موسوعة التفسير

سورةُ المُؤْمِنونَ
الآيات (31-43)

ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ

غريب الكلمات:

قَرْنًا: القَرْنُ: القومُ أو الأُمَّةُ مِنَ النَّاسِ المقترِنونَ في زمنٍ واحدٍ، غَيْر مُقَدَّرٍ بمدَّةٍ مُعَيَّنةٍ، وقيل: مدَّة القرنِ مئةُ سنةٍ، وقيل: ثمانونَ، وقيل: ثلاثون، وقيل غيرُ ذلك، وهو مأخوذٌ مِن الاقترانِ، وهو اجتماعُ شيئينِ أو أشياءَ في معنًى مِن المعاني، وأصْلُ (قرن): يدلُّ على جَمْعِ شَيءٍ إلى شَيءٍ [312] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 150)، ((معاني القرآن)) للنحاس (2/400)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/76، 77)، ((المفردات)) للراغب (ص: 667)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 250)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 155)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 729).173] .
وَأَتْرَفْنَاهُمْ: أي: نعَّمْناهم، وأبْقَيناهم في المُلْكِ، ووسَّعْنا عليهم، والمُترَفُ: المُتقلِّبُ فِي لِينِ العَيْشِ، وأصْلُ (ترف): التَّنعُّمُ [313] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 297)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 70)، ((المفردات)) للراغب (ص: 166)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/345)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 39). .
هَيْهَاتَ: أي: بَعيدٌ، وهي كلمةٌ تُستعمَلُ لتبعيدِ الشيءِ، أو هي اسمُ فعلٍ بمعنَى (بعُدَ) [314] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/42)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 493)، ((المفردات)) للراغب (ص: 847)، ((تفسير ابن جزي)) (2/51)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 959). .
غُثَاءً: أي: هَلْكَى كالغُثاءِ، وهو ما علا السَّيلَ مِن الزَّبَدِ وغيرِه، أو لا بَقِيَّةَ فيهم، أو شَيئًا بالِيًا، وأصْلُه: ارتِفاعُ شَيءٍ دَنِيٍّ فوقَ شَيءٍ [315] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/46)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 297)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 354)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/412، 413)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 674). .
فَبُعْدًا: أي: فهَلَاكًا، والبُعدُ أكثرُ ما يُقالُ في الهلاكِ، وأصْلُه: ضِدُّ القُرْبِ [316] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/268)، ((المفردات)) للراغب (ص: 133)، ((تفسير القرطبي)) (12/124). .

مشكل الإعراب:

1- قَوْلُه تعالى: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ
المَصدَرُ المُؤَوَّلُ مِن (أنَّ) الأُولى واسمِها (كُمْ) في أَنَّكُمْ، وخَبَرِها مُخْرَجُونَ في محَلِّ نَصبٍ مَفعولٌ ثانٍ لـ أَيَعِدُكُمْ، وكُرِّرَتْ (أنَّ) الثَّانيةُ تَوكيدًا لَمَّا طال الفَصلُ؛ فالمعنى على هذا: أيَعِدُكم أنَّكم مُخرَجونَ إذا مِتُّم... فلمَّا بَعُدَ ما بينَ (أنَّ) الأُولى وخَبَرِها مُخْرَجُونَ بقَولِه: إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أُعِيدَ ذِكرُ (أنَّ). و إِذَا ظَرفٌ لـ مُخْرَجُونَ. وقيل: خبَرُ الأُولى مَحذوفٌ؛ لدَلالةِ خبَرِ الثَّانيةِ عليه؛ فتقديرُه: أنَّكم تُبعَثون، وهو العامِلُ في الظَّرفِ (إذَا)، و (أنَّ) الثَّانيةُ وما في حَيِّزِها بَدَلٌ مِنَ الأُولى. وقيلَ غيرُ ذلك [317] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/11)، ((شرح كتاب سيبويه)) للسيرافي (3/354)، ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (2/500)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/954)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (8/334)، ((تفسير الألوسي)) (9/232). .
2- قَوْلُه تعالى: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ
قَولُه: هَيْهَاتَ: اسمُ فِعلٍ ماضٍ بمعنَى (بَعُدَ). وفي فاعلِه وَجْهانِ؛ أحدُهما: أنَّه ضَميرٌ مُستَتِرٌ، تَقديرُه: بَعُدَ التَّصديقُ أو الوُقوعُ، ونحوُ ذلك، واللَّامُ في (لِمَا) للتَّبْيينِ. والثَّاني: أنَّ فاعِلَه (ما)، واللَّامُ فيه زائِدةٌ، أي: بَعُدَ ما تُوعَدونَ مِنَ البَعثِ. وقيلَ: هَيْهَاتَ اسمٌ بمعنى البُعدِ، وهو مُبتدأٌ مبنيٌّ على الفَتحِ في محلِّ رَفعٍ، والجارُّ والمجرورُ مُتعَلِّقٌ بمَحذوفٍ في محلِّ رَفعٍ خَبَرٌ له. وهَيْهَاتَ الثَّاني تأكيدٌ للأوَّلِ تأكيدًا لَفْظِيًّا [318] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفرَّاء (2/235)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/12)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعُكْبَري (2/954)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (8/335)، ((مغني اللبيب)) لابن هشام (ص: 293). .

المعنى الإجمالي:

يخبرُ الله تعالى: أنه أنشَأ مِن بَعدِ قَومِ نُوحٍ قومًا آخَرينَ، فأرسَل فيهم رَسولًا منهم، فقال لهم: اعْبُدوا اللهَ وَحْدَه؛ ليس لكم مَعبودٌ بحَقٍّ غَيرُه؛ أفلَا تَخافونَ عِقابَه إذا عَبدْتُم غَيرَه؟! وقال السادة والأشرافُ مِن قَومِه الَّذين كَفَروا باللهِ، وأنْكَروا الحياةَ الآخِرةَ، وأطْغَتْهم النِّعَمُ التي أنعمَ الله بها عليهم في الدُّنيا: ما هذا الرسولُ إلَّا بَشَرٌ مِثْلُكم، يأكُلُ مِمَّا تأكُلونَ مِنَ الطَّعامِ، ويَشرَبُ مِمَّا تَشرَبونَ مِنَ الشَّرابِ، ولئنِ اتَّبَعتُم إنسانًا مِثلَكم إنَّكم -إذًا- لخاسِرونَ.
وقالوا لقومِهم أيضًا: أيَعِدُكم أنَّكم إذا مِتُّم وصِرتُم تُرابًا وعِظامًا مُفتَّتةً، أنكم ستُخْرَجونَ مِن قُبورِكم أحياءً؟! بَعِيدٌ بعيدٌ جِدًّا ما يعدُكم به؛ ما حَياتُنا إلَّا في هذه الدُّنيا؛ يَموتُ فيها الأحياءُ مِنَّا فلا يَحْيَوْنَ مرَّةً أخرى، ويُولَدُ آخَرون فيَحْيَوْن فيها، وما نحن بمبعوثينَ أحياءً مَرَّةً أُخرَى بعدَ الموتِ. وما هذا الذي يدَّعي أنَّه رسولٌ إلَّا رجُلٌ اختَلَقَ على اللهِ كَذِبًا، وما نحن بمُصَدِّقينَ له فيما يقولُه!
ثم يخبرُ تعالى أنَّ رَسولَهم دعا رَبَّه قائِلًا: رَبِّ انصُرْني عليهم؛ بسَبَبِ تَكذيبِهم لي. فقال اللهُ مُجِيبًا لِدَعوةِ ذلك الرَّسولِ: سنُعَذِّبهم قَريبًا، فيُصبِحونَ نادِمينَ على كُفرِهم وتَكذيبِهم. فانتقَم الله منهم بأنْ أخَذتْهم صَيحةٌ شَديدةٌ، وهم يستحِقُّون ذلك العقابَ، فجعَل الله هؤلاء الكافرينَ هامدينَ هلْكَى، كغُثاءِ السَّيلِ الَّذي يَطْفو على الماءِ لا منفعةَ فيه؛ فبُعدًا للقومِ الظَّالِمينَ مِن رَحمةِ اللهِ.
ثمَّ يخبرُ تعالى أنه أنشَأ مِن بَعدِ أولئك القوم المُكَذِّبينَ أقوامًا آخَرينَ، ما تتقَدَّمُ أيُّ أُمَّةٍ مِن الأُمَمِ المُكَذِّبةِ الوَقتَ الذي حدَّده الله لهَلاكِها، ولا تَتأخَّرُ عنه.

تفسير الآيات:

ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (31).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ سُبحانَه وتعالَى تَكذيبَ قَومِ نُوحٍ عليه السَّلامُ وما عَذَّبَهم به، وكان القِياسُ مُوجبًا أنَّ مَن يأْتي بَعْدَهم يَخْشى مِثْلَ مَصرَعِهم، فيَسلُكُ غيرَ سَبيلِهم، ويقولُ غيرَ قِيلِهم؛ بيَّنَ أنَّه لم تَنفَعْهم العِبرةُ، فارْتَكبوا مِثْلَ أحوالِهم، وزادوا على أقْوالِهم وأفعالِهم؛ لإرادةِ ذلك مِن الفاعِلِ المُختارِ، الواحِدِ القهَّارِ.
وأيضًا فإنَّه لَمَّا كان المقصودُ -مع التَّهديدِ والدَّلالةِ على القُدرةِ والاختيارِ- الدَّلالةَ على تَخصيصِ المُؤمِنينَ بالفلاحِ والبَقاءِ بعْدَ الأعداءِ، وكان إهْلاكُ المُتْرفينَ أدَلَّ على ذلك؛ اقْتَصَرَ على ذِكْرِهم، وأبْهَمَهم؛ لِيَصِحَّ تَنزيلُ قِصَّتِهم على كلِّ مَن ادُّعِي فيهم الإترافُ مِن الكَفرةِ [319] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/135، 136). .
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (31).
أي: ثُمَّ أوجَدْنا مِن بَعدِ قَومِ نُوحٍ قَومًا آخَرينَ [320] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/39)، ((تفسير السمعاني)) (3/473)، ((تفسير القرطبي)) (12/121). قيل: المُرادُ بقولِه: قَرْنًا آَخَرِينَ: ثمودُ؛ قَومُ صالحٍ. وممَّن قال بذلك: ابنُ جرير، والسِّعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/39)، ((تفسير السعدي)) (ص: 551)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/49، 50). وقيل: المُرادُ به: عادٌ؛ قومُ هودٍ. وممَّن قال بذلك: الواحديُّ، والسمعاني، والبغوي، والزمخشري، وابنُ الجوزي. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (15/564)، ((تفسير السمعاني)) (3/473)، ((تفسير البغوي)) (3/365)، ((تفسير الزمخشري)) (3/185)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/261). قال ابن الجوزي: (ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ يعني: عادًا فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ وهو هودٌ. هذا قولُ الأكثرينَ). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/261). ونسَبه لأكثرِ المفسرينَ أيضًا: الرازيُّ، والخازن، وأبو حيان. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/275)، ((تفسير الخازن)) (3/271)، ((تفسير أبي حيان)) (7/558). .
فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32).
فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ.
أي: فأرسَلْنا في أولئك القَومِ رَسولًا منهم، فقال لهم: اعْبُدوا اللهَ وَحْدَه وأطِيعُوه؛ ما لكمْ مِن مَعبودٍ يَستَحِقُّ العِبادةَ غَيرُه [321] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/39)، ((تفسير السعدي)) (ص: 551). قال السِّعدي: (فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ مِن جِنسِهم، يَعرِفونَ نَسَبَه وحَسَبَه وصِدْقَه؛ لِيكونَ ذلك أسرعَ لانقيادِهم إذا كان منهم، وأبعَدَ عن اشمِئزازِهم). ((تفسير السعدي)) (ص: 551). .
أَفَلَا تَتَّقُونَ.
أي: أفَلا تخافونَ عقابَ الله على شركِكم؛ فتَجْتَنِبوا عبادةَ هذه الأصنامِ [322] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/39)، ((الهداية)) لمكي (7/4962)، ((تفسير السعدي)) (ص: 551). قال البقاعي: (أَفَلَا تَتَّقُونَ أي: تجعلونَ لكم وقايةً مما ينبغي الخوفُ منه، فتجعلوا وقايةً تحولُ بينَكم وبينَ سخطِ الله). ((نظم الدرر)) (13/137). ؟!
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33).
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
أي: وقال الرُّؤساءُ والأشرافُ والسادةُ مِن قَومِ هذا الرسولِ، الَّذين كَفَروا باللهِ، وكذَّبوا بالبَعثِ والحِسابِ، ونعَّمْناهم ووَسَّعْنا عليهم الرِّزقَ في الحَياةِ الدُّنيا حتَّى بَطِروا وطَغَوا [323] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/39)، ((تفسير القرطبي)) (12/121)، ((تفسير السعدي)) (ص: 551). .
مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ.
أي: ما هذا الرَّسولُ إلَّا إنسانٌ مِثلُكم، يأكُلُ مِمَّا تأكُلونَ مِنَ الطَّعامِ، ويَشرَبُ مِمَّا تَشرَبونَ مِنَ الشَّرابِ، وليس رسولًا كما يَزعُمُ [324] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/40)، ((تفسير القرطبي)) (12/121)، ((تفسير السعدي)) (ص: 551). !
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)  .
أي: ولئِنْ أطعْتُم إنسانًا مِثلَكم، فصَدَّقتُم أنَّه رَسولٌ واتَّبعتُموه، إنَّكم إذَن لَمَغْبونونَ [325] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/40)، ((تفسير القرطبي)) (12/121)، ((تفسير السعدي)) (ص: 551). قال ابنُ جريرٍ: (قالوا: إنَّكم إذَنْ لَمغبونونَ حُظوظَكم مِنَ الشَّرَفِ والرِّفعةِ في الدُّنيا، باتِّباعِكم إيَّاه). ((تفسير ابن جرير)) (17/40). وقال الرسعني: (إِذًا لَخَاسِرُونَ: لمغبونونَ في عقولِكم وآرائِكم). ((تفسير الرسعني)) (5/118). .
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35).
أي: أيَعِدُكم أنَّكم إذا مِتُّم وصِرتُم تُرابًا وعِظامًا في قُبورِكم أنَّكم ستُخرَجون منها أحياءً، كما كُنتُم قَبلَ مَماتِكم [326] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/41)، ((تفسير السمرقندي)) (2/480)، ((تفسير القرطبي)) (12/122). ؟!
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36).
أي: بَعيدٌ بَعيدٌ جِدًّا ما يَعِدُكم به مِنَ البَعثِ بَعدَ المَوتِ؛ فلا يكونُ ذلك أبدًا [327] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/42)، ((البسيط)) للواحدي (15/572)، ((تفسير القرطبي)) (12/122)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/139)، ((تفسير السعدي)) (ص: 551). !
إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37).
إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا.
أي: ليس هناك حَياةٌ أُخرَى سِوى حياتِنا الدُّنيا، يَموتُ فيها الأحياءُ مِنَّا فلا يَحيَونَ ثانيةً، ويُولَدُ آخَرونَ فيَحيَونَ فيها [328] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/44)، ((تفسير القرطبي)) (12/124)، ((تفسير السعدي)) (ص: 551). قال القُرطبي: (يُقالُ: كيفَ قالوا: نَمُوتُ وَنَحْيَا وهم لا يُقِرُّونَ بالبَعثِ؟ ففي هذا أجوبةٌ؛ منها: أنْ يكونَ المعنى: نكونُ مَواتًا -أي: نُطَفًا- ثمَّ نحيا في الدُّنيا. وقيل: فيه تَقديمٌ وتأخيرٌ، أي: إنْ هي إلَّا حياتُنا الدُّنيا نَحْيَا فيها ونموتُ، كما قال: وَاسْجُدِي وَارْكَعِي [آل عمران: 43] . وقيل: نَمُوتُ يعني: الآباءَ، وَنَحْيَا يعني: الأولادَ). ((تفسير القرطبي)) (12/124). !
وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ.
أي: وما نحن بمَبعوثينَ أحياءً بَعْدَ المَوتِ [329] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/44)، ((تفسير البغوي)) (3/365)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/56). .
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38).
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا.
أي: ما هذا الَّذي يَزعُمُ أنَّه رَسولٌ سِوى رَجُلٍ يَختَلِقُ على اللهِ كَذِبًا بأنَّه أرسَلَه بالتَّوحيدِ، وأنَّه يَبعَثُ عِبادَه أحياءً بَعْدَ المَوتِ [330] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/45)، ((تفسير القرطبي)) (12/124)، ((تفسير ابن كثير)) (5/474)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/57). !
وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ.
أي: وما نحنُ له بمُصَدِّقينَ فيما يقولُه مِن تَوحيدِ اللهِ والبَعثِ بَعدَ المَوتِ [331] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/45)، ((تفسير السمعاني)) (3/475)، ((تفسير أبي السعود)) (6/134). !
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39).
أي: قال الرَّسولُ: ربِّ انصُرْني على قَومِي، فأَهلِكْهم بسَبَبِ تَكذيبِهم برِسالتي [332] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/45)، ((تفسير ابن كثير)) (5/474)، ((تفسير السعدي)) (ص: 552). .
قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40).
أي: قال اللهُ للرَّسولِ: سنُعَذِّبُهم قَريبًا، فيُصبِحونَ نادِمينَ على كُفرِهم وتَكذيبِهم [333] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/45)، ((تفسير القرطبي)) (12/124)، ((تفسير ابن كثير)) (5/474). .
كما قال تعالى: فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ [الصافات: 177] .
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41).
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ.
أي: فانتقَمْنا منهم بصَيحةٍ أخذَتْهم، وهم يَستَحِقُّونَ هذا العِقابَ؛ لِكُفرِهم باللهِ وتَكذيبِهم رَسولَه، فلم يَظلِمْهمُ اللهُ، ولكِنْ ظَلَموا أنفُسَهم [334] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/45)، ((تفسير ابن كثير)) (5/474)، ((تفسير السعدي)) (ص: 552). وقال البقاعي: (بِالْحَقِّ أي: بالأمرِ الثَّابِتِ مِنَ العذابِ الَّذي أُوجِبَ لهم، الَّذي لا تُمكِنُ مُدافَعتُه لهم ولا لأحدٍ غَيرِ اللهِ، ولا يكونُ كذلك إلَّا وهو عَدْلٌ). ((نظم الدرر)) (13/141). .
فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً.
أي: فجعَلْنا الكافرينَ هَلْكى هامِدينَ، حتَّى صاروا كغُثاءِ السَّيلِ الَّذي لا مَنْفعةَ فيه [335] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/45)، ((تفسير القرطبي)) (12/124)، ((تفسير ابن كثير)) (5/474، 475)، ((تفسير السعدي)) (ص: 552). .
فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
أي: فبُعدًا مِن رَحمةِ اللهِ لِلقَومِ الكافرينَ الَّذين ظَلَموا أنفُسَهم بالكُفرِ برَبِّهم، ومَعصيةِ رَسولِه [336] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/47)، ((البسيط)) للواحدي (15/586)، ((تفسير ابن كثير)) (5/475)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/59). .
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ (42).       
أي: ثُمَّ أوجَدْنا مِن بَعدِ أولئك القَومِ الظَّالِمينَ أقوامًا آخَرينَ [337] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/47)، ((تفسير القرطبي)) (12/125)، ((تفسير ابن كثير)) (5/475). قال القُرطبي: (وفي الكلامِ حَذْفٌ: فكَذَّبوا أنبياءَهم فأهلَكْناهم). ((تفسير القرطبي)) (12/125). .
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43).
أي: ما تَسبِقُ أُمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ الكافِرةِ الوقتَ الَّذي قدَّرَه اللهُ لإهْلاكِها، وما تتأخَّرُ عن ذلك الوَقتِ المكتوبِ في اللَّوحِ المَحفوظِ [338] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/47)، ((تفسير القرطبي)) (12/125)، ((تفسير ابن كثير)) (5/475). قال ابنُ جَريرٍ: (وهذا وعيدٌ مِن اللهِ لِمُشركي قَومِ نَبيِّنا محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإعلامٌ منه لهم أنَّ تأخيرَه في آجالِهم مع كُفرِهم به وتَكذيبِهم رَسولَه؛ لِيَبلُغوا الأجَلَ الَّذي أُجِّلَ لهم، فيُحِلَّ بهم نِقمَتَه، كسُنَّتِه فيمَن قَبْلَهم مِنَ الأُمَمِ السَّالِفةِ). ((تفسير ابن جرير)) (17/47، 48). .
كما قال تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: 34] .
وقال سُبحانَه: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ [الإسراء: 17] .
وقال تعالى: وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا [الفرقان: 38- 39] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ تَعقيبُ قِصَّةِ نُوحٍ وقَومِه بقِصَّةِ رسولٍ آخَرَ، وما بَعْدَها مِن القَصصِ يُرادُ منه: أنَّ ما أصاب قَومَ نُوحٍ على تَكذيبِهم له لم يكُنْ صُدْفةً، ولكنَّه سُنَّةُ اللهِ في المُكذِّبينَ لرُسُلِه؛ ولذلك لم يُعيِّنِ القَرْنَ ولا القُرونَ بأسمائِهم [339] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/49). .
2- قولُه تعالى: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ حُجَّةٌ على المُعتزِلَةِ والقدَريَّةِ فيما يَزْعُمون أنَّ المقتولَ ميِّتٌ بغَيرِ أجَلِه [340] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/353). ؛ فهذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ المقتولَ مَيِّتٌ بأجَلِه؛ إذ لو قُتِلَ قبْلَ أجَلِه لكان قد تَقدَّمَ الأجَلُ أو تأخَّرَ، وذلك يُنافِيهِ هذا النَّصُّ [341] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/277). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ على القولِ بأنَّ المُرادَ: قَومُ صالحٍ، فلعلَّ تَخصيصَهم بالذِّكْرِ هنا دونَ عادٍ؛ خِلافًا لِمَا تكرَّرَ في غَيرِ هذه الآيةِ؛ لأنَّ العِبْرةَ بحالِهم أظهَرُ؛ لِبَقاءِ آثارِ دِيارِهم بالحِجْرِ، كما قال تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [342] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/50). [الصافات: 137- 138] .
2- قوله تعالى: فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ
- عُدِّيَ فِعْلُ فَأَرْسَلْنَا بـ (في) دونَ (إلى)؛ لإفادةِ أنَّ الرَّسولَ كان منهم ونشَأَ فيهم؛ لأنَّ القَرْنَ لَمَّا لم يُعيَّنْ باسمٍ حتَّى يُعرَفَ أنَّ رسولَهم منهم أو وارِدًا إليهم، كان التَّنبيهُ على أنَّ رَسولَهم منهم مَقصودًا؛ إتْمامًا للمُماثَلةِ بين حالِهم وحالِ الَّذين أُرسِلَ إليهم محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكلامُ رسولِهم مِثْلُ كَلامِ نُوحٍ [343] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/86)، ((تفسير أبي السعود)) (6/133)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/50). . أو لأنَّه لَمَّا كان المقصودُ الإبلاغَ في التَّسليةِ، عُدِّيَ الفِعْلُ بـ (في)؛ دَلالةً على أنَّه عَمَّهم بالإبلاغِ، كما يَعُمُّ المَظْروفَ الظَّرفُ، حتَّى لم يدَعْ واحِدًا منهم إلَّا أبلَغَ في أمْرِه [344] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/137). . وقيل: لأن الأُمَّةَ أو القَريةَ جُعِلَتْ مَوضِعًا للإرسالِ، وعلى هذا المعنى جاء (بعَثَ) في قَولِه: وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا [345] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/275). [الفرقان: 51] .
- قولُه: مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ تَعليلٌ للعِبادةِ المأْمورةِ بها، أو للأمْرِ بها، أو لِوُجوبِ الامتثالِ بهِ [346] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/133). .
3- قولُه تعالى: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث جاء قولُ قَومِ هُودٍ -على قولٍ في التفسيرِ- في جَوابِه هنا بالواوِ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ، وفي سُورةِ (الأعرافِ) وسُورةِ (هُودٍ): قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ [الأعراف: 66] ، قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ [هود: 53] ، بغَيرِ واوٍ، والفَرقُ بَينهما: أنَّ الَّذي بغَيرِ واوٍ على تَقْديرِ سُؤالِ سائلٍ، قال: فما قال قَومُه؟ فقيل له: قالوا: كَيتَ وكَيتَ. وأمَّا الَّذي مع الواوِ، فعَطْفٌ لِمَا قالوهُ على ما قالَهُ، ومعناه: أنَّه اجتمَعَ في الحُصولِ هذا الحَقُّ وهذا الباطِلُ، وشتَّانَ ما هما [347] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/186)، ((تفسير البيضاوي)) (4/87)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/578)، ((تفسير أبي حيان)) (7/559). . وقيل: جاء قولُهم بطَريقِ العَطفِ؛ لأنَّ المُرادَ حِكايةُ مُطْلَقِ تَكذيبِهم له عليه السَّلامُ إجْمالًا، لا حِكايةُ ما جَرى بينَه عليه السَّلامُ وبَينَهم مِن المُحاوَرةِ والمُقاوَلةِ تَفْصيلًا، حتَّى يُحْكَى بطَريقِ الاستِئنافِ المَبْنيِّ على السُّؤالِ، كما يُنبِئُ عنه ما سَيَأْتي من حِكايةِ سائرِ الأُممِ [348] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/133). .
- وقيل: سبَبُ الاختلافِ بينَ الآياتِ: أنَّ هُودًا مكَثَ بيْن القومِ أزمنةً مُتطاوِلةً، وله معهم مَقالاتٌ ومُجادلاتٌ في مَقاماتٍ شَتَّى، وذلك يُوجِبُ اختلافَ العِباراتِ؛ فإنَّ لكلِّ قَومٍ مَقالًا، فكان كلامُه في سُورةِ (هُودٍ) أبسَطَ مِن هَذينِ المَوضعينِ؛ لأنَّه قد أظهَرَ فيه النَّصيحةَ التَّامَّةَ، وضَمَّ مع الأمْرِ بالعِبادةِ الأمْرَ بالاستغفارِ والتَّوبةِ، وعَدَهم بذلك البركاتِ والخيراتِ، وكان ذلك مَظِنَّةً لِبَعثِ السَّامعِ وتَحرُّكِه على السُّؤالِ: فما كان جَوابُ القومِ عنه بعْدَ تلك النَّصيحةِ البالغةِ؟ أمَّا في (الأعرافِ) وإنْ لم يُبْسَطْ ذلك البسْطَ، لكنْ ذُكِرَ فيه اسمُ هُودٍ بعْدَ التَّوطئةِ بقولِه: أَخَاهُمْ [الأعراف: 65] ؛ فدَلَّ على إضمارِ النُّصحِ، بل أهَمَّ وأبلَغَ مِن ذلك؛ فإنَّ الأُخُوَّةَ مَئِنَّةٌ لكلِّ حَدْبٍ ومَرْحمةٍ، ألَا تَرى كيف مَنَّ اللهُ تعالى على قُريشٍ بقَولِه: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] ، بخِلافِه هاهنا، بل طَوى اسْمَهُ أيضًا، والقومُ ما الْتَفَتوا إليه وإلى كلامِه، وما أجابوا، بلْ كانت تلك المَقالةُ دَمْدَمةً فيما بيْنهم. واللهُ تعالى أعلَمُ بأسرارِ كَلامِهِ [349] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (10/578). .
- وقيل: وَجْهُ ذلك: أنَّ كَلامَ الملَأِ المَحْكِيَّ هنا غيرُ كَلامِهم المَحْكِيِّ في السُّورتينِ؛ لأنَّ ما هنا كَلامُهم المُوجَّهُ إلى خِطابِ قَومِهم، إذ قالوا: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ [المؤمنون: 33] إلى آخِرِه؛ خَشيةً منهم أنْ تُؤثِّرَ دَعوةُ رَسولِهم في عامَّتِهم، فرأَوُا الاعتناءَ بأنْ يَحُولوا دونَ تأثُّرِ نُفوسِ قَومِهم بدَعوةِ رَسولِهم أوْلى مِن أنْ يُجاوِبوا رَسولَهم، وإنَّما لم يُعطَفْ قَولُ الملَأِ بفاءِ التَّعقيبِ، كما ورَدَ في قِصَّةِ نُوحٍ آنفًا؛ لأنَّ قَولَهم هذا كان مُتأخِّرًا عن وَقْتِ مَقالةِ رَسولِهم الَّتي هي فاتحةُ دَعوتِه بأنْ يكونوا أجابُوا كَلامَه بالرَّدِّ والزَّجرِ، فلمَّا استمَرَّ على دَعوتِهم وكرَّرَها فيهم، وَجَّهُوا مَقالَتَهم المَحْكيَّةَ هنا إلى قَومِهم، ومِن أجْلِ هذا عُطِفَتْ جُملةُ جَوابِهم، ولم تأْتِ على أُسلوبِ الاستعمالِ في حِكايةِ أقوالِ المُحاوَراتِ. وأيضًا لأنَّ كَلامَ رَسولِهم لم يُحْكَ بصِيغةِ القولِ، بل حُكِيَ بـ (أنْ) التَّفسيريَّةِ لِمَا تَضمَّنَه معنى الإرسالِ في قولِه: فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [350] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/51). [المؤمنون: 32] .
- قولُه: الَّذِينَ كَفَرُوا وُصِفُوا بذلك؛ ذَمًّا لهم، وتَنبيهًا على غُلُوِّهم في الكُفْرِ [351] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/133). . وتأْخيرُه عن مِنْ قَوْمِهِ؛ لِيتَّصِلَ به الصِّفتانِ المَعطوفتانِ مِن قولِه: وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ [352] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/133)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/52). .
- قولُه: وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا في هَذينِ الوَصفينِ إشارةٌ إلى أنَّهما الباعِثُ على تَكذيبِهم رَسولَهم؛ لأنَّ تَكذيبَهم بلِقاءِ الآخرةِ يَنْفِي عنهم تَوقُّعَ المُؤاخَذةِ بعْدَ الموتِ، وثَروتُهم ونِعْمتُهم تُغْرِيهم بالكِبْرِ والصَّلَفِ؛ إذ ألِفُوا أنْ يَكونوا سادةً لا تَبَعًا [353] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/52). .
- قولُه: بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فيه إيثارُ التَّعبيرِ بـ مِثْلُكُمْ على (مِثْلنَا)؛ للمُبالَغةِ في تَهوينِ أمْرِه عليه السَّلامُ وتَوهينِه [354] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/133). . وهو كِنايةٌ عن تَكذيبِه في دَعْوى الرِّسالةِ؛ لِتَوهُّمِهم أنَّ البشريَّةَ تُنافِي أنْ يكونَ صاحِبُها رسولًا مِن اللهِ، فأتَوْا بالملزومِ وأرادوا لَازِمَه [355] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/52). .
- وجُملةُ: يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ في مَوقِعِ التَّعليلِ والدَّليلِ للبَشريَّةِ؛ لأنَّه يأكُلُ مِثْلَهم ويَشرَبُ مِثْلَهم، ولا يَمتازُ فيما يأْكُلُه وما يَشرَبُه [356] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/53). .
- قولُه: وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ أي: ممَّا تَشربونَ منه، وحسَّنَ هذا الحذْفَ ورَجَّحَه كَونُ تَشْرَبُونَ فاصِلةً، ولدَلالةِ مِنْهُ عليه في قولِه: مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ [357] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/186)، ((تفسير البيضاوي)) (4/87)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/580)، ((تفسير أبي حيان)) (7/559)، ((تفسير أبي السعود)) (6/133)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/53). .
4- قوله تعالى: وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ
- قولُه: إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ وقَعَ إِذًا بينَ اسْمِ (إنَّ) وخبَرِها؛ لِتأْكيدِ مَضمونِ الشَّرطِ. والجُملةُ جَوابٌ لِقَسَمٍ مَحذوفٍ، أي: وباللهِ لئنْ أطعْتُم بشَرًا... [358] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/133). .
5- قولُه تعالى: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ استئنافٌ مَسوقٌ لِتَقريرِ ما قبْلَه مِن زَجْرِهم عن اتِّباعِه عليه السَّلامُ، بإنكارِ وُقوعِ ما يَدْعُوهم إلى الإيمانِ به واستِبعادِه [359] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/133). .
- وفي قولِهم: أَيَعِدُكُمْ اسْتَفْهَموا استفهامَ استبعادٍ وتَوقيفٍ واستهزاءٍ [360] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/562). . أو استفهامَ تَعجُّبٍ، وهو انتقالٌ مِن تَكذيبِه في دَعْوى الرِّسالةِ إلى تَكذيبِه في المُرْسَلِ به [361] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/53). .
- وكَلِمةُ أَنَّكُمْ في أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ إعادةٌ لِكَلمةِ (أنَّكم) الأُولى، وحسَّنَ إعادتَها بُعْدُ ما بيْنَها وبينَ خبَرِها. وتُفِيدُ إعادتُها تأكيدًا للمُستفهَمِ عنه استفهامَ استبعادٍ؛ تأكيدًا لاستِبعادِه [362] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/186)، ((تفسير البيضاوي)) (4/87)، ((تفسير أبي حيان)) (7/560)، ((تفسير أبي السعود)) (6/134)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/53). .
- وَتقديمُ التُّرابِ في قولِه: تُرَابًا وَعِظَامًا؛ لِعَراقَتِه في الاستِبعادِ [363] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/134). .
6- قولُه تعالى: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ فيه تَكريرُ هَيْهَاتَ؛ لتأْكيدِ البُعْدِ [364] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/562)، ((تفسير أبي السعود)) (6/134). .
- اللَّامُ في قولِه: لِمَا تُوعَدُونَ للبَيانِ؛ كأنَّهم لَمَّا صَوَّتوا بكلمةِ الاستبعادِ، قيل: فما له هذا الاستبعادُ؟ قالوا: لِمَا تُوعَدُونَ [365] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/186)، ((تفسير البيضاوي)) (4/87)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/582)، ((تفسير أبي السعود)) (6/134). ؛ فجاء ما بَعْدَ هَيْهَاتَ مَجْرورًا باللَّامِ، فاسْتُغْنِيَ عن فاعِلِها للعِلْمِ به ممَّا يَسْبِقُها مِن الكلامِ؛ لأنَّها لا تقَعُ غالِبًا إلَّا بَعْدَ كلامٍ، وتكونُ اللَّامُ للتَّبيينِ، أي: إيضاحِ المُرادِ مِن الفاعِلِ، فيَحصُلُ بذلك إجمالٌ ثمَّ تَفصيلٌ يُفِيدُ تَقْويةَ الخبَرِ، وهذه اللَّامُ تَرجِعُ إلى لامِ التَّعليلِ [366] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/55). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث جاء هنا فِعْلُ تُوعَدُونَ مِن (أوعَدَ)، وجاء قبْلَه فِعْلُ أَيَعِدُكُمْ، وهو مِن (وعَدَ)، مع أنَّ الموعودَ به شَيءٌ واحدٌ؛ قيل: لأنَّ الأوَّلَ راجِعٌ إليهم في حالِ وُجودِهم، فجُعِلَ وَعْدًا، والثَّانِيَ راجِعٌ إلى حالَتِهم بعْدَ الموتِ والانعدامِ؛ فناسَبَ التَّعبيرُ عنه بالوعيدِ. أو الأحسَنُ أنَّه عبَّرَ مرَّةً بالوعْدِ ومرَّةً بالوعيدِ على وَجْهِ الاحتباكِ [367] الاحْتِبَاك: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحذفان معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصرِ إعجازِه، وهو مِن ألطفِ الأنواع. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ؛ فإنَّ إعلامَهم بالبَعثِ مُشتمِلٌ على وَعْدٍ بالخيرِ إنْ صَدَّقوا، وعلى وَعيدٍ إنْ كَذَّبوا، فذُكِرَ الفِعْلانِ على التَّوزيعِ إيجازًا [368] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/55). .
7- قوله تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ
- قولُه: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا يَجوزُ أنْ يكونَ بَيانًا للاستبعادِ الَّذي في قولِه: هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ، أو استدلالًا وتَعليلًا له، ولِكَلا الوَجْهينِ كانت الجُملةُ مَفصولةً عنِ الَّتي قبْلَها، أي: لم تُعْطَفْ عليها [369] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/55). .
- قولُه: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا أصْلُه: (إنِ الحياةُ إلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا)، أُقِيمَ الضَّميرُ مُقامَ الأُولى؛ لدَلالةِ الثَّانيةِ عليها؛ حَذَرًا عن التَّكريرِ، وإشعارًا بأنَّ تَعيُّنَها مُغْنٍ عن التَّصريحِ بها [370] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/187)، ((تفسير البيضاوي)) (4/87)، ((تفسير أبي حيان)) (7/562)، ((تفسير أبي السعود)) (6/134). ؛ فضَميرُ (هي) عائدٌ إلى ما لم يَسْبِقْ في الكلامِ، بل عائدٌ على مَذكورٍ بَعْدَه؛ قَصْدًا للإبهامِ ثمَّ التَّفصيلِ؛ لِيَتمكَّنَ المَعْنى في ذِهْنِ السَّامعِ [371] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/55). .
- وجُملةُ: نَمُوتُ وَنَحْيَا مُفسِّرةٌ لِمَا ادَّعَوهُ مِن أنَّ الحياةَ هي الحياةُ الدُّنيا، أي: يَموتُ بَعْضُنا ويُولَدُ بَعضٌ إلى انقراضِ العصرِ [372] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/134). .
- قولُه: وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ عَطْفٌ على جُملةِ نَمُوتُ وَنَحْيَا باعتبارِ اشتمالِها على إثباتِ حَياةٍ عاجلةٍ ومَوتٍ؛ فإنَّ الاقتصارَ على الأمْرينِ مُفِيدٌ للانحصارِ في المَقامِ الخِطابيِّ، مع قَرينةِ قولِه: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا. وأفادَ صَوغُ الخبَرِ في الجُملةِ الاسميَّةِ تَقْويةَ مَدْلولِه وتَحقيقَه [373] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/562)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/56). .
8- قوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ
- جُملةُ: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا مُستأْنفةٌ؛ لأنَّها مُسْتقِلَّةٌ على ما تَقدَّمَها؛ فهي تَصريحٌ بما كُنِّيَ عنه آنفًا في قولِه: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وما بَعْدَه مِن تَكذيبِ دَعوتِه، وجُملةُ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا صِفَةٌ لـ رَجُلٌ، وهي مُنْصَبُّ الحَصْرِ؛ فهو مِن قَصْرِ الموصوفِ على الصِّفةِ قَصْرَ قَلْبٍ إضافيًّا [374] القصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه، أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وتردُّدِه؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ يدورُ حولَ احتمالينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويستدلُّ عليها بالقرائنِ. وأما قصرُ القلْبِ: فهو أنْ يَقلِبَ المتكلمُ فيه حُكمَ السامعِ، كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمن يعتقدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرفٍ معينٍ، لكنَّه يقول: ما زيدٌ هناك بشاعرٍ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118)، ((التعريفات)) للجرجاني (1/175، 176)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن الميداني (1/525). ، أي: لا كما يَزعُمُ أنَّه مُرسَلٌ مِن اللهِ. وإنَّما أجْرَوا عليه أنَّه رجَلٌ؛ مُتابَعةً لِوَصْفِه بالبشريَّةِ في قولِهم: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ؛ تَقريرًا لِدَليلِ المُماثَلةِ المُنافِيةِ للرِّسالةِ في زَعْمِهم، أي: زيادةٌ على كَونِه رجُلًا مِثْلَهم فهو رجُلٌ كاذِبٌ [375] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/57). .
- قولُه: وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ إنَّما صَرَّحوا بأنَّهم لا يُؤْمِنون به، مع دَلالةِ نِسْبتِه إلى الكذِبِ على أنَّهم لا يُؤمِنون به؛ إعلانًا بالتَّبرِّي مِن أنْ يَنخدِعوا لِمَا دَعاهم إليه، وهو مُقْتَضى حالِ خِطابِ العامَّةِ. وأفادَتِ الجُملةُ الاسميَّةُ التَّقويةَ [376] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/57). .
9- قولُه تعالى: قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ ما حُكِيَ مِن صَدِّ الملَأِ النَّاسَ عن اتِّباعِه، وإشاعَتِهم عنه أنَّه مُفْترٍ على اللهِ، وتَلْفيقِهم الحُجَجَ الباطلةَ على ذلك: ممَّا يُثِيرُ سُؤالَ سائلٍ عمَّا كان مِن شأْنِه وشأْنِهم بَعْدَ ذلك؛ فيُجابُ بأنَّه تَوجَّهَ إلى اللهِ الَّذي أرسلَهُ بالدُّعاءِ بأنْ يَنصُرَه عليهم [377] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/57، 58). .
10- قولُه تعالى: قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ جاء جَوابُ دُعاءِ هذا الرَّسولِ غيرَ مَعطوفٍ؛ لأنَّه جَرى على أُسلوبِ حِكايةِ المُحاوَراتِ [378] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/58). .
- و(ما) في قولِه: عَمَّا قَلِيلٍ صِلَةٌ بين الجارِّ والمجرورِ؛ لتأْكيدِ مَعْنى القِلَّةِ [379] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/187)، ((تفسير البيضاوي)) (4/88)، ((تفسير أبي حيان)) (7/562)، ((تفسير أبي السعود)) (6/134)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/58). .
11- قوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
- الفاءُ في قولِه: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ أفادَتْ تَعجيلَ إجابةِ دَعوةِ رَسولِهم [380] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/59). .
- وفي قولِه: فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً شَبَّهَهم في دَمارِهم بغُثاءِ السَّيلِ، وهو حَمِيلُ السَّيلِ، وهو تَشبيهٌ بَليغٌ للهيئةِ؛ فهو تَشبيهُ حالةٍ بحالةٍ [381] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/187)، ((تفسير البيضاوي)) (4/88)، ((تفسير أبي حيان)) (7/563)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/59). .
- قولُه: فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فرَّعَ على حِكايةِ تَكذيبِهم دُعاءً عليهم وعلى أمثالِهم دُعاءَ شَتْمٍ وتَحقيرٍ بأنْ يَبْعَدُوا؛ تَحقيرًا لهم وكراهيةً، وليس مُستعمَلًا في حَقيقةِ الدُّعاءِ؛ لأنَّ هؤلاء قد بَعِدُوا بالهلاكِ [382] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/59). . وقيل: يَحتمِلُ الإخبارَ والدُّعاءَ، ووَضْعُ الظَّاهرِ الظَّالِمِينَ مَوضِعَ ضَميرِهم للتَّعليلِ [383] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/88)، ((تفسير أبي السعود)) (6/135). .
- واللَّامُ في قولِه: لِلْقَوْمِ للتَّبْيينِ، وهي مُبيِّنةٌ للمقصودِ بالدُّعاءِ؛ زِيادةً في البَيانِ، كما في قولِهم: سُحقًا لك وتَبًّا له، فإنَّه لو قِيلَ: (فبُعْدًا) لَعُلِمَ أنَّه دُعاءٌ عليه، فبِزيادةِ اللَّامِ يَزِيدُ بَيانُ المَدْعُوِّ عليهم، وهي مُتعلِّقةٌ بمَحذوفٍ مُستأْنَفٍ للبَيانِ [384] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/188)، ((تفسير البيضاوي)) (4/88)، ((تفسير أبي حيان)) (7/563)، ((تفسير أبي السعود)) (6/135)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/60). .
- واخْتِيرَ الوَصْفُ بالظُّلمِ هنا؛ لأنَّ هؤلاءِ ظَلَموا أنفُسَهم بالإشراكِ، وظَلَموا نبيَّهم بزَعْمِهم أنَّه تَعمَّدَ الكذِبَ على اللهِ؛ إذ قالوا: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [المؤمنون: 38] . والتَّعريفُ في الظَّالِمِينَ للاستِغراقِ؛ فشَمِلَهم؛ ولذلك تكونُ الجُملةُ بمَنزِلةِ التَّذييلِ [385] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/59). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيثُ قالَه هنا: لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ بالتَّعريفِ، وقال بَعْدُ في سُورةِ (المُؤمِنون) أيضًا: فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [المؤمنون: 44] بالتَّنكيرِ؛ ووَجْهُه: أنَّ الآيةَ الأُولى في أُمَّةٍ مُعيَّنةٍ؛ قد بُيِّنَ حالُها وقَبِيحُ مُرْتَكَبِها، وتَحصَّلَ العِلْمُ بكُفْرِهم وظُلْمِهم أنفُسَهم، فقِيلَ: فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وأمَّا قولُه بَعْدُ: فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ؛ فورَدَ عقِبَ إجمالِ إخبارٍ بطوائفَ وأُمَمٍ اجْتَمَعوا في التَّكذيبِ ورَدِّ ما جاءَتْهم به رُسُلُهم، فأُعْقِبَ بوَصْفٍ إذا وُجِدَ كان ما سِواهُ مِن قَولٍ وعمَلٍ مُناسِبًا له وبِحَسبِه، وهو عدَمُ الإيمانِ، ولم يكُنْ وَصْفُهم بالظُّلمِ لِيُعطِيَ ذلك؛ لِوُقوعِه على الظُّلمِ بالكُفْرِ وعلى الظُّلمِ بمَعصيةٍ، والمعصيةُ ليست كُفْرًا، أمَّا مَن اتِّصَفَ بعَدمِ الإيمانِ، فلا فَلاحَ معه، فلمَّا اجتمَعَ هؤلاء الطَّوائفُ في عدَمِ الإيمانِ وُسِمُوا به، ولمَّا كان عدَمُ الإيمانِ حاصلًا لمَن تَقدَّمَ بما ذُكِرَ مِن تَكذيبِهم، وأخْذِهم بالصَّيحةِ، وجَعْلِهم غُثاءً: أُعْقِبَ وَصْفُهم بما يُنبِئُ بالزِّيادةِ على كُفْرِهم؛ إذِ الكُفْرُ حاصِلٌ. والآيةُ الثَّانيةُ لم يَقَعْ في ذِكْرِ هؤلاء تَفصيلُ مُرْتَكباتِهم كما ورَدَ فيمَن تَقدَّمَهم؛ فناسَبَ إجْمالَ الواقِعِ مِن التَّكذيبِ إجْمالُ الوَصْفِ بعَدمِ الإيمانِ، وجاء كلٌّ مِن ذلك على ما يُناسِبُه [386] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 940-942)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 184)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/368، 369)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/331، 332)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 390). .
12- قولُه تعالى: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ جُملةٌ مُعترِضةٌ، والفَصلُ بينَ المَعْطوفينِ بهذه الجُملةِ المُعترِضةِ، النَّاطقةِ بعدَمِ تقدُّمِ الأُمَمِ أجَلَها المَضْروبَ لِهَلاكِهم؛ للمُسارَعةِ إلى بَيانِ هَلاكِهم على وَجْهٍ إجماليٍّ [387] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/135)، ((تفسير الألوسي)) (9/235)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/60). .
- ولعلَّه عبَّرَ بالمُضارِعِ في قولِه: مَا تَسْبِقُ إشارةً إلى أنَّه ما كان شَيءٌ مِن ذلك ولا يكونُ، وأشارَ إلى الاستِغراقِ بقولِه: مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا أي: الَّذي قَدَّرناهُ لِهَلاكِها وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ عنه [388] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/142). ؛ فـ (مِنْ) في قولِه: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا مَزيدةٌ؛ للاستغراقِ [389] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/88). .
- والسِّينُ والتَّاءُ في قولِه: يَسْتَأْخِرُونَ زائدتانِ؛ للتَّأكيدِ [390] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/61). . وقيل: صيغةُ الاستفعالِ (يستئخرون) للإشعارِ بعجزِهم عن ذلك معَ طلبِهم له [391] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/66). .