثير)) (7/506، 507)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/187)، ((تفسير السعدي)) (ص: 831)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 321). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وأبو موسى الأشعريُّ، وابنُ زَيدٍ، وابنُ جُرَيجٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/254)، ((تفسير الثعلبي)) (9/193)، ((تفسير البغوي)) (4/343). قال الرَّسْعَني: (قال المفسِّرون: مِن دُونِهما في الفضلِ والدَّرَجاتِ). ((تفسير الرسعني)) (7/575). وذكَر ابنُ عطيَّةَ أنَّ أكثَرَ النَّاسِ على هذا التَّأويلِ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/235). وقيل: المعنى: هما أقرَبُ مَكانًا مِن الأُولَيَينِ، وأفضَلُ مِنهما مَرتبةً ومَنزِلةً. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/254)، ((تفسير ابن عطية)) (5/235)، ((تفسير الشوكاني)) (5/171). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: الضَّحَّاكُ. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/193). وقال الشوكاني: (ومعنَى «مِنْ دُونِهما» أيْ: مِن أمامِهما ومِنْ قَبلِهما، أي: هما أقرَبُ منهما). ((تفسير الشوكاني)) (5/171). ويُنظر: ((تفسير العليمي)) (6/494). .
عن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه، أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((جَنَّتانِ مِن فِضَّةٍ، آنِيَتُهما وما فيهما، وجَنَّتانِ مِن ذَهَبٍ، آنِيَتُهما وما فيهما)) [477] أخرجه البخاري (4878)، ومسلم (180). قال ابن حجر: (قولُه: «جنَّتانِ» إشارةٌ إلى قولِه تعالى: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ، وتفسيرٌ له). ((فتح الباري)) (13/432). .
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63).
أي: فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ [478] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/254). ؟!
مُدْهَامَّتَانِ (64).
أي: هاتانِ الجَنَّتانِ مُسْوَدَّتانِ؛ مِن شِدَّةِ خُضرتِهما [479] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/254)، ((تفسير القرطبي)) (17/184)، ((تفسير ابن كثير)) (7/507)، ((تفسير السعدي)) (ص: 831)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/272). .
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65).
أي: فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ [480] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/258). ؟!
فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66).
أي: في هاتَينِ الجنَّتَينِ عَينانِ فوَّارتانِ بالماءِ بقُوَّةٍ [481] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/258، 260)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/188)، ((تفسير السعدي)) (ص: 831)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/272). .
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67).
أي: فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ [482] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/260). ؟!
فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر الرِّيَّ والسَّبَبَ فيه؛ ذَكَر ما يَنشَأُ عنه، فقال [483] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/189). :
فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68).
أي: في هاتَينِ الجَنَّتَينِ فَواكِهُ ونَخيلٌ ورُمَّانٌ [484] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/260)، ((البسيط)) للواحدي (21/196)، ((تفسير السعدي)) (ص: 831). .
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69).
أي: فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ [485] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/262). ؟!
فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان ما ذُكِرَ لا تَكمُلُ لذَّتُه إلَّا بالأنيسِ؛ قال [486] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/189). :
فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70).
أي: فِيهنَّ خَيْراتُ الصِّفاتِ والأخلاقِ والشِّيَمِ، وحِسانُ الوُجوهِ والأبدانِ؛ فهنَّ في غايةِ الجَمالِ خَلْقًا وخُلُقًا [487] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/262)، ((الوسيط)) للواحدي (4/228)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 224)، ((تفسير ابن كثير)) (7/508)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/190)، ((تفسير السعدي)) (ص: 831)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/273). قيل: المرادُ بقَولِه تعالى: فِيهِنَّ: في هذه الجِنانِ الأربَعِ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: ابنُ جرير، والسمرقنديُّ، والواحدي، والبغوي، والرَّسْعَني، والعُلَيمي، وابن عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/262)، ((تفسير السمرقندي)) (3/388)، ((الوسيط)) للواحدي (4/228)، ((تفسير البغوي)) (4/345)، ((تفسير الرسعني)) (7/577)، ((تفسير العليمي)) (6/495)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/273)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 322). وذهب الشوكاني إلى أنَّ هذه الصِّفةَ ليست عائدةً إلى الجِنانِ الأربَعِ، وذكَرَ أنَّه لا وَجْهَ لهذا؛ وعلَّل ذلك بأنَّه قد وَصَف نِساءَ الجنَّتَينِ الأُولَيَينِ بأنَّهنَّ قاصِراتُ الطَّرفِ كأنَّهنَّ الياقوتُ والمَرجانُ، قال: (وبَيْنَ الصِّفَتينِ بَونٌ بعيدٌ). ((تفسير الشوكاني)) (5/171). !
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71).
أي: فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ [488] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/263). ؟!
حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72).
أي: مِن وَصفِهنَّ أنَّهنَّ بِيضٌ شَديدٌ سوادُ أعيُنِهنَّ وبَياضُها [489] الحُورُ جَمعُ حَوراءَ، قيل: هي المرأةُ البيضاءُ، وقيل: الحَوراءُ: الشَّديدةُ بَياضِ بَياضِ العَينِ، والشَّديدةُ سَوادِ سَوادِ العَينِ. يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عُبَيدة (2/246)، ((تفسير القرطبي)) (16/152) و(17/188). وممَّن جمَع بيْن المعنيَينِ السَّابقَينِ: ابنُ عطيَّةَ، والعُلَيمي، فقالا: الحَوْراءُ هي البيضاءُ، القويَّةُ بياضِ بياضِ العَينِ، وسَوادِ سَوادِها. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/188)، ((تفسير العليمي)) (6/420). قال ابنُ القيِّم: (الصَّحيحُ أنَّ الحُورَ مأخوذٌ مِنَ الحَوَرِ في العَينِ: وهو شِدَّةُ بَياضِها مع قُوَّةِ سَوادِها، فهو يتضَمَّنُ الأمْرَينِ... ولا تُسَمَّى المرأةُ حَوراءَ حتَّى يكونَ مع حَوَرِ عَيْنِها بياضُ لَونِ الجَسَدِ). ((حادي الأرواح)) (ص: 219). ويُنظر ما تقدَّم في تفسيرِ سورةِ الطُّورِ، الآية (20). ، مَحجوباتٌ ومَحبوساتٌ في بُيوتِ اللُّؤلؤِ المُجَوَّفِ [490] يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/246)، ((تفسير ابن جرير)) (22/263، 264، 267)، ((تفسير ابن عطية)) (5/235)، ((تفسير القرطبي)) (17/188، 189)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 223، 224)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/190)، ((تفسير السعدي)) (ص: 832)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/273، 274)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 322). قال ابنُ عاشور: (المقصوراتُ: اللَّائي قُصِرْنَ على أزواجِهنَّ لا يَعْدُونَ الأُنسَ مع أزواجِهنَّ، وهو من صِفاتِ التَّرَفِ في نساءِ الدُّنيا؛ فهُنَّ اللَّائي لا يحتَجْنَ إلى مُغادرةِ بُيوتِهنَّ لخِدمةٍ أو وِردٍ أو اقتِطافِ ثِمارٍ، أي: هُنَّ مخدوماتٌ مُكْرَماتٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/274). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/120)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (8/279). وقال السعدي: (أي: محبوساتٌ في خِيامِ اللُّؤلؤِ، قد تهيَّأنَ وأعدَدْنَ أنفُسَهنَّ لأزواجِهنَّ، ولا يَنفي ذلك خُروجَهنَّ في البَساتينِ ورِياضِ الجنَّةِ، كما جَرَت العادةُ لبناتِ المُلوكِ ونَحوِهنَّ!). ((تفسير السعدي)) (ص: 832). وقال ابن القيِّم: (قال تعالى في وصْفِهنَّ: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ، المقصوراتُ: المحبوساتُ. قال أبو عُبَيدةَ: خُدِّرْنَ في الخيامِ. وكذلك قال مقاتلٌ: محبوساتٌ في الخِيامِ. وفيه معنًى آخَرُ، وهو أن يكونَ المرادُ: أنَّهنَّ مَحبوساتٌ على أزواجِهنَّ، لا يَرَوْنَ غيرَهم، وهم في الخيامِ. وهذا معنَى قولِ مَن قال: قُصِرْنَ على أزواجِهنَّ، فلا يُرِدْنَ غيرَهم، ولا يَطمَحْنَ إلى مَن سِواهم، وذكره الفرَّاءُ. قلتُ: وهذا معنى: قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ [الرحمن: 56]، ولكنَّ أولئك قاصِراتٌ بأنفُسِهنَّ، وهؤلاء مقصوراتٌ. وقولُه: فِي الْخِيَامِ على هذا القولِ صِفةٌ لـ حُورٌ، أي: هُنَّ في الخيامِ، وليس معمولًا لـ مَقْصُورَاتٌ، وكأنَّ أربابَ هذا القولِ فرُّوا مِن أن يَكُنَّ مَحبوساتٍ في الخيامِ، لا تُفارِقْنَها إلى الغُرَفِ والبَساتينِ. وأصحابُ القولِ الأوَّلِ يُجيبونَ عن هذا بأنَّ اللهَ سُبحانَه وصَفَهنَّ بصِفاتِ النِّساءِ المُخَدَّراتِ المَصوناتِ، وذلك أجملُ في الوصفِ، ولا يَلزَمُ مِن ذلك أنَّهنَّ لا يُفارِقْنَ الخيامَ إلى الغُرَفِ والبَساتينِ، كما أنَّ نساءَ الملوكِ وذَوِيهم مِن النِّساءِ المُخدَّراتِ المَصوناتِ لا يَمتنِعُ أن يَخرُجْنَ في سفَرٍ وغيرِه إلى مُتنزَّهٍ وبُستانٍ ونحوِه، فوَصْفُهنَّ اللَّازِمُ لهنَّ: القصرُ في البيتِ، ويَعرِضُ لهنَّ مع الخدَمِ الخُروجُ إلى البساتينِ ونحوِها. وأمَّا مجاهدٌ فقال: مقصوراتٌ قلوبُهُنَّ على أزواجِهِنَّ في خيامِ اللُّؤْلُؤِ). ((حادي الأرواح)) (ص: 223، 224). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/205)، ((معاني القرآن)) للفراء (3/120)، ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/246). .
عن أبي موسى الأَشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((في الجنَّةِ خَيمةٌ مِن لُؤلؤةٍ مُجَوَّفةٍ، عَرضُها سِتُّونَ مِيلًا، في كُلِّ زاويةٍ منها أهلٌ ما يَرَونَ الآخَرينَ، يَطوفُ عليهم المُؤمِنُ! )) [491] رواه البخاري (4879)، ومسلم (2838) واللَّفظُ له. .
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73).
أي: فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ [492] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/272). ؟!
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت أنفُسُ الأخيارِ، ذَوِي الهِمَمِ العاليةِ الكِبارِ، في الالتِفاتِ إلى الأبكارِ؛ قال [493] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/191). :
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74).
أي: لم يُجامِعْهنَّ فيَفتَضَّ بَكارتَهُنَّ قبْلَ أزواجِهنَّ أحَدٌ مِنَ الإنسِ أو الجِنِّ [494] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/272)، ((تفسير القرطبي)) (17/189)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 322، 323). .
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75).
أي: فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ [495] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/273). ؟!
مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76).
أي: يَتنَعَّمونَ بالاتِّكاءِ على ثيابٍ خَضراءَ فاخِرةٍ رَقيقةٍ مُتدَلِّيةٍ مِن فُرُشِهم، ومُتَّكِئينَ على بُسُطٍ فائِقةِ الجَمالِ، بديعةِ الصُّنعِ، حَسَنةِ المَنظَرِ [496] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/273، 276)، ((الوسيط)) للواحدي (4/230)، ((تفسير ابن عطية)) (5/236)، ((تفسير القرطبي)) (17/190، 192)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 207-209)، ((تفسير ابن كثير)) (7/509، 510)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/192)، ((تفسير السعدي)) (ص: 832)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/274، 275)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 323). ممَّن اختار أنَّ الرَّفْرَفَ هو ما تدلَّى مِن الأَسِرَّةِ مِن عالي الثِّيابِ: أبو حيَّان، والسَّمينُ الحلبي، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/53)، ((تفسير العليمي)) (6/496)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/186). وممَّن اختار أنَّ المرادَ بالرَّفرفِ: البُسُطُ: السمعانيُّ، وابنُ جُزَي. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/339)، ((تفسير ابن جزي)) (2/332). وقال ابن القيِّم: (والرَّفْرَفُ: ثيابٌ خُضْرٌ يُتَّخَذُ منها المحابسُ [وهي الثيابُ الَّتي تُطرَحُ على ظَهرِ الفِراشِ للنَّومِ عليه] الواحدةُ رَفْرَفةٌ، وكلُّ ما فضَل مِن شَيءٍ فثُنِيَ وعُطِف فهو رَفْرَفٌ). ((حادي الأرواح)) (ص: 208). وقال ابن الجوزي: (واختلَف المفسِّرونَ في المرادِ بالرَّفرفِ على ثلاثةِ أقوالٍ؛ أحدُها: فُضولُ المحابسِ والبُسُط... والثَّاني: أنَّها رياضُ الجنَّةِ... والثَّالثُ: أنَّها الوسائدُ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/217). وقال القرطبي: (قولُه تعالَى: مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ الرَّفْرَفُ المحابِسُ. وقال ابنُ عَبَّاسٍ: الرَّفْرَفُ فضولُ الفُرُشِ والبُسُطِ. وعنه أيضًا: الرَّفْرَفُ المحابِسُ يَتَّكِئونَ على فضولِها، وقالَه قَتادةُ. وقال الحسنُ والقُرَظيُّ: هي البُسُطُ. وقال ابنُ عُيَيْنَةَ: هي الزَّرابيُّ. وقال ابنُ كَيْسانَ: هي المرافقُ، وقالَه الحسَنُ أيضًا... وقال اللَّيثُ: ضَرْبٌ مِن الثِّيابِ الخضْرِ تُبْسَطُ. وقيلَ: الفُرُشُ المرتفعةُ. وقيل: كلُّ ثوبٍ عريضٍ عندَ العربِ فهو رَفْرَفٌ... وهذه أقوالٌ مُتَقارِبَةٌ). ((تفسير القرطبي)) (17/190). وقال السعدي: (أي: أصحابُ هاتينِ الجنَّتينِ مُتَّكَؤُهم على الرَّفرفِ الأخضَرِ، وهي الفُرُشُ الَّتي فوق المجالسِ العاليةِ، الَّتي قد زادت على مجالِسِهم، فصار لها رَفرفةٌ مِن وراءِ مَجالِسِهم؛ لزيادةِ البَهاءِ، وحُسنِ المنظَرِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 832). وقال ابنُ عثيمين: (أي: مُعتَمِدينَ بأيديهم وظُهورِهم عَلَى رَفْرَفٍ أي: على مَسانِدَ تُرفرِفُ مِثلَ ما يكونُ على أطرافِ المسانِدِ، ويكونُ في الأسِرَّةِ، هكذا يُرفرِفُ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 323). وقال ابن الجوزي: (قوله تعالى: وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ فيه قَولانِ: أحدُهما: أنَّها الزَّرابيُّ -كُلُّ ما بُسِطَ واتُّكِئَ عليه-، قاله ابنُ عبَّاسٍ، وعَطاءٌ، وقَتادةُ، والضَّحَّاكُ، وابنُ زَيدٍ، وكذلك قال ابنُ قُتَيْبةَ: العَبقريُّ: الطَّنَافِسُ -بِساطٌ له خَمْلٌ رَقيقٌ- الثِّخانُ. قال أبو عُبَيدةَ: يُقالُ لكُلِّ شَيءٍ مِنَ البُسُطِ: عَبقريٌّ. والثَّاني: أنَّه الدِّيباجُ الغَليظُ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/217). ويُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/246)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 444). وقال ابنُ جرير: (وأمَّا العَبقريُّ فإنَّه الطَّنافِسُ الثِّخانُ، وهي جمْعٌ، واحِدُها: عَبقريَّةٌ، وقد ذُكِرَ عن العربِ أنَّها تُسمِّي كُلَّ شَيءٍ مِنَ البُسُطِ عَبقريًّا). ((تفسير ابن جرير)) (22/276). وقال ابن عاشور: (عَبقريٌّ: وَصفٌ لِما كان فائِقًا في صِنفِه، عَزيزَ الوُجودِ، وهو نِسبةٌ إلى عَبْقَرٍ -بفَتحٍ فسُكونٍ ففَتحٍ-: اسمُ بلادِ الجِنِّ في مُعتَقَدِ العَرَبِ، فنَسَبوا إليه كُلَّ ما تجاوَزَ العادةَ في الإتقانِ والحُسنِ، حتَّى كأنَّه ليس مِنَ الأصنافِ المعروفةِ في أرضِ البَشَرِ!). ((تفسير ابن عاشور)) (27/275). وقال السعدي: (وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ العَبْقريُّ: نِسبةٌ لكُلِّ مَنسوجٍ نَسجًا حَسَنًا فاخِرًا؛ ولهذا وَصَفَها بالحُسنِ الشَّامِلِ؛ لحُسنِ الصَّنعةِ، وحُسنِ المنظَرِ، ونُعومةِ المَلمَسِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 832). !
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77).
أي: فبأيِّ نِعَمِ رَبِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ [497] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/278). ؟!
تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا خَتَم سُبحانَه نِعَمَ الدُّنيا بقَولِه تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 27]، خَتَم نِعَمَ الآخِرةِ بقَولِه: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ؛ إشارةً إلى أنَّ الباقيَ والدَّائِمَ لِذَاتِه هو اللهُ تعالى لا غَيرُ، والدُّنيا فانيةٌ، والآخِرةُ وإن كانت باقيةً لكِنَّ بقاءَها بإبقاءِ اللهِ تعالى [498] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/382). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى سَعةَ فَضلِه وإحسانِه؛ قال [499] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 832). :
تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ بالواوِ رَفعًا على الوَصفِ لـ اسْمُ [500] قرأ بها ابنُ عامر. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/382). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 340)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/48). .
2- قراءةُ: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ بالياءِ جَرًّا على الوَصفِ لـ رَبِّكَ [501] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/382). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 340)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/48). .
تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78).
أي: تَبارَكَ اسمُ رَبِّك -يا محمَّدُ- فالبَرَكةُ كلُّها منه، فكلُّ ما ذُكِر عليه بُورِك فيه [502] قال ابن أبي زمنين: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ: تقدَّسَ اسْمُ رَبِّك). ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/335). وقال العُلَيمي: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ تعالى اسمُه مِن حَيثُ إنَّه مُطلَقٌ على ذاتِه، فما ظَنُّك بذاتِه). ((تفسير العليمي)) (6/497). وقال السعدي: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ أي: تعاظَمَ وكَثُرَ خَيرُه، الَّذي له الجَلالُ الباهِرُ، والمجدُ الكامِلُ، والإكرامُ لأوليائِه). ((تفسير السعدي)) (ص: 832). وقال ابن عثيمين: (تَبَارَكَ: قال العُلَماءُ: معناها: تعالى وتعاظَمَ إنْ وُصِفَ بها اللهُ، كقَولِه تعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنين: 14]، وإنْ وُصِفَ بها اسمُ اللهِ، معناها: أنَّ البَرَكةَ تكونُ باسمِ اللهِ، أي: إنَّ اسمَ اللهِ إذا صاحَبَ شَيئًا، صارت فيه البَرَكةُ... فنقول: إنَّ فَتَبَارَكَ هنا ليست بمعني: تعالى وتعاظَمَ، بل: يتعَيَّنُ أن يكونَ معناها: حَلَّت البَرَكةُ باسمِ اللهِ، أي: إنَّ اسمَه سَبَبٌ للبَرَكةِ إذا صَحِبَ شَيئًا). ((شرح العقيدة الواسطية)) (1/349، 350). وقيل: الاسمُ هنا يُرادُ به المسَمَّى. وممَّن اختاره: ابنُ عطيَّة، وابنُ جُزَي، والقاسميُّ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/237)، ((تفسير ابن جزي)) (2/332)، ((تفسير القاسمي)) (9/114). قال القاسمي: (و «الاسمُ» هنا كنايةٌ عن الذَّاتِ العَليَّةِ؛ لأنَّه كَثُر اقتِرانُ الفِعلِ المذكورِ معها، كآيةِ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا [الفرقان: 61] ، وآيةِ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك: 1] ونحوِهما، وسِرُّ إيثارِ الاسمِ: التَّنبيهُ على أنَّه لا يُعرَفُ منه تعالى إلَّا أسماؤه الحُسنى [أي: وما تضَمَّنَتْه مِن أوصافِ الكمالِ، وكذا أوصافُه الَّتي دلَّ عليها النَّقلُ]؛ لاستِحالةِ اكتِناهِ الذَّاتِ المقَدَّسةِ، فما عَرَفَ اللهَ إلَّا اللهُ. هذا هو التَّحقيقُ). ((تفسير القاسمي)) (9/114). وقال ابنُ تيميَّة: (قال ابنُ الأنبارِيِّ وغيرُه: تَبَارَكَ تفاعَلَ مِن البَرَكةِ، والمعنَى: أنَّ البركةَ تُكتسَبُ وتُنالُ بذِكرِ اسمِه، فلو كان لفظُ الاسمِ مَعْناه المسمَّى لَكانَ يكفي قولُه: «تبارَكَ رَبُّك»؛ فإنَّ نفْسَ الاسمِ عندَهم هو نفْسُ الرَّبِّ، فكان هذا تكريرًا. وقد قال بعضُ النَّاسِ: إنَّ ذِكْرَ الاسمِ هنا صِلَةٌ، والمرادُ تبارَكَ رَبُّك، ليسَ المرادُ الإخبارَ عن اسمِه بأنَّه تبارَكَ. وهذا غَلَطٌ؛ فإنَّه على هذا يكونُ قولُ المصَلِّي: تَبارَكَ اسمُك، أي: تبارَكْتَ أنت، ونَفْسُ أسماءِ الرَّبِّ لا برَكةَ فيها! ومعلومٌ أنَّ نفْسَ أسْمائِه مُبارَكةٌ، وبَركَتُها مِن جهةِ دَلالَتِها على المسمَّى). ((مجموع الفتاوى)) (6/193). ، صاحِبِ العَظَمةِ الباهِرةِ، المُستَحِقِّ لتَعظيمِه وعِبادتِه، والمُكرِمِ عِبادَه بنِعَمِه، المُستَحِقِّ للإكرامِ والحُبِّ مِن جَميعِ خَلْقِه [503] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/205)، ((تفسير ابن جرير)) (22/278)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 186)، ((تفسير ابن كثير)) (7/510)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/194)، ((تفسير السعدي)) (ص: 832)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/276، 278)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 324-325). قال الماوَرْدي: (في ذِي الْجَلَالِ وَجْهانِ؛ أحدُهما: أنَّه الجليلُ. الثَّاني: أنَّه المستَحِقُّ للإجلالِ والإعظامِ. وفي «الإكرامِ» وجهانِ؛ أحَدُهما: الكريمُ. الثَّاني: ذو الإكرامِ لِمن يُطيعُه). ((تفسير الماوردي)) (5/444). وقال ابنُ جرير: (ذِي الْجَلَالِ يعني: ذي العَظَمةِ وَالْإِكْرَامِ يعني: ومَن له الإكرامُ مِن جَميعِ خَلْقِه). ((تفسير ابن جرير)) (22/278). وقال ابنُ القَيِّم: (حقيقةُ العِبادةِ هي الحُبُّ والذُّلُّ، وهذا هو الإجلالُ والإكرامُ الَّذي وَصَف به نفْسَه في قَولِه سُبحانَه وتعالى: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وأصَحُّ القولَينِ في ذلك: أنَّ الجَلالَ هو التَّعظيمُ، والإكرامَ هو الحُبُّ). ((جلاء الأفهام)) (ص: 186). قال ابنُ عثيمين: (الْجَلَالِ بمعني: العَظَمةِ. وَالْإِكْرَامِ بمعني: التَّكريمِ، وهو صالِحٌ لأن يكونَ الإكرامُ مِن اللهِ لِمَن أطاعه، وممَّن أطاعه له. فـ الْجَلَالِ: عَظَمتُه في نفْسِه، وَالْإِكْرَامِ: عَظَمتُه في المؤمِنينَ، فيُكرِمونَه ويُكرِمُهم). ((شرح العقيدة الواسطية)) (1/350). وقال البِقاعي: (قال الرَّازي في «اللَّوامِعِ»: كأنَّه يريدُ بالاسمِ الَّذي افتَتَح به السُّورةَ، وقد انعَطَف آخِرُ السُّورةِ على أوَّلِها على وَجهٍ أعَمَّ، فيَشملُ الإكرامَ بتَعليمِ القُرآنِ وغَيرِه، والانتِقامَ بإدخالِ النِّيرانِ وغَيرِها). ((نظم الدرر)) (19/194). .

الفوائد التربوية:

1- إنَّ الصِّفاتِ الأخلاقيَّةَ تُزاحِمُ الصِّفاتِ المادِّيَّةَ في نعتِ هؤلاء الرَّفيقاتِ العُلويَّاتِ، ليس ذلك فحَسْبُ، ولكنِ العنصرُ الأخلاقيُّ يَتقدَّمُ على المادِّيِّ، ومِن ثَمَّ وجَدْنا: أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ [البقرة: 25] [النساء: 57] ، وفِيهِنَّ خَيْرَاتٌ -أوَّلًا- حِسَانٌ، وقَاصِرَاتُ الطَّرْفِ -أوَّلًا- عِينٌ [الصافات: 48] ، قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ [ص: 52] ، وهنَّ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ، لا يَبرَحْنَها. هذه الصِّفاتُ الأخلاقيَّةُ ذاتُها هي الَّتي أمَرَنا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن نبنيَ عليها اختيارَنا الزَّوْجيَّ، فقال: ((تُنكَحُ المرأةُ لِأربَعٍ: لِمالِها، ولحَسَبِها، وجمالِها، ولدِينِها، فاظفَرْ بذاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَداك )) [504] يُنظر: ((دستور الأخلاق في القرآن)) لمحمد عبد الله دراز (ص: 386، 387). والحديث أخرجه البخاريُّ (5090)، ومسلمٌ (1466) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رضيَ الله عنه. .
2- قال تعالى: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ فأثنى عليهنَّ بكَونِهنَّ مَقصوراتٍ في خِيامِهنَّ، لا يَخرُجْنَ منها، كما قال تعالى لأزواجِ نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب: 33] ، وكَونُ المرأةِ مَقصورةً في بيتِها لا تخرُجُ منه مِن صِفاتِها الجميلةِ، وذلك معروفٌ في كلامِ العربِ [505] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/313، 314). ؛ وذلك لأنَّ الصِّيانةَ تَصونُ ماءَ الملاحةِ ومعناها، والابتِذالَ يُذهِبُ ذلك كلَّه [506] يُنظر: ((رحلة الحج إلى بيت الله الحرام)) للشنقيطي (ص: 68). .
 3- في قَولِه تعالى: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ أنَّه إذا عَلِمْنا أنَّ اللهَ تعالى مَوصوفٌ بالجَلالِ فإنَّ ذلك يَستوجِبُ أنْ نُعَظِّمَه، وأنْ نُجِلَّه، وإذا عَلِمْنا أنَّه مَوصوفٌ بالإكرامِ فإنَّ ذلك يَستوجِبُ أنْ نرجوَ كَرَمَه وفَضْلَه، وبذلك نُعَظِّمُه بما يَستَحِقُّه مِن التَّعظيمِ والتَّكريمِ [507] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (1/355). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ سُؤالٌ: كيف انقَسَمتْ هذه الجِنانُ الأربَعُ على مَن خاف مَقامَ رَبِّه؟
الجوابُ: لَمَّا كان الخائِفونَ نَوعَينِ: مُقَرَّبينَ، وأصحابَ يمينٍ، كان للمُقَرَّبِينَ منهم الجَنَّتانِ العاليتانِ، ولأصحابِ اليَمينِ الجَنَّتانِ اللَّتانِ دُونَهما [508] يُنظر: ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 104). .
2- في قَولِه تعالى: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ أنَّ هاتَينِ الجنَّتَينِ دونَ الجنَّتَينِ الأُولَيَينِ، وكما وَصَف الأُولَيَينِ بعِدَّةِ أوصافٍ لم يَصِفْ بها الأُخرَيَينِ؛ فقال في الأُولَيَينِ: فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ [الرحمن: 50]، وفي الأُخرَيَينِ: عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ، ومِنَ المعلومِ الفَرقُ بيْنَ الجاريةِ والنَّضَّاخةِ، وقال في الأُولَيَينِ: ذَوَاتَا أَفْنَانٍ [الرحمن: 48]، ولم يَقُلْ ذلك في الأُخرَيَينِ، وقال في الأُولَيَينِ: فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ [الرحمن: 52]، وفي الأُخرَيَينِ: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ، وقد عُلِمَ ما بيْنَ الوَصفَينِ مِنَ التَّفاوُتِ، وقال في الأُولَيَينِ: مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ [الرحمن: 54]، ولم يَقُلْ ذلك في الأُخرَيَينِ، بل قال: مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ، وقال في الأُولَيَينِ -في وَصفِ نِسائِهم وأزواجِهم-: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ [الرحمن: 56]، وقال في الأُخرَيَينِ: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ، وقد عُلِمَ التَّفاوُتُ بيْنَ ذلك، وقال في الأُولَيَينِ: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن: 60]؛ فدَلَّ ذلك على أنَّ الأُولَيَينِ جَزاءُ المُحسِنينَ، ولم يَقُلْ ذلك في الأُخرَيَينِ، ومجَرَّدُ تَقديمِ الأُولَيَينِ على الأُخرَيَينِ يدُلُّ على فَضلِهما، فبهذه الأوجُهِ يُعرَفُ فَضلُ الأُولَيَينِ على الأُخرَيَينِ، وأنَّهما مُعَدَّتانِ للمُقَرَّبينَ مِنَ الأنبياءِ والصِّدِّيقينَ وخَواصِّ عِبادِ اللهِ الصَّالِحينَ، وأنَّ الأُخرَيَينِ مُعَدَّتانِ لعُمومِ المُؤمِنينَ [509] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 832). . وقيل: جَعَل عزَّ وجَلَّ لِمَن خاف مَقامَ رَبِّه -وهو الرَّجُلُ يَهُمُّ بالمعصيةِ، ثمَّ يَدَعُها مِن خَوفِ اللهِ- أربَعَ جِنانٍ؛ لِيَتضاعَفَ سُرورُه بالتَّنَقُّلِ [510] يُنظر: ((باهر البرهان)) لبيان الحق الغزنوي (3/1441). .
3- قَولُه تعالى: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ يَحتَجُّ به مَن يُخرِجُ الرُّمَّانَ والنَّخلَ مِن مُطلَقِ اسمِ الفاكِهةِ؛ لأنَّ الشَّيءَ لا يُعطَفُ على نَفْسِه، وإنَّما يُعطَفُ على غَيرِه، هذا ظاهِرُ الكَلامِ. والشَّافعيُّ يقولُ: هو كقَولِه تعالى: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [511] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لِلْكِيَا الهَرَّاسي (4/397)، ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 253). ويُنظر ما سيأتي في بلاغةِ الآياتِ (ص: 346). [البقرة: 98] .
4- في قَولِه تعالى: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ أنَّ التَّقديمَ ليس لازِمًا للفَضلِ، فلَمْ يَدُلَّ التَّقديمُ فيها على فَضْلِ المبدوءِ به [512] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/386). .
5- قال عزَّ وجَلَّ: فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ وقال قَبْلًا: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ [الرحمن: 56]، إنْ قيلَ: كيف قال في ذِكْرِ النِّساءِ: فِيهِنَّ في الموضِعَين، ولَمَّا ذَكَرَ غيرَهُنَّ قال: «فيهما»؟!
قيل: لَمَّا ذَكَر الفُرُشَ في قَولِه تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ [الرحمن: 54] قال بَعْدَها: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ، ثمَّ أعاده هنا في الجَنَّتَينِ الأُخرَيَينِ بهذا اللَّفظِ؛ لِيَتشاكَلَ اللَّفظُ والمعنى. واللهُ أعلَمُ [513] يُنظر: ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 105). .
6- في قَولِه تعالى: فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ أنَّهنَّ خَيْراتُ الأخلاقِ، حِسانُ الأوجُهِ؛ فجَمَعْنَ بيْنَ جَمالِ الظَّاهِرِ والباطِنِ، وحُسْنِ الخَلْقِ والخُلُقِ [514] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 831). .
7- في قَولِه تعالى: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ إشارةٌ إلى عَظَمتِهنَّ؛ فإنَّهنَّ ما قُصِرْنَ حَجرًا عليهِنَّ، وإنَّما ذلك إشارةٌ إلى ضَربِ الخِيامِ لهنَّ، وإدلاءِ السِّترِ عليهنَّ، والخَيمةُ مَبِيتُ الرَّجُلِ كالبَيتِ مِن الخَشَبِ، حتَّى إنَّ العَرَبَ تُسَمِّي البَيتَ مِنَ الشَّعرِ خيمةً؛ لأنَّه مُعَدٌّ للإقامةِ.
 إذا ثَبَت هذا، فقَولُه: مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ إشارةٌ إلى معنًى في غايةِ اللُّطفِ، وهو أنَّ المؤمِنَ في الجنَّةِ لا يحتاجُ إلى التَّحَرُّكِ لشَيءٍ، وإنَّما الأشياءُ تتحَرَّكُ إليه؛ فالمأكولُ والمشروبُ يَصِلُ إليه مِن غيرِ حَركةٍ منه، ويُطافُ عليهم بما يَشتَهونَه [515] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/380). !
8- في قَولِه تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ أنَّ الحُورَ العِينَ لَسْنَ مِن نِساءِ أهلِ الدُّنيا -وهو المَشهورُ-، وإنَّما هُنَّ مَخلوقاتٌ في الجنَّةِ؛ فإنَّ أكثَرَ نِساءِ أهلِ الدُّنيا مَطْموثاتٌ [516] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (18/361). .
9- بهذه الآيةِ: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ تَمَّت النِّعَمُ الثَّمانِي المُختَصَّةُ بجَنَّةِ أصحابِ اليَمينِ؛ إشارةً إلى العَمَلِ لأبوابِها الثَّمانيةِ [517] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/193). .
10- قال اللهُ تعالى: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ قَولُه تعالى: ذِي الْجَلَالِ (ذي) صِفةٌ لـ (رَبِّكَ)، وكأنَّه يريدُ الاسمَ الَّذي افتَتَح به السُّورةَ، فقال: الرَّحْمَنُ [الرحمن: 1]، فافتتَحَ بهذا الاسمِ، فوَصَف خَلْقَ الإنسانِ والجِنِّ، وخَلْقَ السَّمَواتِ والأرضِ، وصُنْعَه، وأنَّه كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29]، ووَصَف تَدبيرَه فيهم، ثمَّ وَصَف يومَ القيامةِ وأهوالَها وصِفةَ النَّارِ، ثمَّ خَتَمها بصِفةِ الجِنانِ، ثمَّ قال في آخِرِ السُّورةِ: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ أي: هذا الاسمُ الَّذي افتَتَح به هذه السُّورةَ، كأنَّه يُعْلِمُهم أنَّ هذا كُلَّه خرَج لكم مِن رحمتي؛ فمِن رحمتي خلَقْتُكم، وخلَقْتُ لكم السَّماءَ والأرضَ، والخَلْقَ والخليقةَ، والجنَّةَ والنَّارَ؛ فهذا كُلُّه لكم مِن اسمِ الرَّحمنِ؛ فمَدَح اسمَه، ثمَّ قال: ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ جَليلٌ في ذاتِه، كريمٌ في أفعالِه سُبحانَه وتعالى [518] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/193)، ((تفسير ابن عادل)) (18/366). .
11- في قَولِه تعالى: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ خَتَمَ اللهُ تبارك وتعالى هذه السُّورةَ بهذه الجُملةِ العَظيمةِ، أي: ما أعظَمَ بَرَكةَ اللهِ عزَّ وجلَّ! وما أعظَمَ البَرَكةَ باسمِه! حتَّى إنَّ اسمَ اللهِ يُحَلِّلُ الذَّبيحةَ أو يُحَرِّمُها؛ لو ذَبَحَ الإنسانُ ذبيحةً ولم يَقُلْ: باسمِ اللهِ، تكونُ مَيْتةً حَرامًا نَجِسةً، مُضِرَّةً على البَدَنِ؛ قال اللهُ تعالى: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام: 121] ، فانظُرِ البَرَكةَ! والإنسانُ إذا رأى الصَّيدَ الزَّاحِفَ أوِ الطَّائِرَ فرَماه ولم يُسَمِّ، يكونُ هذا الصَّيدُ حَرامًا مَيْتةً نَجِسًا مُضِرًّا على البَدَنِ، فانظُرِ البَرَكةَ! والإنسانُ إذا أتى أهلَه -يعني: جامَعَ زوجتَه- وقال: «باسمِ اللهِ، اللَّهمَّ جَنِّبْنا الشَّيطانَ، وجَنِّبِ الشَّيطانَ ما رَزَقْتَنا» كان هذا حمايةً لهذا الوَلَدِ الَّذي يَنشَأُ مِن هذا الجِماعِ؛ حِمايةً له مِن الشَّيطانِ؛ قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لو أنَّ أحدَهم إذا أراد أن يأتيَ أهلَه قال: باسمِ اللهِ، اللهمَّ جَنِّبْنا الشَّيطانَ، وجَنِّبِ الشَّيطانَ ما رَزَقْتَنا؛ فإنَّه إنْ يُقَدَّرْ بيْنَهما وَلَدٌ في ذلك لم يَضُرَّه الشَّيطانُ أبدًا)) [519] أخرجه البخاريُّ (6388)، ومسلمٌ (1434) مِن حديثِ عبدِ الله بنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما. ، وكلُّ هذا دَليلٌ على بَرَكةِ اسمِ اللهِ عزَّ وجلَّ [520] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 324). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُدْهَامَّتَانِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- قولُه: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ عطْفٌ على قولِه: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن: 46]، أي: ومِن دُونِ تَينِكَ الجنَّتينِ جنَّتانِ، أي: لِمَن خاف مَقامَ ربِّه [521] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/272). .
- وقدْ وَصَف ما في هاتَينِ الجنَّتينِ بما يُقارِبُ ما وَصَف به ما في الجنَّتينِ الأُوليَينِ وصْفًا سُلِكَ فيه مَسلَكُ الإطنابِ أيضًا؛ لبَيانِ حُسْنِهما؛ تَرغيبًا في السَّعْيِ لنَيلِهما بتَقْوى اللهِ تعالى، فذلك مُوجِبٌ تَكريرَ بَعضِ الأوصافِ، أو ما يَقرُبُ مِن التَّكريرِ بالمُترادِفاتِ [522] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/272). .
- وقولُه: مُدْهَامَّتَانِ صِفةٌ لـ جَنَّتَانِ، وُسِّطَ بيْنَهما الاعتِراضُ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ؛ لِما ذُكِر مِن التَّنبيهِ على أنَّ تَكذيبَ كلٍّ مِن الموصوفِ والصِّفةِ حَقيقٌ بالإنكارِ والتَّوبيخِ [523] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/186). .
- وقولُه: مُدْهَامَّتَانِ وصْفٌ مُشتَقٌّ مِن الدُّهمةِ، وهي لَونُ السَّوادِ، ووَصْفُ الجنَّتينِ بالسَّوادِ مُبالَغةٌ في شِدَّةِ خُضرةِ أشجارِهما حتَّى تَكونَا بالْتِفافِ أشجارِها وقُوَّةِ خُضرتِها كالسَّوداوَينِ؛ لأنَّ الشَّجرَ إذا كان ريَّانَ اشتدَّتْ خُضرةُ أوراقِه حتَّى تَقرُبَ مِن السَّوادِ [524] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/186)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/272). .
- قولُه: مُدْهَامَّتَانِ قيل: فيه إشعارٌ بأنَّ الغالبَ على هاتَينِ الجنَّتينِ النَّباتُ والرَّياحينُ المنبسِطةُ على وجْهِ الأرضِ، وعلى الأُوليَينِ الأشجارُ والفواكهُ [525] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/186). ؛ فإنَّ الأشجارَ توصَفُ بأنَّها ذَواتُ أفنانٍ، والنَّباتَ يوصَفُ بالخُضرةِ الشَّديدةِ، فالاقتِصارُ في كلٍّ منهما على أحدِ الأمْرَينِ مُشعِرٌ بما ذُكِر [526] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (14/120). .
- وُصِفَتِ العَينانِ في قولِه: فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ بغَيرِ ما وُصِفَت به العَينانِ في الجنَّتينِ المذكورتينِ قبْلُ؛ فقِيل: هما صِنفانِ مُختلِفانِ في أوصافِ الحُسنِ، يُشيرُ اختِلافُهما إلى أنَّ هاتَينِ الجنَّتينِ دونَ الأُوليَينِ في المَحاسِنِ؛ ولذلك جاء هنا فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ، وجاء فيما تَقدَّم فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ [الرحمن: 52]. وقيل: الوصْفانِ سَواءٌ؛ وعليه فالمُخالَفةُ بيْنَ الصِّنفَينِ مِن الأوصافِ تَفنُّنٌ [527] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (14/120)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/272). .
- قولُه: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ، عطَفَ النَّخلَ والرُّمَّانَ على الفاكهةِ -وهما منْها-؛ اختِصاصًا لهما، وبَيانًا لفضْلِهما وشَرَفِهما؛ فإنَّهما كأنَّهما مِن المَزيَّةِ جِنسانِ آخَرانِ، فهذا العطْفُ مِن بابِ عطْفِ الجُزئيِّ على الكُلِّيِّ؛ تَنويهًا ببَعضِ أفرادِ الجنَّتينِ، أو لأنَّ النَّخلَ ثَمرةُ فاكهةٍ وطَعامٍ، والرُّمَّانَ فاكهةٌ ودَواءٌ؛ فلم يَخْلُصَا للتَّفكُّهِ [528] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/453)، ((تفسير البيضاوي)) (5/175)، ((تفسير أبي حيان)) (10/70)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 175)، ((تفسير أبي السعود)) (8/186)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/273)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/421). .
- وهذا كقولِه تَعالى: فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ [الرحمن: 52]؛ وذلك لأنَّ الفاكهةَ أرضيَّةٌ -نحْو البِطِّيخِ وغيرِه مِن الأرضيَّاتِ المزروعاتِ- وشَجريَّةٌ -نحْو النَّخلِ وغيرِه مِن الشَّجَريَّاتِ-؛ فقال: مُدْهَامَّتَانِ بأنواعِ الخُضَرِ الَّتي منها الفواكهُ الأرضيَّةُ، وفيهما أيضًا الفواكهُ الشَّجَريَّةُ، وذَكَر منها نَوعَينِ -وهما الرُّمَّانُ والرُّطَبُ-؛ لأنَّهما مُتقابِلانِ؛ فأحدُهما حُلوٌ والآخرُ غيرُ حُلوٍ، وكذلك أحدُهما حارٌّ، والآخرُ بارِدٌ، وأحدُهما فاكهةٌ وغِذاءٌ، والآخَرُ فاكهةٌ، وأحدُهما مِن فَواكهِ البلادِ الحارَّةِ، والآخرُ مِن فَواكهِ البلادِ الباردةِ، وأحدُهما أشجارُه في غايةِ الطُّولِ، والآخرُ أشجارُه بالضِّدِّ، وأحدُهما ما يُؤكَلُ منه بارزٌ وما لا يُؤكَلُ كامنٌ، والآخرُ بالعكسِ؛ فهما كالضِّدَّينِ، والإشارةُ إلى الطَّرَفينِ تَتناوَلُ الإشارةَ إلى ما بيْنَهما؛ كما قال: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [529] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/380). [الرحمن: 17].
- وجاءتْ جُملُ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُعترِضاتٍ بيْنَ جَنَّتَانِ وصِفاتِها؛ اعتِراضًا للازديادِ مِن تَكريرِ التَّقريرِ والتَّوبيخِ لِمَن حُرِموا مِن تلك الجنَّاتِ [530] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/273). .
2- قولُه تعالَى: فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- قولُه: فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ضَميرُ فِيهِنَّ عائدٌ إلى الجنَّاتِ الأربعِ -على قولٍ-: الجنَّتينِ الأُوليَينِ، والجنَّتَين اللَّتَينِ مِن دُونِهما، فيَجوزُ أنْ يكونَ لصاحبِ الجنَّتَينِ الأُوليَينِ جَنَّتانِ أُخريانِ؛ فصارت له أربعُ جنَّاتٍ، ويجوزُ أنْ يكونَ تَوزيعًا على مَن خافوا ربَّهم [531] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/273). .
- وخَيْرَاتٌ صِفةٌ لمَحذوفٍ يُناسِبُ صِيغةَ الوصْفِ، أي: نِساءٌ خَيْراتٌ، و(خَيْراتٌ) مُخفَّفٌ مِن خَيِّراتٍ بتَشديدِ الياءِ؛ مُؤنَّثِ خَيِّرٍ، وهو المُختَصُّ بأنَّ صِفتَه الخيرُ ضِدَّ الشَّرِّ. وخُفِّفَ في الآيةِ؛ طلَبًا لخِفَّةِ اللَّفظِ، معَ السَّلامةِ مِن اللَّبسِ بما أُتبِعَ به مِن وَصفِ حِسَانٌ الَّذي هو جمْعُ حَسناءَ [532] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/273). .
3- قولُه تعالَى: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- قولُه: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ فيه وصْفُ نِساءِ الجَنَّتينِ الأُولييْنِ بأنَّهنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ، ووصْفُ نِساءِ الجنَّاتِ الأربعِ بأنهنَّ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ؛ فعُلِم أنَّ الصِّفاتِ الثَّابتةَ لنِساءِ الجنَّتينِ واحِدةٌ [533] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/274). .
- واعتُرِضَ بجُملةِ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ بيْن البَدَلِ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ والمُبدَلِ منْه حُورٌ، وبيْن الصِّفتَينِ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ؛ لقَصْدِ التَّكريرِ في كلِّ مَكانٍ يَقْتضيهِ [534] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/274). .
4- قولُه تعالَى: مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- قولُه: مُتَّكِئِينَ حالٌ مِن وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ، كُرِّرَت بدونِ عطْفٍ؛ لأنَّها في مَقامِ تَعدادِ النِّعمِ، وهو مَقامٌ يَقْتضي التَّكريرَ استِئنافًا. أو حالٌ حُذِفَ عامِلُه، أي: يَتنعَّمون، أو نُصِبَ على الاختِصاصِ [535] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/454)، ((تفسير أبي حيان)) (10/71)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/274)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/420). .
- وقولُه: رَفْرَفٍ خُضْرٍ الرَّفرفُ: ضَرْبٌ مِن البُسطِ، وهو اسمُ جمْعِ رَفرفةٍ، وهي ما يُبسَطُ على الفِراشِ ليُنامَ عليه، وهي تُنسَجُ على شِبهِ الرِّياضِ، ويَغلِبُ عليها اللَّونُ الأخضرُ، فوصْفُ الرَّفرفِ بأنَّها خُضْرٌ وصْفٌ كاشفٌ؛ لاستِحضارِ اللَّونِ الأخضرِ؛ لأنَّه يَسُرُّ النَّاظرَ [536] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/274، 275). .
- و(عَبْقَرِيٌّ) وصْفٌ لِمَا كان فائقًا في صِنفِه، عَزيزَ الوجودِ؛ فضَرَبه القرآنُ مثَلًا لِما هو مألوفٌ عندَ العرَبِ في إطلاقِه [537] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/274). .
- وقولُه: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ تَكريرٌ في آخِرِ الأوصافِ؛ لزِيادةِ التَّقريرِ والتَّوبيخِ [538] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/274). .
5- قولُه تعالَى: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ لَمَّا ختَمَ تعالى نِعَمَ الدُّنيا بقولِه: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 27]، ختَمَ نِعَمَ الآخرةِ بقولِه: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وناسَبَ هنالك ذِكرُ الوصفِ بالبَقاءِ والدَّيمومةِ له تعالى؛ إذ ذُكِرَ فَناءُ العالَمِ، وناسَبَ هنا ذِكرُ ما اشتُقَّ مِن البَرَكةِ -وهي النُّموُّ والزِّيادةُ-؛ إذ جاء ذلك عَقِبَ ما امتنَّ به على المؤمنينَ، وما آتاهُم في دارِ كَرامتِه مِن الخَيرِ وزِيادتِه ودَيمومتِه [539] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/72). .
- وأيضًا قولُه: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ تَنزيهٌ وتَقديسٌ له سُبحانَه تعالَى، فيه تَقريرٌ لِمَا ذُكِرَ في السُّورة الكَريمةِ مِن آلائِه الفائِضةِ على الأنامِ، أي: تعالَى اسمُه الجليلُ الَّذي مِن جُمْلتِه ما صُدِّرتْ به السُّورةُ مِن اسمِ الرَّحمنِ المُنبئِ عن إفاضتِه الآلاءَ المُفصَّلةَ، وارتفَعَ عمَّا لا يَليقُ بشأنِه مِن الأمورِ الَّتي مِن جُملتِها جُحودُ نَعمائِه وتَكذيبُها. وإذا كان حالُ اسمِه بمُلابَسةِ دَلالتِه عليه؛ فما ظنُّك بذاتِه الأقدسِ الأَعْلى [540] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/187). ؟!
- قولُه: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ إيذانٌ بانتِهاءِ الكلامِ، وفَذْلَكةٌ [541] الفَذْلَكةُ: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكَةً، أي: أَنْهاهُ وفَرَغَ مِنْه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أولًا وخُلاصتَه. و(الفَذْلكةُ) كلمةٌ منحوتةٌ كـ (البَسملة) و(الحوقلة)، من قولِهم: (فذَلِكَ كذَا وكذَا عددًا). ويُرادُ بالفَذْلَكةِ النَّتيجةُ لِمَا سبَق مِن الكلامِ، والتَّفريعُ عليه، ومنها فَذْلَكةُ الحِسابِ، أي: مُجمَلُ تفاصيلِه، وإنهاؤُه، والفراغُ منه، كقولِه تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بعدَ قولِه: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة: 196] . يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (27/293)، ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). لِما بُنِيَتْ عليه السُّورةُ مِن التَّذكيرِ بعَظَمةِ اللهِ تعالى ونَعْمائِه في الدُّنيا والآخِرةِ، والكلامُ إنشاءُ ثَناءٍ على اللهِ تعالى مُبالَغٍ فيه بصِيغةِ التَّفعُّلِ، الَّتي إذا كان فِعلُها غيرَ صادرٍ مِن اثنينِ فالمَقصودُ منها المُبالَغةُ [542] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/276). .
- وأُسنِدَ تَبَارَكَ إلى اسْمُ -وهو ما يُعرَفُ به المُسمَّى- دونَ أنْ يقولَ: (تَبارَكَ ربُّك)؛ لقصْدِ المُبالَغةِ في وَصْفِه تعالى بصِفةِ البَرَكةِ، على طَريقةِ الكِنايةِ؛ لأنَّها أبلَغُ مِن التَّصريحِ؛ لأنَّه إذا كان اسمُه قد تبارَكَ، فإنَّ ذاتَه تَبارَكَت لا مَحالةَ؛ لأنَّ الاسمَ دالٌّ على المُسمَّى، فذِكرُ اسْمُ في قولِه: تَبَارَكَ اسْمُ مُراعًى فيه أنَّ ما عُدِّدَ مِن شُؤونِ اللهِ تعالى ونِعَمِه وإفضالِه، لا تُحيطُ به العِبارةُ، فعُبِّرَ عنه بهذه المُبالَغةِ -إذ هي أقْصى ما تَسمَحُ به اللُّغةُ في التَّعبيرِ-؛ ليَعلَمَ النَّاسُ أنَّهم مَحقوقونَ للهِ تعالى بشُكرٍ يُوازي عِظَمَ نِعَمِه عليهم [543] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/276، 277). .
- وفي استِحضارِ الجَلالةِ بعُنوانِ (ربّ) مُضافًا إلى ضَميرِ المُخاطَبِ -وهو النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- إشارةٌ إلى ما في معْنى الرَّبِّ مِن السِّيادةِ المَشوبةِ بالرَّأفةِ والتَّنميةِ، وإلى ما في الإضافةِ مِن التَّنويهِ بشَأنِ المُضافِ إليه، وإلى كَونِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو الواسِطةَ في حُصولِ تلك الخَيراتِ للَّذين خافوا مَقامَ ربِّهم بما بلَّغَهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن الهُدى [544] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/277). .
- وقولُه: ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وُصِفَ به الرَّبُّ تعالى تَكميلًا لِما ذُكِرَ مِن التَّنزيهِ والتَّقريرِ [545] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/187). .