موسوعة الفرق

المَبحَثُ السَّابعُ: مِن منهَجِ المُعتَزِلةِ في التَّعامُلِ معَ اللُّغةِ العربيَّةِ لتقريرِ عقائِدِها: التَّصرُّفُ في دَلالاتِ الحروفِ والأدواتِ وتوجيهُها حسَب المذهَبِ


هذا بابٌ واسِعٌ جدًّا، ومُنتشِرٌ لدى المُعتَزِلةِ، وقد ألَّف الرُّمَّانيُّ كتابًا سمَّاه كتابَ (معاني الحروفِ) ذكَر فيه الحروفَ والأدواتِ والمعانيَ التي تأتي لكُلِّ حرفٍ وأداةٍ مِن أجْلِ هذا الهدفِ، وطبَّقه في تفسيرِه (الجامِع لعُلومِ القرآنِ)، واقتَفاه الزَّمَخشَريُّ، فأخَذ مِن ذلك قِسطًا كبيرًا في (الكشَّافِ) [1465] يُنظر: ((الأدوات النحوية في كتب التفسير)) للصغير (ص: 733- 738). .
ومِثالُ هذا التَّصرُّفِ في الحروفِ: الاختِلافُ في لام لِيَكُونَ مِن قولِه تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [القصص: 8] ؛ فقد حمَلها الأخفَشُ وقُطرُبٌ وغَيرُهما مِن المُعتَزِلةِ على لامِ العاقِبةِ والصَّيرورةِ، وذهَب الفرَّاءُ أنَّها لامُ كي، لكنَّها وقعَت مكانَ لامِ التَّمليكِ [1466] يُنظر: ((الغريبين في القرآن والحديث)) لأبي عُبيد (4/1138-1139). .
وسببُ صنيعِ الأخفَشِ وقُطرُبٍ هو ما يتضمَّنُه القولُ بلامِ التَّعليلِ في الآيةِ مِن إثباتِ القَدَرِ، وسبَق عِلمُ اللهِ بالتِقاطِ آلِ فِرعَونَ لموسى مِن البحرِ؛ ليكونَ لهم عدوًّا وحَزنًا.
قال نِفطَويهِ وهو يرُدُّ عليهما: (أمَّا الأخفَشُ وقُطرُبٌ فإنَّهما رقَّقا عن صَبُوحٍ، وإنَّما أرادا أن ينصُرا قولَ مَن يزعُمُ أنَّ اللهَ لم يخلُقِ المعاصيَ ولا أرادها، وأمَّا الفرَّاءُ فإنَّه ذكَر الإعرابَ ونزَّل المعنى، واللَّامُ على الحقيقةِ لامُ "كي"؛ لأنَّ المعنى: إنَّ اللهَ تعالى عَلِم أنَّه إذا آتاهم الأموالَ ضلُّوا، وعَلِم أنَّ آلَ فِرعَونَ إذا التقَطوا موسى كان لهم عَدوًّا وحَزنًا، فأمكَنهم اللهُ مِن لَقطِه؛ ليُمضيَ فيهم ما تقدَّم مِن عِلمِه، فالمعنى: فالتقَطه آلُ فِرعَونَ ليكونَ لهم عدوًّا وحَزنًا في عِلمِ اللهِ تعالى لا في عِلمِهم؛ لأنَّ اللهَ عَلِم ما يكونُ مِن أمرِه) [1467] ((الغريبين في القرآن والحديث)) لأبي عُبيد (4/1138-1139). .
وأيَّد ابنُ كثيرٍ هذا، فقال: (قال مُحمَّدُ بنُ إسحاقَ وغَيرُه: اللَّامُ هنا لامُ العاقِبةِ لا لامُ التَّعليلِ؛ لأنَّهم لم يُريدوا بالتِقاطِه ذلك، ولا شكَّ أنَّ ظاهِرَ اللَّفظِ يقتضي ما قالوه، ولكن إذا نظَر إلى معنى السِّياقِ فإنَّه تبقى اللَّامُ للتَّعليلِ؛ لأنَّ معناه أنَّ اللهَ تعالى قيَّضهم لالتِقاطِه ليجعَلَه لهم عَدوًّا وحَزنًا، فيكونَ أبلَغَ في إبطالِ حَذرِهم منه؛ ولهذا قال: إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ [القصص: 8] ) [1468] ((تفسير ابن كثير)) (6/222). .
وقال الرُّمَّانيُّ المُعتَزِليُّ في مثالٍ آخَرَ: (يُقالُ: ما معنى: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [آل عمران: 178] ؟ الجوابُ: إنَّما نُملي لهم على أنَّ عاقِبةَ أمرِهم ازديادُ الإثمِ، وهذه لامُ العاقِبةِ، والدَّليلُ عليها: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [القصص: 8] ، وقال الشَّاعِرُ [1469] نسبهما في ((خزانة الأدب)) (9/534) إلى سِماكِ بنِ عَمرٍو الباهِليِّ. :
فأُمَّ سِماكٍ فلا تَجزَعي
فلِلموتِ ما تلِدُ الوالِدهْ
فأُقسِمُ لو قتَلوا مالِكًا
لكنْتُ لهم حيَّةً راصِدهْ
وقال آخَرُ [1470] البيت لسابقٍ البربريِّ، كما في كتاب ((اللامات)) للزَّجَّاجي (ص: 120)، وورد في ((لسان العرب)) لابن منظور (12/562) بلا نِسبةٍ. :
أموالُنا لذَوي الميراثِ نجمَعُها
ودُورُنا لخَرابِ الدَّهرِ نبنيها
وقال آخَرُ [1471] ذكر البيتَ: ابنُ الجوزي في ((زاد المسير)) (4/48)، والقرطبي في ((الجامع لأحكام القرآن)) (13/252). :
وللمنايا تربِّي كُلُّ مُرضِعةٍ
وللخرابِ يُجِدُّ النَّاسُ بُنيانا
وقال [1472] البيتُ منسوبٌ لعليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، كما في ((خزانة الأدب)) (9/530)، وصدرُه: "له مَلَكٌ يُنادي كُلَّ يومٍ"، ولأبي العتاهية أيضًا في ((ديوانه)) (ص: 46). :
لِدوا للموتِ وابنوا للخرابِ
ويُقالُ: لمَ لا يجوزُ أن تُحمَلَ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا على الأظهَرِ مِن معنى اللَّامِ، وهو الإرادةُ لازديادِ الآثامِ؟ الجوابُ: لأنَّه لو أراده منهم لكانوا مُطيعينَ له بفِعلِه، ولأنَّ إرادةَ القبيحِ عَبَثٌ، وقد نفى اللهُ ذلك بقولِه عزَّ وجلَّ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا [المؤمنون: 115] ، ولأنَّه يُرَدُّ إلى المُحكَمِ في قولِه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، وقولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء: 64] ) [1473] يُنظر: ((التفسير اللغوي للقرآن الكريم)) للطيار (ص: 215- 217). .
فانظُرْ كيف حشَر الرُّمَّانيُّ كُلَّ هذه الشَّواهِدِ الشِّعريَّةِ لإثباتِ أنَّ اللَّامَ في الآيةِ لامُ العاقِبةِ، معَ تنصيصِه صراحةً على مُخالَفةِ الظَّاهِرِ مِن معنى اللَّامِ الدَّالَّةِ على التَّعليلِ، وسببُ مُخالَفتِه هو فَهمُه الاعتِزاليُّ الخطأُ في الإرادةِ الإلهيَّةِ، فجعَل كُلَّ ما يُريدُه اللهُ محبوبًا له، وبنى عليه في الآيةِ أن يكونَ مُريدًا لزِيادةِ الإثمِ لهم، وهذا قبيحٌ عندَه؛ فاضطُرَّ إلى تحريفِ معنى اللَّامِ بجَعلِها لامَ العاقِبةِ، وليس ذلك بصوابٍ، بل اللهُ يفعَلُ ما يُريدُ، وفِعلُه محمودٌ دائِمًا، وهو كمالٌ لا يستلزِمُ قُبحًا ولا نَقصًا كما تتوهَّمُه المُعتَزِلةُ، والإرادةُ هنا كونيَّةٌ، ولا يلزَمُ فيها أن تكونَ مِن محبوباتِ اللهِ؛ حيثُ يقعُ فيها الخيرُ والشَّرُّ، بعكسِ الإرادةِ الشَّرعيَّةِ التي لا تكونُ إلَّا فيما يُحبُّه اللهُ ويرضاه مِن الأقوالِ والأعمالِ) [1474] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 549- 551)، ((التفسير اللغوي للقرآن الكريم)) للطيار (ص: 217- 218). .

انظر أيضا: