موسوعة التفسير

سورةُ المُؤْمِنونَ
الآيات (23-30)

ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ

غريب الكلمات:

الْمَلَأُ: أي: أشرافُ النَّاسِ ووجُوهُهم، أو الجماعةُ يجتمعونَ على رأيٍ، فيَملوؤنَ العيونَ منظرًا، والنفوسَ بهاءً وجلالًا. ويُقالُ: فلانٌ مِلءُ العيونِ، أي: معظَّمٌ عندَ مَن رآه. وقيل: وُصِفوا بذلك؛ لأنَّهم يتمالؤونَ، أي: يتظاهرونَ عليه. وأصلُ (ملأ): يدلُّ على المساواةِ، والكمالِ في الشيءِ [231] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 92)، ((تفسير ابن جرير)) (4/435)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 411)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5 /346)، ((تفسير الرازي)) (17/337). .
جِنَّةٌ: أي: جُنونٌ، وأصلُ (جنن): السَّتْرُ والتَّسَتُّرُ [232] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 175)، ((تفسير ابن جرير)) (17/35)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/421)، ((المفردات)) للراغب (ص: 205)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 213، 306). .
فَتَرَبَّصُوا: أي: انتَظِروا، وأصلُ التربُّصِ: الانتظارُ والتمكُّثُ [233] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/385)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/477)، ((المفردات)) للراغب (ص: 338)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 129). .
وَفَارَ: أي: نبَع وارتفَع، ومنه: فارت القِدرُ: إذا ارتفعَ ما فيها وغلَى، وأصلُ (فور): يدُلُّ على غَلَيانٍ [234] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 362)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/458)، ((المفردات)) للراغب (ص: 647)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 234)، ((غريب القرآن)) لقاسم الحنفي (ص: 231). .
التَّنُّورُ: أي: المكانُ الذي يُخبَزُ فيه، أو: مَكانُ النارِ، وقيل: التَّنُّورُ: وجهُ الأرضِ، وأصلُ (نور): يدلُّ على إضاءةٍ، واضطرابٍ، وقِلَّةِ ثَباتٍ [235] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/401)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/368)، ((تفسير ابن كثير)) (4/320). .
لَمُبْتَلِينَ: أي: لَمُختَبِرينَ، وأصلُ البلاءِ: الاختبارُ والامتحانُ [236] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/653) (17/39)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/292)، ((تفسير القرطبي)) (12/120)، ((تفسير ابن كثير)) (5/474). .

المعنى الإجمالي:

يخبرُ الله تعالى أنَّه أرسَل نُوحًا إلى قَومِه بدَعوةِ التَّوحيدِ، فقال لهم: اعبُدوا اللهَ وحْدَه، ليس لكم مِن إلهٍ يَستَحِقُّ العِبادةَ غَيرُه جَلَّ وعلَا، أفلا تَخشَونَه وتخافون عَذابَه؟! فكذَّبه سادةُ قَومِه وأشرافُهم، وقالوا لعامَّتِهم: ما نوحٌ إلا إنسانٌ مِثلُكم، وليس رسولًا كما يدَّعي، إنَّما يُريدُ أن يكونَ أفضلَ منكم، ولو شاء اللهُ إرسالَ رسلٍ لأرسَلَ المَلائِكةَ يُبلِّغونَنا رسالتَه إلينا؛ ما سَمِعْنا بمِثلِ هذا الذي يدْعُونا إليه فيمَن سبَقَنا مِن القرونِ التي مَضَتْ، وما نُوحٌ إلَّا رجُلٌ به مَسٌّ مِنَ الجُنونِ، فانتَظِروا وقتًا حتى يُفيقَ مِنْ جُنونِه أو يموتَ، فتَستريحوا منه!
قال نوحٌ: رَبِّ انصُرْني على قَومي؛ بسَبَبِ تَكذيبِهم لي فيما بلَّغتُهم مِن رِسالتِك.
فأوحَى الله إلى نوحٍ أنْ يصنعَ السَّفينةَ بمرأًى منه تعالى وحِفظِه، وبتعليمِه إيَّاه كيفيةَ صنعِها، وأنَّه إذا جاء أمرُه بإهلاكِ قَومِ نوحٍ بالطوفانِ، ونبَعَ الماءُ بقُوَّةٍ مِنَ المكانِ الذي يُخبَزُ فيه، فليحمِلْ في السَّفينةِ مِن كُلِّ المَخلوقاتِ ذَكَرًا وأنثى، وليُدخِلْ أهلَه فيها أيضًا إلَّا مَن سبَقَ حُكمُ الله تعالى بإهلاكِه لكفرِه، ونهاه الله تعالى أن يَسأله نَجاةَ قَومِه الكافرينَ؛ فإنَّهم مُغرَقونَ لا مَحالةَ.
وأمَرَه تعالى إذا استقرَّ على السَّفينةِ وركِبَها هو ومَن معَه؛ أن يقولَ: الحَمدُ لله الذي نجَّانا مِنَ القَومِ الظالمين. وأمره أن يدعوَ ربَّه أن يُنزِلَه إنزالًا مباركًا؛ فهو سبحانَه خَيرُ المُنزِلينَ.
ثم بيَّن تعالى أنَّ في إهْلاكِ قَومِ نُوحٍ الكافرينَ وإنجائِه المُؤمِنينَ لَدَلالاتٍ واضحاتٍ على صِدقِ ما جاء به رُسُلُ اللهِ مِن عنده، وإنْ كان الله تعالى لَمُختَبِرٌ الأُمَمَ بإرسالِ الرُّسُلِ إليهم قَبلَ إيقاع العُقوبةِ بهم؛ لِينظرَ كيف يَعملونَ.

تفسير الآيات:

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23).
مُناسَبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا بَيَّن اللهُ سُبحانَه وتَعالَى دَلائلَ التَّوحيدِ؛ أرْدَفَها بالقَصصِ؛ كما هو العادةُ في سائِرِ القُرآنِ [237] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/270). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى أولًا بَدْءَ الإنسانِ وتَطوُّرَه في تِلكَ الأطوارِ، وما امتَنَّ به عليه ممَّا جَعَله تعالى سَببًا لحياتِهم، وإدراكِ مَقاصدِهم؛ ذَكَر أمثالًا لكُفَّارِ قُرَيشٍ مِن الأممِ السَّابقةِ المُنكِرةِ لإرسالِ اللهِ رُسلًا، المُكذِّبةِ بما جاءَتْهم به الأنبياءُ عن اللهِ؛ فابتَدَأَ بقِصَّةِ نُوحٍ؛ لأنَّه أبو البَشرِ الثاني، كما ذَكَر أولًا آدَمَ وخلقَه مِنْ طِينٍ. ولِقَصَّتِه أيضًا مُناسَبةٌ بما قَبْلَها؛ إذ قَبْلَها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [المؤمنون: 22] ؛ فذَكر قِصَّةَ مَن صَنَعَ الفُلكَ أولًا، وأنَّه كان سَببَ نَجاةِ مَن آمَنَ [238] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/556، 557). .
وأيضًا لَمَّا كان الاستدلالُ والامتنانُ -اللَّذانِ تَقدَّما- مُوجَّهَينِ إلى المشركينَ الذين كَفروا بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واعتلُّوا لذلك بأنَّهم لا يُؤمِنون برِسالةِ بَشَرٍ مِثلِهم، وسألوا إنزالَ ملائكةٍ، ووَسَموا الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالجُنونِ، فلمَّا شابَهوا بذلك قومَ نُوحٍ ومَن جاءَ بعدَهم، ناسَبَ أنْ يُضرَبَ لهم بقومِ نُوحٍ مَثَلٌ؛ تحذيرًا ممَّا أصابَ قومَ نُوحٍ مِن العَذابِ [239] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/40). .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ.
أي: ولقدْ أَرسَلْنا نُوحًا إلى قَومِه، فقال لهم نُوحٌ: يا قَومِ، اعبُدُوا اللهَ وَحْدَه، وذِلُّوا بطاعتِه مُخلِصينَ له، ما لكم مِن مَعبودٍ غيرُه يَستَحِقُّ أنْ تَعبُدوه [240] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/34)، ((تفسير السعدي)) (ص: 550)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/41). قال ابنُ الجوزي: (قال المفسِّرون: هذا تَعزيةٌ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذِكرِ هذا الرَّسولِ الصابِرِ؛ ليتأسَّى به في صبرِه، ولِيَعلَمَ أنَّ الرُّسُلَ قبْلَه قد كُذِّبوا). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/260). .
أَفَلَا تَتَّقُونَ.
أي: أفلا تخشونَ اللهَ، وتخافونَ عقوبتَه أن تحِلَّ بكم بسببِ عبادتِكم غيرَه، وإشراكِكم به [241] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/34)، ((تفسير البغوي)) (3/364)، ((تفسير ابن كثير)) (5/472)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/130، 131). قال البقاعي: (أَفَلَا تَتَّقُونَ أي: تخافون ما ينبغي الخوفُ منه، فتجعلوا لكم وقايةً مِن عذابِه، فتعمَلوا بما تقتضيه التقوى مِن إفرادِه بالعبادةِ؛ خوفًا من ضَرِّكم، ورجاءً لنفعِكم). ((نظم الدرر)) (13/130). ؟!
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24).
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ.
أي: فقال الكفارُ مِن قومِ نوحٍ مِن الأشرافِ والسَّادةِ: ما نُوحٌ إلَّا إنسانٌ مِثلُكم، وليس رَسولًا كما يَزعُمُ، وإنَّما يُريدُ أنْ يكونَ أفضَلَ منكم، فادَّعى النُّبُوَّةَ لتَتَّبِعوه [242] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/34)، ((تفسير القرطبي)) (12/118)، ((تفسير ابن كثير)) (5/472). قولُه: يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَصَفُوه بذلك؛ إغضابًا للمُخاطبينَ عليه -عليه السَّلامُ-، وإغراءً لهم على مُعاداتِه عليه السَّلامُ. يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/130). !
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً.
أي: ولو شاءَ اللهُ ألَّا نَعبُدَ شَيئًا سِواه، لَأَنزلَ علينا ملائِكةً رُسُلًا يُبَلِّغونَنا ألَّا نَعبُدَ غَيرَه [243] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/34)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 745)، ((تفسير القرطبي)) (12/118)، ((تفسير ابن كثير)) (5/472)، ((تفسير السعدي)) (ص: 550). .
مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ.
أي: ما سَمِعْنا في أسلافِنا مِنَ القُرونِ الماضيةِ بمِثلِ هذا الَّذي يَدْعونا إليه نُوحٌ، مِن أنَّه لا مَعبودَ لنا غيرُ اللهِ [244] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/34)، ((تفسير القرطبي)) (12/118)، ((تفسير الشوكاني)) (3/569). وممَّن قال بأنَّ الإشارةَ في قولِه تعالى: بِهَذَا تعودُ إلى دعوةِ نوحٍ إلى التوحيدِ: ابنُ جريرٍ، والسمرقندي، ومكِّي، والبغوي، والقرطبي، والخازن، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/34)، ((تفسير السمرقندي)) (2/478)، ((الهداية الى بلوغ النهاية)) لمكي (7/4959)، ((تفسير البغوي)) (3/364)، ((تفسير القرطبي)) (12/118)، ((تفسير الخازن)) (3/270)، ((تفسير الشوكاني)) (3/569). قال الماوردي: (قولُه عزَّ وجلَّ: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ فيه وجهانِ: أحدُهما: ما سمِعنا بمثلِ دعوتِه. والثاني: ما سمِعنا بمثلِه بشرًا أتَى برسالةٍ مِن ربِّه). ((تفسير الماوردي)) (4/52). وممَّن قال بالقولِ الثاني: ابنُ أبي زمنين، والسمعاني، وابنُ كَثير، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (3/198)، ((تفسير السمعاني)) (3/471)، ((تفسير ابن كثير)) (5/472)، ((تفسير السعدي)) (ص: 550). !
كما قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ [القصص: 36] .
وقال سُبحانَه: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ * أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ [ص: 4 - 8] .
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25).
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ.
أي: ما نُوحٌ إلَّا رجُلٌ فيه شَيءٌ مِنَ الجُنونِ؛ دفَعه لادِّعاءِ الرسالةِ، فلا يَدري ما يقولُ، وهو ليس رَسولًا مِن عِندِ اللهِ كما يَزعُمُ [245] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/35)، ((تفسير القرطبي)) (12/119)، ((تفسير ابن كثير)) (5/473)، ((مراح لبيد)) للجاوي (2/86)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/44). قال الزمخشريُّ: (الجِنَّةُ: الجُنونُ أو الجِنُّ، أي: به جِنٌّ يخبلونَه). ((تفسير الزمخشري)) (3/183). !
كما قال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ [القمر: 9].
فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ.
أي: فانتَظِروا بنُوحٍ وَقْتًا ما حتَّى يُفيقَ مِنْ جُنونِه فيتركَ دعواه هذه، أو يَموتَ؛ فتَستَريحوا منه [246] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/35)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 745)، ((تفسير ابن كثير)) (5/473)، ((تفسير الشوكاني)) (3/569)، ((تفسير الألوسي)) (9/228)، ((تفسير السعدي)) (ص: 550). وممن قال بأنَّ المرادَ: انتظارُ مَوتِه: الواحديُّ، والقرطبي، وابنُ كثير، والسعدي. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 745)، ((تفسير القرطبي)) (12/119)، ((تفسير ابن كثير)) (5/473)، ((تفسير السعدي)) (ص: 550). وقيل: المرادُ: انتَظِروا حتى حينٍ؛ لعَلَّه يُفيقُ مِمَّا هو فيه من الجُنونِ. وممن قال بنحو ذلك: الزمخشريُّ، والبيضاوي، وأبو السعود، والألوسي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/183)، ((تفسير البيضاوي)) (4/85)، ((تفسير أبي السعود)) (6/130)، ((تفسير الألوسي)) (9/228). وقال الشوكاني: (فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ أي: انتَظِروا به حتَّى يَسْتَبينَ أمرُه، بأنْ يفيقَ مِنْ جُنونِه فيَتْرُكَ هذه الدَّعوَى، أو حتَّى يموتَ؛ فتَسْتَريحوا مِنه). ((تفسير الشوكاني)) (3/569). .
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26).
أي: قال نُوحٌ: رَبِّ، انصُرْني على قَومي، فأهلِكْهم بسَبَبِ تَكذيبِهم برِسالَتي [247] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/35)، ((الوسيط)) للواحدي (3/288)، ((تفسير القرطبي)) (12/119)، ((تفسير البيضاوي)) (4/86). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ [الصافات: 75] .
وقال سُبحانَه: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر: 10].
وقال عَزَّ وجَلَّ: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا  [نوح: 26- 27] .
فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27).
فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا.
أي: فقُلْنا لنُوحٍ: اصنَعِ السَّفينةَ بمرأًى مِنَّا، وفي حِفظِنا، وبتَعليمِنا إيَّاك كيفيَّةَ صُنْعِها [248] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/35)، ((تفسير الخازن)) (3/271)، ((تفسير السعدي)) (ص: 550). .
فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ.
أي: فإذا أتَى وَقتُ إهلاكِنا لِقَومِك -يا نوحُ- بالطُّوفانِ، ونَبَع الماءُ بشِدَّةٍ مِنَ المَوضِعِ الَّذي يُخبَزُ فيه؛ فأَدْخِلْ في السَّفينةِ مِن كلِّ صِنفٍ مِن أصنافِ المخلوقاتِ ذَكَرًا وأُنثى [249] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/36)، ((تفسير ابن كثير)) (5/473)، ((تفسير السعدي)) (ص: 550). قال ابنُ جرير: (وقَولُه: وَفَارَ التَّنُّورُ [هود: 40] اختلف أهلُ التَّأويلِ في معنى ذلك؛ فقال بَعضُهم: معناه: انبَجَس الماءُ مِن وَجهِ الأرضِ، وفار التنُّورُ، وهو وَجهُ الأرضِ... وقال آخَرون: هو تنويرُ الصُّبحِ... وقال آخرون: معنى ذلك: وفارَ أعلى الأرضِ، وأشرَفُ مكانٍ فيها بالماءِ... وقال آخَرون: هو التنُّورُ الذي يُختبَزُ فيه). ((تفسير ابن جرير)) (12/401- 404). وقال أيضًا: (وأَولى هذه الأقوالِ عندنا بتأويلِ قَولِه: التَّنُّورُ [هود: 40] قَولُ مَن قال: هو التنُّورُ الذي يُخبَزُ فيه؛ لأنَّ ذلك هو المعروفُ مِن كلامِ العَرَبِ، وكلامُ اللهِ لا يُوجَّهُ إلَّا إلى الأغلَبِ الأشهَرِ مِن معانيه عند العَربِ إلَّا أن تقومَ حُجَّةٌ على شَيءٍ منه بخلافِ ذلك، فيُسَلَّمَ لها. وذلك أنَّه جلَّ ثناؤه إنَّما خاطبَهم بما خاطَبَهم به؛ لإفهامِهم معنى ما خاطَبَهم به). ((تفسير ابن جرير)) (12/406). وقال ابن عطية: (الصَّحيحُ من الأقوالِ فيه: أنَّه تنُّورُ الخُبزِ، وأنَّها أمارةٌ كانت بيْنَ الله تعالى وبيْن نوحٍ عليه السَّلامُ). ((تفسير ابن عطية)) (4/141). ونسَبه السمعاني للأكثرينَ. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (2/428). وقال السعدي: (وَفَارَ التَّنُّورُ أي: فارت الأرضُ، وتفجَّرتْ عيونًا، حتى محلُّ النارِ، الذي لم تَجرِ العادةُ إلَّا ببُعدِه عن الماءِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 550). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/320). ويُنظر ما تقدَّم في تفسيرِ الآيةِ (40) مِن سورةِ (هودٍ). .
كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود: 40] .
وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ.
أي: وأَدخِلْ -يا نُوحُ- في السَّفينةِ أهْلَ بَيتِك، إلَّا مَن سبَقَ حُكمُ اللهِ عليه بإهلاكِه؛ لكُفرِه [250] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/37)، ((تفسير السمعاني)) (3/472)، ((تفسير ابن كثير)) (5/473). .
كما قال تعالى: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود: 42، 43].
وقال سُبحانَه: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [التحريم: 10].
وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ.
أي: ولا تَسألْني -يا نُوحُ- أنْ أُنَجِّيَ الكافرينَ؛ فإنِّي قدْ حَكمْتُ بإغراقِهم جَميعًا [251] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/37)، ((تفسير ابن كثير)) (5/473)، ((تفسير السعدي)) (ص: 550). .
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28).
أي: فإذا استقرَرْتَ -يا نوحُ- أنتَ والمُؤمِنونَ الَّذين معك على السَّفينةِ، وعَلَوتُم فَوقَها راكِبينَ، فقُلِ: الحَمدُ للهِ الَّذي خلَّصَنا مِنَ القَومِ المُشرِكينَ [252] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/37)، ((تفسير السمعاني)) (3/472)، ((تفسير القرطبي)) (12/119)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (5/404). قال ابن عاشور: (والتَّنجيةُ مِنَ القومِ الظَّالمينَ: الإنجاءُ مِنْ أذاهم والكونِ فيهم؛ لأنَّ في الكونِ بينَهم مُشاهدةَ كفرِهِم ومناكِرِهم، وذلك مِمَّا يُؤْذي المؤمنَ. والظُّلْمُ: يجوزُ أنْ يُرادَ به الشِّركُ كما قالَ تعالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] ، ويجوزُ أنْ يُرادَ به الاعتداءُ على الحقِّ؛ لأنَّ الكافرينَ كانوا يُؤْذونَ نوحًا والمؤمنينَ بشتَّى الأذَى باطلًا وعدوانًا، وإنَّما كان ذلك إنجاءً؛ لأنَّهم قدِ استقلُّوا بجماعَتِهم، فسَلِموا مِنَ الاختلاطِ بأعدائِهم). ((تفسير ابن عاشور)) (18/47). .
كما قال تعالى: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 45] .
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أشار اللهُ تعالى لنُوحٍ -عليه السَّلامُ- بقولِه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا إلى السَّلامةِ بالحمْلِ، أَتْبَعه الإشارةَ إلى الوَعدِ بإسكانِ الأرضِ، فقال [253] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/134). :
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قَولِه تعالى: مُنْزَلًا قِراءتانِ:
1- قِراءةُ مَنْزِلًا اسمُ مَكانٍ، بمعنى مَوضِعِ النُّزولِ [254] قرأ بها شعبةُ أبو بكرٍ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/328). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((تفسير ابن جرير)) (17/38)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 486)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/190). قال السمعاني: (وفي مَوضِعِ النُّزولِ قولانِ: أحدُهما: أنَّه السَّفينةُ بعدَ الرُّكُوبِ، والآخَرُ: أَنَّه الأرضُ بعدَ النُّزُولِ مِن السَّفينةِ). ((تفسير السمعاني)) (3/472). .
2- قِراءةُ مُنْزَلًا وهو مصدرٌ بمعنى الإنزالِ، أي: أنْزِلْني إنْزالًا مُبارَكًا. وقيل: هو اسمُ مفعولٍ مِن (أنزله) على حذفِ المجرورِ، أي: مُنزلًا فيه. وقيلَ: يَرجِعُ لمعنى القِراءةِ الأُولَى، بمعنَى: مَوضِعًا مُبارَكًا يَنزِلونَ فيه [255] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/328). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((تفسير ابن جرير)) (17/38)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 486)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/190)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/48). .
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا.
أي: وقُلْ -يا نُوحُ: رَبِّ أنْزِلْني إنْزالًا مُبارَكًا [256] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/37، 38)، ((الوسيط)) للواحدي (3/288)، ((تفسير القرطبي)) (12/119)، ((تفسير الشوكاني)) (3/570). قال ابن الجوزي: (وفي الوقتِ الذي قال فيه نوحٌ ذاك: قولان: أحدُهما: عند نزولِه في السفينةِ. والثاني: عند نزولِه من السفينةِ). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/261). وقال البغوي: (فالبَركةُ في السفينةِ: النجاةُ، وفي النزولِ بعدَ الخروجِ: كثرةُ النسلِ مِن أولادِه الثلاثةِ). ((تفسير البغوي)) (3/364). .
قال تعالى: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ [هود: 48] .
وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ.
أي: وأنتَ -يا رَبَّنا- خَيرُ مَن تُنزِلُ عِبادَك [257] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/155)، ((تفسير ابن جرير)) (17/37)، ((تفسير السمرقندي)) (2/479)، ((الهداية)) لمكي (7/4960)، ((تفسير الألوسي)) (9/230). .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30).
مُناسَبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى هذه القِصَّةَ العظيمةَ، أعقَبَها بالتَّنبيهِ إلى مَوضعِ العِبرةِ منها للمُسلمينَ؛ فأتَى بهذا الاستئنافِ لذلك [258] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/48). .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ.
أي: إنَّ في إهْلاكِنا قَومَ نُوحٍ الكافرينَ وإنجائِنا المُؤمِنينَ: لَدَلالاتٍ واضحاتٍ على وَحدانيَّةِ اللهِ، وعِلْمِه وحِكمَتِه، وصِدْقِ أنبيائِه، وقُدْرتِه على نَصْرِ المؤمنين، وإهلاكِ أعدائِه [259] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/38)، ((تفسير القرطبي)) (12/120)، ((تفسير ابن كثير)) (5/473، 474)، ((تفسير السعدي)) (ص: 551)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/48). قال ابن عاشور: (الآياتُ: الدَّلالاتُ، أي: لَآياتٍ كثيرةً، منها ما هي دلائلُ على صدقِ رسالة نوحٍ، وهي إجابةُ دعوتِه وتصديقُ رسالتِه وإهلاكُ مكذِّبيه، ومنها آياتٌ لأمثالِ قومِ نوحٍ من الأممِ المكَذِّبين لرسُلِهم، ومنها آياتٌ على عظيمِ قدرةِ الله تعالى في إحداثِ الطوفانِ وإنزالِ مَن في السفينةِ مَنزِلًا مُباركًا، ومنها آياتٌ على عِلمِ الله تعالى وحكمتِه؛ إذ قدَّر لتطهيرِ الأرضِ مِن الشِّركِ مِثلَ هذا الاستئصالِ العامِّ لأهلِه، وإذ قدَّر لإبقاءِ الأنواعِ مِثلَ هذا الصُّنعِ الذي أنجَى به مِن كلِّ نوعٍ زوجينِ ليُعادَ التناسُلُ). ((تفسير ابن عاشور)) (18/48). .
وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ.
أي: وقدْ كُنَّا مُختَبِرينَ بإرسالِ الرُّسُلِ، والتَّذكيرِ بآياتِنا قَبلَ نُزولِ عُقوبتِنا؛ لِنَنظُرَ كيف يَعمَلونَ [260] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/38)، ((تفسير الماتريدي)) (7/466)، ((البسيط)) للواحدي (15/564)، ((تفسير القرطبي)) (12/120). قيل: المعنى: وقد كنَّا مُختبِرينَ قومَ نوح بإرسالِنا نوحًا إليهم، وتذكيرِهم بآياتنا قَبلَ نُزولِ عُقوبتنا بهم؛ لِنَنظرَ كيف يعملون. وممَّن قال بذلك في الجُملة: ابنُ جَرير، والواحديُّ، وابنُ الجوزي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/38)، ((البسيط)) للواحدي (15/564)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/261). وقيل: المعنى: ما كُنَّا إلَّا مُبتلِينَ الأممَ قَبلَكم، أي: مختبرينَ لهم بإرسالِ الرُّسلِ إليهم؛ ليَظهرَ المطيعُ والعاصي. وممَّن قال بذلك في الجُملة: القُرطبيُّ، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (12/120)، ((تفسير ابن كثير)) (5/474). وإلى نحوِ ذلك ذهَب البقاعيُّ، فقال: (لَمُبْتَلِينَ أي: فاعلين فِعلَ المختبِرِ لعبادِنا بإرسال الرُّسلِ؛ لِيَظهرَ في عالَمِ الشهادةِ الصالحُ منهم مِن غيرِه، ثمَّ نبتلي الصالحينَ منهم بما يَزيدُ حَسناتِهم، ويَنقُصُ سيِّئاتِهم، ويُعلي دَرجاتِهم، ثم نجعلُ لهم العاقبةَ؛ فنُبلي بهم الظالمينَ بما يُوجبُ دَمارَهم، ويُخربُ دِيارَهم، ويمحو آثارَهم، هذه عادتُنا المستمرَّةُ إلى أنْ نرِثَ الأرضَ ومَن عليها، فيكونَ البلاءُ المبينُ). ((نظم الدرر)) (13/135). .

الفوائد التربوية:

قال اللهُ تعالى: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ هذا تَعليمٌ منه تعالى لِنُوحٍ عليه السَّلامُ ولمَن معَه أنْ يَقولوا هذا؛ شُكْرًا له تعالى، وحمْدًا على نَجاتِهم مِنَ القومِ الظَّالمينَ [261] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 551). ، وهكذا الواجِبُ على كلِّ مَن أنجاه اللَّه مِن الظَّلمةِ أن يحمَدَ رَبَّه على ذلك، ويسألَه النَّجاةَ إذا ابتُليَ بهم، كما عَلَّم نوحًا أن يقولَ ما ذَكَر ويحمَدَه على النَّجاةِ منهم [262] يُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (7/466). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ فيه إبْطالُ أُلوهيَّةِ غَيرِ اللهِ، وإثْباتُ الإلهيَّةِ للهِ تعالى [263] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 550). .
2- الإقرارُ بالملائكةِ عامٌّ في بَني آدَمَ، لم يُنكِرْ ذلك إلَّا شَواذُّ مِن بَعضِ الأُمَمِ؛ ولهذا قالت الأُمَمُ المُكذِّبةُ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً، حتَّى قَومُ نُوحٍ وعادٌ، وثمودُ، وقومُ فِرعونَ؛ قال قَومُ نُوحٍ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً [المؤمنون: 24] ، وقال تَعالَى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [فصلت: 13، 14]، وفِرْعونُ وإنْ كان مُظْهِرًا لِجَحْدِ الصَّانعِ؛ فإنَّه ما قال: فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [الزخرف: 53]، إلَّا وقد سمِعَ بذِكْرِ الملائكةِ؛ إمَّا مُعترِفًا بهم، وإمَّا مُنكِرًا لهم، فذِكْرُ الملائكةِ عامٌّ في الأُمَمِ، وليس في الأُمَمِ أُمَّةٌ تُنكِرُ ذلك إنكارًا عامًّا، وإنَّما يُوجَدُ إنكارُ ذلك في بَعضِهم؛ مِثْلُ مَن قدْ يَتفلسَفُ، فيُنكِرُهم؛ لِعَدمِ العِلْمِ، لا للعِلْمِ بالعَدمِ [264] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (1/194). .
3- قولُه تعالى: قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ أي: نَصْرًا كائِنًا بسبَبِ تَكذيبِهم؛ جعَلَ حَظَّ نَفْسِه فيما اعْتَدَوا عليه مُلْغًى، واهتَمَّ بحَظِّ الرِّسالةِ عن اللهِ؛ لأنَّ الاعتداءَ على الرَّسولِ استخفافٌ بمَن أرسَلَهُ [265] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/45). .
4- قال اللهُ تعالى: فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا لَمَّا كان نوحٌ عليه السَّلامُ يَخافُ مِن أذاهُم له في عَمَلِه بالإفسادِ وغيرِه، قال: بِأَعْيُنِنَا، أي: إنَّه لا يَغِيبُ عنَّا شَيءٌ مِن أمْرِك ولا مِن أمْرِهم، وأنتَ تَعرِفُ قُدرتَنا عليهم؛ فثِقْ بحِفْظِنا، ولا تَخَفْ شيئًا مِن أمْرِهم. ولَمَّا كان لا يَعلَمُ تلك الصَّنعةَ، قال: وَوَحْيِنَا [266] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/133). .
5- قال الله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ألْهَمه اللَّهُ بالوحيِ أنْ يحمَدَ رَبَّه على ما سَهَّل له مِن سبيلِ النَّجاةِ، وأنْ يسألَه نزولًا في منزِلٍ مُبارَكٍ عقبَ ذلك الترحُّلِ، والدُّعاءُ بذلك يتضَمَّنُ سؤالَ سلامةٍ مِن غَرَقِ السَّفينةِ، وفي ذلك التَّعليمِ إشارةٌ إلى أنَّه سيُتقبَّلُ ذلك منه [267] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/47). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ استُدِلَّ به على استحبابِ هذا الدُّعاءِ عندَ النُّزولِ مِن السَّفينةِ، وأنَّه تعليمٌ مِن الله لعبادِه أن يقولوا ذلك [268] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (12/120)، ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 186)، ((تفسير الشوكاني)) (3/570). ، وذلك على أحدِ القولينِ في وقتِ قولِه.
7- قولُه تعالى: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ جِيءَ بـ (على)؛ لأنَّ السَّابقَ ضارٌّ، كما جِيءَ باللَّامِ حيث كان نافعًا في قولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى [269] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/184)، ((تفسير البيضاوي)) (4/86)، ((تفسير أبي السعود)) (6/132). [الأنبياء: 101] .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ لمَّا شابَهَ المشركونَ قَومَ نُوحٍ ومَن جاء بَعْدَهم: ناسَبَ أنْ يُضْرَبَ لهم بقَومِ نُوحٍ مَثَلٌ؛ تَحذيرًا ممَّا أصاب قَومَ نُوحٍ مِن العذابِ، وقد جَرَى في أثناءِ الاستدلالِ والامتنانِ ذِكْرُ الحَمْلِ في الفُلْكِ؛ فكان ذلك مُناسَبةً للانتقالِ، فحصَلَ بذلك حُسْنُ التَّخلُّصِ [270] حُسنُ التخَلُّصِ: هو الانتِقالُ ممَّا ابتُدئَ به الكلامُ إلى المقصودِ، أو مِن مَوضوعٍ إلى موضوعٍ آخَرَ بأسلوبٍ حَسَنٍ مُستطابٍ، على وَجهٍ سَهلٍ دَقيقِ المعنى، بحيث لا يشعُرُ السَّامِعُ بالانتقالِ مِن المعنى الأوَّلِ إلَّا وقد وقعَ عليه الثَّاني؛ لشِدَّةِ الالتئامِ بيْنهما. وحُسنُ التخَلُّصِ مُتشابِهٌ جِدًّا مع الاستِطرادِ، إلَّا أنَّ بينهما فَرقًا دقيقًا، بيانُه: أنَّ التخَلُّصَ تَركُ ما كان الكلامُ فيه بالكُلِّيَّةِ، والإقبالُ على ما تُخُلِّصَ إليه. والاستِطرادُ: مُرورٌ بذِكرِ الأمرِ الذي استُطرِدَ إليه مُرورًا كالبَرقِ الخاطِفِ، ثمَّ تَرْكُه والعودةُ إلى ما كان فيه، كأنَّ المتكَلِّمَ لم يَقصِدْه وإنَّما عرَضَ عُروضًا. يُنظر: ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/373)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/561). ، فيُعتبَرُ ذِكْرُ قَصصِ الرُّسلِ إمَّا استطرادًا في خِلالِ الاستدلالِ على الوَحدانيَّةِ، وإمَّا انتقالًا [271] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/40). . وهو شُروعٌ في بَيانِ إهمالِ الأُممِ السَّابقةِ، وتَرْكِهم النَّظرَ والاعتبارَ فيما عُدِّدَ مِن النِّعَمِ الفائتةِ للحصرِ، وعَدَمِ تَذكُّرِهم بتَذكيرِ رُسلِهم وما حاقَ بهم لذلك مِن فُنونِ العذابِ؛ تَحذيرًا للمُخاطَبينَ [272] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/85)، ((تفسير أبي السعود)) (6/129). .
- وتَقديمُ قِصَّةِ نُوحٍ عليه السَّلامُ على سائرِ القصصِ؛ لأنَّه أبو البشَرِ الثَّاني، كما ذُكِرَ أوَّلًا آدَمُ في قولِه: مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، وفي إيرادِها إثْرَ قولِه تعالى: وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ مِن حُسْنِ المَوقِعِ ما لا يُوصَفُ [273] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/556)، ((تفسير أبي السعود)) (6/129). .
- وتَصديرُ جُملةِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا بلامِ القسَمِ؛ لتأْكيدِ المضمونِ التَّهديديِّ مِن القِصَّةِ [274] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/129)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/40). .
- قولُه: فَقَالَ يَا قَوْمِ ... فيه عَطْفُ مَقالةِ نُوحٍ على جُملةِ إرسالِه بفاءِ التَّعقيبِ؛ لإفادةِ أدائِه رِسالةَ ربِّه بالفَورِ مِن أمْرِه، وهو شأْنُ الامتثالِ [275] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/41). .
- قولُه: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي: اعْبُدُوه وَحْدَه، كما يُفْصِحُ عنه قولُه تعالى في سُورةِ (هُودٍ): أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [هود: 26] ، وتُرِكَ التَّقييدُ به؛ للإيذانِ بأنَّها هي العِبادةُ فقطْ، وأمَّا العِبادةُ بالإشراكِ فليسَتْ مِن العِبادةِ في شَيءٍ رأْسًا [276] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/129). .
- جُملةُ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ استِئنافٌ مَسوقٌ لتَعليلِ العِبادةِ المأْمورِ بها، أو لِتَعليلِ الأمْرِ بها [277] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/182)، ((تفسير البيضاوي)) (4/85)، ((تفسير أبي حيان)) (7/557)، ((تفسير أبي السعود)) (6/129). ، وهو تَعليلٌ أخَصُّ مِن المُعلَّلِ، وهو أوقَعُ؛ لِمَا فيه مِن الإيجازِ؛ لاقتضائِه مَعْنى: اعْبُدوا اللهَ وَحْدَه [278] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/41). . و(لكم) للتَّخصيصِ والتَّبْيينِ [279] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/130). .
- قولُه: أَفَلَا تَتَّقُونَ الهمزةُ لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه، والفاءُ للعَطْفِ على مُقدَّرٍ يَقْتضيهِ المَقامُ، أي: أتعرِفونَ ذلك -أي: مَضمونَ قولِه تعالى: مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ- فلا تتَّقونَ عذابَهُ بسبَبِ إشْراكِكم به في العِبادةِ ما لا يَستحِقُّ الوُجودَ لولا إيجادُ اللهِ تعالى إيَّاهُ، فَضْلًا عنِ استحقاقِ العِبادةِ؛ فالمُنكَرُ عدَمُ الاتِّقاءِ مع تَحقُّقِ ما يُوجِبُه، أو: ألَا تُلاحِظونَ ذلكَ، فلا تتَّقونَه؛ فالمُنكَرُ كِلَا الأمرينِ؛ فالمُبالَغة حِينئذٍ في الكَميَّةِ، وفي الأوَّلِ في الكَيفيَّةِ [280] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/130). .
2- قولُه تعالى: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ فيه مناسَبةٌ حسنةٌ؛ حيث خُولِفَت في حِكايةِ جَوابِ الملَأِ مِن قَومهِ الطَّريقةُ المأْلوفةُ في القُرآنِ في حِكايةِ المُحاوَراتِ، وهي تَرْكُ العَطْفِ الَّتي جَرَى عليها قولُه: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30] ، فعُطِفَ هنا جَوابُ الملَأِ مِن قَومِه بالفاءِ؛ لِوَجهينِ:
أحدُهما: أنَّهم لم يُوجِّهوا الكلامَ إليه، بل تَرَكوه وأقْبَلوا على قَومِهم يُفنِّدون لهم ما دَعاهم إليه نُوحٌ.
والثَّاني: لِيُفادَ أنَّهم أسْرَعوا بتَكذيبِه وتَزْييفِ دَعوتِه قبْلَ النَّظرِ [281] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/41). .
- ومِن المناسَبةِ الحسنةِ أيضًا: قولُه هنا: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ بتَقديمِ الَّذِينَ كَفَرُوا على مِنْ قَوْمِهِ ، وقال بعْدُ بالعَكْسِ: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [المؤمنون: 33] ؛ ووَجْهُ ذلك: أنَّه اقتصَرَ هنا في صِلَةِ الموصولِ على الفِعلِ والفاعِلِ، وفيما بَعْدُ طالَتْ فيه الصِّلةُ، بزِيادةِ العَطْفِ على الصِّلةِ مرَّةً بعْدَ أُخرى، فقدَّمَ عليها مِنْ قَوْمِهِ؛ لأنَّ تأْخيرَه عن المفعولِ مُلْبِسٌ، وتَوسيطَه بَيْنَه وبينَ ما قبْلَه رَكيكٌ [282] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 934-936)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 183، 184)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/330، 331)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 389). .
وفيه وَجْهٌ آخَرُ: أنَّ المجرورَ مِنْ قَوْمِهِ رافعٌ إمكانَ أنْ يكونَ القائلونَ غيرَهم، ويَلِيهِ في الحاجةِ إلى ذِكْرِه وَسْمُهم بالكُفْرِ؛ لأنَّه سبَبُ أخْذِهم وهَلاكِهم، إلَّا أنَّه لمَّا كان قد يُفْهِمُه سِياقُ الكلامِ، لم يَلزَمِ الإفصاحُ به في كلِّ مَوضعٍ، وإنْ أُفْصِحَ به هنا، أمَّا الإفصاحُ بالمجرورِ فالإفصاحُ به أو بضَميرٍ يَقومُ مَقامَه ضَروريٌّ لا بُدَّ منه؛ لِيَحصُلَ منه تَخصيصُ الحُكْمِ بمَن تقدَّمَ. ولا فرقَ بينَ هذه القِصَّةِ وقِصَّةِ نُوحٍ قبْلَها في الحاجةِ إلى هذا المجرورِ أو ما يَقومُ مَقامَه، فلم يُقدَّمْ هناك؛ لأنَّه لم يَرِدْ هناك غيرُ صِفَةٍ واحدةٍ جُعِلَتْ مع مَوصوفِها كشَيءٍ واحدٍ، وإن كان الوصفُ بموصولٍ، والموصولُ يَطولُ بصِلتِه، إلَّا أنَّ طُولَه بصِلتِه لا يُزيلُه عن تقديرِه باسمٍ واحدٍ، فمِن حيثُ جُعلتِ الصِّفةُ مع موصوفِها كشيءٍ واحدٍ للحاجةِ إليها، وكونِها مفردةً: قُرِنتْ بموصوفِها، وتأخَّر المجرورُ، فقال تعالى: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ [المؤمنون: 24] ، وحيثُ لم يقَعِ الاكتفاءُ بصِفَةٍ واحدةٍ وزِيدَ عليها، ولا يُمكِنُ جَعْلُ صِفَتينِ فما زاد مع مَوصوفِها كشَيءٍ واحدٍ: قُدِّمَ المجرورُ، فقال تعالى: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [المؤمنون: 33] ؛ فوقَعَ المَجرورُ في كلٍّ مِن الآيتينِ على ما يَجِبُ، وعُطِفَتِ الصِّفاتُ بَعْضُها على بَعضٍ؛ لِوُرودِها غيرَ صِفَةٍ [283] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/367، 368). .
- ومِن المناسَبةِ أيضًا: زِيادةُ ما عُطِفَ على الوَصفِ بالكُفْرِ في القِصَّةِ الثَّانيةِ، وهو قولُه: وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [المؤمنون: 33] ، مع اسْتِحقاقِهم العَذابَ بمُجرَّدِ كُفْرِهم؛ ووَجْهُه: أنَّ هذه الزِّيادةَ مُنْبئةٌ بأنَّ المذكورينَ في القِصَّةِ الثَّانيةِ ليسوا في شُمولِ الكُفْرِ إيَّاهم واستيلائِه على مُعْظَمِهم كقَومِ نُوحٍ عليه السَّلامُ، بلِ الإيمانُ في هؤلاء أفْشَى وأكثَرُ؛ قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا [هود: 58] ، ولم يقَعْ هنا وَصْفُ مَن آمَنَ مِن قَومِ هُودٍ بقِلَّةٍ ولا بكَثرةٍ، فبَقِيَ الاحتمالُ في الطَّرفينِ على حَدٍّ سواءٍ، إلَّا أنَّه ورَدَ في وَصْفِ الملَأِ المُكذِّبينَ مِن قَومِ هُودٍ في هذه السُّورةِ، ممَّن أفصَحَ بالرَّدِّ والتَّكذيبِ وصَدِّ النَّاسِ عن اتِّباعِه، ما يُشعِرُ بأنَّهم ليسوا أكثَرَ قومِه، وذلك لِمَا وصَفَهم به بعْدَ الكُفْرِ مِن التَّكذيبِ والإترافِ، وهو التَّنعُّمُ والتَّرفيهُ، والعَقْلُ شاهِدٌ أنَّ المُتْرفينَ ليسوا جَميعَهم، أمَّا الكُفْرُ فلا يَبعُدُ اتِّصافُ أُمَّةٍ بأسْرِها به، ويَبعُدُ اتِّصافُ جَميعِهم بالامتدادِ في التَّنعُّمِ والتَّرفُّهِ، فأشعَرَ وَصْفُهم بما ذُكِرَ بعْدَ كُفْرِهم بكَثرةٍ فيمَن عَداهم، بخِلافِ الحالِ في قَومِ نُوحٍ، وأشعَرَ أيضًا بامتدادِهم وتَمكُّنِهم في دُنْياهم أكثَرَ مِن غَيرِهم؛ فأشعَرَتْ زِيادةُ الوَصْفِ بتَوسُّعِ الحالِ وامتدادِ الآمادِ، فلم يكُنْ بُدٌّ مِن وَصْفِهم بما ذُكِرَ [284] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/367، 368). .
- قولُه: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا وصَفَ الملَأَ بـ الَّذِينَ كَفَرُوا مع اشتراكِ الكلِّ فيه؛ للإيذانِ بكَمالِ عَراقتِهم في الكُفْرِ، وشِدَّةِ شَكيمتِهم فيه [285] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/130). . وفيه: إيماءٌ إلى أنَّ كُفْرَهم هو الَّذي أنطَقَهم بهذا الرَّدِّ على نُوحٍ، وهو تَعريضٌ بأنَّ مِثْلَ ذلك الرَّدِّ لا نُهوضَ له، ولكنَّهم رَوَّجُوا به كُفْرَهم؛ خَشيةً على زَوالِ سِيادَتِهم [286] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/41، 42). .
- قولُه: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وصَفُوهُ عليه السَّلامُ بذلك؛ مُبالَغةً في وَضْعِ رُتْبتِه العاليةِ وحَطِّها عن مَنصبِ النُّبوَّةِ [287] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/130). . وهو كِنايةٌ عن تَكذيبِه في دَعْوى الرِّسالةِ بدَليلٍ مِن ذاتِه؛ أَوْهَموهُم أنَّ المُساواةَ في البشريَّةِ مانِعةٌ مِن الوساطةِ بينَ اللهِ وبينَ خَلْقِه. واسمُ الإشارةِ مُنصرِفٌ إلى نُوحٍ، وهو يَقْتَضي أنَّ كَلامَ الملَأِ وقَعَ بحَضرةِ نُوحٍ في وَقْتِ دَعوتِه، فعَدَلوا مِن اسمِه العَلَمِ إلى الإشارةِ؛ لأنَّ مَقصودَهم تَصغيرُ أمْرِه، وتَحقيرُه لَدى عامَّتِهم؛ كَيْ لَا يَتقبَّلوا قولَه [288] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/42). .
- قولُه: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فيه حَذْفُ مَفعولِ فِعْلِ المشيئةِ؛ لِظُهورِه من جَوابِ (لو)، أي: لو شاءَ اللهُ إرسالَ رَسولٍ لَأنزَلَ ملائكةً رُسلًا، وذلك مِن الإيجازِ [289] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/42، 43). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث جاء قولُه هنا: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً... الآيةَ، بلَفْظِ (الله)، وفي سُورةِ (فُصِّلتْ) قال: قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً [فصلت: 14] بلَفْظِ رَبُّنَا؛ ووَجْهُه: أنَّ كلَّ آيةٍ جاءت مُوافِقةً لِمَا قبْلَها؛ إذْ ما هنا تقدَّمَه لَفْظُ اللَّهُ دونَ رَبُّنَا، وفي (فُصِّلَت) تقدَّمَ ذِكْرُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [فصلت: 9] سابقًا على ذِكْرِ (الله)، فصُرِّحَ في هذه السُّورةِ بذِكْرِ (الله)، وهناك بذِكْرِ الرَّبِّ لإضافَتِه إلى العالَمينَ، وهم جُملَتُهم، فقالوا -إمَّا اعتقادًا، وإمَّا استهزاءً-: لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً؛ فأضافُوا الرَّبَّ إليهم [290] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 184)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/331)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 390). .
- وجُملةُ: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ مُستأْنفةٌ، قَصَدوا بها تَكذيبَ الدَّعوةِ بَعْدَ تَكذيبِ الدَّاعي؛ فلذلك جِيءَ بها مُستأْنفةً غيرَ مَعطوفةٍ؛ تَنبيهًا على أنَّها مَقصودةٌ بذاتِها، وليست تَكْمِلةً لِمَا قبْلَها، بخِلافِ أُسلوبِ عَطْفِ جُملةِ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً؛ إذ كان مَضمونُها مِن تَمامِ غرَضِ ما قبْلَها [291] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/43). .
- ولمَّا كان السَّماعُ المَنْفِيُّ ليس سَماعًا بآذانِهم لكَلامٍ في زَمنِ آبائِهم، بلِ المُرادُ ما بلَغَ إلينا وُقوعُ مِثْلِ هذا في زَمنِ آبائِنا- عُدِّيَ فِعْلُ (سمِعَ) بالباءِ؛ لِتَضمينِه معنى الاتِّصالِ [292] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/43). .
3- قوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ
- وقولُه: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ استئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ جَميعَ ما قالوه يُثِيرُ في نُفوسِ السَّامعينَ أنْ يَتساءَلوا: إذا كان هذا حالَ دَعوتِه في البُطلانِ والزَّيفِ؛ فماذا دَعاهُ إلى القولِ بها؟ فيُجابُ بأنَّه أصابَهُ خلَلٌ في عَقْلِه، فطلَبَ ما لم يكُنْ لِيَنالَه مِثْلُه مِن التَّفضُّلِ على النَّاسِ كلِّهم بنِسْبَتِهم إلى الضَّلالِ؛ فقد طَمِعَ فيما لا يَطمَعُ عاقِلٌ في مِثْلِه، فدَلَّ طمَعُه في ذلك على أنَّه مَجنونٌ [293] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/44). .
- والتَّنوينُ في جِنَّةٌ للنَّوعيَّةِ، أي: هو مُتلبِّسٌ بشَيءٍ من الجُنونِ، وهذا اقتصادٌ منهم في حالِه؛ حيث احْتَرَزوا مِن أنْ يُورِّطُوا أنفُسَهم في وَصْفِه بالخَبالِ، مع أنَّ المُشاهَدَ مِن حالِه يُنافي ذلك، فأوْهَموا قَومَهم أنَّ به جُنونًا خَفيفًا لا تَبْدو آثارُه واضحةً [294] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/44). .
- والقَصرُ في قولِه: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ قَصرٌ إضافيٌّ [295] القصرُ الإضافي: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدمِ صحةِ ما تصوَّره بشأنِه، أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وتردُّدِه؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ يدورُ حولَ احتمالينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويستدلُّ عليها بالقرائنِ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118)، ((التعريفات)) للجرجاني (1/175، 176)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ، أي: ليس برَسولٍ مِن اللهِ [296] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/44). .
- قولُه: فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ يَحتمِلُ أنْ يكونَ مُتعلِّقًا بما قبْلَه، أي: أنَّه مَجنونٌ، فاصْبِروا إلى زَمانٍ حتَّى يَظهَرَ عاقِبةُ أمْرِه؛ فإنْ أفاقَ، وإلَّا قَتلتُموهُ. ويَحتَمِلُ أنْ يكونَ كَلامًا مُستأْنفًا، وهو أنْ يَقولوا لِقَومِهم: اصْبِروا؛ فإنَّه إنْ كان نَبِيًّا حقًّا، فاللهُ يَنصُرُه ويُقوِّي أمْرَه، فنحن حِينئذٍ نَتَّبِعُه، وإنْ كان كاذِبًا، فاللهُ يَخذُلُه ويُبطِلُ أمْرَه، فحينئذٍ نَستريحُ منه [297] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/271). .
4- قوله تعالى: قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ استئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ ما حُكِيَ عن صَدِّهم النَّاسَ عن تَصديقِ دَعوةِ نُوحٍ، وما لَفَّقُوه مِن البُهتانِ في نِسْبتِه إلى الجُنونِ، ممَّا يُثِيرُ سُؤالَ مَن يسأَلُ: ماذا صنَعَ نُوحٌ حين كذَّبَه قَومُه؟ فيُجابُ بأنَّه قال: رَبِّ انْصُرْني... إلخ [298] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/131)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/45). .
- قولُه: رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث سأَلَ نوحٌ هنا نَصْرًا مُجْملًا، ولمَّا أعلَمَهُ اللهُ أنَّه لا رجاءَ في إيمانِ قَومِه إلَّا مَن آمَنَ منهم، كما جاء في سُورةِ (هُودٍ)، فلا رجاءَ في أنْ يكونَ نَصْرُه برُجوعِهم إلى طاعَتِه وتَصديقِه واتِّباعِ مِلَّتِه؛ فسأَلَ نُوحٌ حِينذاك نَصْرًا خاصًّا، وهو استئصالُ الَّذين لم يُؤْمِنوا، كما جاء في سُورةِ (نُوحٍ): وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ [نوح: 26، 27]؛ فالتَّعقيبُ الَّذي في قولِه تعالى هنا: فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ تَعقيبٌ بتَقديرِ جُمَلٍ مَحذوفةٍ، وهو إيجازٌ في حِكايةِ القِصَّةِ [299] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/45). .
5- قوله تعالى: فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ
- الفاءُ في قولِه: فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا لِتَرتيبِ مَضمونِ ما بَعْدَها على تَمامِ صُنْعِ الفُلكِ [300] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/131). .
- قولُه: فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ التَّنوينُ في قولِه: كُلٍّ زَوْجَيْنِ تَنوينُ عِوَضٍ [301] تَنوينُ العِوَضِ: هو حذفُ حرفٍ مِن كلمةٍ، أو حذفُ كلمةٍ كاملةٍ، أو حذفُ جملةٍ بتمامِها أو أكثرَ؛ فيحلُّ التنوينُ محلَّ المحذوفِ، ويكونُ عوضًا عنه. وحذفُ كلمةٍ ومجيءُ التنوينِ عِوضًا عنها يكثرُ بحذفِ المضافِ إليه بعدَ لفظةِ: (كل)، أو (بعض)، وما فى حكمِهما، ومِن أمثلتِه: قسمتُ المالَ بينَ المستحقِّينَ؛ فأعطيتُ كُلاًّ نصيبَه، أي: كلَّ مستحِقٍّ. يُنظر: ((شرح كتاب الحدود في النحو)) للفاكهي (ص: 289)، ((جامع الدروس العربية)) للغلاييني (1/10)، ((النحو الوافي)) لعباس حسن (1/38). يُشعِرُ بمَحذوفٍ أُضِيفَ إليه (كل)، وتَقديرُه: مِن كلِّ ما أمرْتُك أنْ تَحمِلَه في السَّفينةِ [302] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/46). .
- وتأْخيرُ الأمْرِ بإدخالِ الأهْلِ عمَّا ذُكِرَ مِن إدخالِ الأزواجِ فيها في قولِه: فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ؛ لكَونِه عَريقًا فيما أُمِرَ به مِن الإدخالِ؛ فإنَّه يَحتاجُ إلى مُزاوَلةِ الأعمالِ منه عليه السَّلامُ، بل إلى مُعاونةٍ مِن أهْلِه وأتْباعِه، وأمَّا هم فإنَّما يَدْخلونَها باختيارِهم بعْدَ ذلك، ولأنَّ في المُؤخَّرِ ضَرْبَ تَفصيلٍ بذِكْرِ الاستثناءِ وغَيرِه؛ فتَقديمُه يُؤدِّي إلى الإخلالِ بتَجاوُبِ أطرافِ النَّظمِ الكريمِ [303] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/132). .
- وفيه مُناسبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث عُبِّرَ هنا بقولِه: فَاسْلُكْ فِيهَا، وفي سُورةِ (هُودٍ) بقولِه: قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا [هود: 40]؛ ووَجْهُه: أنَّ آيةَ سُورةِ (هُودٍ) حَكَتْ ما خاطبَه اللهُ به عندَ حُدوثِ الطُّوفانِ، وذلك وقْتٌ ضَيِّقٌ، فأُمِرَ بأنْ يَحمِلَ في السَّفينةِ مَن أرادَ اللهُ إبقاءَهم، فأسنَدَ الحَمْلَ إلى نُوحٍ تَمْثيلًا للإسراعِ بإركابِ ما عُيِّنَ له في السَّفينةِ، حتَّى كأنَّ حالَهُ في إدخالِه إيَّاهم حالُ مَن يَحمِلُ شيئًا لِيَضعَهُ في مَوضِعٍ، وآيةُ هذه السُّورةِ حَكَتْ ما خاطبَهُ اللهُ به مِن قَبْلِ حُدوثِ الطُّوفانِ؛ إنباءً بما يَفعَلُه عندَ حُدوثِ الطُّوفانِ، فأمَرَه بأنَّه حِينئذٍ يُدخِلُ في السَّفينةِ مَن عيَّنَ اللهُ إدْخالَهم، مع ما في ذلك مِن التَّفنُّنِ في حِكايةِ القِصَّةِ [304] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/46). ويُنظر أيضًا: ((تفسير أبي السعود)) (6/131). .
6- قوله تعالى: وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ
- قولُه: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ تَعليلٌ للنَّهيِ، أو لِمَا يُنبِئُ عنه مِن عدَمِ قَبولِ الدُّعاءِ، أي: إنَّهم مَقْضِيٌّ عليهم بالإغراقِ لا مَحالةَ؛ لِظُلْمِهم بالإشراكِ وسائرِ المَعاصي، ومَن هذا شأْنُه لا يُشْفَعُ له، ولا يُشَفَّعُ فيه، كيف لا وقد أُمِرَ بالحمْدِ على النَّجاةِ منهم بهَلاكِهم بقولِه تعالى: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، على طَريقةِ قولِه تعالى: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [305] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/184)، ((تفسير البيضاوي)) (4/86)، ((تفسير أبي السعود)) (6/132). [الأنعام: 45] .
7- قوله تعالى: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
- قولُه: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ جاء الأمْرُ (قُل) له وَحْدَه، وإنْ كان الشَّرطُ قد شَمِلَه ومَن معهُ؛ لأنَّه نَبِيُّهم وإمامُهم، وهم مُتَّبِعوه في ذلك؛ إذ هو قُدْوتُهم، مع ما فيه مِن الإشعارِ بفَضلِ النُّبوَّةِ، وإظهارِ كِبْرياءِ الرُّبوبيَّةِ، وأنَّ رُتبةَ تلك المُخاطَبةِ لا يَترقَّى إليها إلَّا مَلَكٌ أو نَبِيٌّ [306] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/184، 185)، ((تفسير البيضاوي)) (4/86)، ((تفسير أبي حيان)) (7/557، 558)، ((تفسير أبي السعود)) (6/132). .
8- قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ
- قولُه: وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ تَعليلٌ لسُؤالِهِ: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا [307] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/47). ، وهو ثَناءٌ مُطابِقٌ لدُعائِه، أمَرَهُ بأنْ يَشفَعَهُ به؛ مُبالَغةً فيه، وتَوسُّلًا به إلى الإِجابةِ [308] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/86)، ((تفسير أبي السعود)) (6/132). .
9- قوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ لمَّا ذكَرَ هذه القِصَّةَ العظيمةَ؛ أعقَبَها بالتَّنبيهِ إلى مَوضِعِ العِبْرةِ منها للمُسلمينَ، فأتَى بهذا الاستئنافِ لذلك [309] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/48). .
- وعُطِفَ جُملةُ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ على جُملةِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ؛ لأنَّ مَضمونَ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ يُفِيدُ معنَى: إنَّ في ذلك لَبَلْوى؛ فكأنَّه قِيلَ: إنَّ في ذلك لآياتٍ وابتلاءً وكُنَّا مُبْتلينَ، أي: وشأْنُنا ابتلاءُ أوليائِنا [310] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/48). .
- وقولُه: وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ تَسليةٌ للنَّبيِّ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على ما يَلْقاهُ مِن المُشركينَ، وتَعريضٌ بتَهديدِ المُشركينَ بأنَّ ما يُواجِهون به الرَّسولَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا بَقاءَ له، وإنَّما هو بَلْوى تَزُولُ عنه وتَحُلُّ بهم، ولكلٍّ حظٌّ يُناسِبُه، ولكونِ هذا ممَّا قد يَغِيبُ عن الألبابِ، نُزِّلَ مَنزِلةَ الشَّيءِ المُتردَّدِ فيه، فأُكِّدَ بـ (إنْ) المُخفَّفةِ، وبفِعْلِ (كنَّا) [311] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/49). .